"
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ..."
وإنها لهي هي دعوة سيدنا إبراهيم، حينما رفع القواعد من البيت وابنَه إسماعيل عليهما السلام : "
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)"-البقرة-
هو الملك سبحانه، فهو الذي أرسل رسوله لعباده الذين هم وكُلُّ ما في السماوات وما في الأرض له عبد ...
هو القدّوس سبحانه الذي أرسله إلى عباده بالكتاب الكامل الشامل المهيمن، المنزَّه عن النقص، ليكون لهم هدى ونورا، ومنهج حياة "
...وإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)"-فصّلت-
يتلوه عليهم آناء الليل وأطراف النهار، يقرأه عليهم، ويبلّغهم إيّاه كما أُنزِل عليه حرفا بحرف... ولقد أمره ربُّه أوّل ما أمره أن يقرأ : "
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) " -العلق-
وإنّ تبليغهم كلام الله -عبر تلاوته صلى الله عليه وسلم له- رحمة وذكرى : "
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)"-العنكبوت-
إنها تلاوة، وإنها قراءة، ولكنها ليست ككل قراءة... ! إنها قراءة تبليغ لكلام الله تعالى وأمره لعباده، قراءة أداء للأمانة العظمى.
هو سبحانه العزيز... الذي لا يُغلَب، والذي يعزّ من اتّبع هُدَاه، ويذلّ من أعرض عنه، هو الذي أرسل رسوله ليعلّمهم الكتاب العزيز الذي يجعلهم في جنب العزيز سبحانه: "
وإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ "...
يعلّمهم ما يرقى بأنفسهم ويسمو بها عن سفاسف الأرض، وأخلاط الأهواء، واختلاقات الكاذبين المتألّهين فيصيروا به أعزّة... يعلّمهم ما يجعلهم الناجحين وهم الذين لا يرون في الدنيا دار قرار، بل دار امتحان، يهيؤون فيها الإجابة، ويعملون فيها لما ينجيهم يوم اللقاء والجزاء...
هو سبحانه الحكيم... الذي بعث فيهم رسُولَه، يعلمهم الحكمة، والرشاد.
والحكمة غالبا هي السنّة النبوية المطهّرة، بما فيها من حركة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض بهدايات القرآن العظيم وأوامره، وهو كما وصفتْه عائشة رضي الله عنها بقولها: "
كان قرآنا يمشي على الأرض"... فمَشْيُه على الأرض بأقواله وأفعاله الحكيمة التي هي من نور القرآن وهُداه، هي الحكمة التي بُعث صلى الله عليه وسلم ليعلّمها للناس ...
الحكمة التي هي حركته صلى الله عليه وسلم قرآنا...فبهُداه يعبد ربّه، وبهُداه هو الموصول به، وبهُداه هو المعلّم، وهو المربّي، بهُداه يحيا مع زوجاته، ويعلّم رجال الأمّة حياتَه معهنّ ليقتفوا أثره، وليتأسّوا به، فهو الأب المعلّم ، وهو القائد المعلّم، وهو المربّي المعلم...وهو الإنسان المعلّم ... !
فأيّ فصل بين القرآن والسنّة، والسنّةُ مَشْيُ القرآن على الأرض ؟ !
وأنّى يستقيم إلغاء السنّة من حُسبان المؤمن، وهي التطبيق العمليّ للقرآن ؟ !
أنّى يستقيم إيمان المؤمن، وهو الذي يدّعي لنفسه إيمانا بالقرآن وحده، ويُنكر بيان مَن بعثه الله وأرسله ليبيّن حركة الإنسان بالقرآن فعلا وقولا ... ليكون النموذج البشريّ الأكمل لتطبيق القرآن الكريم ...؟ !
وقد ذكر الله أنّ كلا من الكتاب والحكمة مُنزَلان على نبيّه، وهو مصداق الاعتقاد بأنّ ديننا دين الوَحْيَيْن القرآن، والسنّة : "
...وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَم..."-النساء: من الآية113-
كما قال صلى الله عليه وسلم : "
لا ألفينَّ أحدَكم متَّكئًا على أريكتِهِ يأتيهِ الأمرُ من أمري ممَّا أمرتُ بِهِ أو نَهيتُ عنْهُ فيقولُ: لا أدري ما وجَدنا فيه حرامًا حرَّمناهُ ألا وإنِّي أوتيتُ القُرآنَ ومثلَهُ معهُ"-الألباني: صحيح-
وإنه صلى الله عليه وسلم فوق تلاوته وتعلميه لكلام ربّه، والحكمة، يزكّيهم أي يطهّرهم من أدران الجاهليّة، ويُخلّصهم من رِجسها، ويخرجهم من ظلماتها، ويملؤهم بنور العلم والهداية والرشاد... يخلّيهم من الخرافة والباطل والسَّفَه، ويحلّيهم بالحقّ والنور، ويعطي العقلَ حقَّه وهو هبة الله لعبده... !
