"
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)"
ويعود الخطاب للجماعة المؤمنة المؤسَّسة على موالاة أولياء الله، ومحادّة المحادّين لله.
يعود الخطاب التربويّ العلاجيّ لطوارئ أحوال أفرادها، حتى يُحافظ على خصوصيّة الجماعة التي لا تحيد عن قاعدتها الانتمائية إلا ويُخزيها الله... تأكيدا على أنّ في إبراهيم ومَن معه الأسوة الحسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، أما من يرجو الدنيا ومظاهرها فستغيب عنه الأسوة كما غابت عنه كل إضاءات القرآن ... كلّ إضاءات سورة الحشر، وسورة المجادلة في ربوع الدولة المسلمة، في ربوع المجتمع والدولة سواء بسواء ...
ولقد عرفنا في سورة المجادلة : "
لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) "
هي أمّة موصولة دنياها بآخرتها... فهي التي تعمل لها، وتقيم شأن مجتمعها على أساسٍ من العمل للفوز بخيرها وثوابها وحُسناها، كما تقيم دولتها على أساس من الاتصال بها ...
أما أن تكون غايتها الدنيا، وحدودها الدنيا، فكلٌّ من الحاكم والمحكوم لن يرى في إبراهيم ومَن معه أسوة، فكما عمِي عن تربية القرآن بكشف الحقائق وبترسيم القواعد المقيمة لحياته، سيعمى بلا ريب عن الاقتداء والتأسي بإبراهيم ومَن معه ... !
وقد جاءت في "الحشر" الإشادة بالسابقين الأوّلين من مهاجرين وأنصار قدوة وأسوة، لنجد في الممتحنة امتدادا أعمق للتأسّي والاقتداء، ضربا في تاريخ هذا الدين، وفي أصل الرسالات والأنبياء، بيانا لأصل توجيه الله لعبده لضرورة الاتصال بربّه، والاحتكام لأمره، والعيش على نبض الهداية بالرسالات وبالرُّسُل...
ومن يتولَّ، وتكنْ حدوده الدنيا الضيّقة الزائلة، وهو الذي يراها ممدودة مترامية الأطراف، متعدّدة الأشكال، زاهية الألوان : "
فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ "
هو الغنيّ سبحانه عمّن يعادي فيه وعمّن يحب فيه، الغنيّ عن عباده، المغني، الذي يفتقر إليه وإلى عطاءاته، وإلى إقامة أمره من أدقّ دقيق فيه إلى أجلّ جليل، كل مخلوق من مخلوقاته.
هو الغنيّ الذي لا يضرّه مَن كفر، ولا ينفعه من آمن، لا ينقص من غناه مَن أعرض عنه، ولا يزيد فيه مَن أقبل عليه... إنما ينفع نفسَه، ويزيد لنفسه، ويُنجي نفسه وهو العبد المملوك لربّه ... هو الحميد سبحانه الذي يُحمَد على كل ما يكون منه...
وهكذا... من بداية السورة، ونحن في ظلال الاعتزاز بالله العزيز الحكيم الغنيّ الحميد، في ظلال التحذير والتخويف من موالاة المؤمنين لأعداء الله... التخويف منه وهو المضلّ عن سواء السبيل، المضلّ للفرد المؤمن، وللجماعة المؤمنة على السواء، المُهلك لروح الجماعة المؤمنة المنقطعة لله، المحققة للخلافة في أرض الله ... وأنّ المؤمن لا يرجو عزّة ولا منعة، ولا قوة، ولا يدا من عدوّ لله، محادٍّ له ولدينه ...
وأنّ موادّة أعداء الله عارٌ وشَنَار وخسار وبوار، ويدٌ تُمَدّ لمن لا تنقلب عداوته للمؤمن موادّة إلا أن ينقلب المؤمن كافرا، وذلك الوُدُّ القديم الجديد المتجدّد للعدوّ...فهو الباسط للمؤمن يده ولسانه بالسُّوء كلِّه ...إنه عنده "الذي آمَنَ بالله وحده" ... !
وأنّ إبراهيم ومن معه الأسوة الحسنة والقدوة، وهم الذين أعلنوها تشقّ الآفاق، وتخترق الأطباق أنهم لله الواحد عباد، موالون لمن والاه، معادون لمن عاداه...
والقاعدة الذهبية، والخلفيّة الذهبيّة في تبنّي قواعد القرآن كلّه، وفي اتخاذه مشكاةً على درب الحياة : "رجاء الله واليوم والآخر" ...
"
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) "
و "
عَسَى" فعل مقاربة يدلّ على الرجاء، وإذا صدر من الله تعالى كان متحقق الوقوع، لصدوره من أكرم الأكرمين.
وهنا يكمن الاستثناء، كما كان في قول إبراهيم ومَن معه وهم يُعلنون العداوة والبغضاء، يُضَمِّنون إعلانهم الاستثناء القالب للحال قلبا كليّا من المعاداة إلى المودّة في قولهم : "
كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ "
"
حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ" فتنقلب عداوتنا لكم مودّة، وبغضاؤنا لكم رحمة ...التوبة باب الاستثناء لقلب البراء ولاء ...
دعوة للإقامة على الرجاء في الله، الذي يرجو الله واليوم الآخر ويتخذ إبراهيم ومن معه أسوة فيوادّ في الله، ويحادّ في الله، هو ذاتُه الذي يرجو في الله أن يقلب ما بينه وبين مَن عادى لله، مودّة ورحمة، هو سبحانه الغفور الرحيم لمن تاب وآمن وعمل صالحا : "
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ (82) " –طه: 82-
"
إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70)" –الفرقان:70-
والله سبحانه قدير، وهو الهادي سواء السبيل، قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلّبها كيف يشاء سبحانه .
الرجاء في الله كبير، ولا يستطيع كائنا مَن كان أن يجزم بإقامة إنسان على حال، فكَم من كافر أحيا قلبَه الإيمان، وكان في كفره عَتِيّا شديدا على المؤمنين، لا يظنّ ظانّ أنّه قد ينقلب إلى الحال التي عاش حياتَه محاربا لأهلها، لا يألو جهدا ولا سعيا في سبيل صدّ الناس عن الإيمان، وفي سبيل محاربته ...
ولقد نقلت لنا ليلى بنت أبي حثمة عن عمر بن الخطاب قبل إسلامه، حينما مرّ بها وهي وزوجها يهمّان بالخروج إلى الحبشة، كيف عرفت في وجهه رقّة لم تكن تراها فيه، وكيف انصرف وقد أحزنه خروجهما، فلما أخبرت زوجَها بذلك قال: أطمِعتِ في إسلامه ؟ قالت: نعم، قال: فلا يُسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب ... !
ولكنّ ابن الخطّاب أسلم حقا كما توسّمت في وجهه ليلى -على ما كان يُعرف فيه من شدّة على الإسلام وأهله- وأصبح بابا دون الفتنة في الأمة، وحقّق عدل الإسلام في الأرض حتى سُمّي الفاروق ... وأقام حضارة نشرت نورَ الإسلام وعدله في ربوع واسعة من الأرض ... !
وإنّك لتظنّ بهند بنت عتبة كُلَّ ظنون السوء، وهي التي لاكتْ كبدَ أسَدِ الله حمزة، وما كان أهْلُ خِبَاءٍ أحَبَّ إلَيها أنْ يَذِلُّوا مِن أهْلِ رسول الله ومَن معه، وما أصْبَحَ -يوم أسلمت- علَى ظَهْرِ الأرْضِ أهْلُ خِبَاءٍ أحَبَّ إلَيها أنْ يَعِزُّوا منه صلى الله عليه وسلم ومَن معه ... !
عسى أن يجعل الله بينكم وبين مَن عاديتم من قومكم وأهلكم وأرحامكم في مكة مودّة ورحمة بهداية تُسكَب في قلوبهم أنوارا، تُميط الظلمة وتُزيح أستارها ... ! والله على ذلك قدير، وهو الغفور الرحيم ...
وإنّ النّفوس التي جُبِلت على الميل للأهل والرحم والأحباب والأقارب، يعلم خالقُها بما أودع فيها من هذا الحبّ الجبليّ، أنّها التي تُكابِد الفراق والقطيعة، وتودّ لو لم يكن منها شيء، وتودّ لو يهتدي للإيمان بالله وحده مَن تحبّ ... ! ليجتمعوا على الحبّ في الله فلا قطيعة ولا عِداء... !
والله رحمان رحيم سبحانه، يُحدث أمرا، ويبدّل من حال إلى حال ... !ولا يدري أحدُنا مَن يهتدي يوما من بعد ضلال، ومن يؤمن من بعد كفر... !
وهكذا نستشعر رحمة الرحمان الرحيم سبحانه، وهو بعد الحسم والحزم في الآيات السابقة، يُحدث التوازن في الأنفس المخلوقة من ضعف، فيُلوّح برحمته، وبجواز تبدّل الأحوال، واهتداء مَن يقاطعه المؤمنون من الأحبة والأرحام، ليعود الصَّفْو، بل لتعود الإشراقة في النفوس تحت شمس الإسلام المُضيئة المُحيية ... !
"
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)"
ويستمرّ وَقْع الرحمة ونحن نستشفّ عمل الآيات على خلق توازن في النفوس، وتوازن على مستوى المعاملات، لتحقيق العدل في خلافةٍ للإنسان في الأرض تعمل بمقتضى أمر الله العدل سبحانه الذي لا يرتضي ظلما أو إجحافا بحقّ أحد من عباده.
ولا يحقق هذا العدل إلا هذا المنهج الربانيّ، الذي يراعي الظروف والملابسات، وطوايا النفس الفاعلة المتحركة بالأمر، وهي كما هو من أمر خالقها الذي يعلم ما يوائمها .
في هاتين الآيتين وجهٌ من أوْجُهِ التفصيل والتحديد...
إنّ النهي الذي جاءت به الآيات الآنفة لا يعني الكفار على المطلق وعلى العموم، بل لقد جاء في الآيات بيان أنهم الذين أخرجوا الرسول والمؤمنين، أن آمنوا بالله ربّهم، ويأتي التفصيل في تحديد المستثنَيْن منهم في هذه الآية : "
الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ" ...
هؤلاء المسالمون، الذين وإن كانوا على غير ما أنتم عليه من اعتقاد، وإن اختاروا البقاء على الكفر، فإنهم لم يقاتلوكم بسبب إيمانكم، لم يُعلنوا عليكم الحرب لأنكم مؤمنون، ولم يخرجوكم من دياركم .
هؤلاء ليسوا من الذين نهى الله عن برّهم(أي معاملتهم بالحسنى) وعن الإقساط إليهم في الأحكام، فلا يُظلَمون ولا يُبخَسون حقا ولا يُجار عليهم...
برّ وعدل، هما روح الإسلام، وسَمْتُه...
فلا يمنع أن يكون الواحد من الناس كافرا لينال عند المؤمنين حقا من حقوقه، أو ليُنصَف في قضية تجمع بينه وبين مؤمن إن كان هو صاحب الحق فيها .
وإنه هو هو القرآن الذي يأمر فيه سبحانه ألا يكون بُغْض قوم دافعا للاعتداء عليهم : "
... وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ..." - المائدة: من الآية 02-
وهو هو القرآن الذي أنصف يهوديّا على مؤمن حينما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية وما تلاها من بضع آيات نزلت فيه وقد اتُّهِم بالسّرقة...
فبُرِّئت ساحته وأدين المسلم، في عدل تام لا يحابي، بل يعطي كل ذي حق حقَّه، في حكم لا يجعل اعتقاد المحتكِم عاملا من عوامل إنصافه أو إدانته : "
إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (105)" -النساء-
وقد جاء في الصحيح أنّ هذه الآية نزلت فيما نزلت، في أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، إذ هرعت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها مع أمّها الكافرة عندما زارتْها يوما : فعنها رضي الله عنها قالت : "
أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً، في عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَسَأَلْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: آصِلُهَا؟ قالَ: نَعَمْ قالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ} [الممتحنة: 8]." - صحيح البخاري-
كما دخل في حكم هذه الآية حلفاءُ النبي صلى الله عليه وسلم مثل خُزاعة، وبني الحارث ابن كعب بن عبد مناةَ بن كنانة، ومُزَيْنة، وقد كانوا مظاهرين للنبي صلى الله عليه وسلم، ويحبون ظهوره على قريش، وكذلك النساء والصبيان من قريش.
وتزيد الآية التالية لها في البيان :
"
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُون"
هؤلاء على التحديد هم مَن تشملهم دائرة النهي:
1- قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ.
2- أَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ.
3- ظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ.
هؤلاء المنهيّ عن موالاتهم...هؤلاء هم أعداء الله وأعداء المؤمنين الذين حذّر الله من اتخاذهم أولياء، ومن الإلقاء إليهم بالمودة .
هم الذين كانت فعلة حاطب سببا في نزول آيات التخويف والتوبيخ والتعجيب من توليهم ... !
هم الذين نزل بيان أنّ من يواليهم ويوادُّهم قد ضل سواء السبيل ... !
وهاتان الآيتان ليستا من المنسوخ كما قيل بل قائم حكمهما في كل زمان .
وليس لأحد أن يجدهما محجّة لتسويغ ما هو كائن من تطبيع وسلام ومُوادّة لليهود ...!
فأمر الآيتين أبين من أن يُلْبس غير ما ألبسهما الله، وأن يؤوِّله المطبّعون المتذلّلون من بني الإسلام زعما وادعاء ! الخانعون المتزلّفون لأربابهم من دون الله، أعداء الدين ... !
الآيتان أبين مما قد يحاول أحدهم أن يلصق بهما من تأويلاته الهوائية ... !
** الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ: واليهود أشدّ عداوة للمؤمنين في كل زمان، وهم مَن يستلذّون قتل المؤمنين وتذبيحهم ...وما مذابح "دير ياسين" و"كَفَر قاسم" و"خان يونس" و"المسجد الأقصى" و"الحرم الإبراهيمي" و"مخيم جينين"... وغيرها عنا ببعيد !! وما استشهاد إخواننا الفلسطينيين منذ النكبة إلى يومنا، واستشهاد غيرهم من المسلمين في سبيل الله ودفاعا عن القضية عنّا ببعيد ... !
** وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ : وهم قد فعلوا، ويفعلون، وهم دائمو التخطيط لذلك... !
استوطنوا فلسطين قطعة إثر قطعة، شرّدوا أهلها، وهدموا بيوتهم، وأخرجوهم منها، وسلبوهم أرضَهم، وأقاموا عليها مستوطناتِهم...
أقامت إسرائيل بعد عام 1948 قرى استيطانية بكاملها، كما قسمت القدس، فطردت وطردت وشرّدت الفلسطينيين من الناحية الغربية، واستوطن اليهود فيها، وصيّرتها عاصمة لإسرائيل، ومستوطناتهم تحيط بالمسجد الأقصى في الناحية الشرقية إحاطة السّوار بالمِعصم... ! تزحف على أراضي الفلسطينيين، تنفث سُمّ الاستيطان والاستيلاء على أراضي المسلمين يوما بعد يوم ... !
هذا عن فلسطين ... وحدِّثْ عن السّياسات الاستعمارية المقنّعة بقناع السلام، وإنقاذ الشعوب العربية من حكّامها الدكتاتوريّين، لإحلال الديمقراطية بأراضي العرب، بقيادة أمريكا وإسرائيل والدول الغربية، في العراق وفي ليبيا وفي السودان، وفي اليمن ... ! وبلاد الإسلام قطعة إثر قطعة تُنتَهَب وتُسلَب من أهلها، وتُستَغَلّ ثرواتها الهائلة باسم النظام الدوليّ المحارب للإرهاب، والحقيقة أنه المحارب للإسلام والمسلمين ...على مرأى من أعين المسلمين وعلى مسمع ... !!
وليس اللّوم على الذّئب وهو يقع على الغنم القاصية، بل اللوم على الراعي الذي يرعى مصالح الذئب وهو القائم في جنْب الغنم !! واللّوم على غنم ضيّعت الانتماء، والروح الجامعة، وأعرضت عن ماء حياتها وهوائها وانبهرت بما عند الذّئب من ماء ومرعى، هو السُمّ للغنم القاصية المتفرّقة المفرّطة فيما عندها من عذب زُلال، سُمٌّ يأتي على أصلها ووجودها ... !!
** وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ : تشمل كلَّ مَن ظاهر وأعان، وسهّل إخراج المؤمنين من ديارهم .. وكل بلاد الغرب عونٌ لإسرائيل وظهير على ذلك، بدعوى نصر اليهود المُتباكين على الهولوكوست، وعلى التشريد والتطريد، وعلى هَيْمِهم على وجوههم في الأرض بلا قرار : " شعب بلا أرض ... شعب بلا أرض ! "... !
وأهل التطبيع من مستسلمين يَلبَسُون الإسلام قناعا، لم يعودوا يُسِرّون بالمودة... ! بل صاروا يجاهرون بها خدمة وطاعة وانصياعا لأمر العدوّ فيهم، وهم المهلّلون باسمه، المسبّحون بحمده... يوقّعون مواثيق التطبيع والمُوادّة، وعلامات السرور الأخرق، والفرح الأحمق تغمر وُجوهَهُم الكالحة التي أظلمت بها الأمة، فعلتها غبَرَةُ الذُلّ ورهقتها قَتَرةُ الهوان... !!
وإنّ الآية لا تنتهي حتى تصفهم بما يليق بخيانتهم وغدرهم وانبطاحهم :
"
وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُون"
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند...!!