ولننظر في هذه الآيات المواليات، والله سبحانه بعد إذ تَوَعَّدَهُم : "
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ " ... يستجيش العقول فيهم، أنْ يا أصحابها بأيِّ ميزان تزنون؟ وبأيّ منظار تنظرون، فتكذّبون. كيف تحكمون ؟!
"
أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28)"
بأيّ عقل تكذّبون بوعد الله أن يبعث عباده، وأن يحاسبهم، وأن يكون لكلّ منهم جزاءٌ بما قدّم ؟ بأيّ عقل تستبعدون جمع العظام من جديد، وهو الذي جعل فيكم الروح سِرّا ليس لأحد غيره، فأنتم بشر منتشرون...! أيّ عقل لكم تستبعدون به أن تُنشَر عظامكم، وهو الذي بدأ خلقَكم من ماء مهين ؟!
فبدأ سبحانه مخاطبةَ العقول بقضية خلق الأنفس، الخلق الأول، لأنّ تكذيبهم هو بالخلق الثاني :
"
أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24)"
عظامكَ أنتَ كيف لا يجمعها سبحانه، وأصلُك أيها الإنسان ماء مهين ضعيف حقير، لا يجعل منه بشراً غيرُه سبحانه !
أفإنسانٌ من ماء أهونُ عليه، أم جمع عظامٍ لإنسان كان ؟! : "
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)"-يس-
ونتتبّع ذكر أصل خلق الإنسان عَبْرَ سُوَر هذا الجزء، إذ قال سبحانه في سورة القيامة: "
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ(37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ(38)"
ثمّ فصّل عن النطفة في سورة الإنسان فقال: "
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا"
ثمّ يفصّل هنا في وجهتها ومكان قرارها، ووقته المعلوم: "
أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) "
فهو سبحانه الذي جعل لهذا الماء قرارا يستقرّ فيه إلى حين، إلى الموعد المحدّد لانتهاء مكوثه فيه... مؤقّتٌ هو بقاؤُه فيه، هو سبحانه الخالق، المقدِّر، المقيت ...فكما جعل سبحانه لبقائه برحِم الأم وقتا مقدَّرا، كذلك جعل لبقائه في الدنيا وقتا مقدَّرا، وكذلك جعل ليوم القيامة وقتا مقَدَّرا... وقد عرفناه في سورتنا هذه في قوله سبحانه: "
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ"...
"
فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ"... في مكان حصين، محفوظ فيه إلى حين...ولَعَمري إني لأخاله أعظم حصن، وأقوى حصن في الوجود ! ذاك الذي يحفظ الإنسان وهو بعدُ ماء بلا شكل ولا هيئة، ثم وهو ينمو ويكبر ويتكوّن طورا إثرَ طَور...! هو سبحانه الذي هدى ذلك الماء المهين ليتخذ له ذلك القرار المكين إلى وقت معلوم ... بقَدر ...
"
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ".... سبحانه هو أهل الثناء، وهو سبحانه لا يُحصي أحدٌ ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وهو ذا ثناء من ثناء الله على نفسه: "
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ "... قُدرة عظيمة، مُطلقة، لا تحدّها حُدود، جعلت من الماء المهين إنسانا مذكورا، مُكرَّما ...!
أما من كذّب ببَعْثه سُبحانه لمَن خلق، وخَلقُه عظيم لا يقدر عليه غير الخلّاق القدير العليم، وبعثُه أهونُ عليه من خلقه من ماء مهين، فليس له من الله إلا الوعيد الرهيب المُزلزِل : "
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24)"
فأيّ نظر لك أيها المكذّب ؟؟ أيّ استدلال ؟ أيّ فكر ؟ وأي تقدير؟؟ وأيّ نظر ؟؟ إنه ليس إلا كفكر وكتقدير وكنظر من فكّر وقدّر، فقُتِل كيف قدّر، ثم قُتِل كيف قدّر ...!
