اللاعودة
"لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً"
"لهدم الكعبة حجرًا حجرًا، أهون من قتل المسلم"
لا تزال دماء المسلمين تسفك في شتى بقاع الأرض، وبقدر ما كان يعتصر قلبي من الألم على دماء المسلمين في كل مكان، إلا أن الأمر في مقتلة مسجد رابعة العدوية في مصر لم يكن كغيره.
ولا أستطيع أن أتخطى هذا الحدث الجلل دون الوقوف عليه وعلى الزلزلة التي أحدثها في قلوب الناس وحياتهم بعده، وما أحدثه في من جرح غائر وفقدان لأكثر شخص قريب على قلبي.
بدأ الأمر بالانقلاب على رئيس الدولة المنتخب د.محمد مرسي -رحمه الله- من قبل جمع من الشعب أولا ثم الجيش ثانيا.
لم يكن فوز د.مرسي في الانتخابات الرئاسية بفارق ضخم عن أقرب منافسيه، بل رجح فوزه بنسبة قليلة للغاية من الأصوات في صالحة. وهو أمر لا يحب أنصاره الحديث عنه.
وكان واضحا لكل ذي عقل وحكمة أن البلد منقسمة إلى نصفين، وأن الحسابات النظرية تقول أن نصف الشعب تقريبا رافض لحكم جماعة الإخوان المسلمين متمثلا في مرشحهم د. مرسي.
ليس هذا فحسب، بل إن البرنامج الانتخابي والثقة العجيبة في النفس التي أظهرتها جماعة الإخوان المسلمين تجاه مشاكل الدولة والناس كانت تنبئ بكارثة محققة! وكأن لديهم المصباح السحري!!
هذا فتح المجال لتأجيج الحرب الإعلامية علي الرئيس المنتخب وإظهار فشله في إدارة شتى أمور الدولة. فالرئيس هو من سن السكين وأعطاهم إياه!
فإذا ما أضفنا أن القوى العالمية والمجتمع الإعلامي في مجمله رافض لكل ما هو إسلامي ومحارب واضح للرئيس المنتخب وجماعته من ورائه، فليس من الصعب التنبؤ بما حدث بعد ذلك.
هذه البديهيات البسيطة كانت غائبة أو مغيبة عن جماعة من المفترض أن لها تاريخ حركي وسياسي طويل، بل كانوا يرفضون حتى الانصات لصوت الحكمة من أقرب الناس إليهم.
لهذا لم يكن قرار الانقلاب على الرئيس وجماعته مستغربا أبدا! وكان يبدوا حتميا بالنسبة لي، وهو ما تحقق بعد عام واحد فقط.
وهنا علامة استفهام ضخمة جدا، فمؤلفات الجماعة وأدبياتها الحركية بل وحتى مناهجها التربوية مختلفة عما رأيناه منهم واقعيا وعمليا، فهل كانت كل تلك المؤلفات مجرد أوهام؟!
هل من المعقول إذن أن يمضي الناس على نفس المنهجية التربوية والفكرية بعد ما رأيناه من انهيار مروع؟
هل المشكلة في المناهج أم التطبيق أو كلاهما؟
برأيي أن المشكلة الأكبر في أسلوب التربية ثم في جزئيات متفرقة من المنهج التربوي، وهو ما انعكس على المنهج الحركي والسقوط المروع له بعد ذلك.
ولم تتوقف المأساة عند ذلك الحد.
فحتى بعد إعلان الانقلاب العسكري رسميا، أصرت قيادات الإخوان المسلمين على عنادها ورفضت تماما الاعتراف بالخطأ أو حتى الإقرار بفداحة الموقف على الأرض.
وفي أكبر مقامرة رأيتها في حياتي، قررت قيادات الإخوان المسلمين في مصر الانعزال عن الواقع تماما والتصرف بمراهقة وعدم مسؤولية غير مسبوقة، لتتعلق بالسلطة بأي شكل كان.
وكان قرار الاعتصام الكبير لجماعة الإخوان المسلمين عند مسجد رابعة العدوية في القاهرة المسمار الأخير في نعشهم.
واستخدم قيادات الإخوان كل طاقتهم ونفوذهم في الدعوة لهذا الاعتصام، فتارة بالخطاب العاطفي وتارة بترهيب الأتباع مما قد يحدث لهم إن تركوا السلطة، وتارة بالإيعاذ إلى مشايخهم وعلمائهم لدعوة الناس للاعتصام.
ولا زلت أذكر دعوة رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الناس أن ينزلوا بأزواجهم وأبنائهم ليعتصموا عند مسجد رابعة العدوية. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكما كان متوقعا، بدأ الجيش في ارسال التحذيرات العملية للمعتصمين بأنه لن يتورع عن استخدام الة القتل معهم، فقتل بالفعل بعض المتظاهرين في أماكن أخرى قريبة وأصاب غيرهم.
وحمي وطيس الآلة الإعلامية أكثر وأكثر، وازداد وضع المعتصمين صعوبة بمرور الوقت وهم يعطلون حياة الناس اليومية في تلك المنطقة.
ثم كان التصريح والإعلان من قائد الانقلاب العسكري بطلبه التفويض من الشعب بالتعامل مع المعتصمين، وهو ما قوبل بمظاهرات تأييد كبيرة بالفعل.
كل هذا والمعتصمون غارقون في أوهامهم، يحاولون استجداء القريب والبعيد، بل وحتى المجتمع الدولي الذي يعرفون سمومه وكيده، ويتهمون أي ناصح لهم بالعودة والبحث عن وسيلة أخرى تحفظ دماءهم.
تارة ينتجون فيديوهات قصيرة لأشخاص غير متدينين مؤيدون للاعتصام، وتارة يترجمون المحتوى للغات مختلفة، وتارة يرفعون رايات الديمقراطية ويهتفون لها.
كل هذا، وخطابهم الداخلي لأتباعهم أنهم يعملون للإسلام، وأنها مصلحة الدعوة، أو فلنقل كما قال سيد قطب رحمه الله "صنم الدعوة".
ثم أظلمت الدنيا في صبيحة يوم أسود.. وانهار الرصاص من كل مكان يحصد أرواح أسر بكاملها، لا يفرق بين رجل وامرأة وطفل وكهل.
وسالت الدماء الزكية على الأرض تشتكي غدر القريب قبل العدو.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبدا أن قيادات الإخوان متخبطون بلا رؤية واضحة، ولا فقه عملي لسنن الله. وأن أولويتهم هي الحفاظ على مكتسباتهم في الدولة، مهما كانت نيتهم من وراء ذلك.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.