وهكذا تنتهي آيات حزب الشيطان المُحادّ لله ورسوله، التي تلت آيات حزب الله المُوادّ لله ورسوله في هذه السورة العظيمة العظيمة...
لنجدنا مع قطاع آخر من الآيات هو نداء للمؤمنين، وهو خصيصة من خصائص السُّوَر المدنيّة ... نداء للمؤمنين يأتي في خواتيم السورة، فيه دعوة للاعتبار وللنظر في حقيقة كل حِزب، وفي مآل كل حِزب :
"
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)"
دعوة للمؤمنين من بعد كل ما فات من بيان لحال ومآل المتصلين بالله، ولحال ومآل المنقطعين عنه سبحانه .... دعوة فيها التذكرة والتأكيد على التقوى وعلى حراسة العمل، والنظر فيه، والاستدراك والترقيع من قبل حلول يوم الفصل، اليوم العظيم ... دعوة لاستغلال ساعات الدنيا ما دامت هناك فرصة من قبل ضياعها، ومن قبل فوات الأوان ... !
فرغم كل ما مضى من تميّز الفئة المؤمنة وتلاحُمِها، وائتمارها بأمر الله ورسوله، وابتغائها فضله سبحانه ورضوانه، إلا أنّ الله يُردِف بتذكرة حتى يُجَنّب المؤمنين الوقوع بشِراك الغرور والاغترار، مع تذكير بضرورة العمل، لأنه لا يكفي المؤمن أن يكون مؤمنا بالعنوان وانتهى، وإنما يقتضي إيمانُه عملا، والفئات التي ذكرها الله تعالى لم تكن لتبوء بتلك المكانة، وبذلك الوزن عند الله إلا من عملها الذي عرفنا... المهاجرون الصادقون، والأنصار المفلحون، ومتّبعوهم بإحسان ... تذكير بالعمل وضرورته، وبالتقوى، لئلا يحصل الاغترار.
فالتقوى هي رأس العمل ليُقبَل، وهي الدافع للنظر فيه، وللاستدراك بتصحيحه وتخليصه من شوائب الرياء والسُّمعة، والمسارعة فيه والمكاثرة منه خالصا لله ... لذلك جاء ذكر التقوى مرّتين.
جاءت سابقة لـ: "وَلتَنْظُرْ" نظر مراقبة ومحاسبة مادامت النفس في دائرة الفرصة : "
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ..." قبل أن تُحاسَب بين يدي الله، والمعيار التقوى لترك الفاسد من العمل، والإقبال على الصالح منه : "
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) "
"
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"... الخبير سبحانه، بمعنى علمه بالخبايا والخفايا والبواطن، خبير بحقيقة القلوب، فبعد الدعوة إلى التقوى، يبيّن أنه وحدَه الذي يعلم حقائق القلوب، وما تخفي الصدور. خبير بالنيّة أًصلا قبل إمضاء العمل، فيدعو هنا فيما يدعو سبحانه إلى مراجعتها، والبحث والنظر فيها .
وقد جاء في الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : "
كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ في صَدْرِ النَّهَارِ، قالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاءِ(أي لباسهم رثّة مقطّعة)، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِن مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِن مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ(أي تغيّر وجهه وظهر عليه الحُزن) لِما رَأَى بهِمْ مِنَ الفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فأمَرَ بلَالًا فأذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخِرِ الآيَةِ: {إنَّ اللَّهَ كانَ علَيْكُم رَقِيبًا} [النساء:1] وَالآيَةَ الَّتي في الحَشْرِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ}[الحشر:18] تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِن دِينَارِهِ، مِن دِرْهَمِهِ، مِن ثَوْبِهِ، مِن صَاعِ بُرِّهِ، مِن صَاعِ تَمْرِهِ، حتَّى قالَ، ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ قالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ بصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قدْ عَجَزَتْ، قالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِن طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ، كَأنَّهُ مُذْهَبَةٌ(من البِشر والسرور اللذَيْن صارا على وجهه)، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بهَا بَعْدَهُ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أُجُورِهِمْ شيءٌ، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كانَ عليه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَن عَمِلَ بهَا مِن بَعْدِهِ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أَوْزَارِهِمْ شيءٌ. " - صحيح مسلم-
فكانت دعوته صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، وحثّهم على العطاء والتصدّق، وهو يذكّرهم فيما يذكّرهم بهذه الآية تحديدا، لما في التصدّق من فضل عظيم يُخبّأ لصاحبه عند الله سبحانه يوم "
غد"
وحتى التعبير عن يوم الحساب بـ :"غد" تدليل قويّ على هوان الدنيا، وعلى سرعتها، وعلى قصرها مهما طالت، وقد قال سبحانه فيه : "إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً(06) وَنَرَاهُ قَرِيباً(07)" -المعارج- فهو "غد"، كانقلابك بين يوم ويوم يتلوه ... !
وكعادة القرآن العظيم في مواضع كثيرة منه، وهو يكشف حقائق الكافرين بأصنافهم، كشفا فيه التحذير للمؤمنين من مغبّة انتهاج سُبُلِهم، والاغترار بمظاهرهم، فيتوجّه للمؤمنين ينهاهم أن يكونوا مثلهم :
"
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)"
إن هؤلاء الذين نسوا الله، هم حزب الشيطان الذي جاء بيان أمرِه فيما سبق من آيات، بما فيه من منافقين وكفرة من أهل الكتاب، ومشركين، وكلّ من ائتمر بأمر الشيطان إذ قال له اكفر .
وتحضر "المجادِلة" من جديد، وإنّ لها لظلالا وظلالا على هذه السورة التالية لها، لا تنفكّ تُلقَى بين حين وحين ونحن في عَرَض هذه الآيات من فرط سَوْق مقدماتها لتفاصيل نعرفها في عَرَض سورة الحشر ...
ألم يقل سبحانه فيها عنهم : "
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) "-المجادلة-
لتأتي هذه الآية الجديدة من سورة الحشر، تحذّر المؤمنين من أن يكونوا مثل الذين نسوا الله، هم الذين بينت لنا آية سورة المجادِلة أنهم حزب الشيطان، وأنهم نسوا الله من استحواذ الشيطان عليهم، استحواذ يصل حَدَّ الائتمار بأمره ...استحواذ صيّرهم في دائرة الخاسرين ...
وتزيد الآية هنا :"
نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ"
نسوا الله تعالى، وأعرضوا عن أمره، فأنساهم أنفسهم، أنساهم أن يلتفتوا إليها بنظر أو بعقل، وقد عرفنا وصفه سبحانه لهم بأنهم لا يعقلون، وبأنهم لا يفقهون، أنساهم أنفسهم بأن حُرِمتْ أنوار الهداية، لأنها التي أعرضت عن الذكر، أعرضت عن هذا الكتاب الذي يذكّرها إذا نسيَتْ، ويقوّمها إذا اعوجّت، ويرويها إذا ظمئِت، ويأخذ بيدها إن هي تاهت في غمرات الدّنيا ... !
ولنتأمّل ... الآية التي سبقتها تحديدا، ألم تكن فيها تذكرة للمؤمنين ؟ !
بلى ... هي التذكرة بأن تنظر النفس ما قدّمت لغد، أن تعيد النظر في عملها، وفي زادِها لسفرها القريب إلى "
غَدْ" ... فأنّى لحزب الشيطان أن يتذكّر وهو الذي أعرض عن التذكرة، وأعرض عن الذّكر، أعرض عن هذا الكتاب الهادي ...المنقذ من الضلال، المُرشد من التّيه ... !
والظاهر من أمر الدنيا إن أنتَ رقبتَ الكافرين، أنهم الذين يُولُون أنفسَهم أكبر اهتمام، فهم الباحثون عن السعادة أبدا، الساعون لحياة الرّفاه والتّرف، الموغِلون بالعلوم والتكنولوجيا لتسهيل سُبُل الحياة، وسُبُل اغتنام ساعتها في العبّ من زينتها، والغرق في شهواتها وملذّاتها... !
نعم هم الباحثون عن الراحة الظاهرية في الدنيا، ولكنّهم الفارّون من كل ما يُضيء عتمات أرواحهم، أو بالأحرى هم التائهون عن راحة الروح، وعن حياة الروح، وعن ماء الروح ... هُم الضالون عن معنى الروح، وهم يحرمونها سرّ حياتها... فأرواحهم في نَصَب، وهُم معها في عِداء وعلى مُجافاة، لا تتصالح أنفسُهم إلا مع ما يزيدها تَيْها، ويزيدها ضياعا، فهُم المُسلَكُون عذابا صَعَدا... !
عذاب الروح التي يُخَيَّل لصاحبها أنه يورِدُ نفسَه موارد السعادة، بينما هو يُورِدها المهالك ... ! هم النّبتة المنقطعة عن ماء حياتها، فأنّى لها أن ترتوي ؟ ! هم التائهون عن حياة أرواحهم فأنّى لهم أن يحيوا ؟ !
هم الذين يحيون للدنيا ولا شيء غير الدنيا، فهي حدودهم وهي المبتدأ والمنتهى، فأنّى لهُم أن يستزيدوا للسفر القريب ؟ ! "
فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ".
النفس التي لا تنسى نفسها، هي التي تذكر "
غَدْ"، وتُعِدّ لغَدْ، وتنظر فيما قدّمت لغَدْ، هي الموصولة دنياها بآخرتها، أما الغارقة في لُجّ الدنيا فعلى ما يبدو من أبجديات الظاهر وأبجديات الدنيا أنها التي لا يهمّها إلا نفسُها فإنما هي الناسية نفسَها ... ! تِلكُم هي حقيقتها، نسيت "
غَدْ" فما عملت له... استمسكت بالفاني، وأعرضت عن ربّها وعن جزاء منه هو الباقي... !
ويذيّل سبحانه الآية بوصفه إياهم بـ : "
أولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُون" أي الذين خرجوا عن أصلهم، عن أصل الوجود، وعن أصل الغاية من الوجود ... خرجوا عن أمر ربّهم فيهم، -وكما ذكرتُ آنفا- هُم المعلّقون في هواء وخواء، فلا أصل لهم ولا امتداد، ما هُم إلا كقصر من رَمْل سُرعان ما تأتي عليه موجة فتصيّره هباء ... ! لا أصل ولا مَنبَت... !
هم حزب الآمِرِ فيهم، المستحْوِذِ عليهم، الذي سيؤول أمرُه مع الآيِلين لله ربّ العالمين، ذاك الذي سيتبرأ منهم، وسيدّعي أنه يخشى الله ربّ العالمين ... ! فلا تكونوا مثلهم... !
وقد جاء بإسناد جيد عن نُعَيم بن نمحة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه خطب في الناس مرة فقال قولا عظيما :
"
أما تعلمون أنّكم تغدون وتروحون لأجلٍ معلومٍ ، فمن استطاع أن يقضيَ الأجلَ وهو في عملِ اللهِ عزَّ وجلَّ فليفعلْ ، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عزَّ وجلَّ ، إنَّ قومًا جعلوا آجالَهم لغيرهم ، فنهاكم اللهُ أن تكونوا أمثالهم : {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} أين مَن تعرفون من إخوانِكم ؟ قدِموا على ما قدِموا في أيام سلَفِهم ، وخلَوْا بالشَّقوةِ والسعادةِ ، أين الجبارون الأولونَ الذين بنوا المدائنَ وحصَّنوها بالحوائطِ ؟ قد صاروا تحت الصَّخرِ والآبارِ ، هذا كتابُ اللهِ لا تَفْنى عجائبُه ، فاستَضيئوا منه ليوم الظُّلمةِ ، واستنصِحوا كتابَه وتبيانَه ، إنَّ اللهَ أثنى على زكريا وأهلَ بيتِه فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } . لا خيرَ في قولٍ لا يرادُ به وجهُ اللهِ ولا خيرَ في مالٍ لا يُنفَقُ في سبيلِ اللهِ ، ولا خيرَ فيمن يغلِبُ جهلُه حِلمَه ، ولا خيرَ فيمن يخافُ في الله لومةَ لائمٍ " –تفسير القرآن لابن كثير-
ولقد طرقتْ بنا هذه الآيات باب الآخرة ... لقد امتدّت بنا من المِهاد إلى المنتهى... إلى نقطة الوصول... إلى نقطة الرجوع إلى الله، والمُثُول بين يَدَيه، الذي منه الخلق والأمر، وإليه الرجوع ...من الدعوة إلى النظر فيما نقدّم لغَدْ.... نقدّمه هنا في دنيا المؤمن الموصولة بالآخرة، التي هي دار العمل لها ...لنجدَنا هناك ... لنجدَنا مع أبجديات الآخرة، ومع عناصرها، مع مآلات الإنسان فيها ...
وتلوحُ بهذا ملامح "الحشر" ... ! الحشر ليوم القيامة، حشر الناس جميعا ليوم الحساب... يلوح لنا الحَشر مع تسمية السورة، فإذا كلّ ما فيها بكل عناصره متوائم، متلائم، أول حشر اليهود بقصة بني النضير، ليتعاقب عليهم الحشر وتطريدهم على مدى الزمان، وحشر الخَلق للقاء خالقهم، والسورة تجمع الحِزبَيْن، حزب الله وحزب الشيطان، تصنيفَيْن للبشر على حقيقة تصنيفهم في الأرض ...
"
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)"
هي ذي خُلاصة كلّ ما عرفنا ... فريقان في الدنيا كان الناس، حزب الله وحزب الشيطان ... وهما كذلك في "غَدْ" فريقان، أصحاب الجنة وأصحاب النار...
هو ذا مآل الإنسان، إما إلى جنة وإما إلى نار، وفي هذه السورة العظيمة التي جمعت فئات الناس، بالتسلسل الذي عرفنا، وبالانتقال والسَّوْق الذي عايشْنا درجة إثر درجة، وآية إثر آية ... حتى إذا نحن مع الناس بأصنافهم في الدنيا ... لنجِدنا الآن معهم بأصنافهم ومآلاتهم في الآخرة ... باتساق بديع دقيق، وبسَوق رشيق ... !
نجِدُنا من قصة غزوة إلى كل هذه الشموليّة، والإحاطة والربط بين البداية والنهاية، بين الحال وبين المآل، بين الدنيا وبين الآخرة ...
هكذا هو حال القرآن العظيم، سورة من صفحات قليلة نعيش معها كل هذه المعاني.... !
نمخُر عُباب بحر ممدود يأخذنا من قصّة غزوة إلى فضاءات ورَحَبات، ومع كلّ إبحار لك، أنت مع قصة جديدة، أنت مع قصتك، مع قصة وجودك وإيجادك... !
أنتَ تستكشف وتعرف، وتفهم... تفهم معنى الحياة، وتتبيّن لك حركة الوجود مع نعمة الإيجاد ... فتلامِس الإنسانية كما لا تُلامسها من اجتماعات وقرارات وهيئات كونيّة تُقِرّ للإنسانية قوانينا وبنودا ... ! تُلامِس معنى أنّ كل هذا لم يكن ليكون باطلا، وهباء، وبلا غاية، وبلا موجِد عظيم، كامل قويّ قادر مقتدر، حكيم عليم عزيز، كلّ الأمر منه، وكل الأمر إليه آيِل ... !
"
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)"
لا يستوي في الدنيا مَن كان من حزب الله، ومن كان من حزب الشيطان...لا يستوي مَن كان موصولا بربّه، مُقرّا بعبوديته له وحده، مع مَن أعرض عنه، وأقرّ بعبوديته لهَواه، لكِبْرِه ولعناده، وهو يُقرّ الهباء والهواء قانونا، فيقول بلا شيئية الحياة، وبلا غائيّتها، وبأنها من لا شيء إلى لا شيء ... !
"
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ"
وَيْكَأنّه سبحانه لم يخلقنا إلا لنكون من الفائزين ... !
كيف لا، وهذا القرآن وفيه التذكرة، وفيه التربية، وفيه الترقية، وفيه التزكية ... هذا الذي لا يُرَدّ فيه مذنب يَطرُق باب الرّحمان، ولا يخيب فيه عبد انطرح ببابه، ولا يشقى فيه مَن عمِلتْ فيه الذكرى، فأزهرتْ نفسُه بعد قفار، وارتوت بعد ظمأ، وانتشلها من غرق، وداواها من سَقَم ... !
ويحضرني ها هنا قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : "
كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبَى؟ قالَ: مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَانِي فقَدْ أَبَى." –صحيح البخاري-
لتأتي الآية الموالية تحمل سبب الفوز بالجِنان، تحدّث عن عظمة القرآن العظيم ... هذا الذي من ذَكَرَه قد ذكر نفسَه ونفعها، وأنجاها، ومن أعرض عنه فقد نسيها وظلمها وأهلكها ... !
"
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)"
هذا القرآن الذي فيه التذكرة، الذي هو منجاة الإنسان، والذي هو مِشْكاته على درب الحياة، هذا الذي فيه بيانُ حال المؤمن وحال الكافر، ومآل المؤمن ومآل الكافر... هذا الذي يحمل الدعوة إلى ضرورة اتصال العبد بخالقه، وأنّها العلاقة الوجوديّة الضرورية التي تجعل الإنسان على سويّة من أمره، وأنه من دونها هباءة ذاهبة في الهواء لا يقرّ لها قرار... !
فيه وحدانية الله، وفيه نفي الشركاء عنه سبحانه في الخلق وفي الأمر كلّه، هذا الذي فيه عظمته وطلاقة قدرته، وفيه حاجة الإنسان الدائمة له سبحانه، وأنه الذي لا غنى له عنه، ومن نسيه أنساه الله نفسَه ... !
هذا الذي فيه الغاية من إيجاد الإنسان، الذي إن هو استمسك بالله وبعروته الوثقى ما ضلّ وما خاب، وإن هو أعرض عنه فقد أردى نفسَه المهاوي والمهالك، وجعلها قشّة هباء في الهواء لا تُمسِك ولا تُمسَك ... !
"
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ..."
ما أشدّ مناسبة كلمات القرآن لكل زمان ! وأنا تتمثّل لي الجماعات من الناس والجماعات، والصيحات من فاسد الاعتقادات والصيحات، التي يصنعها البشر صناعةً لأنفسهم، من يصنعها دينا جديدا على مقاسات أهوائه، وغيره يصنعها بألوان وألوان ..... فمِن زُمرَتهم القائلون بالربوبية مذهبا، وهم فريق يؤمن بوجود خالق، ولكنهم لا يؤمنون باتصاله بعباده عبر الرسالات والكتب والرسل، بل أنه الربّ الذي خلق ثم ترك ... !
في معرِض هذه الآية تحديدا ومع تركيبها البديع الدقيق حضرني هذا الصنف من الناس، ومن العقائد الفاسدة المُهلِكة .. ذلك والآية تذكر القرآن ووزنَه، وأنّ ما فيه سببٌ لخشية الله تعالى، لو أنزِل على جبل -مع عظيم قوّته وتمام رسوخه- لخشع، بل لتصدّع من خشية الله ".
.. لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ "
لو أنزِل بما يحمل من عظمة الله تعالى العزيز الحكيم الذي ينصر عبادَه المؤمنين الصادقين، فيسلّط رسُلَه على أعدائهم، ويقذف في قلوبهم الرّعب، وتجتاح صدورَهم الرهبة، وتذهب ريح عددهم وعُدّتهم وقوّتهم و مادّتهم، لو أنزِل هذا القرآن الذي يحمل عزّة الله سبحانه، وفِعْلَه لما يريد، وتحقّق إرادته في أرضه على جبل لرأيتَه خاشعا، متصدّعا خشيةً ورهبة من هذه العظمة ومن هذه القدرة... من هذا الإله العظيم... !
هو سبحانه أحقّ أن يُرهَب، وهو أحق أن يُخشى ... ومن لم يعرف من نفسه خشية له، ومن لم يجد في صدره رهبة منه فأولئك الذين لا يفقهون، وأولئك الذين لا يعقلون... !
وما خشية الله تعالى إلا بابٌ من أهم أبواب طاعته والإذعان لأمره، فهو الربّ الذي يُخشَع له ويُخشى، فيُعبَد، يُطاع أمرُه ويُنتهى عن نهيه، هو الربّ الآمر في عباده والناهي، الهادي والمربّي سبحانه، هو الذي أنزل لمَن خلق قانونا يُتَّبَع، وليس لغيرِه أن يَسُنّ للأنفس القوانين وهو العليم بكل حالها، قانون لا يقارَن أصلا بقوانين يتشدّق بها مَن تفلسف ومَن تحذلَقَ، على اختلاف أهوائهم ومداركهم ومشاربهم، ومن حسِب أنه قد وجد ما يسيّر البشرَ، وما يحقّق لحركتهم الكمال والتمام.
سبحانه خلق الإنسان ولم يتركْه بلا هُدى : "
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ " –المؤمنون: 115 -
"
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ" –الأنعام:91-
لذلك أشارت الآية إلى عظمة القرآن وثقل ما فيه، وأنه الحامل على تولّد الخشية من الله الخالق المعبود وحدَه سبحانه : "
طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (3) تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ (6) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ (8) " -طه-
وتُذيَّل الآية بقوله سبحانه:
".
..وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"
وقد مضى مَثَلان في الآيات السابقة، أوّلهما ضُرِب للمنافقين وكَفَرة أهل الكتاب بالمشركين الذين ذاقوا وبال أمرهم، وثانيهما بالشيطان إذ قال للإنسان اكفُرْ ...
وكلّها يضربها الله للناس ليتفكّروا، والتفكّر شيء غير التعقّل، إذ يُعَرَّف العقل على أنه إدراك ووعي ومعارف وخبرات مخزونة، بينما التَّفَكُّر تَأَمُّل وتَدَبُّر، وربط بين العلاقات والأسباب، ثم استنتاج ووصول إلى فهم أعلى من مجرد المعرفة.
لذلك تُضرَب الأمثال بما يعقِله الإنسان من مشاهدات ومِن معارف مخزَّنة، حثّاً له على التفكّر، مستدِلّا على فهم العِبرة المُرادة والحكمة المستَهدَفة ...
لعلنا نتفكر من خلال ضرب هذه الأمثلة في هذه السورة العظيمة فنفهم الحقائق التي كشفتها لنا من حال المتآخين في الكفر، الذين لا تقوم لهم قائمة لا في الحياة الدنيا ولا في الآخرة، الذين لحقتْهم الهزائم من المؤمنين ساعة كانوا على يقين من دينهم، ومن معيّة الله لهم وهُم أهل إعلاء كلمته وحُكمِه... ساعة كانوا أشدّاء على الكفار، رحماء بينهم، فلا يوادّون مَن حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، ساعة كانوا حزب الله حقا، فصدقوا الله، فصدقهم الله، وكانت الدنيا بكل بُهْرجها لا تساوي عندهم شيئا إلا أن يعلنوا فيها وَلاءَهُم لله ولرسوله، ونَصْرَهم لله ولرسوله...
حينما كان اللاحق منهم يدعو للسابق، ويُقِرّ له بالجميل، وبسَبْقه للإسلام ولنصرته، وبأنّه الأثر المُقتَفَى، لا لأنّه المُقدَّس على رأي الدّاعين لمُراجعة القديم -وإن كان شمساً لا تحول ولا تزول ولا تتبدّل، و هي القديمة الجديدة أبدا- بل لأنه الذي تعلّق بالله، ونصر الدين كما يجب أن يكون النصر، ولأنه الذي شهد له الله في قرآنه أنه الذي حقّق العبودية كأحسن ما يحقّقها عبدٌ ... وأنه الذي حقق الاستخلاف كأحسن ما يحقّقه إنسان ...
إلا أننا نحن المسلمين اليوم لا نتخذها قواعدَ مسلّما بها، غمّى علينا حالُنا وضعفنا وهوانُنا، فصار المنقطع عن الله بأعيننا قويّا من قوّته بمادّته ووسائله ... !
هكذا هو التفكّر فيمَن كان قبل بني النضير، وفي الشيطان إذ قال للإنسان اكفر، أولئك ذاقوا وبال أمرهم في الدنيا بما مُنوا به من هزيمة، والشيطان إذ أهلك الإنسان واعدا ومزيّنا كذبا وبهتانا، حتى إذا حانت ساعة الفصل تبرّأ منه ... فهو ومَن اتّبعه في النار ...
هلاك في الدنيا وهلاك في الآخرة ... هذا ما يتحقّق من نصر الله لعباده المؤمنين عندما يكون المؤمنون على خطى حزب الله من المُوادّة لله ورسوله، والمُحادّة لأعداء الله ورسوله، ومن الاعتزاز بالدين، ومن ابتغاء الفضل والرضى من الله وحده، لا من سواه ... عندما يتحقّق التوجه الخالص له سبحانه، عندها تتحقّق في الأرض هذه القاعدة لا ريب ... !