المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (الإنســـــان)  (زيارة 654 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

عشنا مع سورة القيامة...عشنا عظمة ذلك اليوم... وعظمة أهوالِه، وحفّتْنا ظلال القدرة الإلهية المُطلقة التي لا يُعيِيها خلقٌ جديد من بعد موت وفناء يعمّ الكونَ...يقلبُه، ويُذهِب المعتاد، ويكسر النواميس، ويُخِلّ الأنظمة، فالشمس والقمر فيه مجتمعان إيذانا بذهاب الزمان، ليحلّ يومٌ ممتدّ عظيم فيه الجزاء والحساب على ما كان يومَ أن كانت الشمس والقمرُ بحُسبان ...!

تلك القدرة المطلقة التي استعصى على الإنسان -وهو يستكبر ويتمطّى، ويُكذّب- تصوّرُ أن تجمع عظاما، بينما هي القادرة على أن تُسوّي البنَان من جديد من بعد ذهاب خُطوطه وانطماس مساراتها، بل تُعيد للجسد حياةً وروحا من بعد فنائها عنه... تلك التي  ليس أمرها لأحد غيرِه سبحانه ...!

وكما يبعث سبحانه الحياة في المَوات، يبعث الحياة في القلوب بالقرآن روحا للروح، فإذا هو حقّ الحياة في الدنيا، والضياء، والوضاءة، والنّضارة والنور والنجاة في الآخرة ...وأنّ الخائبين الخاسرين إنّما هم الذين آثروا العاجلة، إذ أحبوّها، ونسوا الآخرة ...

عرفنا في سورة القيامة ترتيبا عكسيا لما يجري على الإنسان والأرض:
1- ) فبُدئت بالقيامة : "لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ (3)......".
2- ) ومنها إلى الموت: "كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ  رَاقٍ (27) ........ "
3- ) فإلى الخلق الأول  : "أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (39) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ (40)"

وبهذا خُتِمت سورة القيامة، بالتذكير بالخلق الأول، وأنّ الذي خلق الإنسان ذكرا وأنثى  من نطفة تُمنى، لن يَعيَا بإعادة الحياة فيه بعد الموت ...
هكذا كان مَدار سورة القيامة على الإنسان من حيث القدرة على بعثه كما كانت القُدرة على خلقه  .

ويسوقنا الكلام سَوْقا، ليُلْقي بنا التّرتيب إلقاء في رحاب سورة جديدة، وكالعادة، كأنّنا لم ننتقل، وكأننا ما بارَحْنا سورتنا السابقة... لولا أنّ العنوان يلوّح لنا أنّنا بمرفئ جديد ... على ضفاف جديدة  ... ضفاف "الإنسان"
فكما انتهت سورة القيامة بالحديث عن بداية خلق الإنسان، هي ذي سورة الإنسان امتدادٌ لها، إذ تبدأ بالحديث عن بداية خلق الإنسان...

فبعدما بيّن سبحانه هَوانَهُ إذ كان نُطفة من منيّ تُمنى، هو ذا مع بدايات الإنسان يزيد في بيان أمرِه أكثر ...... فلننظر...

"هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"

ألم يكُ نُطفة من منيّ يُمنى ؟؟ بلى كان يا رب...
ثم كان علقة فخلق فسوى ؟؟ بلى كان يا رب...
فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ؟؟ بلى يا رب...

هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا  ؟

أما الدهر فهو الزمن الطويل المديد، وأما الحين فهو القطعة من الزمان ... فهل أتى حين من هذا الزمن المديد لم يكن فيه الإنسان شيئا مذكورا ؟؟

إنَك أيها الإنسانُ تُسأل ... تُسأل عن نفسك ... أواخر "القيامة" ذكرتْ بدايتك من نطفة ... وكم أنّك أيها الإنسان مُعجزة الخالق المصوّر الذي يقول للشيء كُن فيكون ... فقال في شأنك للماء كُن فكنتَ ...!

كم هو هيّنٌ عليه خلقُك ... وكم هي عظيمة قُدرتُه، ومشيئتُه ... وأنت أيها العاقل، المفكّر، السائر في الأرض، الضّارب فيها، الباحث، المكتشف...يا أيها الكائن المنطوي على "أخلاق"... لقد كنتَ ماء مهينا ... ! ثم انظُر بعدُ ثم انظُر ... !
أيها الإنسان ... انظُر في "الإنسان"  .... إنكَ فيها تُسأَل، وفيما أنت تُسأل يأتيك التقرير الحق، عنك، عن أصل وجودك ...
استفهام تقريريّ، فيه تُسأَل لتتدبّر أمرَك وبدايتك وأصلك، وتُسأَل لتسمع حقيقة أصلِك، لأنّ عند مَن يسأل النّبأُ اليقين  ...
أمِن حينٍ بين أحايين الدّهر والزمان المديد لم تكن فيه شيئا ؟!

وألوان بيان تجتمع في هذا الاستفهام :
** "هل" تعمل عمل "قد" فتعني هنا التقرير في صيغة سؤال، كقولك : "هل رأيتَ أخلاق فلان ؟" "هل رأيت جمال فلان ؟" وإنما وأنت تسأل تريد أن تؤكّد على حسن خُلُق فلان، وتريد أن تؤكد على جمال فلان...
** كما تُلقي بالسؤال على الإنسان، ليتفكّر في أصله، وفي أول وجوده، فلا يثق العاقل الرصين إلا في جواب الخالق الحكيم الهادي سبحانه، الذي أرسل رُسُلَه، وأنزل كُتُبه هُدًى وقصّاً للحقّ من النبأ ...
يُسأَل فلا يملك إلا أن يُصغي لما يقرّره الخالق سبحانه حول بدء خلقه، حول أول أمرِه في الأرض ...سؤال لا يملك الإنسان حِياله إلا مزيد إذعان، وتفكّرٍ في عظمة قدرة الله سبحانه ...

إنه قد كان الكون، ولم يكن الإنسان ... إنّه قد خُلِق الكون، ولبث بكلّ الموجودات فيه ولم يكن الإنسان فيه  شيئا مذكورا ...
أما أصحاب الهوى ودعاوى الإنكار والتكذيب، ومُجانبة الحقّ، والإصرار على الإعراض عنه، فهم يتقافزون ليعلنوها تطوّرا ... ليعلنوها داروينيّة صُدَفِيّة، هبائيّة عبثيّة .... !

قالوا بأنّها الصّدفة، وبأنها الخليّة الصُّدفة، وبأنّ أصل الإنسان الأول "شيء" ...!   أعلنوها مخالفة لتقرير الله تعالى : "لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا"
مخالفة لها كلّ المخالفة ... والله سبحانه يعلنها أنّه لم يكن شيئا مذكورا، لم يكن "إنسان"   ثم كان بإرادته سبحانه "إنسان" ...
بينما يعلنونها أنّ الإنسان كان ولكنّه لم يكن "الإنسان" ...! فصيّروا الأب الأعلى قِردا ...صيّروا الإنسان متطوّرا بطفرات "عشوائية" عن أسلاف حيوانيّة، يصوّرون الأحافير، ويزوّرونها، ويجعلون منها دليلَهم على تقاريرهم لدَعم نظرية الصّدفة، واللاخلق ... ! والله تعالى قد قرّر في كتابه الذي أنزل بالحقّ، والذي نزل بالحقّ أنه " لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا "....

وعلى هذا ...  ! الذين يتململون، ويتخبّطون، وهُم يريدونها داروينية إيمانية، يريدونها داروينية تطوّرية، لا تقرر مبدأ الصّدفة، بل تُقِرّ بالخلق، فتراهم يقولون بالتطوّر الموجَّه ، فلا يلغون فيه النظرية وأساساتها، بينما يدعون فيها بالخلق لا بالصُّدفة ... هؤلاء وإن جعلوا يربِّتُون على كتف ضميرهم الإيمانيّ، يُطمئنونه، ويهدّؤون  من رَوْعه، إلا أنهم يقرّون بأن الإنسان كان في هذا الكون شيئا غيرَ الإنسان ....!!!
فلا يستبعدون القول بأنّ أصله قرد...يُقِرّون بشَيْئِيّته قبل صيرورته إلى "إنسان" ...!