فنرْقُبُ كيف جاءت أسماء الله سبحانه : "
الملك" "
القدوس" "
العزيز" "
الحكيم"، موائمة كل المواءمة لوظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الملك
--------> تلاوة رسول الملك لرسالته إلى عبده ومملوكه.
العزيز-
------> تعليم رسول العزيز كتابَه العزيز لعباده.
الحكيم
-------> تعليم رسول الحكيم الحكمة بحركته على الأرض قرآنا كنموذج بشريّ أعلى للأسوة والاقتداء.
القدّوس
-----> تزكية رسول القدّوس لأنفس العباد بالتربية والهداية والتوجيه.
"
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)"
أما قبل أن يُبعَث فيهم صلى الله عليه وسلم كما تُبعَث بالروح الحياةُ في الجثة الهامدة، فقد كانوا في ضلال مبين ... والقرآن روح بوصف الله تعالى له : "وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)"-الشورى- . "
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُون"-النحل:02-
وهنا قُرِنت "في" الظرفية بـ"لام" تسمّى اللام الفارقة ...وهي اللام الفارقة بين "إنْ" (النافية) و"إنْ" (المخففة من "إنّ" الثقيلة).
وقد وقعتُ على تعريف دقيق لدورها في تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور رحمه الله. يقول :
((( واللام في قوله { لفي ضلال مبين } تسمى اللام الفارقة، أي التي تفيد الفرق بين إنْ النافية و { إنْ } المخففة من الثقيلة وما هي إلا اللام التي أصلها أن تقترن بخبر إن إذ الأصل وإنهم لفي ضلال مبين، لكن ذكر اللام مع المخففة واجب غالباً لئلا تلتبس بالنافية، إلا إذا أمن اللبس.
)))-التحرير والتنوير-
وطبعا لا ينفي اختصاص هذه الآية بذكر بعثته صلى الله عليه وسلم في الأميّين، أنه المبعوث للناس كافة، رحمة للعالمين: "
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ... " –الأعراف: من الآية158- "
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)"-سبأ-. إلا أنّ هذه الآية من "الجمعة" خصّت بداية بعثته في العرب، وأنه منهم، وفيهم بُعث أوّلَ ما بُعِث صلى الله عليه وسلم.
"
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)"
ولما خصّ الله في هذه السورة قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر أوليّة بعثته فيهم، ثنّى سبحانه، بالحديث عن "آخَرِينَ" ... فلنتأمّل ما يزيد في تجلية أمر هؤلاء الآخرين :
"
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ..."
هم آخرون من الأميّين، وهي هنا "مِن التبعيضية".
فهم مِنْهُمْ ، ولكنّهم لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ، وإنها للإشارة إلى الأجيال المنبثقة عن هؤلاء الأميّين جيلا بعد جيل، كما أنها الإشارة أيضا إلى الأجيال التي تتولّد من اختلاطهم بالأجناس والأعراق الأخرى... وهو الأمر الذي كان نتيجة الفتوحات الإسلامية، وامتداد رقعة هذا الدين إلى أراض مختلفة، مما أدّى إلى التعارف والتزاوج بين العرب وبين غيرهم، ونشوء أجيال مختلطة الأعراق، جَمَعَ الإسلام بينها ... فهو الرَّحِم وهو الجامع، وهو الذي يتزوّج فيه العربيّ بالأعجمية المعتنقة للإسلام، كما تتزوج فيه العربية الأعجميّ المعتنق للإسلام.
إنها الإشارة إلى غيبٍ من الزمان، وغيبٍ من الأحداث، هما في علم الله وحده، غيب تحقّق على امتداد السنوات والقرون عبْر الفتوحات التي اتسعت رقعتها .
كما أنني أراها أيضا تناسب معنى "مِنْهُمْ" بمجاز من القول... ذلك أنّ الذي اعتنق الإسلام من غير العرب، وعاش بينهم، أصبح منهم، وسيدنا إسماعيل عليه السلام أكبر مثال على ذلك، وهو الذي لم يكن عربيّا، ولكنه بحكم ترعرعه في الجراهمة العرب، وكبره بينهم، صار عربيا، حتى سمّيت سلالته "العرب المستعربة".
وقد جاء في الصحيح، بيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر "الآخرين"
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "
كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَأُنْزِلَتْ عليه سُورَةُ الجُمُعَةِ: {وَآخَرِينَ منهمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بهِمْ} قالَ: قُلتُ: مَن هُمْ يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ حتَّى سَأَلَ ثَلَاثًا، وفينَا سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ، وضَعَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدَهُ علَى سَلْمَانَ، ثُمَّ قالَ: لو كانَ الإيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا، لَنَالَهُ رِجَالٌ - أوْ رَجُلٌ - مِن هَؤُلَاءِ. " - صحيح البخاري-
وفيه بيان أنهم من غير العرب، ولكنهم تلقّفوا الإيمان .
كما جاء عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
إنَّ في أصلابِ أصلابِ أصلابِ ( أصلابِ ) رجلٍ رجالًا ونساءً من أُمَّتِي يدخلونَ الجنةَ بغيرِ حسابٍ ثم قرأ ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) " -المحدث : الألباني. إسناده صحيح -
فمن خلال الحديثَيْن، وبالجمع بين الأحوال، نستطيع القول أن هؤلاء الآخرين هم كل العرب الذين لم يعاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل جاؤوا بعده، وكل من لم يكن من العرب، ولكن جمع بينهم الإسلام، فاختلطوا بهم حتى صاروا منهم. وذلك امتداداً في الزمن إلى يوم القيامة.
وإن هذه الآية لتحمل إعجازا بإعلامها عن غيب لم يكن في عهد نزول القرآن، ولكنه تحقّق بعده، ومتحقّق على مدى الأزمان:"
...وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ۚ..." –الأنعام: من الآية19-
ولنا أن نتأمل تمام معنى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العالمين، بالجمع بين هذه الآية وسابقتها، فقد جاءت أوليّة بعثته في الأميّين، ثم امتداد دعوته إلى باقي أمم الأرض .
"
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"
ويتكرّر الاسمان الحُسنَيَان مرة أخرى، من بعد مجيئهما في الآية الأولى، سبحانه العزيز الذي لا يُغلَب، بل الغلبة له ولإنفاذ إرادته في كَوْنِه وخلقه، فهو الذي بُعِث في الأميّين رسولا، ثم امتدّت دعوته في أمم الأرض كافّة ... وهو الحكيم الذي يختصّ برحمته من يشاء، فاختصّ الأميّين بهذه الرحمة العظيمة، ومنهم انطلق شعاع النور إلى الأرض كافة . سبحانه متمّ هذا النور ولو كره الكافرون، ومظهر هذا الدين ولو كره المشركون (كما عرفنا في سورة الصف).
"ذَ
لِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)"
لحكمة منه سبحانه وهو العزيز الحكيم، اختصّ هؤلاء الأميّين برحمة عظيمة، اختصّهم بالرسالة الخاتمة، فأعلى قدرَهم، وأسمى شأنَهم، أن جعل محمدا منهم، وفيهم بعثه، فكان للعالمين رحمة.
بفضل منه سبحانه جعلهم أهل القيادة والرّيادة للأرض كافة، بهذا الكتاب الخاتم المهيمن الشامل لكمالات الهداية، والمتمّ لنعمة الله على عباده، فيه قضى الله أن الإسلام هو الدين عنده، لا غيره، وأنّ من يبتغِ غيره دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، وفيه رضي الإسلام لعباده دينا . فالإسلام قضاؤه سبحانه ورضاه ... !
بطلاقة مشيئته، وكمال إرادته سبحانه يؤتي فضله من يشاء من عباده، فآتاه هؤلاء الأميّين، الذين كانوا من قبله في ضلال مبين، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الباطل إلى الحق، وجعلهم هُداة مهديّين : "
... قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" –آل عمران : من الآية73والآية74-
ذلك فضل الله سبحانه، أن جعل النبيّ الأميّ من الأميّين، يتلو عليهم الآيات، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم، ليكون معلّمَ البشريّة كلِّها كلَّ خير، ومنقذَها من كل شرّ ...
ولقد كان اليهود ينتقصون من العرب، وهم يرون أنفسَهم أبناء الله وأحبّاءه، وشعب الله المختار، فكانوا ينعتونهم بالأميّين... ثم إنهم قد شَرِقوا ببَعْث الله نبيّه صلى الله عليه وسلم في العرب، وعرفوا أنّ النبوة قد غادرتهم إلى غير رجعة، وهم الذين جاء وصف محمد صلى الله عليه وسلم في كُتُبهم، وأنه النبي الخاتم، فلا يفوز ولا ينجو إلا مَن آمن به، وصدّقه، واتّبعه، وكل من عاداه من أهل الكتب السابقة، وادّعى أنه باق على اتباع نبيّه وحده هلك ولم يُقبل منه شيء ...
وذلك ما قاله اليهود لمّا دُعوا للإيمان بالقرآن وللتصديق بمحمد: "
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (91) "-البقرة-
فكان اختصاص الله سبحانه برحمته هؤلاء الأميّين، فضلا هو بيده وحده، آتاهم إياه بمشيئته المطلقة، التي لا تعلو عليها مشيئة، وفيها إخزاء لليهود الذين رفعوا رأسا بافتراء الكذب على الله، فقالوا إنهم أبناؤه وأحباؤه، وقالوا إن الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وقالوا إنّ النار لن تمسّهم إلا أياما معدودة .... ! "
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)"-القصص-
تِلْكُمْ هي حكمة الله سبحانه، وتِلْكُمْ سعة علمه، والإنسان ليس له من العلم إلا الظاهر، وليس له من اعتداد إلا بالمظاهر ... تلكم هي النفس البشرية حينما تُعرض عن تزكية الله تعالى لها، عن تطهيره لها، مجسّدة في اليهود وهم يتعالون، ويتبجّحون ويرون أنفسهم الأعلى من كل الناس، الأفضل بين الأعراق والأجناس، لأنهم ما أقاموا أمرَ الله كما نزل عليهم، وما قاموا به كما أمِروا، ولا وفوا بعهودهم ومواثيقهم التي أخذها عليهم أنبياؤهم ... بل حرّفوا، وبدّلوا، وغيّروا، ونبذوا أمر الله وراء ظهورهم، وزعموا أن ما تكتبه أيديهم وما تخطّه أهواؤهم هو كلام الله ... !
فحكموا على ظاهرٍ من أمر العرب، وهم الأميّون الذين لم ينزل فيهم كتاب من قبل، ولم يُبعَث فيهم نبيّ من قبل، وهم أهل الصحراء والحياة البدائيّة، وأهل الوثنيّة والجاهليّة، وأهل القبليّة والعصبيّة ... حكموا أنهم ليسوا للنبوة أهلا، وأنّهم وحدهم أهل النبوّة والرسالات ... ! استكبروا وعَتَوا، وقد جعلوا كُتُب الله التي استُحفظوا عليها قراطيس يُبدونها ويخفون كثيرا : "
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) " –الأنعام:91-
أنّى لأمثالهم أن يكونوا أهل حكمة، وأهل نظر ثاقب ...؟ ! أنّى لهم أن يكونوا ربّانيين يرون بعين الله، ويقدّرون الأمور بتعليم الله ! وهم قد أعرضوا عن التعليم والتزكية التي حملتها كُتُبُه سبحانه لعباده ؟ !
أما الله جلّ في عُلاه، فهو سبحانه عظيم الحكمة، واسع العلم، صاحب العزّة والملك والقداسة، والأمر والنّهي ... والمشيئة المطلقة ... يعلم حقائق الأشياء، يعلم جوهَرَها، كما يعلم مظهرها، ويعلم خافيها، كما يعلم باديها، ويعلم سرّها، ويعلم أيَّ المواضع يضع بها أمرَه، وأيّ العباد أولى أن يقوموا بالخلافة التي لأجلها خلق الإنسان، وأيّهم أحقّ بتبليغ الرسالة، وأداء الأمانة للأرض قاطبة ....
لذلك اقتضت حكمته وعزّته، وإحاطة علمه، أن يبعث في الأميّين رسولا منهم أميّا يعلّم الدنيا بأسرها إلى يوم انقضاء الدنيا... !