وهكذا سَوقا من الآية إلى الآية ...
بدأ الحديث عن إحاطة علم الله تعالى بكل نجوى كائنة بين الناس، قلّ عدد المتناجين أو كثر، ثمّ عن النجوى التي فيها كره للمؤمنين، وكيدٌ لهم، ثم نهيٌ للمؤمنين خاصّة عن النجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وأن تكون نجواهم بالبر والتقوى، ومنها إلى المجالس الإيمانية وآدابها، وما تتّسم به من طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتراحم المؤمنين فيما بينهم، وتقدير وتبجيل لأولي العلم ...
وتتسلسل السورة، ويسوق بعضها إلى بعض في سلاسة، وفي انسياب، فإذا مدار آياتها حتى الآن عما يكون بين الناس من أحاديث، فمِن الأحاديث البينيّة السريّة، وبيان المحرّم منها، والمباح، وآدابها وشروطها، إلى الأحاديث الجماعية في المجالس الجماعية العلنيّة التي فيها مصالح ومنافع للمؤمنين، وعلى رأسها مجالس العلم... والآيتان المواليتان تخصّان الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجالس، فيهما النداء الإيمانيّ الثالث في السورة على التوالي...:
"
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)"
روي عن كثيرين أنها نزلت وقد أكثر المؤمنون بمسائلهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقّوا عليه، فأنزل الله هذه الآية للتخفيف عنه...
وأجدني أقربَ لقول قليل منهم رأوا أنها نزلت في عدد من الصحابة كانوا يُسارّون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في مجلس عام.
قال ابن كثير رحمه الله:"
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُنَاجِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَي: يُسَارُّهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُ وَتُزَكِّيهِ وَتُؤَهِّلُهُ لِأَنْ يَصْلُحَ لِهَذَا الْمَقَامِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾."
وتقديم الصدقة يكون قبل المناجاة لا بعدها، و:"بين أيديكم" توضّح ذلك، وهي مُعبَّر عنها بفعل ماض، كقول الله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ...-المائدة:من الآية06-"
كما أجد في قوله تعالى :"
ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ" ... خيرا للمُناجين، وهم قد تحدّثهم أنفسهم بالترفع على غيرهم وهم يخصّون الرسول دون غيرهم بالمُسارّة، ففي الصدقة تطهير لأنفسهم...
"
فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" ... لا حرج على مَن لم يجد بما يتصدّق، فهي وجبت على مَن يجد ما يتصدّق به، لا على من لا يجد.
"
أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)"
يُروى أنّ المؤمنين بعد نزول الآية، استكثروا تقديم الصدقة في كل مرة يناجون فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاروا يُحجِمون عن مناجاته، فنزلت وفيها التخفيف عليهم، والراجح أنها ناسخة للتي قبلها، إذ أنّ العمل بالآية السابقة لم يدم طويلا، بل سريعا ما توقف بنزول هذه الآية ...
وإن المؤمنين في هذا المقام لم يتخلّفوا عن أمر الله، ذلك أنهم لم يناجوا رسول الله بعد نزولها دون أن يقدّموا صدقة، بل هم أحجموا عن مناجاته أصلا... فعرف الله تعالى فيهم استكثارهم للصدقة كلما ناجوه ...
"
فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ" ... أي لم تناجوه استثقالا للتصدّق في كل مرة، فخفّف عنكم، وأزال عنكم الحَرج ...
وقد يسأل سائل، فما الداعي لهذا التشريع الذي لا يدوم إلا قليلا حتى ينزل ما يُلغيه ... ؟!
أقول... إن الناسخ والمنسوخ في القرآن كثير، وهو حكمة من الله تعالى عظيمة، مقتضاها التدرّج في التشريع للناس تربيةً لأنفسهم مرحليّا، بما يناسب ويلائم كل مرحلة، وبما يلزم لكل مرحلة من الزمن ... كما كان تحريم الخمر عبر مراحل، إذ كانت نهاية كل مرحلة تُنتج ناسخا ومنسوخا، وكانت كلّ مرحلة تعالج في المجتمع المسلم بالتدرّج حالة من الاستمساك بالعادة ناتجة عن تراكمات التعوّد، تحتاج بالمقابل إلى تراكمات التعوّد على الاستغناء عنها، فما أن يستقيم أمر الناس ويألفوا تلك التربية وذلك العلاج، ويأخذ حظّه من غايته فيهم، حتى ينزل تشريع جديد أقوى يجد له محلا في أنفسهم التي تهيأت بالتشريع السابق الذي أخذ وقته في نفوسهم، وخلّصهم من أسر العادة ... وهكذا حتى يتمّ التشريع النهائي اللازم .
كذلك أرى في هذه الآية، نزلت تنبّه بطريقة ربانية لطيفة على ما قد يراودُ الأنفسَ المؤمنة التي تخصّ الرسول صلى الله عليه وسلم بالنجوى في المجلس بين المؤمنين، حتى لا يترفّع البعض على البعض، وحتى لا يروا في مناجاتهم له خصيصة ليست لغيرهم ... قد أدّت الآية دورَها في نفوسهم، قد نبّهتهم وهي تدعوهم لصدقة يتطهّرون بها من وساوس النفس الضعيفة، حتى على سبيل الترفّع بمناجاة هي للرسول صلى الله عليه وسلم .
"
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"
وإذ لم تكن منكم معصية، بل كان منكم إحجام عن المناجاة بالكليّة، لإشفاقكم أن تقدّموا الصدقة في كل مرة، فقد خفّف الله عنكم، أما ما ليس فيه تبديل، فأن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتطيعوا الله ورسوله...
ذُكّروا بواجباتهم لئلا يحسبوا أنهم كلما ثقل عليهم شيء مما كُلِّفُوا به عُفُوا منه...وطاعة الله ورسوله محور من محاور هذه السورة العظيمة كما رأينا لا تنفكّ حاضرة في كلّ قطاع من الآيات...
وينتقل بنا السياق إلى عدد من الآيات فيها عن حقائق فئة من الناس كانت بين المجتمع المسلم، وهي كائنة فيه في كل زمان :
"
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16) لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) "
استرعاء انتباه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين الذين تولّوا اليهود المغضوب عليهم، فهم على الحقيقة ليسوا من المسلمين، ولا هم من اليهود، ينقلون إليهم أخبار المسلمين ليتمالؤواعليهم، وقد كان عبد الله بن أُبَي بن سلول رأس النفاق مواليا للمشركين واليهود، وكثيرا ما حالفهم ضدّ المسلمين ... وهم فوق كل هذا يحلفون للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين على الكذب أنهم ما هم بأعدائهم ولا هم بموالي أعدائهم، وعلى أنهم معهم، وأنهم منهم ...
وقد قال سبحانه فيهم، وفي إرادتهم الشرّ بالمؤمنين : "
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ... " –النساء: من الآية141-
وقال سبحانه في حقيقتهم : "
مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا " –النساء:143-
وإنّ هؤلاء لمنبثّون في المجتمع المسلم في كلّ زمان، تختلف عناوينهم من زمان إلى زمان، ولكنهم هُم هُم المنافقون، يدّعون موالاة المؤمنين، بينما حقيقتهم التجسّس عليهم، ونقل أخبارهم إلى أعدائهم، والممالأة عليهم...
وفي كل هذا يحسبون أنفسهم الناجين، ويحسبون أنهم يَخْفَوْن على العليم الخبير سبحانه، المحيط علما بما في السماوات وما في الأرض، سبحانه الذي ما يكون من نجوى عدد قليل أو كثير إلا هو معهم ...
وهم ينطبق عليهم بتمالئهم على المسلمين، وبنقل أخبارهم وخُطَطِهم إلى أعدائهم، وبمحالفتهم على حربهم وإلحاق الأذى بهم حال المتناجين بالشرّ، وإن هي إلا حياة قصيرة عاجلة فانية، وسرعان ما ينقلبون إلى ربهم أسوء منقلَب : "
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "
"
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16)"
كانوا يتّقون بأيمانهم الكاذبة غضب المؤمنين وانقلابهم عليهم، فكانوا يلصقون بالإسلام والمسلمين النقائص، والمساوئ، فيصدّقهم مَن يصدّقهم وهم يحلفون على الكذب أنهم مؤمنون، وأنهم يقولون الحق، فيصدّون بذلك عن سبيل الله...استسهلوا الحلف بالله على الكذب، فخافوا الناس وما خافوا الله...!
وبهذا يُجمَع خُلُقُهم هذا إلى خلق الكافرين، الذين وصفهم الله في الآية 05 بـ : "
الذين يحادّون الله ورسوله" . فهم معادون ومشاقّون لله ورسوله.وكما جاء في الآية 05 ذكر عاقبتهم الدنيوية بالكبت والإذلال، والأخروية بالعذاب المهين جزاء وِفاقا لتهاونهم بحدود الله وأوامره... كذلك هنا، من جنس ما قدّموا من استهانة باسم الله، حتى حلفوا به على الكذب، عذاب إهانة وإذلال منتظرهم يوم القيامة : "
فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ".
وبهذا نعرف أن من محاور هذه السورة أيضا مصير المحادّين لله ورسوله، إذلال وإهانة في الدنيا، وعذاب مهين في الآخرة. وهذا يقابله حال الجماعة المؤمنة الوقّافة عند حدود الله، بدءا من قصة المجادِلة إلى ما تلاها من تربية للمؤمنين فيما عرفنا من الآيات.
"
لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)"
هم أصحاب أموال وأولاد، وكانوا يظنّون أنّهم بأولادهم وأموالهم يَعلون، ويسودون ويسيطرون ... وفي عصرنا منهم كثير ...
يحسبون أنّ مالاً يغدقون به على عبيد المال ليقضوا مآربهم في العالم بحرب الإسلام والمسلمين، والتصدّي لدعوة الله، ولإذلال دعاة الله وعباد الله ... يحسبون أنّ ذلك كافيهم، وأنّه جاعلهم مُلّاك الأرض، الرُتَّع فيها بما يشتهون ... الذين ستدوم لهم، ولن يقهرَهُم عليها قاهر، مادام المال لهم، وما دام العِيال الخَدمَة عِيالُهُم ...!
وهذه الدول التي تُسمّى "عُظمى" يُعليها اقتصادها المزدهر، وأموالها الوفيرة، وحياة مواطنيها المُترَفة، وتفوّقها العسكريّ والحربيّ، واغترارها بالعلوّ في الأرض يتبعه العلوّ، حتى اعتدت على البلدان المستضعفة، ونهبت ثرواتها، واستولت عليها....!
وصاروا لا يأبهون لشيء، ولا يتحسّبون لشيء مادام طريقهم الذي يسلكون يزيد إلى مالهم مالا، وإلى قوتهم قوة ... سواء عندهم الإفساد والإصلاح، لا فرق...!! الإهلاك والإحياء، لا فرق... !!
هذه الدول العُظمى التي تحكم متفرّقة، وتحكم مجتمعة، تسطو متفرّقة، وتسطو مجتمعة ... وتكيد للإسلام وللمسلمين، وتعلنها محادّة لله ولرسوله، وتظنّ أن لم يُخلَق مثلها، وأن لن يقدر عليها أحد ...
هذه الصين وقد بلغ اقتصادها المبالغ والمبالغ، حتى صارت أمريكا تحسب لها ألف حساب وحساب ...وتخطب ودَّها الدّولُ القوية والدّولُ الضعيفة، ها هي وهي التي لم تعد ترى قادرا عليها يقدر... في عزّ مجدها وذروة سؤدَدِها، وقمة رفاهها، يتسلّل إلى عُقر دارها مخلوق من صغره لا تراه أعينُهم....!
عدوّ لا ترى له سلاحا، ولا عُدّة، ولا تعرف له وجهة، ولا خطّة...!!
متسلّلا مما يأكلون، والغالبيّة الساحقة منهم شيوعيون لا يعترفون بالله الخالق... سواء عندهم في المأكل حرام وحلال، أكلوا حيوانا تعافه الفِطرُ السليمة، كما هي عادتهم في أكل أليفِ الحيوانات ومتوحّشها، ومفترسها، كما هي عادتهم في أكل الخنافس والحشرات، والفويسقات، والأفاعي والثعابين وآكلات النّمل، وكلّ ما يدُبّ على الأرض، وكلّ ما تعافُه الفِطر السليمة...! لينتقل إليهم من أحدها فيروسٌ خبيث قاتل، يعيث في الصين فسادا وإهلاكا، وحصدا للأرواح...ينشر الهلع والخوف، وتهتزّ الصين العملاقة، وتتزعزع ثقتها، وهذا الكائن المجهريّ الذي لا تُرى له بالعين حركة ...ينزل باقتصادها فيُرديه المهالك، ويُنهك قِواها، ويُحيّرها، ويجعلها تضرب أخماسا بأسداس والهلع والفزع عنوانها الأكبر...!
تسخّر كل مقدّراتها، وتكنولوجيّاتها، واختراعاتها ولا تملك سيطرة عليه وهي تُصدَم كل صباح بمئات المرضى، وبعشرات الهَلكى ...! عُزِلت عن العالم، وأصبح ذكرُ الصين والموت سواء ... !
وانتقل الجنديّ المِجهريّ عبر القارات، رغما عن أنوف الرؤساء والملوك والقادة الحربيّين، والساسة المحنّكين، ودُهاة العالم ، واجتاح الدّول في ظرف زمنيّ قياسي ... !
والدول "العُظمى" اليوم كلها منه في خوف وفزع وهلع ...! والناس في دُورِهم مختبؤون، يتّقون خرجة بين الخرجات يعودون منها مرضى قد يصبحون بعدها في عداد الهلكى... !
ما أغنت عنهم أموالهم من قدرة الله المطلقة وعظمته وقوّته شيئا :" لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا"... والأرض كلّها تصرخ بكلّ لغات العالم : كورونا... كورونا ...!
أين الاكتشافات والاختراعات، والاعتداد بالعلم حَدَّ تأليهه، وتأليه العقل، والإنسانُ البالغ في العلم مبالغ يأكل ما لا يُؤكَل، وما حرّمه الله على عبده تكريما وتقديرا، وارتقاء بنفسه عن الخبائث والمُهلكات ... وهو الذي يقارع سنن الله في خلقِه، فيخاصِم خالقَه... فيكفر به ... ومن الكفر يُساق إلى كل خبيث، وإلى كلّ خروج عن الفِطرة السليمة... إلى الحيوانيّة والبهيميّة .... !
أين المسلمون المنبهرون بأهل العلم والعقول المخترعة، المكتشفة، المالكة لناصية التكنولوجيا والتقدّم، لينظروا في مسلم ذي عقل وفِكر ونظر، وهو الذي يعتزّ أكثر ما يعتزّ بدينه، وبالنور الذي فيه، وبالنور الذي انبثق منه في نفسه، وهو الذي غاية أمانيه أن يُبلِّغَه الناسَ ليستنيروا ... ثم هو الذي يسكن بيتا بسيطا، ربّما هو من بيوت الحَضَر أو من بيوت المَدَر ... هو الذي لا ينكر علوم الدنيا، بل يتعلّمها، ولكنّه لا يجعل لفَلَتَات اغتراره بها سطوة على حياته... يأكل حلالا، ويشرب زُلالا...ويلتزم حدود الله، ويستهدي بهُداه، فلا يرى رأس مال الإنسانيّة إلا ديناً وشرعاً سماوياً مبيناً، وحياتا فاضلة تحقّق إنسانية الإنسان، وتَميز بين الإنسانية والبهيمية بتكريم الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه، فهي التي تحفظه .... أين هو من عالم يملك ناصية علم بين العلوم، ثمّ هو آكل للحشرات وللهوامّ، ولكل ما لا يُؤكَل من اللحوم...!
أيّهما أكرم ... ؟؟ أيّهما أعلى ؟؟ أيهما أرقى ؟؟ أيهما "أنسَنُ" ؟؟
إنّ صاحب العلم المفتقر للدين قد يُعطي الأرض والإنسان كل شيء، ولكنه لن يعطيه "الإنسانية" ...! وإنّ العلم لمّا افتقر لأهله المزوَّدين بالعُدّة الإيمانية وهم يسبرون غورَ الكون أصبح جفافا إنسانيّا وقحطا روحيّا في زيّ تقدّم مسعور مجنون ...!
إنّ الأجدر بالمسلمين أن يبلّغوا نور الله للبشرية عمياء الروح، وأن يسقوا بماء الله القلوب الميتة، لا أن يبيتوا ويظلوا على الاعتقاد بأنّ الحلّ في اقتفاء لهثهم الذي يلهثون ... ! فإنهم بذلك لن يقدّموا للأرض حاجَتَها الكبرى...!
الذين يُحادّون الله ورسوله، الذين يهوّنون أمر الله وحدوده، الذين يحلفون باسمه على الكذب، ويصدّون عن سبيله .... أذلاء في الدنيا وفي الآخرة :
أولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "