(5)
احذر أن تأخذ بعقلك الأجسام والألسنة ! فالحق لا يُعرف بالرجال، بل يُعرف الرجال بالحقّّ !
ونعود لنكمل المسير مع جوّ الآيات من بعد وقفتنا التي كانت ....
﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ﴾
قد عرفنا من جوّ هذه الآية فيما سبق...
وإنك لتتساءل عن سرّ بلوغ المنافقين هذا الحدّ من الاستخفاف بجناب الله تعالى، وسرّ هذا الإصرار منهم على الكفر، مضافا إليه ادّعاء الإيمان كذبا، وفوقه الحلف بالله على الكذب، بل وحلفهم بين يدي رسول الله ﷺ على تصديقهم به رسولا ! وحرصهم على إخفاء حقائقهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ... ! فتسعفك الآية الموالية بالجواب، وبالسبب وبالدافع النفسيّ الذي جعلهم على تلك الحال :
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) ﴾
طُبِع على قلوبهم من عودتهم للكفر المرّة بعد المرة، فهم لا يرعوون، ولا يعودون عن غيّهم، ولا يجدون في اليمين الكاذبة -عادةً وشنشنةً- من نقيصة.
وعندي أن الحديث عن حال إيمان مرّوا بها، انتقلوا منها إلى الكفر:﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا...﴾ إنما هو على سبيل المجاز. فهم بين إيمان وكفر، لا إيمان على الحقيقة، بل إيمان بأفواههم، إيمان ظاهريّ بحسب ما يصرّحون، وبما يُعرفون به بين الناس، ثم هم الكافرون بعد ذلك إذا خلوا إلى أنفسهم وإلى أوليائهم، وقد جاء ذلك في قوله سبحانه : ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14) ﴾ [البقرة].
بل إنك لتجد بيانا أكبر لحالهم تلك في قوله تعالى : ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) ﴾[النساء].
ثم لننظر، فإذا هم يتّقون المؤمنين وانكشاف أمرهم بينهم بالأيمان الكاذبة، بينما لا يهابون جناب الله، ويستسهلون الحلف به على الكذب، وهذا مما يصدّقه ما عرفناه في سورة الحشر عنهم، وهو الكشف لحقائقهم والفضح لبواطنهم يُجمع بعضُه إلى بعض : ﴿ لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) ﴾ [الحشر].
وفي الآيتين جاء نعتُهم بأنهم " لَا يَفْقَهُونَ " أي لا يدركون خفايا الأمور وأعماقها، لا يقدّرون حقائق الأمور، فكما أنهم يظهرون الإيمان أمام المؤمنين، ويعتدّون بذلك الكذب والتظاهر والادّعاء منهم، كذلك فكرهم وتصوّرهم، لا يستوعبون إلا ظاهر الأشياء، أما الحقائق والأعماق، وجوهر الحياة وجوهر معناها، فغائب عن فكرهم كلّ الغياب، الإيمان وتحقيقه، والهدف منه، والجزاء الذي يُبتغى منه غائب عنهم كل الغياب !
إذن فلقد جمعت هذه الآيات الثلاث الأولى بين :
أولا: كذبهم، وشهادة الله تعالى على كذبهم في قولهم أنهم يقرّون ويؤمنون بأن محمدا رسول الله.
ثانيا: البيان أنّ تلك الشهادة الكاذبة على أنفسهم بالإيمان والتصديق، إنما هي صورة من صور تستّرهم بالأيمان الكاذبة، وهم يجدون للمؤمنين رهبة في صدورهم أكبر من رهبتهم لله سبحانه، وبذلك يمضون في الصدّ عن سبيل الله، والكيد للإسلام والمسلمين.
ثالثا: تلتئم الآيات الثلاث، ويلتئم السياق بتتمة ذكر الدافع النفسيّ الذي يجعلهم على تلك الحال...إنه من تذبذبهم، ومن كفرهم المرة تلو المرة، طُبع على قلوبهم، فلم يعودوا يفقهون للهدف من العبودية للخالق معنى، ولا للهدف من الإيمان من معنى على حقيقته، فهم أهل ظاهر، آمنوا بالظاهر حتى حسبوا أنهم يخدعون الله بتلك المظاهر الإيمانية التي يدّعون، وهو سبحانه خادعهم، يفضحهم في الآيات تنزل على نبيّه تكشف حقائقهم ودواخل أنفسهم ... فتتبيّن مغبّة احتكامهم للمظهر، وكذبهم بالمظهر، واتخاذهم له سبيلا مموّها ومشوّها للحقائق ... !
﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) ﴾
ويزيد سبحانه بذكر صفات لهم، لا يتناسق فيها المظهر مع المخبر، تماما كما هو مقالهم المخالف لحقيقة قلوبهم ...إذ يظهرون إيمانا، ويضمرون كفرا.
هم أولاء إذا رأيتَهم أعجبتك أجسامهم... قوة، وفراهة قامة، وجمال وجه، وإذا قالوا، انجذبتَ لقولهم، وأعجبتَ بذلاقة ألسنتهم، وأحببت ما يقولون ...وكلّه المظهر منهم...
ولكأنّك وأنت تكتفي من الآية بهذا المقطع : ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ... ﴾ تسمع مدحا وثناء، تسمع عن الحُسن والجمال، واللياقة واللباقة، والذلاقة، حتى إذا أنهيت مقطعها الأخير، تكشّفت لك الحقيقة... فانظر واستمع :
﴿... كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾
"كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ" . سبحان الله ! أرأيت ذاك الذي أعجبك جسمه، طوله، لياقته، قوّته، جمال وجهه ... ذاك الذي أبهرك بلسانه، فرأيته الفصيح الحصيف، اللبيب، الأريب اللّبق، المتحدث بثقة، لاحتْ لك من لسانه تباشير الحكمة، وأبهرتك كلماته المنمّقة الموزونة، وقلت بعدها إنه ليتحدث كما يتحدث الراسخون في العلم ! لا بدّ أنه من العلماء ! بل لعلّك من انبهارك به جعلتَ تبحث عن جديده، وعن جديده، حتى زاد الانبهار على الانبهار، وصرتَ تراه فلتة زمانه، والعالم المفوّه الذي لا يُقارع ولا يُشقّ له غبار... !
إنه كالخشبة المسنّدة ... خشبة جامدة، ساكنة، جوفاء... !
مظهر لا يحقّقه جوهر... ! كالجسد بلا روح، بلا حركة، جماد ... متيبّس، لا حياة فيه ...حقيقتهم موت وهم يفتقرون لتلك الروح المحيِية، التي تعطي لمظهرهم ولألسنتهم ولأقوالهم حياة ... يفتقرون للإيمان الذي يُدِبّ الحياة في القلوب ....قلوبهم جوفاء، خاوية، ميتة .... !
أقوالهم ادّعاء وكذب لا يصدّقه فعل ... فلا حياة لما يصدر عنهم، لما يظهر منهم .... مجرّد خُشُب، وليست خُشبا وحسب، بل مسنّدة، لا يُنتفع بها ... !
﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ... ﴾
هي ذي حقيقتهم، يحسبون كل صيحة عليهم، ذلك أن ديدنهم في الكيد للمسلمين وتربّص الدوائر بهم، يجعلهم يتحسّبون أنّ كل مَن عداهم كائد لهم، متربّص بهم، من جنس ما يخططون وما يبتغون يظنون بغيرهم حِيالهم، المكر والكيد فيهم طبع، لا يجعلهم ممن يرى في الناس خيرا وودّا !
خاصة أن القرآن كان يفضحهم، وكانت تبلغهم آياته وهي تعمل عمل المرآة العاكسة لدواخلهم، ولما يضمرون ... فكانوا يعيشون في حالة من الخوف والرعب والاضطراب والاهتزاز النفسيّ الذي هو نتاج سوداوية تغشى نفوسهم، وظلاميّة تكتسح قلوبهم . يعيشون القلق والحيرة جزاء وِفاقا لظنّهم أنهم يخادعون الله وهو سبحانه خادعُهم بهذه المعيشة الضنك التي يتخبطون في أوحالها !
﴿ ...هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾
تأكيد من الله سبحانه على أنهم أعداء للمسلمين، بل قد جاءت بصيغة التعريف " الْعَدُوُّ " للتأكيد على شدة عداوتهم للمسلمين، فهم العدوّ الأكبر، والعدوّ الحقيقي، الذي يجب الاحتراس منه، والتحذّر منه ... هم العدوّ الذي يلتبس على المسلمين حاله، وهم منهم، وهم بينهم، وهم يظهرون الولاء والمحبة، ويحلفون أيمانا أنهم أهل الإسلام وأهل محبّته وأهل الذّود عنه... ! ولذلك كان للقرآن دوره العظيم في كشف حقائقهم، وإنقاذ المسلمين من شرورهم ...
ويدعو الله عليهم، ودعاء الله عليهم أمره المُحقّق فيهم : ﴿ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾، لقد استحقوا ذلك، إذ كيف يُصرَفون عن الحق وعن الهدى، كيف يشترون الضلالة بالهدى، ويؤثرون الباطل على الحق، وحالهم هي تلك، من التلوّن والتذبذب والتمايل بين إظهار الإيمان وإبطان الكفر ... !
ويجدر بي في هذا المقام المناسب أن أتحدث عن أهل الشُّبهات، وتلك اليوم مظاهرهم، وتلك ألسنتهم ! بها سحروا مَن ليس له من علمٍ بدينه إلا أنه المسلم، فما بحث في كنوز علماء الأمة، وما قرأ لهم، وما عرف عنهم إلا ما تقوّله عليهم أهل التمييع والتعالم، بدعوى التجديد في الدين ... !
كم منهم سحروا أعين كثير من شباب الأمة المفرَغ من علم بأساسيات دينه، الباحث عن الثوب يخيطه له أهل الأهواء بمقاسات هواه، ليصيّر الدين على مقاسه وعلى ما تقتضيه شهواته، وما يقتضيه ابتغاؤه الدنيا بكَلِّها وكَلْكَلِها، بحلالها وحرامها، لا يعنيه من الأمر إلا أن يرضي شهواته، ويلبّي حاجة نفسه التي كلما أكلت ازدادت شرها للمزيد، لا يحبّ حدّا ولا قيدا، ولا قانونا، فالعالم من علماء الأمّة عنده من أهل الكتب الصفراء، ومن أهل القديم، ومن أهل التشدّد، وعندهم أنّ التجديد يقتضي أن نساير كل صيحة، وأن يساير الدين الدنيا، لا أن نكيّف دنيانا بديننا دستورا للحياة لا يعلو عليه دستور ولا قانون ... !
أو ربّما وجدتَه يقول بما يقول باسم "العقلانية" زيفا -والإسلام دين العقل السليم، والبرهان والدليل- فهو لا يرى غضاضة في خوض العقل حتى فيما هو أصل من الأصول، فلا وجود لأصل مع خوضه، بل إنّ الدين برُمّته قابل للقلب، بحسب ما يرى عقلُه زعما، والحقيقة أنها رؤية هواه.
وهؤلاء المفوّهون اليوم سواء بسبيل الشبهة بسلطة الشهوة، أو الشبهة بعلويّة العقل على الوحي، كلاهما هوى ... كلاهما يريد تكييف الدين للهوى، فهم يقلبون الحقائق، ويطعنون في كبار علماء الأمة، مشهرين سلاحا يحبّه أهل الأهواء وشبابٌ لم يتشرّب من دينه شيئا، فهو بالاسم والعنوان مسلم، لا يتعدّى تلك العتبات، سلاح أنّ أولئك القدامى أهل القديم، وأهل الزمن القديم، وأنه الركود والقعود و الجمود والركون إلى ما لم يعد يُجدي في عالم الطيران بالمادة، وبالعلم ... !
حتى أنّ علم الدين ليس ضرورة لنتبيّن معالم الدين، فالسنّة مطعون بها ! والصحابة مطعون بعدالتهم ! وعلماء الأمة مطعون بعلمهم ومعرفتهم ! وحتى بتميّز فهمهم للدين وللقرآن -بحكم امتلاكهم للمعرفة الصحيحة باللغة، وبأدواتها، وبتصاريفها- والقرآن ليس حِكرا على من علم من اللغة علما عميقا، ولا على من كان راسخا في علم الدين ! بل هو للجميع، لكلٍّ أن يفسّر آياتِه بما يرى، وبما يعتقد، وبما يريد أن يصنع من عجينةٍ قوامُها أخلاط أهواء، وأضغاث أحلام وألوان جديدٍ مُدّعى ... !
إنهم ممّن إذا قالوا سمِعَ مَن سمع لقولهم، وعدّوهم علماءهم الأفذاذ، ضحايا أهل التراث والأصفر والقديم، الذين لا يعترفون بالجديد، فهم لهم محاربون... "أهل التراث والقديم" –كما يرونهم- هم الذين لا يريدون دينا بمقاس الحداثة، والعلمانية، والحرية ! لا يريدون دينا لقائل منهم أن يقول فيه بإنكار فرض بين الفروض، أو ركن بين الأركان، ولقائل منهم أن يحلّ حراما، ولقائل منهم وقائل أن يطعن في السنّة، ويعدّها نقل الرجال، والرجال مطعون فيهم ومطعون ! وبطعنهم في السنّة المشرّفة، استساغوا التشريع بأهوائهم، وتفسير القرآن وأحكامه بأهوائهم، وأساغوه للناس، وهم يصيّرون الدين أهواء مطوّعة للميول والنزعات والرغبات. فهم على منصات التواصل الافتراضية، أعلامٌ بجماهير مصفّقة مهلّلة ممجِّدة ... ! وحقيقتهم خُشُبٌ مسنّدة، لا نفع منها ! بل يفسدون على الناس دينهم، ويضربون إيمانهم، ويصيّرونه أشلاء متطايرة تلهو بها الأهواء، فحيثما مالت أمالتْها ... !
فيا مَن تقرأ ما أقرأ ... ويا مَن تعيش معي هذه الحياة، ويا مَن تقطع معي هذا الدرب على ضوء مشكاة القرآن ... وعلى ضوء هذه السورة، وهذه الآيات منها، تعلّم ... واحذَرْ ... فليس اللسان مناط الحكم، ولا المظهر ... !
قد عُرِّفتَ من هذه الآية وقد رُبّيتَ... فلنعرف عمّن يُؤخذ الدين، ولنفهم الحرب المُشنّة على الدين وأصوله وأحكامه وحدوده وزواجره وروادعه، باسم الحريّة والتحرّر والعصر ومقتضياته ... !
ويزيد سبحانه في بيان خسار المنافقين وبوارهم، بمزيد تعداد لصفاتهم :
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) ﴾
أما هذه فواحدة من حقائق أحوالهم مع رسول الله ﷺ...
جاء في صدر السورة كشف كذبهم بين يديه وهم يدّعون التصديق به، وموالاته، وفي هذه الآية حقيقة مقامه عندهم، وشتّان بين مقام ومقام ! مقام المصدّق المؤمن، الموالي، ومقام الذي لا يأبَه له ولا لأمره، ولقول من يدعوه أن يستغفر له رسول الله ﷺ.
وهما تانِكَ الحالتان اللتان يتأرجح المنافقون بينهما، ففي ساعة مخالطة المؤمنين، هم المؤمنون الموالون المحبّون، وفي ساعة الاختلاء بالنفس وبأهل الطبع هم العدوّ ... !
ولكن لننتبــــــه ... !
إنّ الذين يدعونهم ليستغفر لهم رسول الله ﷺ، هم جماعة من المؤمنين، فهي ذي فلتات من دواخلهم تطفو على السطح، هي ذي كواشف عن أنفسهم من أنفسهم، هي ذي صفات لهم كاشفة منهم لا من غيرهم !
وبهذا، نفهم أن للمنافقين فلتات من اللسان ومن الحركات، كانت فاضحة لهم عند المؤمنين، فهل يُعقل وهل يُتصَوَّر أن يلوي مؤمن رأسه وهو يُدعى إلى رسول الله ﷺ ؟ !
هل تظنّ مؤمنا يدعو أحدهم إلى أن يستغفر له رسول الله ﷺ، ويراه وقد لوى رأسه، وصدّ واستكبر، ثم يمضي وهو لا يفهم من حركاته شيئا ؟ !
خدعتهم أنفسهم وقد استأمنوها على كذبهم ... ! شهدت عليهم رؤوسهم، ونظراتهم، وألسنتهم ... !
ويكأنّهم قد سُلّطت عليهم جوارحهم، وهم يستميتون في المكر والتخفّي والتوقّي، وإظهار خلاف حقائقهم ... ! لكأني بقوله تعالى : ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ...﴾[النساء: من الآية142 ] محقّقة فيهم، بهذا الانفلات من عقال التخفّي إلى فضاء الانكشاف، من حيث ظنوا أنهم الذين أحكموا خططهم، وأبرموا مع أنفسهم الأمر إبراما وثيقا ... !
أفرأيت الفرق بين فعلهم المذكور في الآية الأولى، وبين فعلهم في هذه الآية ؟ ! إنه الفرق بين الادّعاء على ألسنتهم، والحقيقة التي تسكن قلوبهم ... ! إنه الفرق بين الوهم والحقيقة فيهم ... !
إنه بيانٌ لمِحور سورة "الصفّ"، لِما نهى الله المؤمنين أن يتلبّسوا به من صفات المنافقين، أنكر عليهم أن يقولوا ما لا يفعلون... إنه علامة من علاماتهم، وهم بقول بين يدي رسول الله ﷺ، بينما هي ذي حقيقتهم حِياله... ! يلوون رؤوسهم، ويصدّون، ويستكبرون .... !
أما أنت وأنا ... فلنحذر من أن نستهين بأمر رسول الله ﷺ فينا ... !
﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) ﴾
وهذا أمر الله فيهم محقّق، وقد عرفنا قبلها قوله سبحانه فيهم : ﴿ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾
هذه عاقبة انصرافهم عن هدى الله تعالى، وعاقبة كذبهم وادعائهم الإيمان، ومكرهم، وصدّهم واستكبارهم، وما يريدون بالإسلام والمسلمين، باؤوا بالخسار والبوار والتّبار، حتى وإن استغفر لهم رسول الله ﷺ -وقد كان يفعل رفقا بهم وحبا في اهتدائهم- : ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾
سبحانه، يعلم حقائقهم، ودغل أنفسهم، والشوب الذي يملأ قلوبهم، والظلام الذي يغشى صدورهم، يعلم فسوقهم، وانصرافهم عن الهدى، وتولّيهم عنه، وإن بدا منهم كلّ ادّعاء، وإن أقسموا أيمانا على أنهم المؤمنون، وإن شهدوا أنهم المصدّقون برسول الله ﷺ. سبحانه وتعالى يعلم كذب الكاذب وصدق الصادق ... !
لن يغفر الله لهم ... ويا ما أكبرها من طامّة !
وقد رُويت في نزول هاتين الآيتين روايات، من أهمها تلك التي نقلتْ موقف عبد الله بن أُبَي بن سلول رأس النفاق والمنافقين، وهو في غزوة أُحُد، حينما انخزل بثلاث مئة من أصحابه عن رسول الله ﷺ وعن المؤمنين، فدعاه أحد المؤمنين قائلا: أَتخذُلونَنَا وتُسلِمُونَنَا لِعَدَوِّنَا ؟ فأجابه بقوله: «ما نَرَى أن يكونَ قِتالًا ، لَو نَرَى أن يكونَ قِتالًا لاتَّبعْنَاكُمْ» !
فانظر كيف كشفه تصرّفه، وكشفه لسانه ... ! وكُشف ثلاثمئة ممّن معه، بل ونزل فيهم بعدها قرآن يُتلى يزيد في تأكيد حقيقتهم : ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) ﴾[آل عمران].
فلما اجتمع رسول الله ﷺ بالمسلمين في المسجد مرجِعهم من أحد، قام ابن أبي كعادته فقال: « أيها الناس، هذا رسول الله ﷺ أكرمكم الله به.. » .فأخذ بعض المسلمين بثيابه من نواحيه وقالوا له : «اجلس يا عدو الله، لست لهذا المقام بأهل، وقد صنعت ما صنعت». فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: «والله لكأنما قلت بَجْرًا ( أي أمرا منكرا ) أن قمت أشدّد أمره » فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد، فقالوا له : ويلك، مالك؟.. ارجع يستغفر لك رسول الله ﷺ، فجعل يلوي رأسه ويحركه استهزاء...