وتستمرّ المجامع العلميّة العالميّة في تأييد النظرية وتوجيهها بما يتناسب وعَزْوَ الوجود إلى الصُّدفة، وإسقاط الخلق بخالق والإيجاد بموجِد... ويستمرّ المُسايرون من بني الإسلام لهذه السياسات العالَمية الموجّهة في البحث عمّا يُسكِت صوتَ الضمير الإيمانيّ فيهم من جهة، وما يُبقي عندهم على أوّليّة تلك المجامع ومصداقيتها التي لا يرضون بأدنى طَعْن فيها من جهة أخرى ...!   فأخرجوا نظرية التطوّر المُوَجّه كحلّ بين الحلول التي تُبقي على إيمانهم بخالق، مع الإيمان بشيئيّة للإنسان قبل إنسانيّته ...!

ألقى داروين بالنظريّة، وتلقّف الهوائيّون النظرية ليجعلوها ربَّهُم المعبود وهي التي تُسوّغُ لهم العبثيّة، واللاهَدَف، والإعلاء من دعوى التفسّخ واللاأخلاق واللاقِيم بإلغاء الدين، ومُحاربة أهله....! " أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)" -القلم-
فيا أيّها الإنسان من أين تأخذ النبأ اليقين ؟؟ أمِن الخالق المصوّر الموجِد الملِك، أم مِن مُغتصبي الفِطرة في الإنسان، وحابسي أنفاسِها فيه ؟!
ولا عَجَب في تكذيبهم، وفي إعراضهم عن الحق، وفي إصرارهم على أهوائهم وأكاذيبهم وتفاهاتهم التي يُلبسونها لبوس العلم، وقد علّمنا الله السبب الحقيقيّ وراء إصرارهم وإعراضهم فيما سبق من السّور، ففي سورة المدّثّر يعطينا العلّة الأولى: " كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ "-المدثر:53-، وفي سورة القيامة أيضا يزيدنا بيانا بالعلّة من خلف العلة، فهم لا يخافون الآخرة ولا يؤمنون بها لأنهم يريدون فجورا يسوق إلى فجور.... ثمّ ليس ذلك فيهم إلا من حبّهم العاجلة...

لقد ظلّ الكون زمانا مديدا، ودهرا طويلا ولا وجود للإنسان فيه ... !
لقد كان الإنسان إنسانا ولم يُخلَق قبلها شيئا آخر...كانت المخلوقات بأوصافها وأشكالها ولم يكن المخلوق العاقل بعدُ موجودا ...هو الذي بعقله الذي ميّزه به الله أصبح ذاكرا تُذكَر عنده الأشياء. وقد قال سبحانه : "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ..."-البقرة : من الآية31 -
وقد قال سبحانه : "وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا(66)أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا(67)"-مريم-

وفي هذا يحضرني إخبار الله ملائكته عن جعله في الأرض خليفة ...كانت تلك اللحظة التي علم فيها غيرُ الله بإرادته سبحانه إيجاد الإنسان... فكانت أوّل صفة عُرِف بها الإنسان عندهم : "خليفة"...

إذن... وقد انتهت "القيامة" بذكر خلق الإنسان: "أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (39)" بيانا لهوان أمر البعث على الله تعالى وهو الذي لم يَعْيَ بالخلق الأول من نطفة ...
يتدرّج القرآن ليتّصل بسورة "الإنسان" بيانٌ أكبر لهوان أمر الإنسان على الله، ثم لتذكيره وهو الحيّ العاقل المتحرك على الأرض، المتفاخر بعلم عنده، المستكبر بجاهٍ أو بسلطان، المستكثر من مال أو ولد، بأنّه الذي لم يكن نطفة وحسب، بل لم يكن شيئا مذكورا...!

لم يكن الإنسان شيئا مذكورا ...فمِن أين جاء هذا الذي كان عَدَما ؟ وما الذي جعله موجودا بعد أن لم يكن  ؟ ومَن ذا أوجده ؟ وكيف أوجَدَه ؟

إنه الإنسان الأول...إنه آدمُ ... آدمُ الذي كان عَدَما، ولم يكن شيئا مذكورا حتى أذِن الله فكان : "إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ  خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" –آل عمران:59-
« آخر تحرير: 2020-02-25, 09:30:21 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ثم تأتي الآية الموالية مُبَيِّنةً لقصّة خلقٍ مكرّرة، مُعادة على مدى الأزمان والأعصار... إذ قد كان آدم من غير أب ولا أم، ولكن كلّ مَن جاء بعده وبعد حواء كان من لقاء رجل وامرأة :
"إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا"

هو سبحانه الذي أوجده، هو الذي جعله شيئا مذكورا... بل وكرّمه، وجعله المخلوق العاقل بين مخلوقاته... جعله سيّد مخلوقاته، وسخّر له كونه وأسجد له ملائكته، وأسكنه الجنّة، وجعله مخيّرا ...
إنها مِنّةُ الخلق التي جعلت من الإنسان شيئا مذكورا ...
من نطفة أمشاج... من خليطٍ بين ماء الرجل وماء المرأة خلقه ... –وكما أسلفت في تدبرات سورة القيامة- من حُوَيْن بين ملايين الحيوانات المنوية التي تنطلق في رحلة البحث عن بويضة...!

حُوين واحد لا تراه العين المُجرّدة، يفوز بالبويضة...يُلقّحها، فتتكوّن النطفة الأمشاج... نِتاجُ تلقيح الحيوان المنويّ الذكريّ للبويضة الأنثوية ... تلك النطفة التي تحوي المادة الوراثية التي تأخذ من صفات الذكر والأنثى ما يُنقَلُ إلى الجنين، صبغيّات تحمل معلومات الكائن المستقبليّ الذي هو في طور التخلّق، تحمل شيفرتَه المميّزة له، ولما سيؤول إليه إنسانا مُخلّقا مُسوًّى يُذكَر ....!
كل هذا يعطي صفة "الأمشاج" أي الأخلاط لهذه النطفة، لهذه الوِحدة الأساسية المشكّلة للإنسان الذي بفضل الله وبأمرِه أصبح شيئا يُذكَر ...!

ومع صِغر هذه الوِحدة... ومع غيابها في غيابات الرَّحِم، ومع تطوّر مسارها ورحلة نموّها ... وهي التي لا يدري المُلْتَقِيان شيئا عن تفاصيل الرحلة الأولى التي أنتجتْها  ... لا يدريان عن تفاصيل ذلك السباق الذي كان بين ملايين الحُوَيْنات، وهي تُسارع كلّها للظّفر بالبويضة... !

لا يدريان عن وجهتها، ولا لقّنها أحدُهُما أو كلاهُما الطريق المقطوع، ولا ترقّبَ أحدُهما أو كلاهُما لحظة الوصول... لا يدريان عن ذاك الذي فاز في نهاية المطاف، حتى كانت النُطفة الأمشاج... ! ولَعَمْرُ الله ...! إنها في اللحظة الواحدة على وجه الأرض نِطاف ونِطاف ونِطاف ...!

ما دَرَى إنسانٌ كان ماؤُهُ فيها عن جيوش جرّارة انطلقت منه، ولا عن نقطة الانطلاق، ولا عن مسار الرّحلة وتفاصيلها، ولا عن لحظة الوصول شيئا يُذكَر...! ولكنّ الذي خلق يعلم  كل دقيقة وكل جليلة في كلّ إنسان كان ماؤُه فيها ...! فهو سبحانه الذي خلق فجعله شيئا يُذكَر، وهو الذي من نطفته يخلق ويخلق ويخلق في كل لحظة من لحظات الزمان، وفي نقطة من نقاط المكان ...!!

مع صِغَر هذه الجزيئات الملتحمة، المصرّة على مواصلة النموّ والتشكّل والمرور بكافة المراحل ... هي التي على صِغَرِها تعرف وجهتها، وتعرف كيف تكبر... !  تنقسم الوحدة الواحدة لتتكاثر، ولتلتحم ... رغم صِغَرِها في غيابات الرّحم وهي تلتحم، تلتحم بكلمتها في الآية كلمة أخرى عظيمة ...إنها : "نَبْتَلِيه"  .... !    "مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ"...!

وقد جاءت في صيغة فعل لم يُسبق بلام التعليل : "لنبتليه" ... من مثل قوله تعالى في سورة الملك : "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ..."
ولغويا تصحّ هذه الصيغة أيضا للتعليل، أي أنّ : " مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ" تعني "لنبتليه" ... لأن الابتلاء سيكون لاحقا عند بلوغه سنّ التكليف . ولكن سبحان الله ! موقع هذه الكلمة، وهي مقترنة بهذه المرحلة الأوليّة الدقيقة من خلقه ...! وفي ذلك تدليل على أكبر الغايات من إيجاد الإنسان، الابتلاء... إنّه لم يُخلَق إلا ليُبتلى، في دارٍ هي للابتلاء خُلِقت  ...!

" فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا"...
يُذكر السمع والبصر، كأهمّ حواس للإنسان، وهي حواسٌّ لإدراك ومعرفة ما يحيط به... حواسّ تنقل له المدارك وقد زوّده الله بعقل يميّز به بين ضارّ ونافع...

ونتأمّل صيغة المبالغة فيهما، إذ لم يأتيا: "سامعا مبصرا" بل "سميعا بصيرا" لكثرة ما تعمل هذه الحواسّ فيه، ولدورها في نقل الحقائق، ولدورها في تلقّفه الهُدى والحقّ ...  فنحن نقول عن المُتبصّر بنور الحقّ والصواب والرشاد "بصيرا"، ونقول لمن يسمعه فيُذعن له  "سميعا" ... 
وَيْكأنّهما صفتان تُجمِلان معنى الفِطرة المركوزة في الإنسان...!

الفِطرة التي فُطِر عليها، فتجعله مخلوقا بالمَيْل للحقّ، يبصر ويسمع الآيات الدالة عليه، فتتفعّل فيه البصيرة  ... وكثيرا ما وصف القرآن الكافر بالصمم والبَكَم والعمى، وهو يبصر بعينه، ويسمع بأذنه وينطق بلسانه، ولكنّه لا يبصر الحقّ ولا يسمعه ولا ينطقه : "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً  صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ "-البقرة:171-
كما أنّهما تعنِيان سمع العقل، وبصر العقل، العقل السليم الذي لا يغشاه الهوى، فيتجاوب مع الفِطرة، فتجده مُنْساباً مع الهُدى والحق، يستسيغه وينصاع إليه...

وبعد هذا المعنى حقيقٌ بالآية التالية أن تكون هي لا غيرُها:

"إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا"

فسبحانه الذي خلق من نطفة... والذي خلق ليبتلي...والذي كرّم الإنسانَ بعقل، يميّز بين خطأ وصواب، وحق وباطل، وضارّ ونافع...والذي ركز في الإنسان فِطرة سليمة تنساب مع الهُدى...هو سبحانه الهادي السبيل ...
وقد جاءت هنا  "السبيل" تحديدا وصفا للحق الذي أنزل الله لعباده، لأننا بصدد إنسان خُلِق، وسُوّيَ ليُبتَلى، فكان أحوج ما يكون إلى ما يهديه طريقه في هذه الحياة ... إلى ما يهديه مدارجَ سُلوكه ... فهو لم يُخلَق ليُترك سُدى ... : " أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى " –القيامة:36-

سبحانه أنزل كتبه، وبعث رُسُلَه بالهُدى، فـــ :  " إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا "...
إما أن يتّبع الإنسان فيهتدي، وإما أن يُعرِض ويُكذّب فيضلّ ... وقد عُبّر عن هذا الاختيار بين كفر وإيمان في الإنسان بـ : "شاكرا"  و "كفورا".

و"شاكرا" هو الوصف المناسب للنِّعم العديدة، والمِنن المديدة من ربّ العزّة، مُذ لم يكن الإنسان شيئا مذكورا، إلى إيجاده وخلقه، إلى تزويده بوسائل الإدراك والمعرفة، إلى الفِطرة المركوزة فيه، إلى هدايته ...!

كما جاءت "كفورا" بصيغة المبالغة،  ولم تأتِ "كافرا" مقابَلَةً لــ "شاكرا"، لأنّ الله تعالى يرضى أقلّ الشكر من عبده، بينما الإنسان إذا كفر طغى وعتا وتجبّر بكفره....! " إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ  وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ  وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ..."-الزمر: من الآية7-

وإنّ هذا الاختيار في الإنسان، وهذه الإرادة الحرّة فيه نعمة من الله مع النّعم العظيمة الجليلة التي تغمره... اختيار يجعله على نفسه بصيرة : " بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ " –القيامة:14- إذ قد جعله الله تعالى أهلا للخلافة في الأرض ...

وبعد هذا الافتتاح في سورة الإنسان بما يوائم عنوان هذه السورة كلّ المواءمة، وبما يجعلها بيانا لأصل الإنسان، والمنّة الإلهية بخلقه وإيجاده، وتزويده بكلّ ما يجعله المخلوق الأرقى والأعلى مقاما... المخلوق الذي من تكريم الله له سخَّر له كل مخلوقاته...!
بعد هذا... وقد تبيّن أن الإنسان بَيْنَ شاكرٍ لأنعم الله عليه، مصدّق بوحدانيته وبمنّته عليه، وبين كفور جاحد مُنكر لوحدانيته سبحانه ولوجوب العبودية له وحده ...يأتي إجمال يصف مآل الكافرين... تأتي مرحلة المآل من بعد بيان الأصل والإيجاد والغاية من الإيجاد  :
"إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا"

وكيف لا يستحق الكَفور هذا الإذلال وهذا العذاب، وهو الذي لم يكن شيئا مذكورا إلا بفضل من الله الموجد الخالق المنّان، فبدل الشكر والإيمان، تجده يستكبر ويتمطّى وهو يعلن كُفْرَه وجحوده ونُكرانَه حريّةً وقوّة...! يريد وهو العبد المخلوق أن يكون إلهَ نفسِه ...!

وهيهات هيهات أن ينقلب العبد المخلوق بعد أن لم يكن شيئا يُذكَر إلها ...! هيهات... وهو الذي مآله إلى ربّه وإن ظنّ بنفسه الظنون والظنون ...!

سلاسل يُسلك فيها عذابا صُعُدا... تجرّه وتُكبّله... وأغلال تقيّده وتُخضِعه، وتُذِلُّ رَقَبَتَه، وتجعله العبدَ الذي لا يملك لنفسه من نفسه نصيرا... تلك التي عاشت متعاظمة، مستكبرة، كافرة جاحدة...! خذلتْه وأرْدتْه المهالك ... وهو الذي لم يكن شيئا، فلما كان استكبر وعتا على مَن جعله شيئا يُذكَر ...!

وسعير مُسعَّر ملتهب، هُيِّئ له وأعِدّ له إعدادا، يلتهمه، ويأتي على اللحم منه والعظم، فلا يموت فيستريح، بل يُجَدَّد جِلْدُه ليذوق العذاب مِرارا وتكرارا، خالدا فيها أبدا وهو الذي إذ جعله ربُّه شيئا يُذكَر، وكرّمه بالعقل، وبالفِطرة السويّة، وهداه السبيل، وأنذره العذاب والعقاب،  استكبر وأنكر وكفر...!!

ودَيْدَنُ الإنسان والهوى سائقُه أن يسألَ متجرِّئا، وكأنّما قد حازَ الذكاء بأطرافه، والألمعيّة بجنباتها  : "أيّ إله هذا الذي يعذّب ويُلقي في النار؟!"
يسأل رافعا رأسَه، وهو الذي لا يلتفِتُ لجرائم يقترفِفُها، ولبهيميّة يغرقُ في لُجّها لا تُفرّق بين ذكر وأنثى، فالذّكر بدعوى الحريّة يتأنّث، والأنثى بدعوى الحريّة تتذكّر، والحلال والحرام كلمتان من قاموس دخيل على بهيميّتهم ... يسأل عن رحمة يريدُها وهو الذي أعلنها عداوة على من جعله شيئا بعد أن لم يكن شيئا يُذكر ! وصدق العليّ العظيم سبحانه وهو يصفُ تبجُّحَ مخلوقِه : " خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4)"-النحل-

أما الشاكر فمآلُه  :

"إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ  لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ  وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا (22)".

كان عن مآل الكافرين إجمال، وهذا عن مآل الشاكرين إسهاب ... فلنَلِجِ الجِنان، ولنستروِح طِيبَها، ولنتعرّض لنَفَحاتها .... فإنّ ذِكْرَها وَحده راحة للنفس، وسعادة، وانتعاشة ما بعدها انتعاشة، فكيف يوم نعيشها حقّ اليقين...؟!
« آخر تحرير: 2020-02-25, 09:31:36 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

"إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) "

الأبرار جمع بَرّ، وهو فعّال الخير وصاحب الصدق والصلاح والتّقوى، ولنلاحظ ...إذ قد جاءت أوصاف المؤمنين بـ: "شاكرا" أولا، ثم هنا بـ "أبرار" وهي أوصافٌ مُستمَدّة من أعمالهم، تُساعد على إعطاء الصورة الموجِبة للجزاء الحسَن بمقتضى إيمانهم. كما أنها صفات فيها التدليل على العمل، فيها بيانٌ ضمنيّ انّ الإنسان خُلِق ليعمل... "أبرار" كثيرو فعل الخير، فعّالون للخير، فهم مؤمنون عاملون، لا قاعدون، ليست حالهم حال أولئك المكتفين بالإيمان عنوانا، والقعود والكسل سمتُهم ... !

كأسٌ مِزاجُها زنجبيل ... والعرب تسمّي الخمرَ كأسا، وقد كانوا يمزجونها بالماء إذا كانت معتّقة شديدة ليخفّفوا من حدّتها، أما هذه فخمرُ الجنّة اللذّة للشاربين : "مثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ  فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ...." -محمد:من الآية15-   كما قد تكون كأس ماء مِزاجُها زنجبيل، إحداهما أو كلتاهما  ... !

"عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)"

وهذه المرة الثانية التي لا نرى فيها الوصف بـ "المؤمنين" بل بـ "عباد الله"... وعباد الله تشريف عظيم، مقامُ العبوديّة الحقّة لله، وهو مقام يكون فيه الإنسان حرّا من كل ألوان استعباد البشر للبشر، كما أنّ فيه الحريّة من استعباد الهوى للنّفس، فصاحبه عبدٌ لله وحده ...

وهنا جاء تفصيل عن الكافور، أنه عينٌ يشرب بها عباد الله، يفجّرونها تفجيرا ... أما "بها" هنا فموقعها أيضا دقيق ومُعجِز، فلم تكن : "يشرب منها" بل كانت: "يشرب بها" ...
ودلالاتها على أوجه :
** "يشرب بها" أعلى من "يشرب منها"، إذ "يشرب منها" قد يُؤتَى لهم بها، أما يشرب بها، فهم عندها. وقد قال تعالى يصف عينَ المقرّبين: "يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ(25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ(26)وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ(27)عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ(28)"-المطفّفين-
** أنّهم بها، أي عندها، فهي نوالُ أيديهم حيثما حلّوا من الجنّة ..
** "يشرب بها" بمعنى "يرتوي بها" ..
** أنّهم يجعلونها مِزاجَ شرابهم، فيشربون ماءَهم وخمرَهم بها.
** أنّه مجموع لهم بين لذّة الشرب، ولذّة النظر.

ويزيد الله في وصف التذاذهم بهذه العين، وتنعّمهم بها : "يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا" أي يستقون منها بلا حدّ ولا نضوب، إذ يفجّر كلّ واحد منهم لنفسه منها ينبوعاً، فماؤها غَدق عليه...
وكأنّ سائلا يسأل، إنسانٌ خلقه الله، وأنعم عليه بالعقل والفطرة السليمة الميّالة للحق، وهداه السبيل، وجعله مخيّرا، فاختار الشُّكر ... ما الذي أبلَغَه هذا المقامَ ... فهو البرّ الذي يُؤتى بكأس نعيم في الجنّة، وهو العبد الذي يفجّر عينَها تفجيرا ؟؟!

فيأتيه الله بالجواب، وهو سبحانه يعيدنا إلى الدنيا، عودة فيها إيماض إلى سيرة ذلك "الشاكر" "البرّ" "العبد"، الذي ارتضى مقامَ العبودية لله في الدنيا، فهو اليوم راتعٌ في نعيم الله وجزائه العظيم :
"يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)"

فلا تكاد تشعر أنها العودة ...! ولكأنّك بَعْدُ في الجنة ... لا فاصل، لا قطع للسّياق بصيغة إعادة من مثل "إنهم كانوا يوفون بالنّذر" ....!
ولكأنّها وهي التي كانت طريقَهم إلى جنّة الآخرة، كانت هي جنّة دُنياهم... الطاعة، الائتمار بأمر الله الخالق الهادي سبحانه ... الذي جعله شيئا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ...

أجل... إنّ الحديث يَنْسَاب، وكأنه الحديث المتسلسل عن الجنّة ... !
"يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)"...

إنهم كانوا يوفون بالنّذر، ليسَ نذرَ إيجاب طاعة على النّفس في حين بين الأحايين، مقرونا بشرط تحقّق حاجة من حاجات الدنيا، كمَن يُنذِر صوما إذا ما نجح ابنُه ...  بل هو ما عقدوا عليه العزم من الإيمان والطاعة والامتثال لأمر الله، والانتهاء عن نهيه، فهم ممّن يأخذون أنفسَهم بالعزائم ... ثم هم الموفّون، أي الذين يؤدّون على التمام والكمال ...

ورغم ذلك !!
رغم وفائهم، وأدائهم بالتمام، وحرصهم الكبير على الطاعة وتجنّب المعصية، تراهم : "وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا"
رغم أنهم موفّون، إلا أنهم يخافون ...! يخافون يوما عظيما مجموع له الناس، شرّه بالغٌ مداه في الانتشار والتطاير ... فهم على خِلاف مَن عرفنا في السورتَين السابقتين: " كَلَّا  بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ " -المدثر-    "كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ(20)وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ(21)"-القيامة-

فالذين لم يكونوا يخافون، كانوا يغرقون في لُجَجِ الفجور، ويستطيبونها، كانوا يضربون صفحا عن خوف يُخرجهم من تلك اللُّجج ... فلم يكونوا يرتدعون...

ثم ماذا ؟؟ ثم ماذا كان يعمل أولئك الأبرار؟؟ ماذا كان يعمل أولئك العباد ؟؟ ما الذي أبلغهم ذلك المبلغ، وذلك التشريف ؟؟
"وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)"

إنهم كانوا يوفون، وكانوا يخافون، ثم لقد كانوا يطعمون الطعام رغم حبّهم له، أو حاجتهم له مسكينا ويتيما وأسيرا ... كانت قلوبهم رقيقة على المحتاجين، وكانت أنفسهم رفيقة بالمعوزين ... ! كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة ... ! كانوا لا يبخلون بما عندهم على مَن رأوه صاحب حاجة ... وكم هو حافل هذا الجزء المبارك بالحضّ على إطعام المسكين، وإيتاء الفقير، وعلى الرفق باليتيم ...
حتى أننا قد عرفنا سبب غضب الله على الإنسان وأمرِه ملائكته أن يأخذوه فيغلّوه، ثم أن يصلوه الجحيم : " إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ(34)" -الحاقة-   بل قد عرفنا إقرار أهل سَقر على أنفسهم : " قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)"-المدثّر-

ولكن ...!!
إنه عطاء بلا منّ وبلا أذى، إنه عطاء بلا انتظار شكور ولا جزاء ...

"إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)"

ما أروَعَها من حال تكون النفس عليها، ما أعلاه من مقام تكون عليه في الدنيا، وهي التي تُخلِص وِجهتها لله تعالى، وتفرُغُ من كل شاغل يشغل عملَها، من كلّ عارض يَعرِض له بالناس... لا تريد جزاء ولا شُكورا، لا تريد شُهرة ولا ظهورا ... ثمّ رغمَ ذلك ما تزال تخاف ...!

لا يغادر الخوفُ أنفسَهم، الخوف من يوم عظيم، وصفه الله تعالى في الآية السابقة بـ : "كَانَ شَرُّهُ مَسْتَطِيرا"، ويصفه هؤلاء الآن بـقولهم: " إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)"

ولكأنّهم يصِفون وجهاً شديدا العبوس، كالحا، منقبضة قسماته...
قمطرير أي شديد صعب، يوم شديدة مصائبه، عظيمة أهواله...!
فهُم يعطون خالصا لوجه الله، ويخافون، كما أنهم يوفّون طاعةً ويخافون، يقرنون عملَهم بالخوف الدائم المتصل الذي لا ينقطع، لا يأمنون أنفسَهم... ولعمري هؤلاء هُم أصحاب النّفس اللوامة، التي لا شكّ أنها تكره أكثر ما تكره أن تزلّ، أو تقع، أو تعصي.... وهي النفس التي أقسم الله بها في سورة القيامة ...

يومٌ رغم توفيتهم كانوا يخافون شرّه المستطير، ورغم إطعامهم الطعام على حبه، كانوا يخافون عبوسَه وقمْطرتَه ... فما تُراها ستكون حالُهم فيه ؟

"فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) "

لقد وقاهم سبحانه ما كانوا يتّقونه، ولقّاهم في وجوههم نضرة وفي قلوبهم سرورا... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عن ربّه عزّ وجلّ قال: "وعزَّتي لا أجمَعُ على عبدي خوفَيْنِ وأمنَيْنِ إذا خافني في الدُّنيا أمَّنْتُه يومَ القيامةِ وإذا أمِنَني في الدُّنيا أخَفْتُه يومَ القيامةِ"-صحيح ابن حبّان-

هذا عن حالهم فيه ... فأما الجزاء :
"وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ  لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) "

ولقد بدأ ذكرُ الجزاء في السورة من شرب الأبرار من كأسِ مِزاج الكافور، ومن شربهم بها وتفجيرهم لها تفجيرا...

ثُـــــــــــــــــــــمّ ...

جزاء صبرهم في الدنيا... صبرهم على الطاعة، وصبرهم عن المعصية...هُم أولاء وسُكْناهم الجنّة، ولباسهم الحرير ...هم أولاء على الأرائك متكؤون، مرتاحون، مستروحون، مُكَرَّمون... إنهم وقد كان ذاك الخوف لصيقا بأنفسهم في الدنيا، قد أمِّنوا اليوم، فهم  آمنون، مطمئنون، ذهب عنهم ما كان يؤرّقهم... يعيشون ما كانوا لأجله يعملون، وما كانوا ربَّهم يسألون...استيقنوه في الدنيا، حتى هُم اليوم يعايشونه حقّ اليقين...

"لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا"....لا يعرفون فيها شمسا، بل ضوؤها ونورها منها، خاصٌّ بها، فلا حرّ، ولا قرّ ...

"وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)"
ظلال شجر تلك الجِنان... ظلالٌ لا من شمس، بل من ضوء الجنة ونورها، تتدلّى... دانية... فقُطوفها مُذلّلة سهلة المنال، متى شاؤوا قطفوها، متى شاؤوا أكلوا من ثمرها... وتلك المحاسنُ على المحاسن تُزادُ... فلا تجد في الجنّة مكانا يُجانبه الحُسن والجمال والرونق، والبهاء...لا تجد مكانا منها لا تلتذّ به الأعين، ولا تُسَرُّ بمَرْآهُ القلوب...!

ثم يُطنب الله سبحانه في ذكر نعيم الأبرار ...نعيم الموفّين بنذور طاعتهم، الخائفين أبدا ما وفّوا، المُطعمين الطعام على حبّه .... نعيم  عظيم مُقيم...!
نعم... هو ما لا عينٌ رأتْ ولا أذن سمعت، ولا خطر بقلب بشر، ولكنّ هذه الأوصاف القرآنية له تجعلك تستشعر اللذّة بالقدر الذي تستوعبه أنفُسُ الدنيا، وأنتَ تدري أنّ أنفس الجنّة ستُصنَع للجنّة، ولنعيمها الذي لا تعرفه الدنيا، فقِسْ تلك اللذّة...هل تقيس؟  إنك لن تقيس ...!!
« آخر تحرير: 2020-02-25, 09:33:16 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

"وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ "

يُطاف عليهم ... خدمٌ يخدمونهم، فهُم الملوك ...وأيّ ملوك!! إنه ليس لنا من الأوصاف إلا ما استوعبته تصوراتنا الدنيوية، أما أن نصف حقيقة ما هناك فذلك ما لا يكون ... !
هذه آنية طعامهم وشرابهم، فضّة ...وليست الفضّة وحدَها آنيتُهم في الجنة، بل الذهب أيضا ... إلا أنّ الله يذكر شيئا من نعيمهم في سورة، وشيئا منه في سورة أخرى، لنعرف غيضا من فَيض اختلافه وتنوّعه ...فقد قال سبحانه أيضا : " يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ  ..."-الزخرف: من الآية71-

وتلك الأكواب القوارير، الزجاجية، من فضة مقدَّرٌ ما فيها تقديرا، فقد يكون تقدير ما يشتهيه كلّ واحد من الأبرار، على اختلاف ما يشتهون، وقد يكون تقدير كميّة المِزاج، أو نوعه ... معلومٌ مُرادُهم، فهُم يُطاف عليهم بما يشتهون، وبالقدر الذي يشتهون ...

"وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا (18)"
وهذه كأس أخرى ... وهُم الملوك الذين يشربون مما يُسقَون ... فأما الأولى فكان مِزاجها كافورا، وقد عرفناها عينا يشرب بها عباد الله، وأما هذه فمِزاجها زنجبيل، وهي عينٌ في الجنّة تُسمّى سلسبيلا ...
والسلسبيل هو الشراب سهل المرور في الحلق لعذوبته... !

ثم يزيد الله سبحانه، فيصوّر لنا مشهدا جديدا من مشاهد خدمتهم في الجنة، ومن مشاهد تنعّمهم...
إنّ الكثير منهم كان في الدنيا مُعدَماً، فقيرا، ولكنّه كان صابرا راضيا، لم يجعل فقرَه حجّة لزَيْغِه عن طلب الحلال، لم يلِج أبواب المال السّهل الذي سُرعان ما يكثر فيصير ثروة...من رشوة يقضي بها لأحدهم حاجة يمنعها مانع من قانون ربانيّ أو قانون أرضيّ، أو من خلط أخماس بأسداس، فالحلال عنده حلال والحرام عنده حلال، ثم يتباكى ويُلصِق جُرمَه بالمجتمع وبِعُسر حاله وهو يقول: "جعلوني مجرما"...!

عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قُمْتُ علَى بَابِ الجَنَّةِ، فَإِذَا عَامَّةُ مَن دَخَلَهَا المَسَاكِينُ..."-صحيح البخاري-

كما قال صلى الله عليه وسلم : " يُؤْتَى بأَنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيا مِن أهْلِ النَّارِ يَومَ القِيامَةِ، فيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابْنَ آدَمَ هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا، واللَّهِ يا رَبِّ ويُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا، مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا، واللَّهِ يا رَبِّ ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ."-صحيح مسلم-

كثير منهم  كان في الدّنيا مُبعَدا عن الأضواء، وعن الإعلام، مغَيَّبا في السجون، أو مغيَّبا بالتهميش والإقصاء والظلم، لا لشيء إلا لأنّه  كان داعيا إلى الله على بصيرة ...! أو لأنّه كان يقول كلمة حق في وجه سلطان جائر، أو لأنه كان يأمر بمعروف وينهى عن منكر، فكان يكفر بالعَلمانيّة التبجُّحيّة المحاربة للدين، وكان يكفر بالتحرّر الأعمى، وكان يحبّ للمرأة عفافا ووقارا، وكان يحبّ للرجل شهامة ومروءة وكرامة ...!

كان السلطان بين سلاطين الدنيا، يشير ببنانه ليُغَلَّ مُقلِقُ النوم الإيمانيّ العامّ، وليُساق إلى حيث لا يبقى له صوتٌ يُسمَع، ولا اسمٌ يُذكَر ... ! ولكن ... لمَن المُلك اليوم ؟؟ لمَن السلطان ؟؟ لله الواحد القهّار ...!
وهُم المؤمنون الصابرون، اليوم مُلوك ... وأيّ ملوك ...!! من لم يرتضوا في الدنيا عن رضى الله بديلا .... فما غيّروا، وما بدّلوا، وما غابت عنهم الجنّة، وما غاب عنهم وعدُ الله بها ...!

"وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) "

وِلْدانٌ جُعلوا في الجنة لهم، ليخدموهم، وليسقوهم، وليطوفوا عليهم بأواني النعيم ...مخلّدون، دائمون على حالهم، وعلى وضاءتهم ... حتى إنك إذا رأيتَهم حسبتَهم من وضاءتهم لؤلؤا منثورا ... واللؤلؤ جمال، وانتثاره جمال على جمال ...فهُم في كثرة ووضاءة .... وأيّ حُسن هو للخاطر أروعُ ...؟! وأيّ خيالٍ فينا يُفلِح فيصوّره ؟!

وإنك وأنت تتقلّب بين صور كأس يُسقَوْنَها، فمِزاجُها تارة كافور، وتارة زنجبيل، وبين أعين الجنة، فتلك يفجّرونها تفجيرا، والأخرى تُشرَب هنيئا سلسبيلا ...وبين أرائك يتمدّدون عليها مستروحين، وظلال شجر دانية، وثمار لها مُذلّلة ...!  وبين صور لآنية فضة يُطاف بها عليهم بألوان الطعام والشراب، ولؤلئ الولدان المخلّدين... ما عساك تخال ؟! إنّك لستَ تخالُ إلا الملوك في قصورها المنيفة، وعزّها التّليد، وأمرِها المُطاع ... فيقرّب لك الملِك الرحمن المعطي المتفضّل  الوصفَ وهو يقول :

"وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا"

وكأنه سبحانه يُشوّقُك... وكأنّه يفتح لك نافذة تطلّ منها على ذلك النعيم... تلك نافذة القرآن ... تلك نافذة سورة الإنسان بوجه أخصّ، وهي التي جاء فيها أطول وصف لنعيم الجنّة ...
إذا رأيتَ ثمَّ ... أي إذا رأيتَ هناك ... رأيتَ نعيما ومُلكا كبيرا...!فمَن يصف المُلك بالكبير ؟! إنه الله عزّ وجلّ الذي يقصّ الحقّ ... إنه مُلك حقا ... بل ملكٌ كبير ...!

سبحانك ربي...! تُعطي في الدنيا، ومن كرَمِك تجعل الإنسانَ مالكا لما أنت له المالك، وتُعطي في الآخرة، وتجعل عطاياكَ مُلكا كبيرا لأهلها ...! وأين مُلك الدنيا مهما بلغ من مُلك الآخرة ؟!

أما الآيات التالية ففيها هيئة الملوك، من بعد ما عرفنا شرابهم وطعامهم، وأرائكهم، وخَدَمَهُم   ....   :

" عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ  وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) "

والسندس الرقيق من الديباج، والإستبرق الغليظ منه ...وهما من أجود أنواع الحرير ... وكأنه لما قال سبحانه : " وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) "... فصّل تالياً، فجاء بشيء من أحوال الجنّة التي جزاهم بها فيما عرفنا أعلاه، ثم جاء بشيء من تفصيل الحرير في هذه الآية وهي تُسمّي صُنوف لباسهم...!

ثُمّ هم الملوك المُحَلَّون بأساور  ... وليست أساور الفضة وحدَها حُليّهم، بل يُحَلَّوْن فضة وذهبا ولؤلؤا ... إلا أنه -كما أسلفت- يفرّق القرآن ألوان النعيم بين السُّوَر ... وقد جاء في سورة الحج قوله سبحانه : " إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا  وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)".

وكما بدأ النعيم المذكور في السورة بالشراب، ينتهي بالشراب ...
ولكن هذه المرة في صيغة عالية، صيغة عظيمة كريمة، فيها العطاء المُدهِش، والكرم المُبهِر ... فيها اليدُ العليّة العظيمة الخالقة المُنعِمة وهي تُكرِم :
"وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا"... تنزيه لشراب الجنّة عن كلّ ما يُظنُّ أنه مشابه لبعض أشربة الدنيا الخبيثة المُذهبة للعقول ... إنه طهور ... فيه اللذّة، والعذوبة والأذواق المختلفة، وما فيه شيء من خُبث...!

ثُــــــــــــــمّ ......

"إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا (22)"

وختامُها مسك ...خِتامُها كلمات من الله سبحانه لعباده المفجِّرين لعين النعيم تفجيرا... الشاربين من السلسبيل... الراتعين في نعيم مقيم، هو من ربّهم عطاء وجزاء  ... وأيّ جزاء !
إنّهم إذ يسمعون كلمات ربّهم، وإذ يرون وجه ربّهم فذاك النعيم الذي لا  يُدانيه نعيم...! إنه سبحانه يذكّرهم بما قدّموا من عمل استحقوا لأجله هذا الجزاء، وليس ذلك إلا كرما منه سبحانه، وهو الذي لا تُوَفَّى نِعَمُه شُكرا، بل إنّ تفضُّلَه على عباده وإحسانَه من عظيم كرمِه، وواسع رحمته ...!

وإنه فوقَ إعلامهم أنّهم استحقوا الجزاء بما عملوا، يزيد سبحانه فيشكر سعيَهُم  : " وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا" –الإسراء:19-
وهو سبحانه الشاكر العليم : " مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ  وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا"-النساء:147-
وسبحان الله ...! لفتَ انتباهي تناسق وتكامل في هذه السورة العظيمة ...!
ذلك أنّ الله تعالى وصف المؤمن في مطلعها بـ "شاكر" ... وفي هذه الآية الله جلّ في عُلاه هو الذي يشكر في الجنة سعيَهم الذي سعوه ...!

فإذا نحن أمام شكر وشكر... شكر من الإنسان العبد لخالقه الذي خلقه وزوّده بوسائل المعرفة والإدراك والتمييز، وهداه السبيل، يقابله من الله سبحانه شكر على شُكرِه، وشُكر الله تعالى جزاء بالجنة ونعيمها، يتبعه شكرٌ منه يُسمِعُموه  ...!
كما لا ننسى كم كان حِرص الأبرار في الدنيا على أن يكون عملُهم خالصا لله، لا يريدون عليه جزاء من الناس ولا شُكورا : " إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا "...  فلمّا أخلصوا له سبحانه، وجرّدوا أنفسهم من الحاجة لجزاء الناس وشُكرهم، كان لهم الجزاء من الله والشكر منه سبحانه ...
فهذه واحدة من سِمات هذه السورة وخصائصها ... "الشكر" ... 

أنه سبحانه قد خلق الإنسانَ، وقد ارتضى له الإيمانَ، ورضي له الشُّكرَ، ثم جعل له الجزاء العظيم والشُّكرَ على شُكره ...
وحتى الآن قد مررنا بجزئيْن يصبّان في معنى عنوانها "الإنسان" ...
عرفنا أصلَه الذي لم يكن شيئا، والذي ما كان شيئا إلا بالله الخالق الذي خلقه من نطفة أمشاج، وما خلقه إلا ليبتليه، وما ابتلاه إلا وقد زوّده بوسائل الإدراك والتمييز، ليصل إلى الحقّ  ... سبحانه لا يريد به إلا خيرا ... فخلقه بسنّة الابتلاء الماضية فيه، وقد أعدّه له ...

فحباه بعقل، وبفطرة تميل إلى الحق، وهداه السبيل، وألهمه الاختيار، وجعله ذا إرادة حرّة ... فإما أن يشكر وإما أن يكفر ...
فأما الكافر فمآلُه أجمله سبحانه في ما أعدّ له من عذاب جزاء جحوده ونُكرانه وكفرانه، وأما الشاكر فعرفنا جزاءه العظيم، وما أعدّ له الله من نعيم... بدءا بالكأس التي يشرب منها، مرورا بذكر جنّة دُنياه، إذ كان بصيرا بالحق سميعا له، فكان مطيعا، حريصا على الطاعة، صابرا عليها،   فعلى توفيته كان يخاف يوما عظيما، فوقاه الله شرّ ذلك اليوم، وأسهب سبحانه في ذكر نعيم يلقاه في الجنّة مُقيما، يُتبِعه بشكر منه لعبده الذي عاش عارفا، مؤمنا، شاكرا ....!

وبَوْنٌ شاسع بين إجمال ما ينتظر الكافرين، وتفصيل في شأن ما ينتظر الشاكرين...  في هذه السورة تحديدا، يُجمَل مآل الكافرين ...سورة الإنسان .وكأنّ الله تعالى يُسهِب فيما يريد للإنسان، سبحانه لا يريد به إلا خيرا ... خلقه ليبتليه، وما ابتلاه إلا وقد زوّده بما يجعله أهلا لاختيار الحق ...يريد له جنّة الدّنيا بالطاعة، وجنّة الآخرة بالشُّكر والجزاء الحَسَن ... !
لهذا خُلقتَ أيها الإنسان...! لم تكن شيئا مذكورا، ثم خلقتَ وجعلك ربّك شيئا مذكورا لا لتكون هملا، لا لتُترَك سُدى ... بل لتُحسِن الاختيار، وليكون لك عليه الجزاء الحَسَن ...!
« آخر تحرير: 2020-02-25, 09:34:07 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ثم ها نحن نبلغ من تجوالنا النعيميّ في هذه السورة المُنعِمة المنعَّمة، مبلغا نريد أن نتبيّن وصلَه ...

"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) "

انتهى الحديث عن ألوان نعيم الجنّة المُعدّ للأبرار... ويُعقَبُ مباشرة بهذا الخطاب الموجَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مبلّغ هذا الهُدى للإنسان ... صلى الله عليه وسلم الذي بُعِث رحمة للعالمين... رحمة للإنسان أينما كان وفي أي زمان كان ... بُعِث بالهُدى الذي يجعل الإنسانَ شاكرا على أن هُدِي السبيل ... على أن لم يُترَك للأهواء تتقاذفه ذات اليمين وذات الشمال ...  بُعِث حلقة خاتِمة متمّمة للسلسلة النبوية الدُريّة التي بدأت منذ بدأ خلق الإنسان، بدأت من سيدنا آدم عليه السلام أبي البشرية، الإنسان الأول...والنبيّ الأول  ... وانتهت برسول الله صلى الله عليه وسلم ...

اقترنت بداية الإنسانية بالنبوّة، كما اقترنت كلمة خلق الإنسان من نطفة أمشاج بـ "نبتليه" ... هداية للإنسان مذ  صار شيئا مذكورا ...! وكذلك لو تأمّلْنا فإنّ "مِن نُطفَة أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيه"  اقترنت هي الأخرى بـ : "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ...."
نبتليه... فنهديه ... ! وما تبلغ هدايتُه سبحانه إلا عبرَ رُسُلِه، وعبرَ كُتُبه...
وهذا ختام السلسلة النورانية الهادية محمد صلى الله عليه وسلم ...

"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)"

"إنّا" و"نحن" و"تنزيلا" كلها تأكيد عليه تأكيد، أنّه من عنده لا مِن غيرِه...وأنّه نزّله على صفيّه صلى الله عليه وسلم تنزيلا، أنزله منجَّما ، مفرّقا، لحكمة عنده سبحانه، كانت الآيات تنزل ولها سبب نزول من حدث بين الأحداث التي كان يعايشها الناس...
ولقد لاجَّ الكفار في نزوله منجّما: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً  كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ  وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا"-الفرقان:32-

فكان نزوله منجَّما أمرَ الله تعالى وحُكمَه، وهذه دعوة منه سبحانه لنبيّه أن يصبر على حكم ربّه، وهو المقضيّ، وهو الذي يكون، فالله لا يسترضي أحدا، بل يقضي بما يحكُم ...! فهم قد لاجّوا في كثير من شؤون الرسول والرسالة، والله سبحانه في كل مرة يبيّن أنّ إرادتَه وحكمَه هوالماضي، شاء منهم من شاء وأبى منهم مَن أبى ...!

هذا من جهة  ... ومن جهة أخرى، فهو بيانٌ له أن استعجالَهم نزوله جملة واحدة، ليس محلَّ شيء في ميزان الحكمة، ونحن مع لاحِق آيات السورة سنجد وصفَهم بمحبيّ "العاجلة" ... فشأنُه هو صلى الله عليه وسلم في هذا المقام التربّص، والتريّث، والثقة في أمر الله وحُكمِه ... وأستحضر هنا الأمرَ له في سورة القيامة بألا يحرّك لسانه بالقرآن ليعجَل به، لأنّ الله تعالى تكفّل بجمعه في صدره على تفرّق نزوله آيات آيات، إذ لم تكن آيات السورة الواحدة تتتابع نزولا، بل كانت تنزل آيات من سورة، وتنزل عليه بعدها آيات من سورة أخرى، ثم آيات من سورة ثالثة، وهكذا .... كان يُؤمَر صلى الله عليه وسلم في كل مرة أن يُلحِق ما نزل عليه جديدا بسورة كذا ... هذا ما تكفّل الله تعالى بجمعه له في صدره فأمره ألا يحرّك لسانه خلف جبريل عجلةً منه وخوفا أن يضيع منه شيء ...

وعرفنا أنّ سورة القيامة كانت صبغتُها العجلة في تتالي الصُّور تدليلا على سرعة هذه الدنيا، وسرعة موعد يوم القيامة ...
وكذلك هنا ... عرفنا أصل الإنسان، ثم زادَه في طريق الابتلاء التي خُلق لها، ثمّ مآله عند رجوعه إلى الله ...مآل الكافر ومآل الشاكر...كلّ ذلك كان في ومضات متسارعة متلاحقة، تصوّر عَجلة الدنيا ...عجلة العاجلة ...

ورغم ذلك نجد استثناء ما لا يستدعي العجلة، وما يجب معه الصبر، والتؤُدة، والتريّث ... في موازنة بين أمر وأمر... ذلك أنّ حكمَ الله كما حكم وكما شاء، وكما أرادت حكمته، هو ما يستدعي الإذعان له، والصبر له، والثقة بالحكمة من ورائه ... كذلك جاء هنا الأمر له صلى الله عليه وسلم أن يصبر لحكم ربّه ... وألا يلتفت لملاجّتهم في نزوله منجّما، وقولهم لولا أنزِل جملة واحدة ...
إذن فهي المُوازنة بين حقيقة عجلة الدنيا، وبين ضرورة الإذعان لأمر الله تعالى وحُكمِه، وعدم المَيْل إلى ما يُمليه البشر من نظرات مستعجلة، متسرّعة، لا حكمة فيها ولا رَشَد في تقديرها ...

"فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا"

فهذا تثبيت له صلى الله عليه وسلم على طريق الدعوة الشاق المُضني، المليئ  بالمُلاجّات والتجرؤات من أهل الكفر والتكذيب ...دعوة للصبر رغم كلّ ما يراه من عتوّهم، وغلبَتهم... لا تطع منهم كثير الإثم، ولا الكافر المتعنّت الذي لا يُظهر من نفسه فُرجة يبصر منها نورا، ولا مندوحة يسمع بها حقا ...

وها هنا تصديق لما جاء في سورة القلم من أمر له أيضا بألا يطيع المكذبين، وألا يطيع الحلاف المهين، العتلّ الزنيم :" فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ(08) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(09) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ(10)..."-القلم-
كلُّه أمر له بألا يسمع لشيء من إملاءاتهم، بل وبيّن له سبحانه أنّهم يُملون حتى بغلاف المُلاينة والمداهنة، وأنّ هذا الدين لا مُداهنة فيه ..."وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا".

إنه الخطاب الإلهيّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم لتثبيته على درب هداية الإنسان، فالأمرُ والحُكم للربّ الخالق لهذا الإنسان، أما مَن أعرض عن هُداه من عباده، وكفر وعتا وأثِم، فإنه لا طاعة لأمره...
في سورة الإنسان...  الأمرُ والحُكمُ لله، عَبْرَ القرآن ... لا للإنسان ...

وفي سياق سورة الإنسان، وعظمة سورة الإنسان في شأن أصلِه، وعَدمِيّتِه من قبل أن يجعله الله شيئا مذكورا، ثم هدايته بوسائل الهداية المختلفة... جاء القرآن ... القرآن الذي هو قِيادُه في هذه الدُّنيا، وهو الروح للروح، كما أنّه مَنجاتُه يوم القيامة ... فلا قِيام للإنسان، ولا معنى لذِكرِه بعد أن لم يكن شيئا مذكورا من غير القرآن ...!

أنتَ يا محمّد ... يا مَن بُعِثتَ إنسانا تبلّغ الإنسان في كل زمان وفي كل مكان، يا مَن أنت الحلقة الخاتِمة في سلسلة الهداية الربانيّة عبْرَ الإنسان إلى أخيه الإنسان ... ! إنّ زادَكَ على هذا الدرب الشاقّ، على هذا القول الثقيل... على تبليغ الرسالة وأداء الأمانة العظيمة للإنسانية قاطبة ... الممتدّة عبر الزمان ببقاء هذا القرآن، وبما يحمل من دواء للإنسانية من عِللها التي تفتِك بها :

"وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)"

أن تذكر الله أناء الليل وأطراف النّهار، ذلك زادُك وزُوّادُك على درب تبليغ الإنسانية هِداية ربّك ... وقد سبق وأن عرفنا في سورتَي المزمّل والمدّثّر هذه التربية الربّانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الزاد العظيم له على درب الدعوة... فعرفناه قائما لربه، قائما بالدعوة ليلا ونهارا...
وعَوْداً على بدء، يعود بنا سبحانه إلى حال الكَفُور، الذي حادَ عن السبيل، وأعرض عن هداية الله تعالى، ذلك أنّه في بدايات السورة، بيّن لنا الله سوء مآلَه...أما هنا فهي العلّة الكامنة خلفَ إعراضه وكفره ...

"إِنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ  وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)"

يحبون العاجلة حبّا تركوا معه يوما ثقيلا...يحبّون العاجلة وزُخرُفَها المتمثّل لأعينهم، ويتخذون وعدَ القرآن بالجِنان والنعيم ظهريّا، ولقد سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في معرض لجاجهم أن يجعل لهم الصفا والمروة ذهبا، وأن يحقق لهم الخوارق ليؤمنوا بزعمهم...بل وعرفنا في سورة المدّثر أنّه يودّ كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشّرة ليؤمن...ينكرون الغيبيات، ويستمسكون بما تلمسه أيديهم، بالعاجل الذي يعضون عليه بالنواجذ حبّا وتعلّقا... وحالهم هذه على خلاف "الشاكر" الذي عرفناه من تصديقه وإيمانه بوعد القرآن ووعيده، رغم توفيته يخاف يوما كان شرّه مستطيرا، يخاف يوما عبوسا قمطريرا، فما كان إلا أن وقاه الله شرّ ذلك اليوم ...

"نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ  وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا"

وحديث عن الخلق مع أواخر سورة الإنسان، كما كانت بداياتها كذلك حديثا عن الخلق ..."وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ  " أي أحكمنا خلقَهم وأتقنّاه. والأسر مشتق من الإسار وهو الحبل الذي تُشَدُّ به الأحمال، ومنه الأسير أي الذي يُقيّد ويُربَط بالإسار.
سبحانه الذي خلق فأحسنَ الخلق، وأتقنه، وأتمّه على أكمل وجه : " خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ  وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ"-التغابن:03-
هو القادر سبحانه على تبديلهم، سواء في ذلك معنى تبديلهم بإعادة بعثهم بعد الموت وهو ما أنكروه حتى تركوا وراءهم يوما ثقيلا، أو تبديلهم بآخرين، مطيعين منيبين ... هو تذكير لهم بهوانهم على الله، وهم الذين لم يكونوا شيئا مذكورا، فخلقهم وسوّاهم وعدّلهم ...وهو القادر على تبديلهم...

وإنّ هذا لهم لتذكرة ... ودعوة تتوجّه لهم ليرعووا ...لذلك تأتي الآية الموالية :

"إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ  فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا (29)"

الاختيار الذي ذُكِر في أول السورة : " إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا "...   فمن شاء اتّخذ إلى ربه سبيلا ...ذاك السبيل الذي هداه الله إليه... فمن شاء كان شاكرا لله على أنعُمِه المديدة...
وعليه، يقرّر سبحانه حقيقة طلاقة مشيئته في شأن الإنسان الذي خلقه، وشدّ أسرَه، وجعله سميعا بصيرا، وهداه السبيل، وجعله مخيّرا، ولما أن أراد له الخيرَ وعاقبة الخير زوّده بوسائل الإدراك السليم وبلوغ الحقّ والتبصّر بسبيله... إنها طلاقة مشيئته الماضية في كل ما خلق :

"وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ  إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)"

سبحانه، علمه محيط بكل دقيقة وجليلة، حكمته تامّة، هو سبحانه الذي يُلجَأ إليه... هو الذي خلق، وهو يعلم من خلق، وما يوائم مَن خلق : "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ"-الملك:14-
هو سبحانه الذي شاء أن يكون للإنسان اختيار وإرادة حرّة، ولو لم يشأ لم يكن، هو سبحانه الذي تحيط مشيئته بكل شيء، فلا يكون إلا إرادتُه ... وهو الملاذ وهو العِياذ، وهو الذي يُستخار، وهو الذي يُسأَل ويُستهدى...فلا يذكر الإنسان ولا يهتدي، ولا يشكر، إلا بفضل من الله وهداية منه سبحانه، ولا يستمرّ ذاكرا شاكرا إلا بسؤال الله أن يجعله ذاكرا، شاكرا...

وفي سورة الإنسان تحديدا، نجد هذه الآية التي تبيّن خضوع مخلوقات الله تعالى لمشيئته سبحانه... تبيّن خضوع الإنسان لمشيئته التي هي مشيئة علم وحكمة ... وليس هذا معناه شَلّ إرادة الإنسان، بل على العكس هي تعني أنّ الله سبحانه هو الذي شاء أن يكون للإنسان مشيئة وإرادة ... وعلى هذا يصحّ معنى الابتلاء الذي يكون وفيه مَن ينجح ومَن لا ينجَح وِفق اختياره الذي كان ... وعلى هذا فهو سبحانه عليم بمَن يستحقّ الجزاء الحَسَن، وبمَن يستحقّ العقاب :

"يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ  وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)"

مشيئة علم وحكمة وعدل، فيُدخل في رحمته سبحانه مَن يشاء، والظالمون بما قدّمت أيديهم، وبإيثارهم الباطل على الحق، والضلال على الهُدى، قد أعدّ لهم سبحانه عذابا أليما.

وهكذا قد عرض سبحانه في سورة الإنسان رحمتَه بالإنسان مُذ أن جعله شيئا مذكورا...فخلقه ليبتليه، وما ابتلاه إلا وقد كرّمه بالعقل وبالفطرة السليمة النقيّة، وهداه سبيل الحقّ عبْرَ كُتُبِه ورُسُله، وجعله مخيّرا وذا إرادة حرّة ، ثمّ أعدّ له نعيما وملكا كبيرا في الآخرة إن هو أحسن الاختيار...

رحمة بالإنسان تتبعُه من بدايته، إلى نهايته، إلى مآله ...
سورة الإنسان فيها حبّ الله الخيرَ كل الخير لعبده...يمهّد له سبيل الفوز والفلاح، وييسّره له، ولا يدع شيئا يبلّغه إياه إلا وأكرمَه به ... حتى أنّ الإجمالَ في مآل الكافر وما يقابله من إسهاب في مآل المؤمنفي سورتنا، ينقل لنا مُراد الله بخلقه لعبده، صورة من صوَر ما يريد بعبده من خير...

ويتبجّح الإنسانُ، ويتعجرف في صِلف وهو يتذمّر تذمُرَه الكاذب ، من إله يترك المظلومين والمشرّدين في الدنيا بلا نصر ولا عون، ولا يمنع الظالم عن ظلمه، ويُجري على الناس الأوبئة والأمراض وعصيبَ الابتلاءات، ويعذّب بالنار... ! يقول هذا وكثيرا من قبيله، وهو الذي ما آمَن أنه مخلوق ليُبتَلى، مخلوق ليرى منه الله ما يعمل، وهو الذي جعله في الأرض خليفة ... وهو الذي وكّله بالعدل فيها، والرحمة والإخاء، والبذل والعطاء... خلقه ليختبرَه، وجعل بعض الناس لبعضهم فتنة... وهذه هي سنّة الخلق ... فمن أعرض عنها، ولم يؤمن بها ظلّ على طوى من معنى الحياة وظمئ، لا يشبع ولا يرتوي، ويختلق بهواه قشّات الحُجج وما من منقذ له ولا مُغيث من تَيْهِه وضياعه  ...!

فاللهمّ يا مُكرِم الإنسان ويا راحمه، ثبتنا على الحق وعلى الهُدى، ولا تُمتنا إلا ونحن مؤمنون مسلمون، مطيعون ...
« آخر تحرير: 2020-02-25, 09:45:25 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب