المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (المجــــادِلة)  (زيارة 3752 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وهذه عتبات جزء جديد من أجزاء قرآننا الحبيب ...!

أقف عليها، أطرق باب العليّ القدير سبحانه أن يفتح لي من فيوضات رحمته، وأن يرزقني فتوح العارفين الفاهمين على الوجه الذي يريده، وعلى الوجه الذي يرضيه ...أستعينه وأستهديه وأنا أعايش آيات كتابه العظيم معايشة المحبّ الولهان، الذي كلّما غرف من معارفه، وكلما أوغل في جمالاته، وكلما أبحر في كمالاته ازداد له حبّا، وبه شغفا وولها ... 

أكتب وأنا لا أدري أتسبق المنيّة أناملي، أم يُكتَب لأناملي أن تسكب شيئا من بحر العيش مع القرآن، والنّهل من خيراته، والعَبِّ من أنواره من قبل أن تبلغني المَنون، ومن قبل أن تدقّ ساعة الرحيل ... !
وحدَكَ ربّي تعلم ما يخفى... وإني أسألك أن تحييني حتى أكتب مما عَمَر قلبي، وأشبع نظر عقلي ... ممّا ملأ عليّ كياني حياةً ليست إلا حقيقة الحياة، تبثّها روح القرآن في روحي، فلا أطعَم حُلوَ العيش إلا به ولا أعرف للدنيا وزنا بِلاه ... أرى الدنيا ما خُلِقَت وما تزِنُ إلا وهو فيها للإنسان إنسانيّته، وللروح روح وسرّ حياة... وهو وهي من أمر ربّي، وليس لأحد فيهما من أمر... وما كانت الدنيا، وما كان الإنسان فيها إلا ليكون منهجَه، ومشكاتَه على طريقٍ نهايتُها إلى الله طالت أو قصرت ...!

وقد عشنا مع جزء المُلك من قبلُ، ومع سُوَرِهِ العَشْر، فاستظلّت أنفسنا بداني ظلال العقيدة... العقيدة في الله مالك المُلك، وفي أنّ الابتلاء غاية وجودنا، وفي يومٍ عظيم نلقى فيه الله ليجازي مُحسنا بإحسان، ومسيئا بما يستحقّ ...

ذُلِّلَتْ لنا قُطوف العقيدة، ونحن نتقلّب بين السورة والسورة...
فجاء فيه عن مبتدأ الإنسان ومُنتهاه في الدنيا، من ساعة خَلْقِه ليُبتلى إلى ساعة موته، إلى ساعة بعثه حيّا للجزاء...جاء التعريف بالرسول ذي الخلق العظيم،  وبمسعى أهل الفساد والإفساد لفرض حكم الهوى في الأرض، ليُساوَى بين مجرم ومسلم،  وجاء التعريف بالرسالة، وأنها التذكرة وأنّها الذكرُ وأنها حقُّ اليقين ...وجاء التعريف بالحاقّة يوما عظيما يقوم فيه الناس لرب العالمين... وأنهم فيه بين أصحاب شمال وأصحاب يمين...

جاء صبر نوح تذكرة وموعظة ونورا على درب محمد المحفوف بالمصاعب وبالتصدّي وبالصدود ...وأنّ الله كما اقتلع أشواكَ الكُفر، وأنجى بذرات الإيمان على السفينة، حتى أزهرت وأينعت في الأرض من جديد، هو مُنجيها في كلّ زمان ومُبقيها على الأرض رغم أشواك كل زمان...!

ويُعلنُها الجنّ مع الإنس أنّ الكُلَّ لله عبد، وأنه الملاذ والعِياذ والمجير والنصير ، والملتحد ...
وجاءت أحوال الرسول مع الرسالة، فهو القائم بين يدي ربّه ليلا يستزيد لقيامه بها نهارا.
وكما كانت الحاقة وأهوالُها، كانت القيامة...قيامة الإنسان الذي خُلِق ليُبتلى، فما تُرك سُدى، بل هُدِي السبيلَ، وكُرِّم بالعقل دليلا، ليختار فيُحسن، فيُجازى جنّةً وحريرا ... !

وكانت المُرسلات وعيدا شديدا للمكذبين الذين جاء في كلّ سُور الجزء عنهم وعن تهافت وتهاوي حُججهم المزعومة، وعن تقوّلاتهم وتجرؤاتهم، وعن سوء عاقبتهم وشناعة مَردّهم ...وكلّها في الجزء العامر المبارك العقيدة في الله وفي رسله وفي الرسالات ...
كان جوُّها مكيّا، فكان العمل على توثيق العقيدة في النفوس، ولقد بنى صلى الله عليه وسلم العقيدة، وشدّ أسرَها في قلوب أصحابه من قبل أن ينتقل إلى المدينة، فأخذ معه فيما أخذ أسُسا متينة ليبني وليُعلِي عليها ...
ولقد عرفنا مسيس حاجتنا نحن لذلك الأساس قبل حاجتنا لإعلاء البناء  ...

وها نحن اليوم مع جزئنا الجديد...وتسعُ سُوَر كاملات تستغرقه، و مع "المجادِلة" نحن على عتباته ...
 
هي سورة مدنيّة، نزل صدرُها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن امرأة من أهل المدينة المنوّرة تُدعى خولة بنت ثعلبة ... ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في أمرٍ ألمّ بها . وهي التي قال فيها سبحانه :

"قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا  إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ  إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ  وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا  وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا  ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ  وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا  فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا  ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ  وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ  وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)"

سبحانه، أنزل في شأن امرأة متواضعة من نساء المسلمين قرآنا يُتلى إلى يوم الدين...  كلمات هذه الآية تُشعِر بالقُرب، وتُشعر بالرحمة، وتُشعر بالعدل.
سبحانه الذي كُلُّ أمر السماوات والأرض بيده، يُنزِل في شأن مؤمنة بسيطة ليست ذات سلطان، ولا ذات مكانة في الناس قرآنا يُؤذِن بالاهتمام والاعتناء من الخالق بشأن مخلوقه، ليس يفرّق بين واحد منهم وآخر، ليس مَن كان ذا ذكر وصيتٍ وسلطان بأقرب عنده ممّن لم يكن له بين الناس ذكر ... ليس من مقاييس الدنيا وموازينها في العباد ما هو عند الله مقياس أو ميزان ... إنما أكرمُهُم عنده أتقاهم...!

وهو سبحانه الربُّ الإله العظيم ذو الجلال والإكرام، والعزّة والسلطان، الذي على عرشه استوى... ليس بينه وبين عباده من وسيط، ولا بينه وبينهم من حجاب ... !

"قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا"...
سبحانه يسمع كلّ شيء، ويحيط سمعُه بكل الأصوات، ومن بين كلّ تلك الأصوات التي تعجّ بها السماوات والأرض، يُنزِل الله قرآنا في قول التي جادلتْ النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها ...
إنها خولة بنت ثعلبة، واحدة من نساء الأنصار، زوجة أوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت ... هرعتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن من أخصّ شؤونها، تركت خلفَها زوجَها، ولم تنصع لأمرٍ أمرَهَا به، لم تنصع لأمرٍ من أخصّ خصائص شأنها معه، وهرعتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبحث عنده عن الأمان، وعن الحق، وعن الحكم الفصل...
ويا سعدَها، ويا هناءَها، ويا سَعْدَ ويا هناء كلَّ مَن عاش يلوذ به، ويجالسه، ويحاوره، ويبثّه شكواه، ويتعلم منه، ويحتمي بحِماه، كالطفل يحتمي بأبيه من صوارف ما حولَه ...

وقد جاء ذكر شأنِها، وما كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقلته عائشة رضي الله عنها، كما نقلتْه هي ذاتُها ...
عن عائشة رضي الله عنها قالت : "تبارَكَ الَّذي وسِعَ سمعُهُ كلَّ شيءٍ ، إنِّي لأسمعُ كلامَ خَولةَ بنتِ ثَعلبةَ ويخفَى علَيَّ بعضُهُ ، وَهيَ تشتَكي زَوجَها إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ "- صحيح ابن ماجه-
عائشة في جانب البيت، وما بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بضعة أمتار على بضعة أمتار، تقول أنها تسمع منها شيئا، ويخفى عنها شيء... فتبارك الذي وسع سمعُه كلّ شيء، حتى أنزل على نبيّه صلى الله عليه وسلم قرآنا يُتلى إلى يوم الدين في شأن امرأة جاءت تستفتيه في أمرِها، وليس معهما من أحد ...!

مأمنُها، وملاذُها رسول الله صلى الله عليه وسلم...فماذا كان بينهما ؟
تروي خولة نفسُها فتقول: "فيَّ واللهِ وفي أوسِ بنِ الصَّامتِ أنزَل اللهُ جلَّ وعلا صدرَ سورةِ المجادلةِ قالت: كُنْتُ عندَه وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلُقُه وضجِر قالت: فدخَل علَيَّ يومًا فراجَعْتُه في شيءٍ فغضِب وقال: أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي ثمَّ خرَج فجلَس في نادي قومِه ساعةً ثمَّ دخَل عليَّ فإذا هو يُريدُني على نفسي قالت: قُلْتُ: كلَّا والَّذي نفسُ خُويلةَ بيدِه لا تخلُصُ إليَّ وقد قُلْتَ ما قُلْتَ حتَّى يحكُمَ اللهُ ورسولُه فينا بحُكمِه قالت: فواثَبني فامتنَعْتُ منه فغلَبْتُه بما تغلِبُ به المرأةُ الشَّيخَ الضَّعيفَ فألقَيْتُه تحتي ثمَّ خرَجْتُ إلى بعضِ جاراتي فاستعَرْتُ منها ثيابًا ثمَّ خرَجْتُ حتَّى جِئْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فجلَسْتُ بينَ يدَيهِ فذكَرْتُ له ما لقيتُ منه فجعَلْتُ أشكو إليه ما ألقى مِن سوءِ خُلُقِه قالت: فجعَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ( يا خُوَيلةُ ابنُ عمِّكِ شيخٌ كبيرٌ فاتَّقي اللهَ فيه ) قالت: فواللهِ ما برِحْتُ حتَّى نزَل القرآنُ فتغشَّى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كان يغشاه ثمَّ سُرِّي عنه فقال: ( يا خُويلةُ قد أنزَل اللهُ جلَّ وعلا فيكِ وفي صاحبِك ) قالت: ثمَّ قرَأ عليَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} -المجادلة: 1- إلى قولِه: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} -المجادلة: 4- فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ( مُرِيه فلْيُعتِقْ رقبةً ) قالت: وقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ ما عندَه ما يُعتِقُ قال: ( فلْيصُمْ شهرينِ مُتتابعينِ ) قالت: فقُلْتُ: واللهِ يا رسولَ اللهِ إنَّه شيخٌ كبيرٌ ما به مِن صيامٍ قال: ( فلْيُطعِمْ ستِّينَ مسكينًا وَسْقًا مِن تمرٍ ) فقُلْتُ: واللهِ يا رسولَ اللهِ ما ذلك عندَه قالت: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ( فإنَّا سنُعينُه بعَرَقٍ مِن تمرٍ ) قالت: فقُلْتُ: وأنا يا رسولَ اللهِ سأُعينُه بعَرَقٍ آخَرَ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ( أصَبْتِ وأحسَنْتِ فاذهَبي فتصدَّقي به عنه ثمَّ استوصي بابنِ عمِّكِ خيرًا ) قالت: ففعَلْتُ."-صحيح ابن حبان-

إذن فهي التي ظاهر منها زوجُها، والظِّهار أن يقول الرجل لامرأته : "أنت عليّ كظهر أمي" . يريد بذلك أن يحرّمها على نفسه، ولقد كان الظّهار في الجاهلية تحريما، وكان أوسُ بن الصامت زوج خولة بنت ثعلبة أول من ظاهر في الإسلام .
ظاهر منها، ثم عاد يريدها على نفسها، فأقسمت يمينا ألا يَخلُصَ إليها وقد قال ما قال، بل واثبتْه وهو يحاول أن يغصبها على الانصياع لما أراد ...!

لم يكن قد نزل حكمٌ في شأن من يُظاهر، والظّهار كان من أمر الجاهلية... لم ترضَ خولة بالتهوين من شأنه، بل أقسمت ألا يكون بينها وبين زوجِها شيء حتى يحكم الله ورسولُه فيهما بحُكمه ...
 لم تتعلّل خولة بأنّ الإسلام غيرُ حال الجاهليّة، وأنّ ما كان من قول زوجها كلا شيء، وهما اليوم  مُسلمان، فلا اعتداد بأقوال الجاهلية وبأحكامها ... لم تستهِن خولة، بل كانت حريصة، خشيتْ أن تقع في محرَّم، فعزمت على التبيّن، وأن تأخذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم الحُكم الفصل ليطمئنّ قلبُها ...

كانت أوّل من ظاهر منها زوجُها في المجتمع الإسلاميّ الجديد ... فلم تكن على بيّنة ... ولو أنّها أطاعته فيما عاد إليه، ربما لم يكن عليها من إثم والحكمُ لم ينزل بعدُ، وتكون قد رأت في الجاهلية وأحوالها مما لا يُعتَدّ به في المجتمع المسلم، ولكنّها كانت الحريصة ...! 
كانت مؤمنة تقيّة، عاقلة تخشى أن تتلبّس بحرام أو بفعل من أفعال الجاهليّة حتى وإن لم يكن من حكم نزل به القرآن... كانت تخاف أن تأثَم حتى والقرآنُ لا يقرّ بعدُ تحريما من إباحة ...  !   لم ترضَ بأنصاف الحلول، وتلكُم سمات المؤمن الحقّ ...!
ولقد احتفى بها الله تعالى، وكرّمها، وشكر لها سعيَها، وهي التي هرعتْ تريد أن تبرأ من أدنى إثم، وأن تجعل إسلامَها لله تعالى حركة على الأرض، وفعلا لا قولا يردّده اللسان، أرادتْ إسلامها بيانا لا عنوانا... وليتَ شِعري !! لقد كنتِ يا خولة سببا في نزول الحكم ليبقى إلى يوم الدين ساريا في كلّ زوجَيْن حالُهما من حالك في كل زمان وفي كلّ مكان ...

لقد كرّمكِ الله تعالى وهو ينزل على نبيّه قرآنا في شأنِكِ وأنتِ بين يديه، لم تغادري المكان ... لقد أرضاكِ الله تعالى وقد هرعتِ لملاذك... عجلتِ يا خولة ليرضى ربُّكِ ... فأرضاكِ ...!
واثَبْتِ زوجَكِ، فكانت قوّة إيمانِكِ وتعلّقك بربّك الذي أسلمتِ له أقوى من كل قوّة ...  غلبتِه، وسارعتِ كمَن يستجير من الرمضاء بالماء ...!

ولقد كانت خولة عازمة كلّ العزم، ما كان ليردّها عن عزمِها رادّ ! حتى أنها وهي تصف كيف غلبتْه، وألقتْه تحتها، وخرجت إلى بعض جاراتها تستلف ثيابا،  أراها تركض هاربة من البيت، مسرعة لئلا تضيّع عليها فرصة الخلاص منه، فلم تعدَم حيلة وهي تتجه إلى إحدى جاراتها تعيرها ثوبا من ثيابها ... ! للّه دَرُّكِ أيتها المرأة العظيمة ...! لله درُّكِ...
كلُّ هذا مما قدّمت خولة حتى استحقّت أن تكون المجادِلة التي نحن اليوم نتدارس قصّتها من الكتاب العظيم ...تتناول قصّتَها بقاع الأرض كلها في كل زمان وفي كل مكان  ...!
« آخر تحرير: 2020-03-11, 09:45:32 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

"قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا  إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)"

نتأمّل الكلمات التي وصف بها الله تعالى كلام المجادِلة فإذا هي : "تُجادلك" و"تشتكي" و"تحاوركما"... تجادل، وتشتكي وتحاوِر ...
فأما المجادَلَة فهي الحديث المُقوَّى بالدليل والحجّة، يقال جَدل الحبلَ أي فتله وبرَمَهُ ليقوّيه ... مجادلتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها، قد ذكرت فيها عائشة رضي الله عنها شيئا مما سمعت : " يا رسولَ اللَّهِ ، أَكَلَ شَبابي ، ونثرتُ لَهُ بَطني ، حتَّى إذا كبُرَتْ سِنِّي ، وانقطعَ ولَدي ، ظاهرَ منِّي ، اللَّهمَّ إنِّي أشكو إليكَ "

وأما الشكوى، فقد كانت تشتكي إلى الله سبحانه وهي بين يدَي رسول الله صلى الله عليه وسلم...
سبحان الله ! تُحدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترفع شكواها إلى الله... معلّقٌ قلبُها به سبحانه...سليمة عقيدتُها، فهي إذ تخاطب النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهي بين يَدَيه، تتوجه إلى الله بالشكوى، تميّز بين مقام النبوّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقام الألوهية لله عزّ وجلّ، فيستحضر قلبُها سمعَ الله لشكواها وعلمَه بحالها... فتشتكي إليه...

وأما المُحاورة، فما كانت تُدْلي به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان هو صلى الله عليه وسلم يردّ به عليها، وقد كان يحثّها أن تتقي الله في زوجها ... وفي بعض الروايات أنه كان يقول لها : "لم أؤمَر في شأنك بشيء"
"إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" ... سبحانه وسِع سمعُه كلّ الأصوات، كما أنه أيضا سماع إجابة لشكواها ...
وينتقل الله سبحانه في الآيات الموالية إلى أمر الظّهار كشأن عامّ، يُخاطَب به كلّ مَن يقع فيه من المجتمع المسلم الحديث الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ومن المجتمعات المسلمة في كل زمان ...

فكان حُكم الظهار في الإسلام ... تقول خولة : "فواللهِ ما برِحْتُ حتَّى نزَل القرآنُ فتغشَّى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كان يغشاه ثمَّ سُرِّي عنه فقال: ( يا خُويلةُ قد أنزَل اللهُ جلَّ وعلا فيكِ وفي صاحبِك ) قالت: ثمَّ قرَأ عليَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} -المجادلة: 1- إلى قولِه: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} -المجادلة: 4-"

"الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ  إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ  وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا  وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا  ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ  وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا  فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا  ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ  وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)"

جاء في هذه الآيات على الترتيب :

أولا: بيانُ حُرمة الظهار، وسبب حُرمَتِه.
ثانيا: كفارة الظهار.

"الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ  إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ  وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)"

المؤمنون، الذين يظاهرون من نسائهم، لهؤلاء يُوجِّه الله سبحانه هذا الخطاب ... ما نساؤهم بأمّهاتهم ليجعلوهم محلّ تمثيل أو تشبيه بقول الواحد منهم لزوجته : " أنتِ عليّ كظهر أمّي" ... إنْ أمّهاتُهم إلا اللائي ولَدْنَهم ...
وِفْق أيّ منطق أخرق شبّهوا الزوجة التي يطؤون ويقضون منها وطرا بالأمّ ؟! شناعة في المنطق والعقل، وخروج عن الفطرة أن تُشبَّه الزوجة بالأمّ حتى على سبيل تحريمها كما هي الأم محرّمة ...! لا يستقيم أن يحرِّمَها عليه بمجرّد كلمات منه تجعلها كأمّه. ليس للكلمات أن تصيّر الزوجة أمّا !!

نعم للكلمات الحاملة لمعنى التطليق أن تصيّرها مُطلّقة، لأنّها تتناسب وعلاقتها بالرجل، كلمات هي لها وليست لغيرها... أما أن تُصيّرها الكلمات أُمّاً فهذا ما لا يستقيم ...! بينما جعله الجاهليون قانونا، لأنهم ألِفوا اختلاق القوانين الهوائية الفارغة من العقل والمنطق ... ! حتى اتخذوا ما ينحتون بأيديهم إلها ...!

حرّم الجاهليون وحلّلوا لأنفسهم بأنفسهم ... فكان الظهار قانونا من قوانين الجاهلية العمياء يسري في جوّهم، ويقيمون له طقوسا من سلوك حياتهم في مجتمع يتّبع الأهواء المختلفة المتقلّبة، ويُعرض عن قانون الربّ الخالق المربّي ... وهذا ما لا يكون في المجتمع المسلم، لن يبقى هذا في مجتمع يدين لله بالعبودية والطاعة، فلا يقيم قانونا لحياته يُخالف أمره ومنهجَه الذي أنزل لعباده...

"وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا"
قولٌ مُنكَرٌ لا يقرّه عقل ولا فطرة، وزُور وكذب، لا صحّة فيه ولا سلامة... وهذا ما أبطل الظّهار، أي أبطل تحريم المرأة المُظاهَر منها، وفي ذلك فُسحةٌ من فُسَحِ الإسلام، وتخفيف من عَنَتٍ أوقع الإنسانُ فيه نفسَه بيده من غير وجه حق ولا عقل... حكمٌ جعل مَن وَقَعَ فيه عاصيا، ولكنّ الله تعالى يفتح أبواب رحمته ومغفرته وهو يُردِف بقوله : " وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ "
هذه الخطوة الأولى، وفيها كان بيان حقيقة الظهار وبُعدِه عن العقل السليم والمنطق، لنبلغ مع الآيتين المواليتين الحكم الذي أنزله الله سبحانه للمُظاهر من زوجته كفّارةً، فيها العقوبة لمَن أتى فعلا هو من أفعال الجاهلية، وقال بقولٍ من أقوالهم ما أنزل الله به من سلطان :
"وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا  ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ  وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا  فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا  ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ  وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)"

من يظاهر من زوجته، ثمّ يعود لما قال، وقد اختلف العلماء  في : " لِمَا قَالُوا "، فأوّلَهَا بعضُهم أنّها العودة إلى قول الجاهلية، وقال آخرون غيرَ ذلك، وأقوى الأقوال أنها تعني عودتهم إلى ما حرّموه على أنفسهم...
ولقد عرفنا في قصّة خولة أعلاه أنّ زوجها عاد وهو يريدها على نفسها، وهي التي فرّت منه، وهرعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستبين في شأنها.

وأوجه الكفّارة فيها على الترتيب لا على التخيير :
1-تحرير رقبة. وهذا في زمن كان فيه الرقّ لا في زماننا. فإن لم يجد فــ:2
2-صيام شهرين متتابعين. فإن لم يستطع فـ :3
3-إطعام ستين مسكينا.

ويشرّع سبحانه في الكفّارات ما ينتفع به المسلمون من تحرير رقاب، ومن إطعام للمساكين .
وقد عرفنا في قصة خولة أعلاه : " فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ( مُرِيه فلْيُعتِقْ رقبةً ) قالت: وقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ ما عندَه ما يُعتِقُ قال: ( فلْيصُمْ شهرينِ مُتتابعينِ ) قالت: فقُلْتُ: واللهِ يا رسولَ اللهِ إنَّه شيخٌ كبيرٌ ما به مِن صيامٍ قال: ( فلْيُطعِمْ ستِّينَ مسكينًا وَسْقًا مِن تمرٍ ) فقُلْتُ: واللهِ يا رسولَ اللهِ ما ذلك عندَه قالت: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ( فإنَّا سنُعينُه بعَرَقٍ مِن تمرٍ ) قالت: فقُلْتُ: وأنا يا رسولَ اللهِ سأُعينُه بعَرَقٍ آخَرَ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ( أصَبْتِ وأحسَنْتِ فاذهَبي فتصدَّقي به عنه ثمَّ استوصي بابنِ عمِّكِ خيرًا ) قالت: ففعَلْتُ.-"

والكفّارة يجب أن تُؤدّى من قبل أن يتماسّا، سواء كان التحرير، أو الصيام المتتابع، أو إطعام المساكين.
الآية الأولى من الكفارة ذيّلت بقوله سبحانه: " ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ  وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ "
و"الخبير" تعني "العليم" يضاف إليها علمه بالخفايا الباطنة. يقول ابن القيم رحمه الله : " الخبير: الذي انتهى علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظواهرها. "

فهو سبحانه خبير بمَن أوقع الظّهار، ثم هوّن من أمره، سواء عنده كفّر أم لم يكفّر، يَبدو للناس أنّ حياته الزوجيّة والأسريّة سليمة، بينما باطن حالها يعلمه الله، فهما الزوجان اللذان أفسدا حياتَهما وأسرتَهما لمّا استهانا بحدّ الله، فلم يكفّر الزوج، ولم تبالِ الزوجة إذ لم يكفّر ...خبير سبحانه بمَن كان حريصا على دينه، ويخاف كلّ الخوف أن تكون حياته على حرف، فهو يستبين ويسأل، يحرسها من أدنى شائبة تشوبها، فيها ما يغضب الله تعالى من حرام يفسد الأسرة،  فتُرفع البركة، ويعود الفساد على الذريّة ...

والآية الثانية ذيّلت بـ: "ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ  وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ".

ويكأنّ الإيمان الحقّ يتجلّى في امتثال المؤمن لأمر الله تعالى، فلا يجد راحته إلا وهو قوّام عند حدود الله، يؤدّيها، ويكفّر، وهو لا يستصعب ولا يسوّف، ولا يتحجّج بالعجز كذبا، بل يبذل قصارى جهده ليؤدّي وإن كان عاجزا حقا، حرصا منه وتثبّتا ... ذلك هو الإيمان بالله سبحانه، ذلك التنفيذ لأمره، وهو لا يصعب ولا يثقل، بل الثقل كل الثقل أن يبقى على الكاهل دون تكفير ...

أجل... الإيمان الحقّ هو عند تصحيح الخطأ، وتكفير الذنب بمقتضى أمر الله تعالى سمعا وطاعة، هو الخوف من بقاء الأمر معلّقا، وكأنّ تحرير الرقبة هو تحرير للنفس من ربقة الذنب، تحريرها يومَ لقاء الله تعالى من رهن ذنوب الدنيا : " كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)" -المدثر-

ثم إن اقتران الرسول بالله تعالى في قوله : " ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ " جاء يدلّل على أنّ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله تعالى، "وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ  وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ" ...

والمؤمن الحقّ هو الذي يلتزم حدود الله، فلا يتعدّاها، أما الكافر فيتعدّاها، ولذلك فإنّ المؤمن المهوّن من شأن حدود الله، الذي لا يسعى سعيَه لتكون حياتُه نقيّة من شوائب الحرام، هو أقرب لفعل الكافرين، الذين لا يبالون بحدود ولا بأمر من أوامر الله ...
وإننا لنعرف في أمّتنا اليوم تهاونا بحدود الله، في نساء يتهاونّ بأمر الله تعالى في مجريات حياتهنّ الزوجية، وفي شؤونٍ من مثل الظّهار، والطلاق ...!

تجد في الواحدة منهنّ تفويتا وعدم حرص، لا تكون قائمة على نقاء علاقتها الزوجيّة...تسمع من إحداهنّ أنّ زوجها ألقى إليها بألفاظ التطليق مرة ومرة، ولكنّها تهوّن، وتتحجّج له بالغضب مفتية له ولنفسها، وتسمع ممّن يظاهر منها زوجها، ولم يكن منه تكفير، وفي ذلك كلّه هنّ المستهترات المهوّنات ... وبَونٌ شاسع شاسع بين خولة وبينهنّ ...!

خولة التي استحقّت أن يَنْزِل فيها قرآنٌ يبيّن فيه الله تعالى اهتمامه بشأنها وهي المؤمنة التقيّة الورِعة الحريصة على دينها ...
وبهذا تُبنى الأسر المتماسكة السليمة، ويصلح شأن الأولاد، ويبارك سبحانه فيهم، ويجعل الحياة آمنة ليس فيها من كَدَر الفساد الذي كَلَّ الآباء والأمهات وملّوا وتاهوا، وهم يبحثون عن سرّ تفشّيه في أبنائهم، يرومون قاصيا ببحثهم، بينما العلّة في جنباتهم ... !!

"إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ  وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا  أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ  وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)"

جاءت: "حدود" في الآية السابقة... ويأتي هنا فعل "يحادّون" لنجد تجانسا في الألفاظ يلوّح بالترابط والاتّساق ...
الذين يحادّون الله ورسوله، بخلاف المؤمنين الذين سبق القول فيهم : " لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ"... هم الذين يشاقّون ويعادون الله ورسوله، أي الذين هم في حدّ معادٍ لله ورسوله... كبِتوا أي أذِلّوا وأهينوا في الدنيا، وقد كان ذلك لكفار قريش في أكثر من موقعة بينهم وبين المسلمين مُنُوا فيها بالهزائم النكراء والأسر والإذلال، وكذلك كُبت الذين من قبلهم من الكافرين، أذِلّ قوم عاد الذين رفعوا بقوّتهم رؤوسا، قطعها الله تعالى بريح بعثها عليهم صرصرا عاتية، فإذا هم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية! وأذِلّ قوم ثمود الذين نحتوا من الجبال بيوتا فرهين، فأهلكتهم الصيحة وهم في ديارهم ثلاثا جاثمين، وأذِلّ فرعون الذي كان ينادي في قومه أنه ربهم الأعلى، فأدركه الغرق حتى نادى : آمنتُ أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل! ولاتَ حين مناص! وأُهلِك قوم لوط الذين قلبوا الفطرة فاشتهى رجالهم الرجال، وأتوا المنكر في نواديهم، حتى جعل الله عالي قريتهم سافلها، وأمطر عليهم عذابا من سجيل  ...!  إنه إذلال معنيّ به كلُّ مَن يحادّ الله ورسوله في كل زمان ومكان....!

هذا والآيات البيّنات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرّق بين حق وباطل وتدعو للهدى والرشاد: "وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ". نزلت تبيّن حدود الله تعالى، وتعلّم المؤمنين الوقوف عندها، وتبيّن سوء عاقبة من يتعدّاها...
وتذيّل الآية بقوله سبحانه :" وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ "  ... أي أنّهم في الدنيا مكبوتون مُذَلُّون، مهانون، وفي الآخرة لهم عذاب مهين ...ولعذاب الآخرة أكبر ... عذاب مهين على ما كان لهم في الدنيا من الكبت والإذلال والإهانة...! هانوا على الله فأهانهم في الدنيا وأعدّ لهم في الآخرة عذاب الهُون والخزي..
وسبحان الله...! لنتأمل ...! إنّ هؤلاء هوّنوا في أعينهم أمر الله، وحدوده ... فحادّوه، ووقفوا بحدّ معادٍ له، فأهانهم الله بالمقابل وأذلّهم في الدنيا وأهانهم في الآخرة.

وكأن سائلا يسأل ... فكيف هو عذابهم المهين ؟ لنجد الجواب في الآية الموالية: "يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا  أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ  وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)"
ينبئهم الله بما عملوا، وقد أحصاه كلّه، وهم من تهوينهم له محادّةً لله ولرسوله نسوه، لم يقيموا وزنا لأمر الله، فكانوا يحادّون ويعادون، ويصدون ويتصدّون ويسعون ويعملون، ويخطّطون ويكيدون، ومن تهوينهم لأعمالهم ينسون...!  ولكنّه سبحانه أحصاها كلّها، وهو سبحانه على كل شيء شهيد، لا يخفى عليه شيء...
« آخر تحرير: 2020-04-13, 19:05:02 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ونتساءل... أيّ وجهٍ رابط بين آيات الظهار وقصّة المجادِلة، وبين هاتين الآيتين ؟(5و6)

إنّ مَن يتهاون بحدود الله تعالى ولا يحرص على أن تكون حياتُه وِفق ما يُرضيه سبحانه، ولا يخشى أن تشوبها شائبات الحرام، أولئك أقرب لهذه الفئة منهم للمؤمنين ... المؤمن تقيّ نقيّ، أخوف ما يخاف وأخشى ما يخشى أن يفسِد حياتَه أمرٌ يكون فيه تعدٍّ لحدود الله ... فتجده لا يرتاح ولا يهنأ له بال حتى يؤدّي ما عليه، فلا يستثقل الحدّ، ولا يستثقل الكفارة التي تبقيه مؤمنا ملتزما بحدود الله لا يتعدّاها، الكفارة التي لا تصيّره أقرب إلى أولئك الواقفين بالحدّ المقابل المُعادي ...!

سبحانه وتعالى، وقد عرفنا في الآيات السابقة اسمه "الخبير" نعرف في هذه اسمه "الشهيد". سبحانه الشهيد الذي لا يخفى عليه شيء، الشهيد على أفعال العباد وأقوالهم، ويتجلّى  ذلك يوم القيامة عند محاسبتهم وتقرير أحوالهم . الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء، فكل شيء عنده حاضر ... وما أشدّ مواءمة اسم "الشهيد" سبحانه لإحصائه أعمال العباد يوم يبعثهم، فلا تغادر كتبهم صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها ...!

لنجد في الآية الموالية أيضا عن علمه سبحانه :
"أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ  مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا  ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ  إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)"

يخاطب الله سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغة، والتي فيها شدّ الانتباه لما سيأتي من خبر: "ألم تَرَ" يا محمد رؤية علم لا رؤية بصر، أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، يعلم كل شيء فيهما ... فما تسارّت جماعة قلّ عددها أو كثر إلا وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم حديثَهم ... بل إن لفظ "معهم" أدلّ وأدقّ تعبيرا على كونه سبحانه محيط بكل ما يدور بينهم لا يخفى عليه شيء ... ثمّ ينبئهم سبحانه بما عملوا يوم القيامة، فمَن كانت نجواه في شرّ سيلقى عاقبتها ...!

"إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ... سورة منذ بدايتها وهي محفوفة بعلم الله تعالى بأدقّ أشكال العلم والإحاطة ... في سعة سمعه سبحانه : " قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ ..." .  ثم هو الخبير بما يعمل الناس: "...وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير" .     ثم : "... وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ "  ثم عن إحاطة علمه في هذه الآية.

وتتصل الآيات بعضها ببعض، فكما سمع الله قول التي جادلت الرسول صلى الله عليه وسلم في زوجها، بينما كانت عائشة تسمع منه شيئا ويخفى عنها شيء وهي في جانب البيت، يضمّها ورسول الله والمجادلة مكان واحد، ولا تستطيع سماعَه كلّه ... كذلك يحيط علما بنجوى كل جماعة أينما كانت قلّ عدد أفرادها أو كثر ...

كيف لا يُطاع ربٌّ سميع، خبير، على كلّ شيء شهيد، وبكل شيء عليم... ؟! كيف لا يلتزم العبد بحدود رسمها له، ليبقى موصولا بربّه، عاملا بأمره، منتهيا عن نهيه ...؟! كيف لا يحرص المؤمن على نقاء ورقيّ علاقته بربّه، فيخشى على صفوها من أن يكدّره أدنى مكدِّر ... تماما كما حرصت خولة، وكما خشيت خولة، فهرعت إلى رسول الله تريد حكم الله ورسوله، وقد قالت لزوجها: " حتَّى يحكُمَ اللهُ ورسولُه فينا بحُكمِه ".

ثم يتوالى الحديث عن النجوى، ولكن هذه المرة عن التي تكون فيها إرادة شرّ بالمؤمنين :

"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ  حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) "

كان اليهود والمنافقون في المدينة يتناجون بما يوحي بأنّهم يُعِدّون للمؤمنين شرا، فكان ذلك يُقلِق المؤمنين ويؤذيهم، وقد نزلت هذه الآية تحدّث الرسول صلى الله عليه وسلم في شأنهم وقد نهاهم عن النجوى، ثم هم يعودون ليتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ...
ولقد كانت إشارة في آخر الآية السابقة لما كانوا يتناجون به من سوء، وكان ما نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، وذلك في قوله سبحانه: " ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ  إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "
عودتهم لما نهوا عنه وحدها معصية للرسول صلى الله عليه وسلم وتمرّد عليه، هي نجواهم التي فيها سوء طواياهم، وسوء نواياهم نحو الرسول ونحو المؤمنين ...

ولنتأمّل عمل المنافقين، فهُم يتسارّون فيما بينهم بالإثم والعدوان، وبما فيه كُرْهٌ وحقد على الرسول وعلى الرسالة، ثم إذا ما رأوه حيَّوْه .... ! وتلك أهم سمات النفاق ...! : "وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ" ...
ولقد كانواهم واليهود عَدُوّاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. عن عائشة رضي الله عنها أنه دخل من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن حيّاه بقوله: "السام عليك"، والسام هو الموت، فغضبت عائشة وسبّتهم، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ:" مَهْ يا عَائِشَةُ، فإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ. وَزَادَ فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بما لَمْ يُحَيِّكَ به اللَّهُ} [المجادلة: 8] إلى آخِرِ الآيَةِ." –صحيح مسلم-

كما يُروى عن المنافقين أيضا أنهم كانوا يحيّونه بما لم يُحيِّه به الله تعالى، من مثل "عِمْ صباحا" ... وكُلُّهُ بخلاف التحية التي حياه بها الله تعالى، والتي جاءت في قوله سبحانه: " ...يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا "-الأحزاب: من الآية56- كما حيّاه سبحانه بها في عموم الأنبياء بقوله: "قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ..."-النمل:من الآية59-
ولقد كانوا يُلقون إليه بتلك التحيّة و : "وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ  "... أي هلا عذبنا الله بما نقول في حقّ نبيّه، بمعنى أنه لو كان نبيا حقا لعذبنا الله بما نقول...!
ولكنّ الله سبحانه يعلم هذا الذي أسرّوه في أنفسهم، أو تحدثوا به فيما بينهم !! فيفضحهم، ويكشف دسائسهم، وما يختلج في نفوسهم، وما يحيكون، ينزل قرآنا يُتلى، ويسمعونه ... !

تقولون أنه لو كان نبيا حقا، لنزل بكم عذاب من الله، لإلقائكم عليه تحية كُرهٍ وسوءٍ ومسبّة ... أوليس فضحكم وكشفُ أمركم بقرآن ينزل يفضح سرَّ أنفسكم... فيقرأه الرسول الذين تخفونه عنه، ويقرأه كلّ مؤمن في كل زمان وفي كل مكان إلى يوم الدين ! أليس هذا بعظيم ؟! ليس هذا وحسب بل ينزل ما هو لاحقٌ بكم يوم القيامة :  " حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ".

وهذا تصوّر في أذهان الكافرين الذين لا يقدّرون الله حقّ قدره، خاطر يصوّر الله كبشر يردّ على ما لا يرضيه في حينه. وهو سبحانه يصبر على عباده وهم يشركون ويكفرون به . عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا أحَدَ أصْبَرُ علَى أذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ، إنَّه يُشْرَكُ به، ويُجْعَلُ له الوَلَدُ، ثُمَّ هو يُعافيهم ويَرْزُقُهُمْ. "-صحيح مسلم-

وإنّي لأرى معنى الآية 05 ينطبق على المنافقين، وهو سبحانه يفضحهم في كتابه، ويكشف ما يتسارّون به من إثم وعدوان واستهزاء بالرسول، ويكشف ما يسرّونه في أنفسهم في شأن الرسول وأنه لو كان نبيا حقا لعذبهم الله بما يقولون ... كبت وإذلال وإهانة، ثم يوم القيامة لهم عذاب مهين .

وليست هذه الفئة خاصة بزمان رسول الله صلى الله عليه وسم وحده، بل إننا نعرفهم، نعرف نفاقَهم، ونعرف ترصّدهم للإسلام، ولأوامر الإسلام، نعرف استخفافهم بحدود الله، وبأوامره وبنواهيه، ونعرف حتى مَن يتحجج بأنه القرآنيّ فهو الذي ينصاع للقرآن، ولا يعترف بحجيّة للسُنّة !

ينكرون حجيّة السنة، ويستهزؤون بكتب الأحاديث الصحيحة، ويختلقون لأهوائهم المعاذير بالطعن والتشكيك ...
وفي هذه السورة نرى قرنَ طاعة الله تعالى بطاعة الرسول، ثم في هذه الآية تحديدا، نقرأ عن تناجيهم بمعصية الرسول، وهو الذي نهاهم عن النجوى، وفيها يقرّ الله نهيَه لهم عن النجوى من قبل نزول هذه الآيات ...!

إذن فهذه الآية فيها إقرارٌ بأمرٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من القرآن... نزل القرآنُ يُقِرّه لرسول الله، ويشنّع على من لم يمتثل له، بل يعود للنجوى معصيةً للرسول... فأين مُنكرو أن يكون للرسول أمر من غير القرآن ؟!!

ويأتي الآن الأمرُ للمؤمنين... هذا المجتمع المُؤسَّسُ في المدينة على عَين رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا المجتمع الذي بُني  برجالٍ هُم لَبِناتٌ صُنِعوا في مكة، عُقِدت في نفوسهم العقيدة، وأحكِمت، كانت مكة محطة صناعة اللبنات القويّات للمجتمع المسلم الذي أُعلِي بناؤه في المدينة ...فكان البناء الشامخ الراسخ ...
ثلاثة نداءات للمؤمنين في سورتنا، فيها التربية للمجتمع المسلم، وفيها سِمات وخصائص الانتماء ...ومازال موضوع النجوى في ترابط قويّ، واتّساقٍ عجيب :

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ  وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)"

لا تكونوا مثلهم ... ولقد نهى سبحانه عباده المؤمنين عن أن يكونوا كالكافرين :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا..."-آل عمران: من الآية156-
لا تكونوا مثلهم فتتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وهم قد فعلوها، تناجوا بالإثم والعدوان وبمعصية الرسول... بل :
"وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ  وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"
هذا الأمر هو الذي يبيّن أنّ التناجي ليس على إطلاقه محرّما، بل هو التناجي الذي فيه إثم أو عدوان أو معصيةٌ للرّسول...أما التناجي بالبرّ -والبرّ كل أوجه الخير، وبالتقوى، والتقوى الائتمار بأمر الله، والانتهاء عن نهيه- فمُباحٌ .
ومرة أخرى تأتي : "معصية الرسول" تدليلا على وجوب اتباعه، والامتثال لأمره، والانتهاء عن نهيه... وأنّ معصيته صلى الله عليه وسلم من معصية الله.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كُنْتُمْ ثَلاثَةً، فلا يَتَناجَى رَجُلانِ دُونَ الآخَرِ حتَّى تَخْتَلِطُوا بالنَّاسِ، أجْلَ أنْ يُحْزِنَهُ."-صحيح البخاري-

أريد أن أقف عند هذا الحديث الشريف الصحيح، فلقد عرفنا أنّ التناجي بالبرّ والتقوى مباح ولا غبار عليه، إلا أنّ هذا الحديث يبيّن تفصيلا دقيقا، ذلك أنّه دعا جماعة الثلاثة ألا يتناجى الاثنان منها دون الثالث، من أجل أن ذلك يُحزِنه، ويجلب له وساوس الشيطان بأنّ تناجيهما للإضرار به، أو للهزئ به، فإذا اختلط الثلاثة بالناس زال الحرج، وجاز للاثنين التناجي.

هذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه منعُ ما أباحه القرآن في حالة خاصة، وهو ممّا لم يحدّده القرآن ... فما قولُ الذين يزعمون بأنهم القرآنيون في هذا ؟! وماذا يقولون في قول الله تعالى : " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ". وهم يؤوّلونها بطاعة أمره النابع من القرآن لا غير ؟!

إننا هنا بإزاء تفصيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في القرآن ... كما عرفنا في آية سابقة إقرار الله تعالى لنهيه للمتناجين بسوء، وذلك في آية : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ..."

إنّ هؤلاء المتنادون بإنكار السنة، وبإبطال حجّيّتها، إنما يضربون عقيدتهم في مقتل، ويضربون حجيّة الدين بأكمله، وتتهافت دعاواهم، ولكنّهم يجدون في الباحثين عن قشّة ترفع شكوكهم المستترة إلى السطح، وتهوي بإيمانهم الذي على حرف معينا ونصيرا.
ونعود لآيتنا وهي تُذيَّل بقوله سبحانه:  "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"
كل حركة للمؤمن في الدنيا لها علاقة بالآخرة، كل تربية له متعلّقة بتقوى الله، وبيوم الحشر بين يديه للحساب ...
« آخر تحرير: 2020-04-13, 19:05:57 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

"إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)"

تطمين للمؤمنين، وتقوية لهم، فهذه النجوى من المنافقين واليهود إنما هي من الشيطان الذي غاية غاياته محاربة الإيمان وأهله، والواقعون فيها جنوده وعباده المخلصون، ليحزنوا المؤمنين، وهذا  الحزن الذي عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المؤمنين، وقلقهم، وعدم اطمئنانهم هو ما دفعه لنهي المتناجين عن التناجي، نهي منه كان للمنافقين خاصة، لأنهم المُدّعون إيمانا ...

"وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"

هذه هي الحقيقة التي بيّنها الله لعباده المؤمنين، يطمئنهم سبحانه أنّهم لن يضروهم بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليهم، ثم يدعوهم للتوكّل عليه، ومن توكّل على الله لن يخيب، وهو وكيله وحَسْبُه...
وتنسحب الآية على كلّ مَن كانت الغاية من نجواه إلحاق ضرر بالمؤمنين، وهو ما يُعرَف حتى في أوساط مجتمعاتنا الإسلامية اليوم... الفئات المتعلمِنة والمستغربة التي تتخذ المؤمنين الملتزمين بأوامر الله سخريّا ...

لا يجب أن يكون المؤمن منهم في حرج، ولا في ضعف وهو يراهم مجتمعين يتخذونه موضوع سخريّة وتندّر... تُتابع نقاشات على شاشات قنوات عربية، مدّعين لها عنوان الحريّة، واحترام اعتقاد الآخر وفِكر الآخر، حتى تُفاجأ بالجماعة من المدعوّين، وهم بين علمانيّ وتحرّري،  ومستغرب يتكالبون على متديّن يقول بشيء من الدين، يقول بقول الله أو بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنهم الوحوش الضارية المفترسة تنقضّ على الفريسة، ينهشها كلٌّ من طرف  ...!

وأكرَهُ ما أكره أن أرى ذلك المؤمن بينهم ضعيفا لا حول له ولا قوة ... وكأنهم يتعمّدون استدعاء ضعيف حجّة، ضعيف بيان، ضعيف مواجهة !
وليست الشاشات وحدها ساحة الانقضاض على المؤمنين، وعلى شرع الله من رؤوس المُحادّة لله ورسوله، من المنافقين المُدّعين للإسلام عنوانا ، بل أرض الواقع كلّها ساحتهم، في مجريات الحياة المختلفة، وهم يؤخّرون أهل الإيمان والالتزام بشرع الله، ويقدّمون التحرّريّين الذين لا يعترفون بشرع لله يحكمهم  ...!

ونبقى مع النداءات الإيمانية التربويّة ...
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ  وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ  وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)"
وهذه سِمات السور المدنيّة، فيها التوجّه للمجتمع المسلم الذي كانت قضايا التعاملات والمخالطات محلّ تربية له وترقية .
وأذكّر ونحن نتقدّم مع آيات السورة ببداياتها، بقصة خولة بنت ثعلبة، تلك المرأة المسلمة البسيطة اجتماعيا، المُكرّمة عند ربها، التي اعتنى الله بأمرها أشدّ الاعتناء، في بيان لعظيم دور الأسرة كلبنة أساسية في بناء مجتمع راقٍ، يستمدّ رُقِيّه من ربّه المربّي في صلة به لا تنقطع...

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ  وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)"

وكلّها آداب المخالطة، والتعاملات، آداب احتكاك المجتمع المسلم بعضه ببعض، وقد عرفنا عن شروط النجوى أينما كان المؤمن،  لنجدنا الآن بين يدَي آداب المجالس الجامعة للمؤمنين، وهي غالبا مجالس علم، وأُولاها وأهمّها مجلسٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه المعلّم ...

ومن سمات القرآن أنه كان ينزل منجَّما، وكانت آيات منه تنزل إثرَ أحداث، كما عرفنا في سورتنا هذه نزول صدرها في خولة بنت ثعلبة وقضيتها مع زوجها، إلا أنّه رغم السبب الذي كان، فالعبرةُ  بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. السبب الذي أشبِّهه بالحالة الواحدة بين حالات يصيبها المرض ذاتُه، فينزل الدواء فيه، وهو الناجع في كل الحالات المماثلة ...

كذلك في هذه الآية رُوِي أنّها نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا إذا جلسوا إليه ضنّ كل منهم بمجلسه إليه، فنزلت تأمرهم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بالتفسّح في المجالس ليجلس إخوانُهم ... فجاءت المجانسة بين تفسّحهم وبين جزاء الله لهم عليه : "فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ " ...والفسح من الله يعني أن يوسّع على المُفسِح من رحمته بمختلف أشكالها في الدنيا والآخرة ...

"وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ  وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ "

أما هذا القول، فهو الذي يصدر من صاحب المجلس، وقد كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمر بعض أصحابه بالوقوف لبدريّين دخلوا مجلسَه وظلّوا قياما لا يجدون أين يجلسون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلانا وفلانا أن يقوموا ليجلسوا هُم، وذلك لمكانتهم بينهم بشهودهم بدْر...

ولم تكن:  "قوموا" بل كانت : "انشزوا"، من فعل نشزَ أي ارتفع، وكأنّ الفعل ذاتَه يحمل معنى الارتفاع عن المكان لنيل الارتفاع في المكانة، نهوض وقيام من المجلس يحقّق لصاحبه رِفعة في المكانة، ولذلك نجد قوله تعالى بعدها :
"يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ  وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ"

وكذلك الجزاء من جنس العمل، فلما أطاع، وارتفع عن مكانه،  رفع الله من مقامه درجات " الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ " . وهذا الأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم بالقيام، لا يتنافى ونَهيه صلى الله عليه وسلم الرجُلَ أن يقيم الرجلَ من مجلسه ليجلس هو فيه: "لا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِن مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ." –صحيح البخاري-

 ولا يتنافى ونهيَه أن يُقامَ الرجلُ من مجلسه ويجلس فيه آخر. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنَّهُ نَهَى أنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِن مَجْلِسِهِ ويَجْلِسَ فيه آخَرُ، ولَكِنْ تَفَسَّحُوا وتَوَسَّعُوا وكانَ ابنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِن مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسَ مَكَانَهُ" –صحيح البخاري-

وعلى هذا يتبيّن بوضوح أنّ الذي يأمر أحدَهم بالقيام من مجلسه ليجلس مكانَه آخر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه، وهو في غير زمانه الذي يتصدّر المجلس ويقدّم فيه، سواء كان معلّم علم ديني، أو علم دنيويّ، أو قائدا في مجلس حرب، أو أي مجلس فيه خير للإسلام والمسلمين.

أما رفع الدرجات فكما قال الله تعالى تكون للذين آمنوا، وللذين أوتوا العلم.
وأحبّ أن أنوّه بـ : " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ " ... أليس المخاطَبون كلّهم مؤمنين ؟! بلى ... فكيف يُخصّ الذين آمنوا هنا بـ: "منكم" وكأنهم المؤمنون المخَصُّون من بين المؤمنين ؟!
أجل إنهم المؤمنون... ولكنّهم المؤمنون من بين المؤمنين ...!
تماما كما عرفنا ذلك في بدايات السورة من بعد إقرار كفارة الظهار، وفيها قول الله تعالى: " ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ "... ليعمل في نفوسهم امتثالهم لأمر الله تعالى والوقوف عند حدوده عمل ترسيخ الإيمان، وليتبيّن الذي يؤمن وهو لا يستثقل الأمر والنهي، ممّن يؤمن على حرف وهو يستثقل الأمر ويستثقل النهي ...
هنا أيضا ... امتثالُهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوموا، ويتركوا أماكنهم لغيرهم، هو تحقّق وترسّخ للإيمان في قلوبهم، هو الطاعة التي تزيدهم على الهُدى هُدى، وتزيدهم على الإيمان إيمانا ...وهي من ثمار طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم...

ولننظر، فإنّ من أهمّ سمات هذه السورة التأكيد على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل إيمان كامل راسخ، طاعته التي هي من طاعة أمر الله، طاعته في أوامر القرآن، وطاعة أمرِه الخاص الذي لا يخرج عن أمر الله ومُراده في القرآن، بل فيه التفصيل لأمر أجمَلَه القرآن العظيم...

ويقرن الله تعالى الذين أوتوا العلم بالمؤمنين المطيعين، وكلاهما يرفعه الله درجات، وفي هذا تنويه بمقام أهل العلم في الأمة...سواء في ذلك الذين أوتوا العلم الديني، والذين أوتوا علما دنيويا وهُم من أهل الإيمان . حتى يحفل المؤمنون بهم، ويعطوهم حقّهم من التبجيل والتقدير ... أمة تقدّر علماءَها أمةٌ أهل لإقامة حضارة إنسانية قوامُها الإيمان والعلم والعدل ...
وتنتهي الآية بقوله سبحانه : " وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " ... لتضاف إلى ما اختصّت به السورة من التأكيد على أنه سبحانه العليم الخبير الشهيد ...
وقد جاءت المرة الأولى في شأن أمر الله تعالى، والكفارة التي قضى بها في قضية الظهار (الآية03)، وتأتي هذه المرة في شأن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لمَن معه بالتفسّح أو بالقيام ... وهما معا طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
« آخر تحرير: 2020-04-14, 13:01:00 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وهكذا سَوقا من الآية إلى الآية ...

بدأ الحديث عن إحاطة علم الله تعالى بكل نجوى كائنة بين الناس، قلّ عدد المتناجين أو كثر، ثمّ عن النجوى التي فيها كره للمؤمنين، وكيدٌ لهم، ثم نهيٌ للمؤمنين خاصّة عن النجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وأن تكون نجواهم  بالبر والتقوى، ومنها إلى المجالس الإيمانية وآدابها، وما تتّسم به من طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتراحم المؤمنين فيما بينهم، وتقدير وتبجيل لأولي العلم ...

وتتسلسل السورة، ويسوق بعضها إلى بعض في سلاسة، وفي انسياب، فإذا مدار آياتها حتى الآن عما يكون بين الناس من أحاديث، فمِن الأحاديث البينيّة السريّة، وبيان المحرّم منها، والمباح، وآدابها وشروطها، إلى الأحاديث الجماعية في المجالس الجماعية العلنيّة التي فيها مصالح ومنافع للمؤمنين، وعلى رأسها مجالس العلم... والآيتان المواليتان تخصّان الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجالس، فيهما النداء الإيمانيّ الثالث في السورة على التوالي...:

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ  فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ  وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)"

روي عن كثيرين أنها نزلت وقد أكثر المؤمنون بمسائلهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقّوا عليه، فأنزل الله هذه الآية للتخفيف عنه...
وأجدني أقربَ لقول قليل منهم رأوا أنها نزلت في عدد من الصحابة كانوا يُسارّون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في مجلس عام.
قال ابن كثير رحمه الله:" يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُنَاجِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَي: يُسَارُّهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُ وَتُزَكِّيهِ وَتُؤَهِّلُهُ لِأَنْ يَصْلُحَ لِهَذَا الْمَقَامِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾."
وتقديم الصدقة يكون قبل المناجاة لا بعدها، و:"بين أيديكم" توضّح ذلك، وهي مُعبَّر عنها بفعل ماض، كقول الله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ...-المائدة:من الآية06-
"

كما أجد في قوله تعالى :"ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ" ... خيرا للمُناجين، وهم قد تحدّثهم أنفسهم بالترفع على غيرهم وهم يخصّون الرسول دون غيرهم بالمُسارّة، ففي الصدقة تطهير لأنفسهم...
"فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" ... لا حرج على مَن لم يجد بما يتصدّق، فهي وجبت على مَن يجد ما يتصدّق به، لا على من لا يجد.

"أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ  فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ  وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)"

يُروى أنّ المؤمنين بعد نزول الآية، استكثروا تقديم الصدقة في كل مرة يناجون فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاروا يُحجِمون عن مناجاته، فنزلت وفيها التخفيف عليهم، والراجح أنها ناسخة للتي قبلها، إذ أنّ العمل بالآية السابقة لم يدم طويلا، بل سريعا ما توقف بنزول هذه الآية ...

وإن المؤمنين في هذا المقام لم يتخلّفوا عن أمر الله، ذلك أنهم لم يناجوا رسول الله بعد نزولها دون أن يقدّموا صدقة، بل هم أحجموا عن مناجاته أصلا... فعرف الله تعالى فيهم استكثارهم للصدقة كلما ناجوه ...
"فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ" ... أي لم تناجوه استثقالا للتصدّق في كل مرة، فخفّف عنكم، وأزال عنكم الحَرج ...
وقد يسأل سائل، فما الداعي لهذا التشريع الذي لا يدوم إلا قليلا حتى ينزل ما يُلغيه ... ؟!

أقول... إن الناسخ والمنسوخ في القرآن كثير، وهو حكمة من الله تعالى عظيمة، مقتضاها التدرّج في التشريع للناس تربيةً لأنفسهم مرحليّا، بما يناسب ويلائم كل مرحلة، وبما يلزم لكل مرحلة من الزمن ... كما كان تحريم الخمر عبر مراحل، إذ كانت نهاية كل مرحلة  تُنتج ناسخا ومنسوخا، وكانت كلّ مرحلة تعالج في المجتمع المسلم بالتدرّج حالة من الاستمساك بالعادة ناتجة عن تراكمات التعوّد، تحتاج بالمقابل إلى تراكمات التعوّد على الاستغناء عنها، فما أن يستقيم أمر الناس ويألفوا تلك التربية وذلك العلاج، ويأخذ حظّه من غايته فيهم، حتى ينزل تشريع جديد أقوى يجد له محلا في أنفسهم التي تهيأت بالتشريع السابق الذي أخذ وقته في نفوسهم، وخلّصهم من أسر العادة ... وهكذا حتى يتمّ التشريع النهائي اللازم .

كذلك أرى في هذه الآية، نزلت تنبّه بطريقة ربانية لطيفة على ما قد يراودُ الأنفسَ المؤمنة التي تخصّ الرسول صلى الله عليه وسلم بالنجوى في المجلس بين المؤمنين، حتى لا يترفّع البعض على البعض، وحتى لا يروا في مناجاتهم له خصيصة ليست لغيرهم ... قد أدّت الآية دورَها في نفوسهم، قد نبّهتهم وهي تدعوهم لصدقة يتطهّرون بها من وساوس النفس الضعيفة، حتى على سبيل الترفّع بمناجاة هي  للرسول صلى الله عليه وسلم .

"فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ  وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"

وإذ لم تكن منكم معصية، بل كان منكم إحجام عن المناجاة بالكليّة، لإشفاقكم أن تقدّموا الصدقة في كل مرة، فقد خفّف الله عنكم، أما ما ليس فيه تبديل، فأن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتطيعوا الله ورسوله...
ذُكّروا بواجباتهم لئلا يحسبوا أنهم كلما ثقل عليهم شيء مما كُلِّفُوا به عُفُوا منه...وطاعة الله ورسوله محور من محاور هذه السورة العظيمة كما رأينا لا تنفكّ حاضرة في كلّ قطاع من الآيات...

وينتقل بنا السياق إلى عدد من الآيات فيها عن حقائق فئة من الناس كانت بين المجتمع المسلم، وهي كائنة فيه في كل زمان :

"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا  إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16) لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا  أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ  وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ  أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ  أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ  أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) "

استرعاء انتباه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين الذين تولّوا اليهود المغضوب عليهم، فهم على الحقيقة ليسوا من المسلمين، ولا هم من اليهود، ينقلون إليهم أخبار المسلمين ليتمالؤواعليهم، وقد كان عبد الله بن أُبَي بن سلول رأس النفاق مواليا للمشركين واليهود، وكثيرا ما حالفهم ضدّ المسلمين ... وهم فوق كل هذا يحلفون للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين على الكذب أنهم ما هم بأعدائهم ولا هم بموالي أعدائهم، وعلى أنهم معهم، وأنهم منهم ...
وقد قال سبحانه فيهم، وفي إرادتهم الشرّ بالمؤمنين : " الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ... " –النساء: من الآية141-

وقال سبحانه في حقيقتهم : " مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا " –النساء:143-
وإنّ هؤلاء لمنبثّون في المجتمع المسلم في كلّ زمان، تختلف عناوينهم من زمان إلى زمان، ولكنهم هُم هُم المنافقون، يدّعون موالاة المؤمنين، بينما حقيقتهم التجسّس عليهم، ونقل أخبارهم إلى أعدائهم، والممالأة عليهم...
وفي كل هذا يحسبون أنفسهم الناجين، ويحسبون  أنهم يَخْفَوْن على العليم الخبير سبحانه، المحيط علما بما في السماوات وما في الأرض، سبحانه الذي ما يكون من نجوى عدد قليل أو كثير إلا هو معهم ...

وهم ينطبق عليهم بتمالئهم على المسلمين، وبنقل أخبارهم وخُطَطِهم إلى أعدائهم، وبمحالفتهم على حربهم وإلحاق الأذى بهم حال المتناجين بالشرّ،  وإن هي إلا حياة قصيرة عاجلة فانية، وسرعان ما ينقلبون إلى ربهم أسوء منقلَب : "أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا  إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "
"اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16)"

كانوا يتّقون بأيمانهم الكاذبة غضب المؤمنين وانقلابهم عليهم، فكانوا يلصقون بالإسلام والمسلمين النقائص، والمساوئ، فيصدّقهم مَن يصدّقهم وهم يحلفون على الكذب أنهم مؤمنون، وأنهم يقولون الحق، فيصدّون بذلك عن سبيل الله...استسهلوا الحلف بالله على الكذب، فخافوا الناس وما خافوا الله...!

وبهذا يُجمَع خُلُقُهم هذا إلى خلق الكافرين، الذين وصفهم الله في الآية 05 بـ : "الذين يحادّون الله ورسوله" . فهم معادون ومشاقّون لله ورسوله.وكما جاء في الآية 05 ذكر عاقبتهم الدنيوية بالكبت والإذلال، والأخروية بالعذاب المهين جزاء وِفاقا لتهاونهم بحدود الله وأوامره...  كذلك هنا، من جنس ما قدّموا من استهانة باسم الله، حتى حلفوا به على الكذب، عذاب إهانة وإذلال منتظرهم يوم القيامة : " فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ".

وبهذا نعرف أن من محاور هذه السورة أيضا مصير المحادّين لله ورسوله، إذلال وإهانة في الدنيا، وعذاب مهين في الآخرة. وهذا يقابله حال الجماعة المؤمنة الوقّافة عند حدود الله، بدءا من قصة المجادِلة إلى ما تلاها من تربية للمؤمنين فيما عرفنا من الآيات.
"لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا  أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ  وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ  أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)"

هم أصحاب أموال وأولاد، وكانوا يظنّون أنّهم بأولادهم وأموالهم يَعلون، ويسودون ويسيطرون ... وفي عصرنا منهم كثير ...
يحسبون أنّ مالاً يغدقون به على عبيد المال ليقضوا مآربهم في العالم بحرب الإسلام والمسلمين، والتصدّي لدعوة الله، ولإذلال دعاة الله وعباد الله ... يحسبون أنّ ذلك كافيهم، وأنّه جاعلهم مُلّاك الأرض، الرُتَّع فيها بما يشتهون ... الذين ستدوم لهم، ولن يقهرَهُم عليها قاهر، مادام المال لهم، وما دام العِيال الخَدمَة عِيالُهُم  ...!

وهذه الدول التي تُسمّى "عُظمى" يُعليها اقتصادها المزدهر، وأموالها الوفيرة، وحياة مواطنيها المُترَفة، وتفوّقها العسكريّ والحربيّ، واغترارها بالعلوّ في الأرض يتبعه العلوّ، حتى اعتدت على البلدان المستضعفة، ونهبت ثرواتها، واستولت عليها....!
وصاروا لا يأبهون لشيء، ولا يتحسّبون لشيء مادام طريقهم الذي يسلكون يزيد إلى مالهم مالا، وإلى قوتهم قوة ... سواء عندهم الإفساد والإصلاح، لا فرق...!!  الإهلاك والإحياء، لا فرق... !!

هذه الدول العُظمى التي تحكم متفرّقة، وتحكم مجتمعة، تسطو متفرّقة، وتسطو مجتمعة ... وتكيد للإسلام وللمسلمين، وتعلنها محادّة لله ولرسوله، وتظنّ أن لم يُخلَق مثلها، وأن لن يقدر عليها أحد ...
هذه الصين وقد بلغ اقتصادها المبالغ والمبالغ، حتى صارت أمريكا تحسب لها ألف حساب وحساب ...وتخطب ودَّها الدّولُ القوية والدّولُ الضعيفة، ها هي وهي التي لم تعد ترى قادرا عليها يقدر... في عزّ مجدها وذروة سؤدَدِها، وقمة رفاهها، يتسلّل إلى عُقر دارها مخلوق من صغره لا تراه أعينُهم....!

عدوّ لا ترى له سلاحا، ولا عُدّة، ولا تعرف له وجهة، ولا خطّة...!! 
متسلّلا مما يأكلون، والغالبيّة الساحقة منهم شيوعيون لا يعترفون بالله الخالق... سواء عندهم في المأكل حرام وحلال، أكلوا حيوانا تعافه الفِطرُ السليمة، كما هي عادتهم في أكل أليفِ الحيوانات ومتوحّشها، ومفترسها، كما هي عادتهم في أكل الخنافس والحشرات، والفويسقات، والأفاعي والثعابين وآكلات النّمل، وكلّ ما يدُبّ على الأرض، وكلّ ما تعافُه الفِطر السليمة...! لينتقل إليهم من أحدها فيروسٌ خبيث قاتل،  يعيث في الصين فسادا وإهلاكا، وحصدا للأرواح...ينشر الهلع والخوف، وتهتزّ الصين العملاقة، وتتزعزع ثقتها، وهذا الكائن المجهريّ الذي لا تُرى له بالعين حركة ...ينزل باقتصادها فيُرديه المهالك، ويُنهك قِواها، ويُحيّرها، ويجعلها تضرب أخماسا بأسداس والهلع والفزع عنوانها الأكبر...!

تسخّر كل مقدّراتها، وتكنولوجيّاتها، واختراعاتها ولا تملك سيطرة عليه وهي تُصدَم كل صباح بمئات المرضى، وبعشرات الهَلكى ...!   عُزِلت عن العالم، وأصبح ذكرُ الصين والموت سواء ... !
وانتقل الجنديّ المِجهريّ عبر القارات، رغما عن أنوف الرؤساء والملوك والقادة الحربيّين، والساسة المحنّكين، ودُهاة العالم ، واجتاح الدّول في ظرف زمنيّ قياسي ... !

والدول "العُظمى" اليوم كلها منه في خوف وفزع وهلع ...! والناس في دُورِهم مختبؤون، يتّقون خرجة بين الخرجات يعودون منها مرضى قد يصبحون بعدها في عداد الهلكى... !
ما أغنت عنهم أموالهم من قدرة الله المطلقة وعظمته وقوّته شيئا :" لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا"... والأرض كلّها تصرخ بكلّ لغات العالم  : كورونا... كورونا ...!

أين الاكتشافات والاختراعات، والاعتداد بالعلم حَدَّ تأليهه، وتأليه العقل، والإنسانُ البالغ في العلم مبالغ يأكل ما لا يُؤكَل، وما حرّمه الله على عبده تكريما وتقديرا، وارتقاء بنفسه عن الخبائث والمُهلكات ... وهو الذي يقارع سنن الله في خلقِه، فيخاصِم خالقَه... فيكفر به ... ومن الكفر يُساق إلى كل خبيث، وإلى كلّ خروج عن الفِطرة السليمة... إلى الحيوانيّة والبهيميّة .... !

أين المسلمون المنبهرون بأهل العلم والعقول المخترعة، المكتشفة، المالكة لناصية التكنولوجيا والتقدّم، لينظروا في مسلم ذي عقل وفِكر ونظر، وهو الذي يعتزّ أكثر ما يعتزّ بدينه، وبالنور الذي فيه، وبالنور الذي انبثق منه في نفسه، وهو الذي غاية أمانيه أن يُبلِّغَه الناسَ ليستنيروا ... ثم هو الذي يسكن بيتا بسيطا، ربّما هو من بيوت الحَضَر أو من بيوت المَدَر ... هو الذي لا ينكر علوم الدنيا، بل يتعلّمها، ولكنّه لا يجعل لفَلَتَات اغتراره بها سطوة على حياته... يأكل حلالا، ويشرب زُلالا...ويلتزم حدود الله، ويستهدي بهُداه، فلا يرى رأس مال الإنسانيّة إلا ديناً وشرعاً سماوياً مبيناً، وحياتا فاضلة تحقّق إنسانية الإنسان، وتَميز بين الإنسانية والبهيمية بتكريم الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه، فهي التي تحفظه .... أين هو من عالم يملك ناصية علم بين العلوم، ثمّ هو آكل للحشرات وللهوامّ، ولكل ما لا يُؤكَل من اللحوم...!

أيّهما أكرم ... ؟؟ أيّهما أعلى ؟؟ أيهما أرقى ؟؟ أيهما "أنسَنُ" ؟؟

إنّ صاحب العلم المفتقر للدين قد يُعطي الأرض والإنسان كل شيء، ولكنه لن يعطيه "الإنسانية" ...! وإنّ العلم لمّا افتقر لأهله المزوَّدين بالعُدّة الإيمانية وهم يسبرون غورَ الكون أصبح جفافا إنسانيّا وقحطا روحيّا في زيّ تقدّم مسعور مجنون ...!
إنّ الأجدر بالمسلمين أن يبلّغوا نور الله للبشرية عمياء الروح، وأن يسقوا بماء الله القلوب الميتة، لا أن يبيتوا ويظلوا على الاعتقاد بأنّ الحلّ في اقتفاء لهثهم الذي يلهثون ... ! فإنهم بذلك لن يقدّموا للأرض حاجَتَها الكبرى...!
الذين يُحادّون الله ورسوله، الذين يهوّنون أمر الله وحدوده، الذين يحلفون باسمه على الكذب، ويصدّون عن سبيله .... أذلاء في الدنيا وفي الآخرة :أولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "
« آخر تحرير: 2020-03-11, 11:06:12 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

" يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ  وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ  أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)"

 وعلى ما ماتوا يُبعَثون ... عياذا بالله، ماتوا على مشاقّة لله ورسوله، وعلى مُحادّة لله ورسوله، ماتوا على الحِلف بالله على الكذب، ماتوا على النفاق، على إظهار الولاء للمؤمنين، وإبطان الكُره والحقد والمكر بهم...
يبعثهم الله تعالى جميعا، فيحلفون كما كانوا يحلفون للمؤمنين على الكذب أنهم مؤمنون، وأنهم لا يكيدون للإسلام : "فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا "-النساء:62-
كذلك يحلفون يوم البعث ...!!  ويحسبون أنهم على شيء ... !!
يكذبون على علام الغيوب ؟! على الخبير البصير السميع، الذي هو على كل شيء شهيد ؟؟! يكذبون على مَن أحصى كل أقوالهم وأفعالهم، وهم قد نسوها ؟!
"أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ" ... جملة شريفة فيها كل المؤكّدات على أنهم المستحقون لصفة الكذب، حتى لكأنهم هُم الكاذبون حقا، لا غيرُهم!

ولقد عرفنا في سورة المعارج كيف أنّ الله تعالى أنزل من هُداه ما يرقّي الإنسان وهو الذي خُلق هلوعا إذا مسّه الشرّ جزوعا وإذا مسّه الخير منوعا، يرقّيه لتعرج روحُه يوم القيامة معارج السعادة والفوز والنعيم... أمّا مَن أعرض عن الهُدى، وأبى إلا أن يبقى على حاله فلا يرتقي بنفسه، فهو يوم القيامة مبعوث في فزع وهلع وذلّة وهوان : "فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ(43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ  ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ(44)"-المعارج-

وينتهي خبر تلك الفئة الموالية للكافرين، فئة المنافقين...
فهم الذين يتولّون أعداء الله، وهم الذين يحلفون على الكذب، وهم الذين يصدّون عن سبيل الله ... ثم وكأنّ سائلا يسأل: فما سبب كلّ هذه العداوة منهم لله ولرسوله ؟

لتحمل لنا الآية الموالية الجواب:
"اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ  أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ  أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) "
استحوذ عليهم الشيطان، استولى عليهم بالكليّة، فلم يبقَ منهم شيء ليس له، عملهم كلّه له، فهم جُنوده المخلصون ... هم أولياؤه ... ولما استحوذ عليهم أنساهم ذكرَ الله، وأنساهم معرفة قدره سبحانه، حُرِموا ذكرَه، وحُرِموا النظر في أمره، حُرِموا الطاعة ... فهم ليسوا إلا حزب الشيطان...

"أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ"
جملة شريفة فيها أيضا كلّ المؤكّدات على أنهم هُم الخاسرون، ومَن غيرُهم خاسر، وهُم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسَهم ... فاتخذوا عدوّ الله وليا "...أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا"-الكهف: من الآية50-
ولقد علّمنا الله تعالى وأنبأنا بعداوته لنا، وبأنّ حزبه هم الخاسرون : "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا  إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ" –فاطر: الآية06-

وبعد انتهاء قطاع من الآيات جاء فيه عن المنافقين وعن شدّة بغضهم للمؤمنين، ومحاولاتهم المستميتة في توقّي المؤمنين، بإظهار موالاتهم حتى بالحلف على الكذب، بينما هم الأعداء الألدّاء الموالون للكافرين ... تُعقَب أخبارهم بهذا التقرير الإلهي الشديد :
"إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) "

ومرة أخرى عن المحادّين، من بعد ما عرفنا في البدايات قوله سبحانه في الكافرين : "إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ  وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (5)"
الأولى كانت عن الكافرين، وهذه من بعد فضح المنافقين، ليجتمعوا محادّين لله ورسوله ...
ولنتأمّل... في الأولى جاء بيان أن عقابهم الدنيويّ الكبت والإذلال، وأن عقابهم الأخرويّ عذاب مهين، وفي هذه :" أُولَٰئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ"

ولقد اجتمعت في السورة صفات الإذلال والإهانة لمحادّي الله ورسوله: "كبتوا"  "عذاب مهين"  "في الأذلّين "... ذلة ومهانة تلحقهم في الدنيا، وعذاب مهين ينتظرهم في الآخرة ...
هذا حزب الشيطان المحادّ لله ورسوله، أما  حزب الله، الوقّاف عند حدود الله تعالى فإنه :

"كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي  إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ"
والسورة عامرة بقرن الرسول بالله تعالى في شأن الطاعة ووجوبها، وبقرنه بالله تعالى في شأن المعصية وعاقبتها :
"ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بالله ورَسُولِه" ... "الذِينَ يُحُادُّونَ اللهَ وَرَسُولَه" ... "وَأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَه " "إنَّ الذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَه"...

وقد سبق وأن سمّى سبحانه المحادّين لله ورسوله، الموالين بعضهم لبعض كفارا ومنافقين لإلحاق الأذى بالإسلام والمسلمين بحزب الشيطان ... ليصف الله حزبَه بقوله سبحانه : "أَنَا وَرُسُلِي"...
فأيّ شرف وأيّ فوز للإنسان أن يكون هذا حزبه : " وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ "-المائدة: 56-

وإنها : "كتَبَ اللهُ"... أي قضى وحكم أن تكون الغلبة له سبحانه ولرُسُله، وكذلك كان حال كلّ رُسُله، وكذلك كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نصره الله، ونصر المؤمنين، وفتح على يده وعلى يد الفاتحين من بعده بلادَ الله للإسلام، وازدهرت حضارة المسلمين، وسادوا الأرض دهرا من الزمن ...

وإنه الوعد المحقّق في الوقت الذي يعلمه الله، وإنه النصر الذي سيكون حليف المؤمنين بوعد منه سبحانه : "إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ" . –غافر:51-  .   "لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ(172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ(173)" -الصافات-
وتنتهي سورة المجادلة العظيمة بهذه الآية العظيمة الجامعة لحال المؤمنين حقا:

" لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ  أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ  وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا  رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ  أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ  أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)"

إنه موقف المؤمنين من المحادّين لله ورسوله ... فلا أحد يؤمن بالله واليوم الآخر حقا يُوادّ أحدَهم ولو كان أقرب أقربيه، وإن كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم  ...
لا يوادُّ المؤمنُ كارهاً لله ورسوله، لا يوادّ ولا يحبّ ولا يقرّب ولا يصادق مَن كان عدوا لله ورسوله، مَن كرِه شرعَ الله، وأراد شرعَ هواه ... مَن رأى في الإسلام وفي الشريعة الإسلامية رجعيّة وتخلّفا ...
مَن رأى في اللباس الشرعيّ الساتر للمرأة المحافظ عليها اضطهادا لها وكبتا لحريّتها ... مَن سمّى الملتزم بشرع الله، الملتزم بحدوده متشدّدا أو إرهابيّا، أو متزمّتا ...!

لا يوادُّ المؤمن مناديا بالحريّات الفرديّة، المؤيّد لحقوق المثليّين، المشجّع على الزّنا على أنّه الحريّة والحاجة البيولوجية الطبيعية، المُقدِّم لمن تتعرّى لتقول بالحريّة، مدّعيا أنه يحترم الناس على اختلاف مشاربهم وأفكارهم واختياراتهم، زاعما أن من اختارت التعرّي فهي حرة، ومن اختارت التستّر فهي حرّة، وليس ذلك منه إلا الادّعاء والكذب والزّور، بينما حقيقته أنه المنافح عن العُري والمتعرّيات، المحتقِر للتستّر وللمتستّرات ...!

لا يوادُّ المؤمن ناشرا للفاحشة، مشجّعا على التفسّخ الأخلاقيّ باسم الحريّات ومواكبة التطوّرات، وباسم العقل ووضعيّ النظريّات...!
لا يوادُّ المؤمن مُشرّعا في شرع الله، فهو القائل في أحكامه بقوله ورأيه، وبما يناسب هواه، فقائل بأن الصيام ليس فرضا مفروضا، وقائل آخر بأنّه لا تحريم للخمر في الإسلام، وقائل بأنّ العلاقات المحرّمة مادامت بالتراضي فليست بالتي تُمنَع، وقائل في تفسير القرآن بالغرائب والعجائب من بنات الهوى لايّا لعنق الآيات، مفسّرا بما يحلو له وبما يظهر له، فلا معرفة باللغة تؤهّله، ولا تقديس للقرآن ولا خوف يلازمه من أن يُتناوَل بالهوى ... فهو المُشهَر له على أنّه المجدّد، الناظر في الشرع وفي النصّ الشرعيّ بمقتضيات العصر ...! وهو المشهَر له على أنّه الناظر بعقله، وكأنّ القرآن الذي جاء حاثّاً للعقل أن يعمل، لم يعرف نظر العقل إلا منه ...!

لا يوادّ المؤمنُ مترصّدا لمَن يذكِّر بحرام أو بحلال، آمرا بمعروف أو ناهيا عن منكر، بـ قال الله وقال الرّسول،  يسارع لإسكاته بدعوى أنه ليس الربَّ الذي يحكم على نوايا العباد، وتهمة التشدد والتزمّت لم تعد تطال المُكفّرين المتشددين على الحقيقة، بل أصبحت تُلصق بكل مَن كان في كلامه أقلّ قليل من استشهاد بآية أو بحديث، أو حتى بمَن يبسمل قبل حديثه، أو يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم...!

"أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ  وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا  رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ  أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ  أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "

**هؤلاء المحترسون، الذين لا يجدون من أنفسهم مُوادّة لكل من حادّ الله ورسوله بشكل من الأشكال، كتب الله في قلوبهم الإيمان، كتبه كتابة، فهو الذي أصبح مخالطا للدّم وللنَّفَس فيهم، لكلّ ذرّة فيهم...
حُفِر الإيمان في قلوبهم، فهو عنوانها، وهو ميزتُها... ترسّخ في قلبوهم أعظم رسوخ، فهو الذي لا يتزعزع، ولا يهزّه هازّ ... لأنّهم لم يعودوا يرون من قلوبهم حُبّا وموادّة إلا لمَن أحبّ الله ورسوله، ولم يعد في قلوبهم من شيء ولو قليل يجعلونه للذين يحادّون الله ورسوله ...!

الإيمان هو الرابط، الإيمان هو الوشيجة... الإيمان هو الرَّحِم الجامعة، فلا مكان في القلب لأب أو لأخ أو لابن أو لزوج أو لعشيرة وهم من المحادّين لله ولرسوله ...

**ثم سبحانه : "وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ " ... أيّدهم بروح منه، وهم البشر الأحياء بروح مبثوثة فيهم حققت لهم حركة الحياة...تلك روح تُبثّ ليحيا الناس ويتحرّكوا، وهذه روح لحياة القلب، روحٌ ليست لكلّ حيّ...!

لا يحيا حيٌّ إلا بروح، ولكنه قد يكون حيا بحركة الحياة، ميتا من حركة في قلبه ... لا يؤمن بإله مشرّع، ولا يؤمن بنبيّ هاد مبلّغ، ولا يؤمن بحياة هي للابتلاء، ثم بحياة أخرى يُبعث فيها للجزاء ... !
وقد يكون مؤمنا، ولكنّه المؤمن المهوّن من أمر الله، المستهتر بحدوده، سواءٌ عنده أن يحارب الرجل شرعَ الله أو أن يلتزمه، لا يهمّه ذلك فيمَن يعرف وهو صاحب مال أو صاحب سلطان، بل أكثر ما يهمّه أن يكون واحدا من خدمته المطيعين... !
سواءٌ عنده أن يحرص ابنُه على دينه أو أن يُعرض عن أمر من أوامر الله، ويقف مناديا بالتحرر منه... فهو ابنُه ولا يملك أن يجعل له في قلبه مكانة أدنى من مكانة الله ورسوله ...!

سواءٌ عندها أكفّر زوجها بعد أن ظاهر منها أم لم يكفّر، مثله هي لا تبالي ! هي التي تُؤْثِر البقاء معه على أن ترضي ربّها بالتثبّت مما يجعلها بريئة من الإثم والذنب ... ! 
كلّ هؤلاء يتحركون... نعم... يحيَون... نعم ... ولكنّ روحا من الله ليست معهم !!  تلك روح تجعل حبّ الله ورسوله معنى للحياة في نفوسهم ... ولا حياة لهم من غير حبّ أكبر لا يساويه في قلوبهم حبُّ أحد من الناس، لا حياة لهم  من غير هذا ... فهو روح من ربهم يحيون به في الأرض، وبغيره لا يعرفون للحياة معنى ....بل من غيره هم لا يحيون ...!

كتب في قلبوهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، ذلك جزاؤهم الدنيويّ، وقد عرفنا من قبل جزاء المحادّين لله ورسوله في الدنيا ...إذلال وكبت وإهانة...

** ثم : "وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ"
وهذا جزاؤهم الأخرويّ ... جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، مكلّلة برضى من الله سبحانه ورضوان، ورضى منهم عن الله سبحانه وقد أرضاهم ...! ويْحَ الإنسان ما أكفره !!! كم أستثقل معنى أن يرضى عبدٌ عن ربه !! ولكنّ الله العظيم الشكور الحليم لا يستثقلها ...!   وقد عرفنا من قبل ما ينتظر المحاديّن لله ورسوله من عذاب مهين.

"أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ  أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"

كما عرفنا قبلهم حزب الشيطان ممثلا في المحادّين لله ولرسوله من كافرين ومنافقين، هذا حزب الله ممثلا في الذين لا يوادّون المحادّين لله ولرسوله، ممثلا في أعداء أعداء الله، في المؤمنين الذين لا تُغمّى عليهم الرؤية، لأنّ حب الله ورسوله هو الروح التي يحيون بها، والنور الذي يَميزون به بين مَن يستحقّ الموادّة والمحبّة، وبين من لا يستحقها ...!هو المصفاة التي تمرُّ عبرَها كلُّ علاقاتهم وكلُّ اعتباراتهم، فمَن كان من الملتزمين لحدود الله كان منهم، ومَن كان مُحادّا معاديا كان العدوّ ...! 
هم المفلحون لا غيرهم ...
« آخر تحرير: 2020-03-11, 11:44:38 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وهكذا تنتهي سورة المجادلة ... هذه السورة العظيمة !

كانت قصة خولة التي اعتنى الله بأمرها من فرط حرصها على علاقتها بربّها، وعلى إيمانها...  خولة القوّامة عند حدّ الله تخشى أن تتعدّاه، لا ترتاح حتى يحكم الله ورسوله فيها بحكمه...!

قضيّة عظيمة تعالجها سورة المجادلة...قضية المحادّة والموادّة ... محادّة الله ورسوله، وجزاء أهلها في الدنيا والآخرة، وحبّ الله ورسوله وجزاء أهله في الدنيا والآخرة .... وما على الجماعة المؤمنة حيالَ المحادّين... قضية الانتماء للجماعة المسلمة، ومعالم هذا الانتماء، وصفاته... قضية حاسمة ليس فيها من نظر ... !

بخولة كانت التقدِمة لهذه القضية الحيوية الأساسية للجماعة المسلمة...
أجل... خولة المؤمنة البسيطة التي استحقّت أن يرفع الله مقامَها، حتى أنزل في حقّها قرآنا يُتلى إلى يوم الدين، وفيه إجابة الله سبحانه لشكواها، فيه نزل حكمٌ من الأحكام المحافظة على الأسرة المسلمة لبنة المجتمع المسلم ...
خولة التي لم تنصع لأمر زوجها، وخلّفته وراءها وعجلتْ إلى ربها ليرضى... خولة التي لم تنصع لزوجها وهو يظاهر منها ويريد أن يعود دون أن يبحث عن حكم ما أتى ...! هذا الذي فعلته خولة، هو ما جاء في الآية الأخيرة من السورة (كلَّا والَّذي نفسُ خُويلةَ بيدِه لا تخلُصُ إليَّ وقد قُلْتَ ما قُلْتَ حتَّى يحكُمَ اللهُ ورسولُه فينا بحُكمِه).

كان حبّها لله ورسوله أعلى من كل اعتبار ... حرصت، وعجلت لتعرف الحكم الفصل، وخافت على علاقتها بربها، خافت أن تتعدّى حدّا من حدود الله، كلّ هذا منها وما من حكم قد نزل يجعلها بهذا الحرص الكبير !!
خولة لم ترَ الراحة إلا وهي تفرغ عند رسول الله جعبة خوفها على حبّها الذي لا يساويه في قلبها حبٌّ، وهي بين يديه تشكو إلى الله ...!
ولهذا نجدنا نُساق من قصّتها إلى حال المحادّين لله ورسوله، وعاقبتهم الدنيوية والأخروية، ولكنّ الذي لا يُحسن التأمّل والنظر سيجد أنّه انتقال من موضوع إلى موضوع مغاير تماما ... لأنّنا تعوّدنا على القراءة الحرفيّة السطحية من جهة، ولأننا من جهة أخرى  لا نعي حقّ الوعي دور الأسرة المسلمة الموصولة بربها في بناء مجتمع مسلم موصول بربّه ...! ولو أحسنّا النظر لعرفنا أنّ كلّ ما نعانيه، الأسرة بُؤرتُه الموبوءة ...!

من خولة القائمة عند حدّ الله، التي كتب الله في قلبها الإيمان وأيّدها بروح منه، إلى المحادّين لله ورسوله، المعادين لله ورسوله، إلى بيان إحاطة علم الله تعالى بكل ما هو كائن في السماوات والأرض، وبمعيّته لكل جماعة متناجية قلّ عددها أو كثر، والسورة تؤكّد من بدايتها على أنه سبحانه السميع الذي يسع سمعه كل الأصوات، فعلم بحديث خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة لا تحيط به وهي في جانب من البيت...!

وفي إطار النجوى تتوالى آيات فيها تفصيل أمرها، في بيان المحرّم منها، والمباح، وفي بيان شروطها، وتطمين المؤمنين إلى معيّة الله لهم، وأنّ المتناجين بشرّ في شأنهم لن يضروهم بشيء إلا بإذن الله ...

وفي الآيات كلّها من بداية السورة إلى هذا الموقع منها تأكيد للمؤمنين على وجوب طاعة الله وطاعة رسوله، في بيان لخصوصية الجماعة المسلمة وأنها أهم سِمَةٍ فيها، وفي بيان مخالفة المحادّين لله ورسوله لها، فهم الذين يعصون أمر الله ويعصون أمر الرسول ... فطاعة الله ورسوله من محاور السورة الرئيسة ...

ثم ينتقل الحديث من مجالس النجوى والمسارّة والأحاديث البينيّة، إلى الأحاديث الجماعية ممَثَّلةً في مجالس العلم والشؤون العامة التي فيها مصالح المسلمين، وبيان آدابها، والتي تقوم أيضا على طاعة لله ورسوله، وكيف يكون الأدب فيها تفسيحا وتقديرا لأهل العلم ...
وفي مقابلة لجزاء المحادّين لله ورسوله العاصين لله ورسوله بالإذلال والكبت، يبيّن الله جزاء المؤمنين المطيعين لله ورسوله بالرفع في المكانة والإعلاء من المقام : "...يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ  وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ"

ثم وفي السياق ذاته، يُخصّ الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر ليس لغيره، ذلك أن الله تعالى يقضي بوجوب أن يقدم من يريد مناجاته صدقة قبل أن يناجيه، تُعقَب بنسخها تخفيفا ورحمة من الله بعباده، ومن بعد أن عملت في نفوس الصحابة عملها من تربية وتطهير ...
وهنا يجتمع في السورة تخفيفان، ليكون التخفيف من خصائصها أيضا، ذلك أن حكم الظهار كان تخفيفا على المؤمنين بأداء الواقع فيها لكفّارة، تكفير لا يجعله طلاقا بين الزوجين كما كان في الجاهلية، كما كان إعفاء المؤمنين من صدقة النجوى التخفيف الثاني ...
 وفي ترابط عجيب، نجدنا بين يَدي آيات فيها عن فئة المنافقين، الموالين لأعداء المؤمنين، وعن مآلهم يوم القيامة، وكيف أنهم من تهوينهم لأمر الله تعالى يتخذون أَيْمَانَهُم جُنّة يتّقون بها غضب المؤمنين وهم يصدّون عن سبيل الله ويحلفون على الكذب أنهم من المؤمنين وأنهم معهم، وكيف أنهم يُبعثون وهم يحلفون على الكذب، لنخلُص إلى أنهم حزب الشيطان الذي يقوم على محادّة الله ورسوله ...

وتُحَفُّ السورة بالبُشريات أيضا، كما حفّتها إحاطة الله علما بكل شيء، وشهادةً على كل شيء، وكما حفّها التخفيف، وكما ظلّلتها طاعة الله ورسوله سمةً أساسية للانتماء للجماعة المسلمة ...وأعلى بُشرَياتها ما جاء في قوله سبحانه : " كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي  إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ "... كما كان كَبْت وإذلال المحادّين لله ورسوله في الدنيا بشرى، وكما كان رفع الله للذين آمنوا، وللذين أوتوا العلم درجات بشرى ... وكما كانت أولى البشريات ما نزل بشأن خولة تطمينا لقلبها، وحكما فصلا يريحها، وحكما يقضي بأن الظهار في الإسلام لم يعد طلاقا، بل هو معصية توجب كفارة يَحِلّ بعدها الاتّصال الزوجيّ ...

ثم تنتهي السورة بما بدأت به ... بدأت بخولة بنت ثعلبة، "المرأة"..النواة الأساسية في الأسرة، والتي هي بدورها اللبنة الأساسية للمجتمع المسلم، خولة التي ليس في قلبها من موادّة إلا لمَن كان في أمر الله وأمر رسوله، التي اتخذت أمرَ زوجها ظهريا، وعجلت تستسقي أمر ربّها وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم :"لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ..."

أولئك حزب الله .... ألا إنّ حزب الله هم المفلحون... خولة ومثيلاتها، وأمثالها حزب الله، أسرة خولة، ومثيلاتها حزب الله، مجتمعٌ هذه أُسَرُهُ حزبُ الله ... وهم المفلحون لا غيرُهُم ... ذاك هو المجتمع المفلح ... تلك هي الأمة المُفلحة ....
وهذه سورة المجادلة العظيمة...!!

لله درُّكِ أيتها المحبة لله ورسوله...! لله درُّكِ أيتها المحادّة لمَن حادّ الله ورسوله ...لله دركِ يا مَن كتب الله  في قلبكِ الإيمان ... يا مَن أيّدكِ بروح منه... لله دَرُّ جماعة مؤمنة هذه علامة انتماء أحدهم إليها...! ولله دَرُّ مؤمن هذه علامة انتمائه الحقّ للجماعة المؤمنة... !وهذه هي حركته على الأرض، محادّة لمَن حادّ الله ورسوله ...!

ولقد كانت خولة مثالا لهم وقدوة، ولقد عرف المؤمنون كيف يقدّرون قُدواتهم، حتى كان عمر رضي الله عنه من بين هؤلاء الفاهمين العارفين، فيقف لها إذ استوقفتْه طويلا، ويسمع منها وعظا وإرشادا وهي تقول:" يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك يا عمر، ثم قيل لك يا أمير المؤمنين، فاتَّقِ الله يا عمر، فإنّ مَن أيقن بالموت خاف الفَوْت، ومن أيقن الحساب خاف العذاب" فقيل له يا أمير المؤمنين، أتقف هذا الوقوف لتلك المرأة العجوز؟ فقال : " والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة. أتدرون مَن هذه؟ إنها خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر "

ويا خولة يا مدرسة الانتماء .......!
« آخر تحرير: 2020-07-08, 17:35:02 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب