(4)
مقاماتٌٌ للمتغابنين يوم التغابــــــــــــن!
﴿فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) ﴾
وعلى هذا الذي عرفنا، وعلى هذا الذي بيّن الله لنا، فليس أمام العبد إلا أن يُذعن لله تعالى لينجو. وأعود في كل مرة إلى قضية الآية الثانية من سورتنا، لأنها مثال على ما انتشر من تحميل آيات القرآن الكريم ما لا تحتمل من معنى، بل لتُناسب حاجات في أنفس المشككين والطاعنين في الدين، بقرآنه وسنّته، وهم دأبهم الاقتطاع من السياق، وادّعاء بثّ القرآن لقضيّة نسبية الحقيقة، وأنّ الحق أوجهٌ لا وجه واحد، وعليه فإنهم يتأوّلون قوله سبحانه : ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) ﴾ على أنه رضى الله سبحانه بالكفر كما بالإيمان !
فلننظر في كل مرّة إلى دور السياق وتساوق الآيات، وبيان لاحقها لسابقها، وتناغم سابقها مع لاحقها، فبعد بيان الحق في خلقه الأول للسماوات والأرض، وللإنسان، وبيان الحقّ في البعث خلقا ثانيا هو عليه أهون، هذا أمره سبحانه لعباده أن يؤمنوا، وهو الذي خلقهم وهداهم للإيمان به، ما تركهم سُدى، وما تركهم هملا، بل بيّن لهم، وزوّدهم بالتصور اللازم لهذه الحياة، ولوجودهم فيها، ولما ينتظرهم بعدها...
آمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزل على رسوله، بالقرآن، آمنوا لتنجوا من هولٍ توعَّدَ الله به كل كافر في يوم عظيم، فيه اللقاء العظيم، فيه يُوفّى كلٌّ حسابَه ... !
وهنا أحــــــب أن أقف وقفة...
إن قرن الإيمان بالله ورسوله بالإيمان بالقرآن بيّنٌ، ذلك أن أمر الله تعالى وهداياته مبثوثة في هذا الكتاب الذي أنزَلَ على رسوله ﷺ، هو وعاء الهُدى، والرسول هو الحامل له والمبلّغ لهداياته ... وإنّ واحدا من أهم أسباب إعراض مَن أعرض عن القرآن إنكارهم للآخرة، إنكارهم للبعث وليوم يُحاسَب فيه الإنسان على ما قدّم في الدنيا، يريد أن يعيث فيها دون قيد ولا رقيب، ولا حسيب ... لا يريد أن يُحاسب، بل أن يطلق العنان لهواه ولشهواته، وهذا حال إنسان هذا الزمان، ولعلّه أشدّ وطئا من حال من سبقه في أزمنة مضت ... !
إنسان صنع من المادّة أداتَه ليكبر، ويعلو ويعلو ! حتى رأى نفسه المستغني عن إله، علا واستكبر حتى طغى وتجبر، وتُرك للامتحان والابتلاء، ولله يرى عمله ويرى أين يبلغه طغيانه، فحسب أنه الإله على الأرض، وأنه الذي يفعل فيها ما يريد، وكما يريد، وبالشكل الذي يريد ... !
لهذا يجد عبد الدنيا وعبد المادة، وعبد الشهوة ثقلا كبيرا في أن يؤمن برقيب يحصي عليه أعماله ليحاسبه عليها، يجد ثقلا كبيرا في الإيمان بيوم مجموع له الناس، يقف فيه العبد ليُنبَّأ بما عمل، وليُحاسَب وِفق ما بُصّر به في الدنيا، وما بُلّغ به من ضوابط وأوامر ونواهٍ :﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) ﴾[القيامة].
يريد ليفجر أمامه، فلا يؤمن بحسيب رقيب، سيلقاه في يوم لا ريب فيه ... ! وإن كان ما يدّعيه ويزعمه من أنه لن يُبعث، فليمنع عن نفسه الموت ! ذلك الحق الذي يعلم –وإن تناساه- أنه آتٍ، تلك المرحلة التي تأخذه إلى حيث ينكر ... ! وحتى إن تمادى وقال أنه لا ينقله إلى دار أخرى، فليقهره وليغلبه وليمنعه... ! لماذا لا يملك القدرة على الامتناع عن المضيّ نحو مجهول لا يحبّ أن ينتقل إليه، من دار هو يعبدها ولا يريد منها خروجا ... !
وقد أورد القرآن استفهاما فيه استنكار إعراضهم عن القرآن، وجاء معه الجواب عن علّة ذلك فيهم : ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) ﴾ [المدثر].
إنهم معرضون عنه، لأنهم لا يخافون الآخرة: ﴿ كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) ﴾ لا يؤمنون بها ... كما جاء في سورة الإسراء : ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا (45) ﴾[الإسراء]. حجاب مستور يُضرب بين المنكر للآخرة والبعث وبين القرآن ... !
ولذلك جاءت الدعوة في هذه الآية من سورة التغابن إلى الإيمان بالله وبرسوله، وبالقرآن، من بعد بيان أحقيّة البعث، لأن تحقّق الإيمان بالآخرة من جملة القرآن، يوجب في النفس الإيمان بالقرآن جملةً، وإنكار خبر الآخرة من جملة ما جاء من خبر القرآن يؤدّي إلى إنكار القرآن كلّه وإنكار أوامره ونواهيه وأخباره الغيبية، القرآن فيه تعليم الله سبحانه عباده ليستعدّوا، ولئلا يكون للناس ساعة اللقاء على الله من حجة، فلا يقول كائن مَن كان أنه لم يُنذَر، وأنه لم يدرِ ولم يعلم، وقد أقام الله عليه الحجة بالرسول وبالكتاب .
إنها الدعوة إلى سبيل النجاة في اليوم الآخر : ﴿ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) ﴾، خبير سبحانه بحقيقة من يؤمن، وبحقيقة من يكفر، وبحقيقة من يظهر الإيمان وهو على الكفر... الخبير سبحانه، العليم بذات الصدور.
﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ﴾
وهكذا انتقلنا من آية إلى آية بسلاسة وانسياب حتى بلغنا التصريح بيوم البعث، ولمن يتأمل وينظر، ويُعمل التفكّر، فإنه لم يكن انتقالا مفاجئا، بل لقد كان تدريجيا، بدءا من أول آيِ هذه السورة إلى الآية السابقة، حيث ذُكر البعث بصيغة الفعل المضارع : " أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا "، بينما جاء هنا(الآية09) باسمه... باسم جديد، هو اسم السورة أصلا، وهو موضوعها "التغابن" ...
ولننظر الرابط بين هذه الآية وسابقتها، والتي كانت فيها الدعوة للإيمان بالله ورسوله والقرآن، ليأتي بعدها مباشرة ذكر يوم الجمع، يوم التغابن...لقد كانت فيها تذكرة مسبقة بما يُنجي من أهوال هذا اليوم، وبما يجعل الإنسان فيه سالما سعيدا، مشرق الوجه، آمن النفس ...
﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ... ﴾
يومَ يجمع الله كل عباده، كل من خلق ...يوم يبعث فيه سبحانه عباده في خلق جديد، هو خلق بالحق كما كان خلقهم الأول بالحق، كما كان خلق السماوات والأرض بالحق، الله الذي هو على كل شيء قدير...يومٌ يُنبَّأ فيه الإنسان بما عمل، والله مُـحْصٍ عليه في دنياه كل أعماله، عليم بما ظهر منها وما خفي، عليم بذات الصدور ... !
ويليق أن تكون : "يَجْمَعُكُمْ " بمعنى جمعه سبحانه كلّ البشر ليوم الجمع، كما يليق أن تعني أيضا جمع العظام ليوم الجمع، والتي جاء عنها في سورة القيامة :﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾[القيامة].
ليس اسم "التغابن" ليوم القيامة بتلك الشهرة التي هي لغيره، من مثل "الحاقة"، و"القارعة"، و"الغاشية"، و"يوم الفصل"، و"يوم الدين"، و"يوم البعث" ...
ولقد اجتهدتُ في قراءة ما جاء عن أئمة المفسرين في معنى "التغابن"، فوجدت اقتضابا في سرّ جعلها اسما ليوم القيامة ... حتى أن ابن عاشور –عليه رحمة الله- في تفسيره "التحرير والتنوير" من بعد بذل جهده في النظر في مدلولها، يحدّث عن ذلك الشحّ في تفسيرهم لها فيقول: « وأكثر المفسرين مر بها مرّا . ولم يحتلب منها درّا . وها أنا ذا كددت ثمادي ، فعسى أن يقع للناظر كوقع القراح من الصادي ، والله الهادي . » -التحرير والتنوير-
ولقد لاحظت ما لاحظ ابن عاشور من تقصير في الوقوف عند مدلولها بما يروي الغليل ويفصّل، ويُبيّن وجه جعلها اسما ليوم القيامة ...فوجدتُني أقف عندها، أبحث في مقامات للإنسان في يوم القيامة تليق بهذه التسمية تحديدا، حتى وقعت على ما أراه يحمل معنى التغابن في ذلك اليوم العظيم ...
وجب أولا أن نتبيّن معنى "التغابن" لغويّا . فهي من مادة : "غَبَنَ" يغبن غبنا: غَبَنَ حَقَّهُ : نَقَصَهُ .غبَنه في البيع والشِّراء :غلَبه ونقَصه وخدعه ووكسَه.
إذن فهو إنقاص يحصل من جهة إنسان تجاه إنسان، فلا يعطيه القيمة المستحقة لما يأخذ منه، وقد كثر استعمالها في التجارة... ولكنّ الكلمة هي : "التغابن" على صيغة المفاعلة والتفاعل، أي التشارك في الفعل الواحد، من مثل "التحاور"، وهو الحوار يكون بين اثنين أو أكثر، فكلٌّ يأخذ بحظ منه وطرف، و"التبارز" فكلٌّ يبارز الآخر، فـالتغابن هو ما يكون من غبن متبادل، أي أن الناس يغبن بعضهم بعضا، فلا يعطي الواحد منهم الآخر حقّه، كلٌّ يغبن الآخر، فغابن مغبون ومغبون غابن .
وهذه الصيغة التشاركية هي التي جعلتني أتأمل ما جاء عن مدلول الكلمة، وموقع فعلها في ذلك اليوم، فقد جاء عن كثير من المفسرين -إن لم يكن كلّهم- ما مفاده أنّه يوم يتغابن فيه أهل الجنة وأهل النار، فيأخذ أهل الجنة الثمن الوافي، ويأخذ أهل النار الخسار والبوار.
ولكنّني هنا لم أشتفِ ! ورأيت أن الأمر يحتاج مزيد تفصيل وشرح لهذه الحالة، حتى لا يبقى من لبس في كون الغُبن يقع من أهل الجنة، وكأنهم قد بخسوا أهل النار حقّهم، أو كأنّ الأمر بيدهم يومها ... ! بل لقد رأيت أن التغابن يتخذ في ذلك اليوم أشكالا، ويقع في مقامات استوحيتها من خبر القرآن العظيم، أذكرها فيما يلي مرقومة :
* بمعنى الغبن في التجارة: الإنسان في حياته الدنيا في تجارة، فإما أن تكون تجارة رابحة، وإما أن تكون تجارة خاسرة، بحسب اختياره، ولقد وصف الله تعالى الكافر وهو يختار الكفر على الإيمان بقوله سبحانه: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) ﴾ [البقرة]. اشتروا الضلالة بالهدى، فغُبِنوا... ! غبنوا أنفسهم، بخسوها حقّها، وهي النفس التي خلقها الله، وأودعها أدوات الإدراك والاهتداء ! أودع فيها القدرة على الاختيار وإعمال العقل لسماع الحق، وإيقاد جذوة البصيرة لإبصار الحق، أودع فيها سبحانه الفطرة السليمة التي تحتضن الحق وتعرفه، جعل الإنسان سميعا بصيرا، وهداه السبيل، وأرسل الرُّسُل الهُداة، وأنزل الكتب الهادية ... ولكن الكافر اشترى الباطل بالحق، الضلالة بالهدى، فكان أهل تجارة خاسرة، لم تربح في الآخرة، أبلغ نفسَه تلك المهالك، فغبنها... ! وُهِبَها بكل تلك الأدوات الحيّة لتحيا، ولكنّه أماتها في نفسه، واختار العمى، واختار أن يغبن الفطرة فيه، كان يظنّ أن بَيْعَه رابح، فإذا الثمن الحقيقي خاسر، فغُبِن... ! والإحساس بالغبن إحساس بالحسرة على خسارة التجارة ، حسرة تعتصر صاحبها !
لذلك أرى أنّ الإنسان ونفسه، كلّ منهما قد تعامل بتجارة مع الآخر، فالنفس التي بين جنبيه وُهبها بكل تلك المكونات المربحة، بينما هو غبنها، فأبلغتْه مهلكه .-عياذا بالله- وأستحضر هنا قوله سبحانه : ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) ﴾ [النور]. إنها أطرافهم ! جنباتهم ... إنها تشهد عليهم ... ! انظروا إلى التغابن، فهو يغبنها، وهي تغبنه... !!
* المؤمنون يغبنون الكافرين في ذلك اليوم: ولكنّ هذا الوجه -عندي- لا يُقبل هكذا على عواهنه، بل من حيث مقامهم الآمن، وفوزهم العظيم يوم القيامة، هم سببٌ لاعتمال حسرة قاتلة في صدور الكافرين، ولو كان للموت عملها في ذلك اليوم لقتلتهم تلك الحسرة ! ولكنها عذابٌ عظيم فوق ما ينتظرهم من عذابات !! وأقتبس لقولي بهذا من قول الله تعالى : ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ(35)هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(36) ﴾ [المطففين].
فهذا أراه من غبن المؤمنين للكافرين، إحساس بالغبن يملأ على الكافرين قلوبهم جزاء وفاقا لضحكهم من المؤمنين في الدنيا، فالكافر قد تاجر في الدنيا تلك التجارة الخاسرة التي حسبها رابحة، وهو مع كل فعل كان يأتيه كان يبيع الهدى بالضلال، فهذا اليوم ثمن تجارته ... ! اليوم يجد ثمنها نارا وحسرة من ضحك المؤمنين منه وهم الفائزون فوزا عظيما، فهي تقطّعه إربا فوق ما تفعل النار فيه !
وقد جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال : { لا يَدْخُلُ أحَدٌ الجَنَّةَ إلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لو أساءَ، لِيَزْدادَ شُكْرًا، ولا يَدْخُلُ النَّارَ أحَدٌ إلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ لو أحْسَنَ، لِيَكونَ عليه حَسْرَةً} –صحيح البخاري-
* سمعت لأحد المشايخ تسجيلا فيه قول له في "التغابن" : يشرحه من مقام الذين يؤخذ من حسناتهم ليُقتصّ منهم، مؤمن يظلم في الدنيا، فيُقتصّ منه للمظلوم بالأخذ من حسناته... وأرى أن هذا الوجه أيضا من أوجه التغابن... فانظروا إلى هذا البيع يومها، وإلى تلك الخسارة العظيمة التي يُمنى بها، وإلى ذلك الثمن !! إذ يأخذ منه المقتَصُّ له أثمن سلعة بلا مقابل ! يأخذ منه سلعة نجاته، وإنه كلما أُخِذ له منها كلما ازداد من الهلاك قربا... ! فاستحضرت ما جاء عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن رسول الله ﷺ، قال: { أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ} -صحيح مسلم.-
* كما تذكرت في معنى "التغابن" قول الله تعالى : ﴿ وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) ﴾ [ص]. كل هذه الحسرة من الإحساس بالغبن على بيع خاسر كان منهم في الدنيا، إذ باعوا الهدى، فكانوا يسخرون من أهله، فهم أولاء يُغبَنون في تجارة ظنوها رابحة ... ! فإذا الثمن حسرة وندامة وهلاك. تخاصم في قلب النار وفي قلب عذابها ... حسرة هي العذاب المقيم يقطّع مع العذاب المقيم –عياذا بالله- !
* وفي قول الله تعالى : ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) ﴾ [الفرقان]. هذا أيضا من نتائج بيعه الخاسر ... كانوا أخلاء، فإذا هم اليوم أعداء : ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) ﴾[الزخرف].
فلنتأمل كيف يتبرأ الأخلاء بعضهم من بعض... ! أين ذلك الحب، وذلك الودّ، أين تلك الصحبة وذلك القرب في الدنيا ؟؟ ! إن هذا ثمن ذلك الحب، وتلك الخلّة ... ! إن بعضهم اليوم ليغبن بعضا، بتبرُّؤ بعضهم من بعض !
* وفي ذات السياق أيضا قول الله تعالى : ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) ﴾ [البقرة].
لننظر إلى غبن بعضهم بعضا، وكل منهم يتبرأ من الآخر... !! لننظر إلى حقيقة ما صار إليه قدر كل واحد منهما عند الآخر... !
* وهذا المقام أيضا : ﴿...يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) ﴾ [المعارج].
أين ذلك الحب ؟؟ أين تلك المكانة، بل أين ما كان من الواحد منهم وهو يتخذ محبوبه معبودا؟ ! الأولاد، الأزواج... ! أين ؟ ! وقد كانوا يرضونهم ولا يرضون الله ... !أمّا الآن ! إنه الغبن، إنه التغابن، كل منهم يغبن الآخر ... يودّ لو أرداه الجحيم مكانه !! ذلك ما يعطيه من ثمن لقاء حبّه الذي كانت تتداوله الألسُن وتتناقله الأجيال قصة من قصص الحب العالمية، وأيقونة من أيقونات الرومانسيّة ! ما دلّ متّبَع منهم تابعه إلا على ضلال، فها هم اليوم يبيع بعضهم بعضا بأسوء الأثمان، بالهلاك، والتباب والتبار ! بالنار تأكله إربا إربا... ! وليته يموت فيها ... ! بل إنه الخالد فيها حيا يُعذّب ... !!
* ولننظر إلى هذا المقام أيضا: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) ﴾ [إبراهيم].
﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾ توازي هنا : ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ هذا قول الضعفاء الأتباع لمتَّبَعيهم: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ ... ما من مَهْرب، أين وَلاؤهم وطاعتهم العمياء لهم ؟؟ وأين سعادة المُطاع بتلك الطاعة، ذهب كل شيء، غُبِنوا في تجارتهم التي تاجروا في الدنيا، هذا ثمنها ... ! فالتابع والمتَّبَع غابن مغبون !!
* وهذا المقام من العدوّّ الذي اتخذوه من دون الله وليّا : ﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)﴾ [إبراهيم] .
اتبعوه، واتخذوه وليّا ... فهذا تبرُّؤُه ، وهذا قوله يوم يجمع الله الخلق ليوم الجمع، يوم التغابن ...
* وهذا المقام من الشركاء الذين اتُّخذوا من دون الله : ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) ﴾ [القصص].
الشركاء الذين اتخذوا من دون الله، هم أولاء يعلنون تبرُّؤهم من عابديهم، هي ذي آلهتهم التي كانوا يعبدون، ويقدّمون لها آيات الطاعة والولاء، هي ذي تتبرأ منهم، هم أولاء يُغبَنون، وقدعبدوها من دون الله، فباعوا الهدى بالضلال وحسبوا أن بيعهم رابح ... !
* وهذا قول إبراهيم -عليه السلام- بالحق عن تغابن يوم التغابن : ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) ﴾ [العنكبوت].
وفي هذا مزيد بيان لغبن بعضهم بعضا، و كلّ منهم يعلن كفره بالآخر، ويلعن الآخر... ! وإنه للتغابن !
كل هذه أراها مقامات تغابن ... "يوم التغابن" يوم يكثر فيه من هذا، من هذه الحسرة التي يُمنى بها الكافرون، بعضهم من بعض، ومن شركائهم الذين اتخذوا من دون الله، ومن المؤمنين... !
بهذه المواقف الكائنة والمتحقّقة يوم التغابن، والتي ذكرها القرآن، أرى وضوحا في معنى التغابن، والغبن الذي يوقعه الناس بعضهم على بعض، سواء في ذلك غبن الإنسان نفسَه بتجارته الخاسرة التي تاجرها في الدنيا، وقد باع الهدى بالضلال، ليلقى ثمنها يوم التغابن، وليكون ونفسه يومها المتغابنَيْن ... أو غبن المؤمن للكافر بما يلقيه مقامه الآمن، وفوزه العظيم في نفس الكافر من حسرة لا حدّ لها ولا وصف، أو غبن كافر لكافر كان يعدّه تابعا مطيعا، أو متَّبَعا مطاعا، أو غبن الشيطان -وليّ الكافرين- لأوليائه، أو غبن الشريك لمن اتخذه، وغبن عابده له، بما يُعلنانه من كفر الواحد منهما بالآخر وبتلاعنهما، أو الغبن الحاصل على الظالم ممن ظلم وقد غدا المُفلس المأخوذ من حسناته... !! كلٌّ يتبرأ من كلّ... كلّ محبّ يدفع بمحبوبه فداء ! كلّ قريب يودّ لو أن قريبه كان له الفداء ... !
وهكذا رُوِي غليلي... ! واشتفيت، وذهب اللبس عنّي، وقد وقعت مني هذه المقامات القرآنية في التغابن وقع القَراح من الصادي !