يا عالِم الأحياء، ويا عالم الفيزياء، ويا عالم الفَلَك، ويا كلّ عالِم يُنكِر الله ويدعو للإلحاد وأنّ الحياة صدفة وهباء، فموت فلا شيء ... ! أنتَ أيها الحيّ، المتعلّم علما بين العلوم، المعلّم علما بين العلوم... وتعلم، بل أنت أكثر من يعلم أنك الماء المهين، في قرار مكين، إلى قدر معلوم ... ثمّ تقول بالصدفة... فيالِصُدفِيّة القدرة والعلم والحكمة والتقدير في الصدفة !!!
ثم هذا خطاب عقليّ آخر من الله سبحانه للإنسان، كما خاطبَه عن خلق نفسِه التي بين جَنبَيْه، هذا الآن عن الأرض التي تحمله :
"
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28)"
"كفاتا" بمعنى أنها جامعة، إذ الكِفات هو الشيء الذي يُجمَع فيه، كما أنّ: كَفَتَ الشيءُ : تقلَّب ظهرًا لبطن، وبطنًا لظهر ...وهذه هي الأرض، وظهرها يحمل الأحياء، وبطنها يحمل الأموات ...
هذا هو الإنسان الذي خلق الله على الأرض، بين حيّ وميت، وكلّ حيّ على ظهرها مؤمنا كان أو كافرا يعلم أنّه يوما ما صائرٌ إلى بطنها...
وإنكَ لترى بهذه الكلمة ظهرَهَا ينقلب إلى بطنها بما عليه من أحياء ...
فما تُراه الرابط بين هذا والبعث ؟ إنّ العاقل ليتساءل، لمَ سَرَتْ هذه السنة في البشر على اختلاف طرائقهم ومعتقداتهم، ومللهم، آمن الإنسان بالله أو لم يؤمن، وحّده أو أشرك به، كلُّهم يُدفَن، ويُوارَى التراب ... فكيف لا يتخلّف البشر عن هذه السنة ؟! وما هذه الأرض التي تضمّ أمواتَها منذ أن بدأ الإنسان إلى يوم انقضاء الدنيا ... تضمّهم، وتتحمّلهم، وهم الجثث التي تَريحُ، وتتبدّل وتتحلّل، ولا يتأثّر ظهر الأرض بالعدد الهائل للجثث المتحلّلة، بل يبقى صالحا للحياة ... !
ثمّ كرّة أخرى، ما هذه السنّة الماضية في البشر ؟! لِمَ تجمع الأرض، وهي التي يتقلّب ظهرها لبطنها ... وتعمل "كِفاتا" عملَها التامّ وأنت ترى مشهَدَ تقلّب البطن للظهر، ذلك هو خروج مَن في القبور، ذلك هو يوم البعث، ذلك يوم الحشر ... ذلك يوم الفصل ...!
"كفاتا" وهي بمعنى ظهرا لبطن وبطنا لظهر، تعمل جزءا من عملها في الدنيا إذ ينقلب الظهر للبطن، وجزءا متمّما في الآخرة يومَ ينقلب البطن للظهر ...
إنّ الذي خلق الموت والحياة سبحانه، وجعل في البشر سنّة الدّفن إذ بعث غرابا يبحث في الأرض ليعلّم قابيل كيف يواري سوءة أخيه، هو سبحانه الذي جعلها سنّة في البشر يحفظ بها الإنسانُ أخاه الإنسان، سبحانه الذي لا يؤُدُه حفظ السماوات والأرض، هو الذي يتولّى حفظَ كلّ ميت وهو في باطن الأرض إلى يوم يُبعَثون... هو سبحانه الذي ما جعل هذا إلا ليتمّ وعدَه بخلق جديد : "
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)" -السجدة- .
"
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28)"
هذه الأرض الكِفاتُ، المتقلّبة بطنا إلى ظهر، هي نفسُها الثابتة بالجبال الرّواسي...هذه الثابتة الي تُقلّك وتقوم عليها حياتك، المُذلَّلة لكَ لتتقلّب عليها، ولتمشي في مناكبها، مَن ذا خلق لها المثبّتات ...؟!
وهو سبحانه الذي يسقي الإنسان ماء عذبا يُحييه ... الذي ذلّل لك الصعبَ، وسخّره لك، وأحياك بفضله ومنِّه، ولولا فضلُه لما كنتَ الحيّ الذي يتحرك ويتشدّق ويتمطّى مكذّبا .... ! أليس ذلك بقادر على أن يُحيي الموتى ؟
وهكذا... يتناسبُ هذا الخطاب العقليّ للإنسان في خلقِه وخلق ما حوله، بنفسٍ بين جنبَيه تحيا وتتحرّك وهي التي كانت من ماء مهين في قرار مكين إلى قدر معلوم، وبأرض تُقِلّه، وتضمُّه فهو فيها مستودعٌ إلى وقت معلوم أيضا، وهي المنقلِبُ بطنها إلى ظهرها في وقت عند الله معلوم، وهو سبحانه الذي ذلّلها لمعاشه، وأسقاه ماء مُحييا... فيتناسب هذا الخطاب كلّ التناسب وقضيّة البعث، موضوع تكذيب المكذّبين ...
"
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (28)" .... ويْلٌ لمَن كذّب بالبعث بعد الموت...الذي له كلّ هذا الأمر، ومنه كل هذا المنّ والفضل، أليس بقادر على أن يُحيِي الموتى ؟؟
فما جزاء مَن يُكذّب، مُعلنا جحوده، ونُكرانَه النِّعم وهو فيها متقلّب من رأسه إلى أخمص قدمَيه ...؟!
يا أيها الذي أرسِلتْ له الهِدايات، ولم يُترَك سُدى ... !
يا أيّها الذي خاطَبَ الهُدى عقلَه، وخاطبَ المرسَلون عقلَه ... يا مَن أرسِل له الهُدى ماء مُحيِيا لروحِه لئلا تعجُف وتيبَس...!
يا مَن أرسِل إليه المُرسَلون بحياة الروح في الدنيا، وببعث حياتها الفائزة في الآخرة ... لمَ قتلتَ الروح فيك ؟؟ بتعجرُفِك وبعنادك، وباستكبارك، وبهواكَ، وبحبّك للعاجلة واتخاذك للآخرة ظِهريّا ... ببخسك عقلَك حقَّه، وأنت الذي خُلقتَ بعقل لتنظر، وتفكّر وتستدلّ، وتقيس، فتُقدّر... فإذا أنت بئسَ المُقدّر ...!
يا مَن تُكذِّبُ أن تُبعَث للحساب، فتختلق، وتكذب أكبر الكَذِب، وأنت تُنكر الله جملة وتفصيلا لئلا تُفكّر ببعث وحساب ... فساقك كذبُك الأكبر إلى الفجور الأكبر، وأنت في لُجّه تغرق، وتغرق، وتغرق ....! حتى إذا حان يوم الفصل، يومٌ أقِّتتْ له الرُّسُل ... ماذا عساك تصنع ؟؟؟!!
إنك ستسمع الويل صوتا، كما ستذوقه عذابا :
"
انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (34)"
إنّ الخِطاب العقليّ المُكرِّم للإنسان، الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم للناس كافّة كان ليكفيَهم ويلات يوم عظيم...
ويلاتٌ وعذابات لا تُقاس، ولا توصَف بوصف ... ولقد ألقِي الذّكرُ إليهم، ولقد أنذِروا، ولقد أعذِروا ... ولقد خوطِبت عقولهم، وأقيمت الحجّة عليهم، ولقد عُرِّفوا مقامَ ربّهم الخالق المنعِم المقدّر سبحانه ...
ولكن ....! لمّا لم يستمسكوا بخطاب لعقولهم ساعةَ ما تزال أبواب التوبة مفتوحة، وما يزال باب العمل مفتوحا ليعودوا فينجوا، ويفوزوا يوم الفصل ... لمّا أضاعوا تلك الفرصة العظيمة ... لمّا أوصدوا باب عقولهم دون الحق، وباب أرواحهم الظّمأى دون الماء المُحيِي، هم أولاء يسمعون ... ويا هولَ ما يسمعون ... ! ويا شرَّ ما يسمعون...! :
"
انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (34)"
انطلقوا... فعل الانطلاق، فيه السرعة...إنه الاندفاع بسرعة... ولكن إلى أين ؟! إلى حيث لا يذهب الإنسانُ أبدا بقَدَمَيْه ... إلى حيث لا يخطئ عاقلٌ فيفعلها بنفسه، فكيف أن يسارع إلى فعلها ؟!!
أسرعوا إلى حتفكم... إلى قراركم، وبئس القرار...!
انطلقوا بأمر من الجبّار العظيم القهّار سبحانه، ولن يكون منكم إلا الطاعة لأمره يومَها ... ليس لكم من وَزَر، ولا مفرّ ... إنكم لن تملكوا لأنفسكم نصيرا من أنفسكم ولا مِن غيركم، ولا ممّن كانوا لكُم تَبَعا، ومحبّين ومنبهرين بخطابات ضلالاتكم، وبعماياتكم التي توشّونها بالعلم، أو بالتحرّر، أو بالعلمانية ... كيفما كنتم تُوَشُّون .... أيّا كان عنوان بطولاتكم في الناس باسم التفتّح والانفتاح والتفتيح ...! باسم الخروج من ربقة الرجعيّة والتخلّف كما كنتم تصفون الدين، وطاعة الديّان ...!
إلى أين ؟؟!... "إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ" ... فما ذاك ؟؟
اسمعْ... اسمعْ يا مَن تظنّ أن تُفعَل بك فاقرة ... يا مَن عرفتَ مصيرَك ... اسمعْ ...
"
انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ(30) لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)"
ويالِغرابة الكلمة وهي بين هذه الكلمات ...! إلى "ظلّ" ... فَفَوْق الأمرِ الشديد الحاسم بالانطلاق، إنه التهكّم ... انطلقوا إلى ظلّ، حيث يُستظلُّ من الحرّ، من اللهيب، حيث يستروح الإنسان ويجد الهواء المُنعِش ...!
إنه ذو ثلاث قِطع متفرّعة عنه من كثرة تصاعُده، إنه الدُّخان المتفرّع شُعبا من علوّه، من عظمة نارِه ...وكأنّه الظلّ... وإنّه لَظِلّ... ولكنه ظلّ جهنّم ...!! إنّه لا يُظلّل ... !!
"
لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ" ... إنه المقدّمة، إنه الاستقبال الحفيّ من جهنّم لأهلها ... إنّه نفَسُها وما يُلقي به غيظُها الذي تكاد منه تميّزُ !!
لا يغني من اللهب، واللّهب هو ما يعلو من النار إذا اضطرمت، أما هذا فدُخانُها الذي لا يمنع لهبها، ولا يدفعُه ... !
"
إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (34)"
الشَّرَر هو ما تطاير من لهبها، فاللهب هو الأكبر، ثم الشّرر، ثم الدخان، وقد ابتُدِئ بظلّ دُخانها، ثم هو ذا شَرُرها المتطاير من لهبها ...
إنه الذي نسميه في دنيانا مستصغَر النار... إنه عيّنةٌ مصغّرة من النار، فكيف هو هذا الشَّرَر الذي نعرفه صغيرا صغيرا، فهو من خفّته يتطاير ؟! إنّ جهنم ترمي بالشرر الواحد منها بحجم القصر !! بحجم البناء المشيد المرتفع الكبير.... الواحد من شَرَرِها هذا عِظمُه !
وها هو الله سبحانه يقرّب الآن هيأتَه للإنسان، من بعد ما وصف حجمَه: "
كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ"
والجِمالات جمع جَمَل، فهي الإبل الصُّفْر في هيأتها ، ولك أن تتخيّل مجموعة من الإبل وهي تتطاير، تلك المجموعة هي الشّرر الواحد من النار... ذاك مستصغرُها ...! فكيف بها هي ؟؟!! أجارنا الله منها ومن شَرَرِها، ومن ظلّها...
"
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ" ... لمَن كذّب بيوم الحساب، بوعيد الله بالنار، ويلٌ له يومئذ... وأيّ ويل !! وهو يرى بأمّ عينِه ما كان قد أُنذِر..!!