المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (سورة المدّثّر)  (زيارة 1384 مرات)

0 الأعضاء و 2 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وها قد قطعنا على طريقنا خطوات ...
وقد استزدْنا لكل خطوة بقبس من مشكاة سابقتها ... فاستنرنا، وعشنا الآيات حركة وحياة ...
استشفَفْنا من الربط والاتصال والاتساق، قواعد ليست من وضع أحد من الناس، لا من عقل جهبذ بين الجهابذة، ولا من فكر فيلسوف بين الفلاسفة، ولا من فَرْي عبقريّ بين العباقرة ... !

إنها من أمر الخالق البارئ، الملِك سبحانه ... ملك أيام الدنيا، وملك يوم الدين،  خالق النفس، العالم بها قبل أن تكون، وكما هي كائنة، وكما ستكون ...الذي خلقها، وهو يبعثها، فمنه كانت، وملكه هي ، وإليه ترجع ...
قواعد غفلنا عنها، وروحٌ في القرآن غطّيناها بدثار القراءة الحرفيّة والاكتفاء الحرفيّ... ! فتمثّلت لنا قداستُه في هيكَلِه مصحفا يُحفظ، ويُهدى  ... !
قواعد لحركة الإنسان في الأرض ... هي المشكاة على درب حياته، وهو المتخبّط أبدا ما غفل عنها ...
وتبهت الحياة، وتسكن حركتُها، ما لم تحرّكها الروح، وكذلك لا يتحرّك القرآن فيك ما أخذتَه هيكلا، مجرّدا عن روحه ... ! روح هو من أمر ربّك وحده، كما أنّ الروح فيك من أمر ربك وحده... فما يُحيي الروحَ فينا غيرُ روحِه ... !
وإني لأهُمّ بخطوة جديدة ...  فهلمَّ... !

بين يَدَيْ سورة جديدة... مطلعها نداءٌ عُلوِيٌّ من الله تبارك وتعالى لنبيّه وصفِيِّه صلى الله عليه وسلم: " يَا أَيُّهَا المُدَّثِّر" ... كما كان مطلع السورة السابقة كذلك نداء له: "يَا أَيُّهَا المُزَّمِّل" . وكلتاهُما سورتان من أوّل ما نزل من القرآن الكريم ...كلتاهُما باكُورة القرآن إلى الأرض، وأوّل الغيث منه إليها ... فكانت بدايات العلق، ثم المدثر، ثم القلم ثم المزمّل ...

"المدثّر" هي السورة التي نزلت بعد فترة الوحي، حينما كان صلى الله عليه وسلم في بداية شأنه معه، وكان في تلك الحالة من الحيْرة والخوف، والانتقال من حال الخُلُوّ إلى حال المسؤوليّة العظيمة الجسيمة، التي أُلقيت إليه من ربّه أمانةً يؤدّيها إلى كل أهل الأرض في كل زمان...

ولقد سُبِقت في النزول بسورة العلق، ثم فتَر الوحي، فلم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء، حتى حنّ إليه، وخاف أن يكون ذاك الذي ملأ عليه كيانَه نورا، ونزل شافيا لغليله، وهو الذي اختلى في غراء وقد أدبَر عن كل اعتقادات قومِه، ذاك الذي نزل يعرّفه بربّه الذي خلق، يُحدّثه بحديث السماء، ويأمره أن يقرأ باسمِه ! خاف صلى الله عليه وسلم أن يكون خيالا، أوسراباً أوْمَضَ ثم مضى ... !
حنّ إلى كَنَف الله وهو يرسل إليه مَن يبلّغه كلامَه، ويخاطب فيه نفسا هيّأها ربُّها لِمَا لمْ تكن تدري أنها له تُهيَّأ، بل لم تكن تدري أنها التي لأجله خُلِقَت... ! لم يكن يدري أنّه قد كان الصادق الأمين، الذي هيّأه ربُّه ليبلّغ الحقّ بأمانته وبصدقه كما نزل عليه... !
لم يكن يدري وهو الذي ثبّتَتْه خديجة وهي تُعدّد خِصاله : "إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتكْسِبُ المَعْدُومَ، وتقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ" أنّه كان كلَّ ذلك قبل أن يُرسَل إليه ويُبعَث فيهم، في تهيئةٍ ربّانية لقلبه ونفسِه وِعاء زكيّا يوعي قُدسيّة الوَحي وطهارته وثِقل قوله... !

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنَّهُ سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحَدِّثُ عن فَتْرَةِ الوَحْيِ(أي فترة انقطاعه عنه) : " فَبيْنَا أنَا أمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا المَلَكُ الذي جَاءَنِي بحِرَاءٍ قَاعِدٌ علَى كُرْسِيٍّ بيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ، فَجَئِثْتُ منه(أي ثقلتُ منه) حتَّى هَوَيْتُ إلى الأرْضِ، فَجِئْتُ أهْلِي فَقُلتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُونِي، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أيُّها المُدَّثِّرُ قُمْ فأنْذِرْ} إلى قَوْلِهِ {فَاهْجُرْ} - قالَ أبو سَلَمَةَ: والرِّجْزَ الأوْثَانَ - ثُمَّ حَمِيَ الوَحْيُ وتَتَابَعَ" .

وفي روايات أخرى أنه قال "دثّروني"
وعلى هذا فإن  المرويّ في سبب نزول "المزمّل" و"المدثّر" متقارب، والجامع بينهما أنهما نزلتا بعد فترة الوَحي(بعد انقطاعه عن رسول الله)، وأنهما متقاربتان جدا في زمن النزول، وما تحمل السورتان يؤكّد ذلك، وهما تُلقيان بالأمر الفَصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الدّعوة، وأنّه قد وجب عليه "القيام"
وممّا جاء في الحديث أعلاه : " ثُمَّ حَمِيَ الوَحْيُ وتَتَابَعَ "، يتبيّن أنّ ما بعد المدثّر نزولٌ فلا فتور ولا انقطاع، طيلة ثلاثة وعشرين عاما قضاها صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة .

"يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)"

نداء ربانيّ علويّ فيه التلطّف والتحبّب للحبيب الذي أنزِلَ عليه ما أثقَلَهُ، وجعله يهرع إلى أنيسته في الناس وحبيبته وحاملة همِّه أن تُدثّره وأن تزمّله، محاولاً لَمْلمَةَ أشتاتِ نفسِه الذاهبة مما حلّ به ... !
والمدّثّر هو المتّخذ دثارا، أي المتغطّي، المتخذ غطاء، والدّثار هو ما يدفّئ الإنسان مما يلي ثيابه اللصيقة بجسمه، وما التصق به من ثياب يُسمّى شعارا،  وقد قال صلى الله عليه وسلّم واصفا قرب الأنصار إلى قلبه: "الناس دِثار والأنصار شِعار" .

إنه لم يعد من وقت للنوم، ولا للراحة ... "قُمْ"
 كما جاءت في المزّمّل "قُمْ"، جاءت كذلك هنا : "قُمْ" .. في الأولى جاء الأمر له بقيام الليل، وفي هذه جاءه الأمر بالقيام للإنذار  : " قُمْ فَأَنذِرْ "

إنه صلى الله عليه وسلم، قد بُعِث في ظُلمة ليْلٍ حالك غشّى الأرضَ، وفي غياهِبِ ضلالات عن الفِطرة السليمة ومعرفة الربّ الخالق، وفي لُجّ خُرافات واختلاقات ما أنزل الله بها من سلطان، وفي غيابات أهواء وشهوات هَوَتْ بالإنسانِ إلى الدَّرَكِ الأسفل... إلى الغريزية والبهيميّة... !

قد بُعِث صلى الله عليه وسلم في هَرجٍ ومَرجٍ، وفي خلط وخبط تَرَاكَمَ على الإنسانية فأذهبْ بريقَها ولمعانها، وجعل منها مسخا لا هو من الإنسان ولا هو من الحيوان ... !

قد بُعِث صلى الله عليه وسلم سِراجا ينير في دُجى بهيم، نورا يُشعّ على الأرض التي ألِف عامّةُ مَن عليها الظُّلمَة، فلم يعد يستوعب قوّة النور، حالُه كحال مَن يفرُكُ عينيه منها وهو يتّقيها بيدِه لئلا تقضّ مضجَعَ عقلِه، وتُنهضَه من سُباته...! وأفٍّ ثمّ أُفٍّ لمَن يُؤذي عينَه بالنّور... !
ألِفوا الخُرافَةَ والتذلّل للحجر المنقوش بأيديهم، والخشب المنحوت بأيديهم، ألفوا تقديم آيات الطاعة بالقرابين والتعويذات، والشّعوذات ... !
فجعلوا لله العليّ الكبير الصاحبةَ من الجنّ، والولدَ من الملائكة : " وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ  وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ " -الأنعام :100-

عرفوا أنه الخالق، وأنه الله، وأنّه العظيم، وجعلوا له الشريك والنِدّ، وجعلوا معه الفاعل والمؤثّر، وكلّه خَلْقٌ من خلقِه ...!
استكبروا أن يطيعوا له أمرا، أو أن يصدّقوا رسولا من رُسُلِه، وهم فيهم ومنهم ويعرفون صِدقَهم ! يتشبّثون بالقشّة الواهية من الحُجَج ليتولّوا عنهم وعمّا يَدْعون إليه من توحيد... ألِفوا ما ألْفَوا عليه آباءَهُم، وعبدوا ما عبدوا قبلَهم من حجر ومَدَر، وما هي إلا صورٌ لرجالٍ صالحين منهم، بينما أنكروا على الرّسول الهادي المبعوث من الله أن يكون بشرا...! أعرضوا عن اتّباع البشر ... وكأنّ الصالحين الذين صوّروهم حجرا وخشبا لم يكونوا بشرا... !!

في هذا الخِضَمّ وأكثر، بُعِث الهادي صلى الله عليه وسلم، وأنزِل عليه القرآن نورا، فجاء الأمر له بالقيام ليُنذر ! وكيف لا يكون الإنذار من سوء عاقبة ما غرقت البشريّة فيه من أوحال وأدران وأرجاس ... !

قُمْ فأنذِرْ ... !
إنك من الساعة، لم تعد محمد الجار والنسيب والقريب في قريش، والذي لا يخفى على قرشيّ ولا على عربيّ من العرب نسبُه وأصلُه ...!  لم تعد هذا وكفى يا محمّد... !

إنك يا محمد من الساعة، لم تعد تخالط منهم مَن تخالط، وتُصادِق مَن تُصادق، وتسأل عن حال مَن تسأل، وتبتاع من أسواقهم أو تتاجر، وترعى الغنَمَ قريبا منهم، وأنت لا شأنَ لك بمَن عبد صنما، أو قدّم آيات الولاء والطاعة لوثَن... ! وأنت لا شأن لك بمَن ظلمَ عبدا له، وبمَن زنى وبمَن بغى...
إنّك وإن كنتَ تكرهُهُ كُلَّه، وتُعرِضُ عنه كُلَّه ...! فإنك لم تعد هذا وحسب... !

لا... لم تعد القريب وابنَ العشيرة والجار وانتهى... !
إنك من الساعة، لن تصمت ... !
بل إنّك ستخالِطُ الكلّ، وستدعو الكلّ، لن تعود علاقتُك بهم علاقة نسابة وقرابة، بل علاقة نبيّ يدعو قومَه إلى رحِم العقيدة التي تجمع الكلّ إخوةً أكثرَ مما تجمَعُ رحِم الدمّ... !
قُــــــــــــــــــمْ....
قُم فأنذر مَن حولك، وأنذِر كلّ غارق في لُجّ الباطل في كلّ زمان، فأنت يا محمد نورٌ للأزمنة كلّها لن يذهب، ولن يُطمَس ...أنت شمسٌ ستضيئ على الأرض على مدى الأزمان، ولن تغيب ... !
لم تُبعَث لتنير طريق قريش ولا طريق أهل الجزيرة العربية وحدَها،  بل بُعِثتَ هناك لتنير هناك وهنا وهنالك... وفي كل مكان ... !

لم تُبعَث لتكون بطلا لقصّة تاريخية مشوّقة، خُلِّدت لتتداولَها الألسُنُ ولتبقى عَبْرَ الأزمنة نقلا من النّقل يُستهلّ بـ: "كان يا ما كان في سالف العصر والأوان" ! فتبقى تاريخا من التاريخ القديم الذي صلُح لزمانه، ثم انتهت صلاحيّته بانتهاء زمانه ... !
أنذِر يا محمد بهذا النور الذي ينزل عليك ... وأنت مع بدايات الوحي، وأنتَ تتشوّف وتحنّ وتشتاق، فيُعاودك ما إليه تشتاق، ويأتيك المَلَك الذي عرفتَ في حِراء ... لتعرفه في عرَض السماء ... فتهرع لتتدثّر ... !
فيعاودُك المَلَك مرة أخرى ليقيمك، ولتُميط عنك الدّثار ...! فإنه أوانُ  الإنذار ... !

ثم لنــــــــــــــــتأمّل...
فإذا "الدّثار" وهو يعني الغطاء، يعني معه الابتعاد والسكون، ويعني أن يخلد صاحبُه إلى الراحة، وإلى العزلة إلى نفسه تحت ذلك الغطاء، يتّقي به البرد والتقلّبات ... فجاءت الدّعوةُ إلى إماطته وإزاحته دعوةً إلى السّفور والخروج، ومخالطة الأجواء رغم قساوتها وتقلّباتها، ومواجهة المحيطين به رغم كلّ ما سيجد فيهم من صُدود وصدّ وعناد وكِبر ومكر وكيد ... !

إنها المواجهة ... !
إنه عَرْض هذه الرسالة وتبليغُها في تلك الأجواء المُفعَمة بالجهل والكفر والضلال، المُترَعة بحبّ الجاهِ والسلطان، والخوف عليه من كلّ مَن يحمل إلى الضالين هدى، وإلى المظلومين عدلا، وإلى المستضعَفين نصرا وقوة ...
فيا أيها المدّثّر قُم فأنذِر ... !

"وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)"
قُمْ بأعباء هذه المسؤولية التي ألقِيت إليك، قُم بهذا القول الثقيل، كما عرفنا في المزمّل   : " إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا"
أنذِرْهم مغبّة كُفرِهم وجحودهم ربّهم، وتكذيبهم رُسُله، وإصرارهم على الهوى وشطحاته !
وإنّك ستلقى ما ستلقى من عُتُوٍّ ونفور... سيقولون، وسيكذِبون، وسيكذّبونك، وسيتهمونك، وسيكيدون لك، وسيمكرون بك ... وسيحرّشون بك كلّ سفيه أثيم ...

فماذا عساه يكون سلاحُك ...؟!  إنــــــه : "وَرَبَّـــــكَ فَكَبّـــــِرْ"
ويأتي "ربَّكَ" مُقَدَّما على عامله لإفادة التخصيص... إيذانا بأنه هو وحْدَه مَن ستُكبّر، هو الكبير فوق كل كبير، هو الذي من تكبيرك له سيهون عليك كل صعب... هو الكبير الذي لن يكبر عليه كُبَراؤُهم، ولا كُبّارُ مَكْرِهِم ... !

هو الكبير الذي مكَر مَن كان قبلَهم مكرا كُبّارا، ولم يكن إلا ما أراد الله الكبير : " وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ  وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ " -آل عمران:54-
فكلّما وجدتَ كِبَرَ ما يواجهون به دعوتك وإنذارَك لهم، فإنّ تكبيرك ربَّك سيكون سلاحَك الأمضى... يقينُك بأنه سبحانه الأكبر سيهوّن عليك كل همّ كبير ... !

ولقد كبّر محمد ربَّه... حتى إنّك لتراه عَبْرَ سِنِيّ سيرته العطِرة، ومسيرة دعوته يُلاقي ضُروب الكَيْد والمَكْر فما يتزعزع له قلب !
تجده في الطائف حيث لاذَ بالدّعوة يُريد لها ملجأ ومنجى، يُرمَى بالحجارة حتى تُدمى قدماه الشريفتان، فيقول: "إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي" !!

تجده وجبريل يصطحب -بأمر ربّه- ملكَ الجبال ليكون رَهْنَ أمرِ محمّد إن شاء يُطبِق عليهم الأخشَبَيْن، فيردّ محمّد مكبِّرا ربَّه، لا ما نزل به من تعذيب وإذلال : "بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم مَن يعبد الله لا يُشرِك به أحدا"... !
تجده وقد آلمَ أصحابَه ومحبّيه أن تناديه قريش في أشعارها "مذمّما"، يؤسي ألمَهم وهو يقول : " ألا تَعْجَبُونَ كيفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ ولَعْنَهُمْ، يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا، ويَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وأنا مُحَمَّدٌ " ... !

تجده وقد تمالأت قبائل قريش على قتله، وجمعت له أشجع فتيانها، يوصي عليّا وهو يهمّ بالرحيل من بعد ما كشف له ربّه مكرَهم، بأمانات رجالهم التي أودعوها عنده، وهم على الكفر بعدُ ... وهو الداعي فيهم للإيمان ... !
تجده وهو ثاني اثنَيْن إذ هما في الغار، مختبئا في طريق هجرته بنور الأرض قاطبة إلى الأرض الحاضنة، وصاحبُه يرتعد فَرَقا وخوفا، والمشركون المتعقّبون لو طأطؤوا رؤوسَهم لرأوهما ! يهدّئ من رَوع صاحبه وهو يقول : "لا تحزن إنّ الله معنا" ... !

تأمّل كُلَّ خُلُق كان فيه طيلة سنيّ الدعوة المباركة، وستعرف أنّه كان من تربية قرآنيّة ألقِيت إليه ذات نزول من نزول الوَحْي... ! لذلك ما أخطأت عائشة وهي تصف خُلُقَه أعمَق الوصف، وأدقّ الوصف فتقول: "كان خُلُقُه القرآن" ... !
« آخر تحرير: 2020-12-03, 08:51:10 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

"وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5) "

أنت يا مَن أزحتَ الدّثارَ عنك وخرجتَ لتُنذِر ...لتبلّغ رسالة ربّك، يا مَن توقن يقين مَن لا ينفذ إليه الشكّ قيدَ أنمُلة  أنّ ربك الأكبر من كلّ مكر منهم كبير، ومن كلّ شأن لهم كبير، ومن كل تأثير لهم كبير فيمَن حولَهم ... هذا أمر آخر لكَ :
 "وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ" ...

وقد أزحتَ الدّثار، فإنك تواجههم بثيابك التي عليك...
من صورة الدِّثار المأمور أن يُزيحه عنه ويقوم، إلى المواجهة في صورة الثياب التي تستُرُ البَدَن ! لا حاجة لأن يتّقي ما هو حولَه فيتغطّى، ويختبئ ... سيُواجههم بذاته، بقوامِه ... لن يختبئ منهم، ولن يجعل بينه وبينهم دِثارا وحجابا ساترا ... ولا بينه وبينَ ما ينتظره من أثقال الدّعوة والصدود عنها والصدّ عنها حجابا ساترا ... !

إنه القيام بالثياب التي تصوّر لنا خروجه للمواجهة، ولإلقاء ما عنده في ذلك الوَسَطِ الذي سيُنكِر دعوةً تُسفِّه ما هُم عليه من ضلالات وخُرافات، واعتقادات باطلة... وسطٌ لا يؤمِن بأن للضعيف حظا في الحياة، ولا يؤمِن بألا فَرق بين سيّد ومَسود... لا يؤمن بالمساواة والعدل بين صاحب سلطان وخادم له... !

مجتمع يُقدّس القوّة والمال والسلطان، فهو طبقات، طبقة تعيش وتحكم وتسود، وطبقة تكدح وتخدم وتُذَلُّ وتُهان، ولا تعرف كرامةُ الإنسانية لها من سبيل ...

طهِّرْ ثيابَك ...

إنها غيرُ ثِيابِهم المُوشّاة، المُزيَّنة، المنتقاة للأُبّهَة والتفاخر والمَرَح، بينما هي المُدنّسة بالضلالات والشعوذات والاختلاقات، ثيابٌ تتمسّح بالأوثان والأصنام...
صاحبُها قبل لحظات من تمسّحه بالحَجَر والخشب ربّاً، كان يجلد عبدا أسودا مُستضعفا، أو يشرب خمرا مُذهِبة للعقل مُغرِقة في الخبائث، أو كان يلهو مع بائعات الهوى ينتقل من واحدة إلى أخرى، والمرأة عنده متاع وشهوة ووَطَرٌ يُقضى ثم هي بعدها لا شيء... !
ثيابُك يا محمّد هي الطاهرة التي ستواجِه بها دَنَسَهم ورِجْسَهم، وهي أيضا كناية عن نفسك التي سيزكّيها القرآن، وستُسكَبُ أنواره فيها لتملأها حتى تفيض على مَن حولَها نورا وحقّا ورحمة ...

وإنك -وأنت تواجههم وتخالطهم بالحق الذي تلقيه إليهم  ولا تخشى تعنّت متعنّت بينهم ولا كيد كائد- لن تُسايِرَهم، ولن تُداهنهم :
"وَالرُّجْــــــــزَ فَاهْجُــــــرْ"

وقد عرفنا في سورة القلم كيف ينهاه سبحانه عن أن يُدهِنَ، وأنهم يودّون لو يُدهِن فيُدهنون ...
لا تُدهِنْ حتى وإن كان مبتغاك أن يلينوا للدّعوة، فإنما هي حقّ محض،  جاءت لتُنكِر ما هُم عليه من اعتقادات باطلة لم يُنزِل الله بها من سلطان ! وسورة القلم وسورة المدثّر متزامنتان كما عرفنا، وكانتا من أول غيث القرآن على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجد في كلتَيْهما دعوتَه لتبيين الحقيقة كما هي، فلا يُداري ولا يُماري، ولا يُلايِن حتى على سبيل أن يُقبِلوا عليها ...  بل هي دعوة قويّة صريحة، جاءت تُطيح إطاحة كليّة بعروشهم المزعومة التي بنوها على الباطل والسَّفَه والإشراك بالله الواحد ...

لم تجئْ لتُقِرّ لهم اليوم بشيء من معتقداتهم وتُبطل آخر، ثم لتُقِرّ لهم بعدها بشيء وتُبطِل آخر، هكذا رُوَيْدا رُوَيْدا ...فهي مع ما تُبطِل تُقِرّ، ثم تعود لتبطل ما أقرّت من قبل ...بل جاءت حقّا يُقذَف به على الباطل كلِّه فيدمغه ... ! جاءت شمسا تضيئ، ليصبح الليل تحت ضوئها حكاية كانت البارحة... !

اهجُر الرّجز يا محمد ... اهجُر أوثانهم وأصنامهم، وكلّ معتقداتهم واختلاقاتهم،  و"الرجز" لغةً هو الذنب، وهو عبادة الأوثان والأصنام، وهو القذر والدّنس ... وكلّها تصحّ لما هُم فيه من ظلمات فوقها ظلمات...

" وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) "
 ورغمَ كلّ ما ينتظره صلى الله عليه وسلم من مشاقّ وصعاب، استلزمت  أن يهيّئه لها ربُّهُ عظيم التهيئة، بتلك الدعوات والأوامِر له أن يقوم قيام عزم وتصميم، ويُزيح عنه كل ما من شأنه أن يعزله عن الناس ويُبعِده عنهم، وكلّ ما من شأنه أن يعطيه الإحساس بالراحة والخلاص من المواجهة !
ورغم ما أمره به من المواجهة القويّة لباطلهم بالحق الذي معه ... فيُلقي كلّ ذلك بظلال جسامة المسؤولية، ويَشي بعظيم حجمها، إلا أنه يهيّئه أيضا بالمقابل لأن يُعطي ويُعطي ويُقدّم في سبيل هذه الدعوة دون أن يمنّ، ودون أن يستكثر جهدا أو تضحية أو جهادا في سبيلها ....
وقد ظلّ صلى الله عليه وسلم -منذ أن أمره ربُّه بالقيام ليلا وبالقيام نهارا لتأدية الأمانة ولتبليغ الرسالة- قائما لا يقعد ولا يرتاح، مجاهدا، مضحّيا، لا يملأ عقلَه ولا قلبَه غيرُ الرسالة العظيمة الخالدة الخاتِمة، وغيرُ وجوب تبليغها ...

فتراه في مكة يقاوم تكذيبهم له، وصُدودهم ومَكْرَهم، واستهزاءهم وتحريشهم الناس به، ورَمْيَه بالجنون والشعر والسحر، وتعييره، وتعذيب أًصحابه وإهانتهم، وحصارهم وتجويعهم، وحَشْد القبائل العربية ضِدَّه وضِدّ دعوته، وإنّ عمَّه أقرب الناس إليه لَيتَّبِعُه في مواسم الحجّ التي تجتمع فيها قبائل العرب من كل مكان ينادي فيهم أنه مجنون وساحر... ! فكانوا يرون أنه أقربُ ذويه إليه وأعرَفُهُم به، وما كان لعمّه أن يُعظِم عليه الفِرية  ...!  فيُولّون عنه ويأبَون إيواءَه ونصرَه وتحمّل أعباء الرسالة معه ... !

ثمّ إنك وأنت ترى الله يبعث له بالنّسمات الطيّبات من يثرب لتنصره، وتأخذه عزيزا إلى المدينة يقودهم فيها ويسودهم، تحسِب وقد وجد النصير والمُعين أنّه قد آن له أن يرتاح ممّا كان فيه... حتى إذا تتبّعتَ وجدتَه في المدينة وهو بإزاء أعباء جديدة، وأعداء جُدُد، ونقلة عظيمة، ومهامّ جسيمة ...!  والغزوة تتلوها الغزوة، وقريش لا يهدأ لها بال وهي تخطّط وتُحرّض وتُمالِئ عليه العرب من حوله، واليهود في المدينة يمكرون به ويغدرون ويخونون العهود ... !

والمنافقون أشدّ وطأ من الكفار وهم المتستّرون بادّعاء الإيمان، المضمرون شرّا ومكراً وخديعة، قلوبهم متحرّقة لإهلاك الإسلام والمسلمين ... !
ويُنهي حربا ليبدأ حربا جديدة، وينهي أمرَ جبهة لتُسفِر له عن الحقد والكراهية جبهةٌ جديدة   !!
وهكذا ...منذ أن أمره سبحانه وربّاه على العطاء دون منّ، ظلّ يُعطي من عمره وقوّته، وأعصابه وأوقات حياته كلها للدعوة، دون أن يمنّ ودون أن يستكثر ....! وهي تربية للداعية على خطى إمام الدعاة صلى الله عليه وسلم، في كل زمان ألا يمنّ وهو يُعطي، وألا يستكثر ... !

" وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ(7) "
اصبر لربّك على كل أذى تُؤذاهُ في طريق الدعوة، وعلى كلّ تعب ونصب، وعلى كلّ ما يمسّ ذاتَك الشريفة الطاهرة من شطط قَولهم، وقد سبق وعرفنا دعوته للصبر على قولهم : " وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا" -المزمّل:10-
عن عائشة رضي الله عنها وهي تحدّث عن مكارم نفسِه صلى الله عليه وسلم : " ولا انتَقَمَ لنفْسِهِ مِن شيءٍ يُؤتَى إليهِ حتَّى تُنتَهَكَ حُرُماتُ اللهِ عزَّ وجلَّ فيَكونَ هو يَنتَقِمُ للهِ عزَّ وجلَّ" -السلسلة الصحيحة-

ولَكَمْ دُعِي للصبر صلى الله عليه وسلم !
في كلّ مرة كان يحتاج أن يدعوه ربُّه للصبر، ولكَمْ عظيمٌ هو الصبر، ولَكَمْ عظيمٌ هو جزاؤه ... !
وإننا ونحن في عَرَض هذا الجزء المبارك بدءا من سورة "الملك" وصولا إلى المدثّر، عرفنا على التوالي : " فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ" -القلم:48-
ثمّ : "فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا" -المعارج:05-   
ثمّ  : "وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا" -المزّمّل:10-   

هذا عدا عن سورة نوح التي توسّطت هذا الجزء، وهي بكل آياتها مدرسة للصبر بما صبر نوح في عمر دعوته الطويل ... !
وهكذا تكون هذه الآيات السّبع، مُجمَل أوامر من الله عزّ وجلّ لنبيّه صلى الله عليه وسلم للقيام بالدعوة، إذ أمره :
1-) أن يقوم ويزيح عنه كلّ ما يجعله بعيدا عن الناس.
2-) أن ينذِرَ الكافرين والمكذبين ما ينتظرهم من سخط وعذاب..
3-)  ثم أن يكبّر ربَّه. فهو على دربه الشائك الشاقّ، يعلم أنه ما من شيء أكبر منه سبحانه وما من شيء يكبُر عليه.
4-) ثم أن يطهّر ثيابه وهو صاحب الدعوة النقيّة، التي جاءت لتُذهب الدَّنَس والقذَر، وبالموازاة هي نفسه الطاهرة الزكيّة التي ستواجه عُتاة الشرك والكُفر برجسهم ونجسهم .
5-) ثم أن يهجر الرّجز، فلا مُداهنة لهم في الحقّ حتى على سبيل مُلاينتهم لقبول الدّعوة. بل هو الحقّ  يصدع في وجه الباطل. كيف لا وربّه الأكبر من كل كبير..
6-) ثم علّمه ألا يمنّ بتعب ولا بتضحية ولا بعطاء منه، وألا يستكثر في سبيل الله ودعوته شيئا .
7-) وأن يصبر لربّه على كل ما يلقاه .

ثم نُنقَل نقلة أخرى في خضمّ هذه التربية الربانية، والأمر الربانيّ الأول لنبيّه بالقيام بالدعوة، والتأهب لها، والصبر في سبيلها، ومواجهة العتوّ والقوة والجبروت من الكافرين، بالحقّ دون مداراة ولا مداهنة ولا مُلاينة، ولا أدنى مُسايرة .... بعد أمرِه بالصبر مباشرة يأتي قوله سبحانه :
" فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)"

إنها علامة من أبرز علامات نهاية الدنيا وحلول الآخرة ... النّقر في الناقور، أي النفخ في الصور، وهما نفختان، أولاهما نفخة الصعق، وبها يموت كلّ مَن على الأرض، وثانيتُهما نفخة البعث وبها يُبعَث الكلّ حيّا ليُحاسَب. وهذه هي المعنيّة في هذه الآية ...
ونقْلُنا إلى يوم القيامة بعد آية الصبر تحديدا، مشابه لإرداف ذكرها بقوله تعالى : "فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا(05) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا(06) وَنَرَاهُ قَرِيبًا"  -المعارج-
ومشابه أيضا لإرداف ذكرها بقوله سبحانه:  "وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا(10)وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا(11)إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا(12)" -المزمّل-
وهو ما يوحي بحقيقة قِصر عمر الدنيا، وأنّه مهما طغى عليها طاغٍ وذهب في سُبات التألُّه والخلود وأحبّها حتى الثُّمالة، ونسي أنه مخلوق ليُبتلى ثم ليموت فيُحاسَب، فإنّه المأخوذ منها إلى حيث الجزاء ... إلى حيث يلقى ما يستحقّ ...

" فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) "

ذلك اليوم عسير، على الكافرين غير يسير، أما على المؤمنين فهو طمأنينة ووجهٌ مُسفِر، ضاحِكٌ مستبشر: " الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ" -الزخرف:67-

ومن أمرِه أوّل أمرِه بالقيام بالدّعوة، إلى منتهى الأمر كلّه، إلى يوم القيامة في ربط وقَرنٍ، تبياناً لشأن الخَلق، الذي هو ابتلاء للإنسان أيوحّد ربَّه ويهتدي أم يكفر ويتولّى، ليُجازى بعدها بما قدّم...

جاء هذا الربطُ في آيات قليلة قصيرة،  تعريفا له صلى الله عليه وسلم وهو مع بدايات الوَحْي بطبيعة هذه الدّعوة في طوْرَيْها، الطور الدّنيويّ وهي فيه الأمانة الملقاة على عاتقه، والرسالة التي بُعِث ليقوم فيبلّغها، والطّور الأخرَويّ  وهي فيه مَناطُ الجزاء والعقاب ...
« آخر تحرير: 2020-12-03, 08:57:48 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ثمّ نجدنا بعدها مع نقلة أخرى... ولكن كالعادة هي النقلة وهي السَّوْق، وكأنّكَ لم تخرج وقد خرجت، وكأنك لم تدخل وقد دخلت ... ! :

"ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا  إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) "

هي قصّة أحدِهم ... ولكنّها نموذجٌ لنُسَخ مُكرّرة منه في الدنيا عبر الزمان والمكان... وإنّها حَالُهُ في الدّنيا بدءا بخَلقِه، إلى ما صار إليه من مال وبنين، وعزوة ونفوذ، إلى موقفه الرافض للدعوة، بل الصادّ عنها، إلى مصيرِه من بعد فناء الدّنيا وذهاب غرورها ... !
بداية خَلق، فحياة، فنهاية، فمآل ... قصّة إنسان ... !
كلّها في آيات معدودات، هي من أوائل ما نزَل، هي فيهم حقيقة مشاهَدة، واحدٌ منهم، من كبرائهم، يعرفونه، ويعرفون وصفَه، وأحوالَه ...
وتبدأ هذه الآيات بشكل من أشكال الوعيد، لرجل من أكابر قريش، ومن أكثرها مالا وولدا، الوليد بن المغيرة. .

عجيبٌ هو أمرُ الوليد وغريب...! وما هو في حقيقة الأمر إلا صورة لكثير من الكفّار الذين لا يستندون في كفرهم على دليل من عقل، ولا من منطق، ولا على حُجّة ... بل كلّ الأمر أنه عنادٌ وهروب من الحقّ، بدافع العصبيّة القبليّة، والتعصّب لما كان عليه الآباء والأجداد، أو بدافع من حبّ السلطان والخوف عليه من سلطان الحقّ ونوره الساطع ...

الوليد كان لبيبا ذكيّا، ألمعيّا، أوتِي عقلا أوْصَلَه إلى وصف القرآن كأحسن ما يصفُه إنسان ! عرف أن قولَه ليس من ضروب ما يعرفون، وهم أهل اللغة القُحّة والفصاحة والشّعر، حتّى لم تعرف اللغة العربية ازدهارا وازدهاء بمثل ما عرفت في عصرهم ...
ولكنّ العناد والكِبر داء شيطانيّ أصيل، وحْدَه كفيل بضرب العقل والمنطق والنظر والاستدلال والفِكر عرض الحائط... !

تجد في أحدِهم كلّ هذا، ولكنّ عنادا وكِبرا فيه يحولان دون تسليمه للحقّ ... فيختلق أسبابا، ويكذب وهو يعلم أنه يكذب، ويبتذل نفسَه، ولا يحترم عقلَه، ويرضى بالدنيّة في فِكره ومَنْطِقِه، ويغلّف كلّ هذا منه بأسباب مختَلَقة ملفّقة لإعراضه وصدوده عنه... !
كان أوَّلَ أمرِ الوليد بن المغيرة مع القرآن حين سمعه أن قال فيه حقا، وربما لم يصف أحدٌ القرآن بمثل ما وصفه به، فقال وهو يُدعَى من قومه أن يعلن إنكارَه له : (وماذا أقول؟! فوالله، ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجِنّ مني، والله، ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله، إنّ لقوله الذي يقول حلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنه لمُثمرٌ أعلاه، مُغدِقٌ أسفلُه، وإنّه ليَعلُو ومَا يُعْلَى، وإنه ليحطم ما تحته)

قول عارف  فاهم... !
عرف في القرآن عظمة وخصوصيّة ليست للبشر، علم أنّه أحيطَ بآيات الكمال، وهو يصف أعلاه وأسفلَه، وأنه لا يُعلَى عليه وهو إذ يصفه يوافق ما نزل في وصف الله تعالى للقرآن : " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ  وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ  تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)" -فصّلت-
ولكن ليس كلّ صاحب كلام دقيق عميق، هو صاحب نفس شفيفة تلتقط الأنوار وتستوعبها وتستضيئ بها ...كثيرا ما ينكص المفكّر واللبيب على عقبَيْه... !
ألم يكن الشيطان يعلم أنّ الله عزيز؟ ألم يكن يعلم أنّ الأمر كله له ؟ ! 
بلى ... ولكنّ كِبرَه وعنادَه جعلاه حاسدا كارها للحقّ، عدوّا له...
ولقد كان-عليه لعائن الله- يعلم أنه ما كان ليُنظَر إلى يوم يُبعثون إلا بإرادة الله:  "قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14)قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ(15)"-الأعراف-، وإنه لما توعّد بالغواية أقسم بعزّة الله : "قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" -ص:82-
فما تغرُّ حكيماً فصاحةُ فصيح، ولا مؤاربةُ أريب، ولا لبابة لبيب، فإنه قد يكون بكلّ هذا، وقد ينجح نظره في تقدير الأمور، فما أن يطفو الكِبْرُ فيه والعناد حتى يغرق الصّواب فيه والرشاد، فيرى نفسَه أعلى من الحقّ، فلا يسلّم له، بل يذهب ليختلق الأسباب والحجج الواهية لنكوصِه وارتكاسه... !

كذلك الوليد ... وكذلك كلّ مَن عانَدَ وكابر...فهو بعد أن قال في القرآن ما قال، عاد فنكص على عقِبَيْه، وقومُه يدعونه لأن يعلن إنكاره له...
هو ذا يردّ على أبي جهل إذ قال له : (لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! .قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر، قال: (هذا سحر يؤثر) يأثره عن غيره... فنزلت: "ذرني ومن خلقت وحيدًا" ).

"ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11) "

وقد جاءت " ذَرْنِي " في سور سابقة من هذا الجزء : " فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ  سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ"  -القلم:44-
وفي قوله سبحانه: " وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا" -المزمل:11-
أما هنا فيأتي مثال ونموذج فيه تفصيل عن حال هؤلاء المكذبين أولي النّعمة .
إنه سبحانه هو المُتولي لمصيرهم ومآلهم، كما تولّى خلقهم، وكما ابتلاهم بخلقهم . إنه الإعلانُ للمرّة تِلو المرة أنه سبحانه كافٍ نبيَّه شرَّهم ومَكْرَهم...
فيبدأ بذكر خلقه له، تذكيرا منه سبحانه بإيجاده لمَن خلق، من بعد أن لم يكن شيئا مذكورا... إرجاعا لهم لأصل وجودهم وحركتهم في هذه الحياة الدنيا  :
" ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيـــــــــــــدا "
خلقَهُ مجرّدا عن كلّ مال أو ولد أو سلطان . خلقَهُ وحيدا، لا شيء له ولا حول ولا قوة... وهكذا سبحانه يخلق جميع عباده ...
" وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) "

هذا ما صار إليه حالُهُ من بعد منّة الله وفضله. صيّره صاحبَ مالٍ ممدود،  فهو من كثرته لا يُحدّه المكان الواحد، إذ عُرِف عن الوليد أنه كان أكثر قريش مالا، وأنّ مالَه كان ممدودا بين مكة والطائف، كما كان أكثرهم ولدا...فكان له عشرةٌ أو يزيد، كانوا يشهدون معه كل مشهد ويحضرون معه كل محضر... كانوا أغنياء عن الحاجة التي تجعلهم يضربون في الأرض طلبا للمال، بل كان مال أبيهم كافيهم ..  ومن أشهرهم خالد والوليد اللذان أسلما.

"وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) "

أمدّه بالمال والولد، ومهّد له الحياة الدنيا، فكان ذا كلمة وشَوكة في قومه، ونفوذ وأمر ونَهي مع ما لَهُ من مال وولد، والغالب على أصحاب المال والولد أن يكونوا أصحاب نفوذ وطاعة ممّن حولهم، كما عرفنا ذلك في سورة القلم مع صفات العُتُلّ الزّنيم، الذي كان من ماله وبنيه مُطاعا رغم سوء خُلُقه، لأنّ ذلك منطق المادّة الذي يطغى على مَن يتخذها معبودا من دون الله.

لنتأمل يدَ الله في دقائِقِ حالِه التي هو عليها، في النَّعمة التي يتقلب فيها ... وهو الغارق فيها بكليّته، التائه عن المنعم سبحانه... !
وإنه على ثرائه وعُزْوَتِه ببنيه لا يشبع ولا يقنع، بل يطمع دائما في المزيد ... وقد جاءت  منسوبة بالفعل إلى جلال الله تعالى : "أَنْ أَزِيدَ" ليستبين تواصل يد الإنعام الربانيّ على عبده مذ لم يكن شيئا إلى أن كان، إلى أن صار حاله إلى نعمة وترف وولد ...

"كَلَّا  إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) "

سبحانه كما أعطى وهو المعطي، يمنع وهو المانع ... ولكن هذا المخلوق وحيدا، المجعول له مالا ممدودا وبنين شهودا، يظنّ أنه المُنَعَّم أبدا، المفضّل ... الذي خُصّ بعطاءات الدنيا فهو المُعطى والمُزاد له والمُزاد...
"كَلَّا"... كلمة واحدة ... رادعة، مُبطلة ... تكفي للتدليل على إنفاذ إرادته سبحانه متى أراد، وعلى فعله ما يريد متى أراد...
كلا لن يكون لك ما تطمع أيها الجحود الكنود ! أيها العنيد لآيات ربّه الرازق المعطي : "إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا "

لقد تصدى لآيات الله الواحد الأحد... الذي خلق، والذي رزق والذي أغدق بالعطايا، والذي أمدّ بالمال وبالولد ...
هذا الإله الواحد الأحد، هو الذي أنزل كتابه على عبده المصطفى، وهو الذي أمره أن يُنذِر به وأن يتطهر وأن يكبّر ربه، وأن يهجر رجزهم، وألا يمنّ وألا يستكثر...إلهُ هذا الوحي ومُنزِلُ هذا الهُدى ...هو ذاتُه إله الخلق والمنّ والعطاء ...

ولكنّهم كانوا يقولون بأنه الخالق، بينما لم يكونوا يقرّون له بالتوحيد ولم يكونوا يقرّون بالعبودية له وحده ! نعم يخلق ويعطي ولكن لا يُطاع إذا أمر ... ولا يُطاع إذا نهى... !

هذه الآية تبيّن ارتباط توحيد الربوبية بتوحيد الألوهية، وأنه لا يستقيم الدين بواحد منهما دون الآخر، فمن أقرّ لله بالربوبية والخلق والرزق، كان إقراره هباء ما لم يُقرّ بأنّ له وحده الطاعة والخضوع والولاء...
ها هو ذا مصيرُهُ الذي جاء في صدر هذه الآيات القاصة لقصته، أنّه من أمرِ الله وشأنه وحده  : "ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا" .  فهو ذا تولّيه سبحانه لأمره : "سَأُرْهِـــــــــقُهُ صَعُــــودًا (17) "
سأتْعِبُه، سأُشْقيه ! سأعذّبُه !
سيذوق مغبّة تنعّمه بفضل الله ومنّته وحده، مع تكذيب منه  بآياته ...!
سيذوق معنى أن يفرح بالنعمة ويغرق في لُجّها ويطمع أن يُزاد عليها بالنّعمة، بينما لا يُقِرّ للمنعم بالعبودية والطاعة ... !
يعشق النعمة ويعاند المنعم ! أنْستْه النعمة أنه كان وحيدا، أنستْه أن يعود فينظر في أوّل حاله، وفي أوّل إيجاده، وفي تقلّبه طبقا عن طبق.. وأن يعيد الأمر لأصله ليعرف أنه المنعَم عليه، وأنّ للنّعمة منعما... !

"سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)" ... كما كانت له النعمة صُعُدا خيرا يُزاد إلى الخير، فإن مصيره رَهَقٌ يُزاد إلى الرهق صُعُدا... إنّه الذي لم يُؤمِن فلم يَأمَن ... أليس قد علّمنا نفرُ الجنّ قريبا : "...فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا" -الجنّ:من الآية13-

ولننظر إلى المنهجيةّ الفريدة في القرآن، وهو سبحانه يُلقي بالخبر عن هذا الممدود له، المُمَهَّد له، فهو سبحانه ينبئ عن مصيره في : " سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا " . ثم يلقي بالعلّة التي سيُرهقه لأجلها في قوله بإجمال : " إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا "

ثمّ يأتي بتفصيل عِنادِه في الآيات التالية :

"إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّر(18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) "

ولكأنّ ملامحَ وجهِهِ صورٌ تتعاقب عليك من خلال هذا الوصف الدقيق ! ولكأنّك تُبصر وجهَه وهو يتقلّب مع تقلّب فِكرِه !!
إنّه فكّر وقدّر .  إنه -كما أسلفنا- لبيب، وذو عقل، وذو نظر ... ولقد فكّر، لقد أعملَ عقلَه، وأجال نظرَ فِكرِه في أمر النذير الذي جاءهم ليُنقذهم، ولينتشلهم من مخاضة الضلال إلى فُسحة الأمل والنجاة، وإلى فيوضات النور ...
فكَّر، وقدّر ...والتفكير إعمال العقل، وإجالة النّظر في الأمر والبحث في حلّ للمشكل. والتقدير هو ما ينتج عن هذا التفكير .
فهذا الوليد وقد فكّر، وقد قدّر ... ولكنّه يا وَيْحَه : "قُتِلَ كَيْفَ قَدّر" !!
دعاء عليه بالهلاك لعظيم فِرْيَته، وشطط تقديره... !

"ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)"
مزيد تأكيد للغضب عليه مما افترى، مزيد تأكيد لسقوط عقله في الدَّرَك الأسفل، ولسوء ما أوصله تقديرُه ...

"ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)"

وإنه بعد تفكيره، وتقديره، قد نظَرَ نظَرَ الفِكر ونظَرَ العين، نظر فيما قدّر... متمثّل لنا وجهُهُ الذي يحمل علامات فِكرِه وخلجات خاطِرِه !
متمثّلة لنا حيْرتُه وهو يبحث في شعاع الشمس المشرقة عمّا يحجبه ! عمّا يُغطّيه ! لنعلم كم عَيِيَ الرّجُل وكم شقِي وهو يبحث ويبحث، وفي قرارة نفسِه يعلم أنه لن يجد ما يحجب به الضياء، ولا ما يغطّي به الشمسَ !
فكّر... قدّر... نظر ... عبَسَ ... عبس من عيائه، عبس من خَيبته، ومن قلة حيلته ... عبس لأنّه مستيقِنٌ أنّ هذا القرآن لا يُعابُ، وأنّه الذي لا يُدانى، وأنه الذي لا يُعلَى عليه ... !

وفوق العبوس وتقطيب الجبين، هو ذا قد بَسَر   !
والبسور تغيّر اللون، وكُلُوح الوجه، ويقال للتمر قبل أن يرطب "بُسْر" ويكون أصفر اللون ... لقد عبس وبسر، أعياه الأمرُ ففاضت نفسُه اليائسة من القرآن، وهي التي لم تجد فيه عيبا ينطلي على لبيب... كلّ الاختلاقات والفِرَى والافتراءات عليه لا تنطلي على صاحب عقل ولبّ ... !
فعبس وبسر ... ثمّ أدبر ... أدبر بجسمه كما أدبر بقلبه عن الهُدى، كما أعرض عنه، وتولّى ...
ويزيد سبحانه في وصف حقيقة نفسه المتهالكة على الافتراء : "وَاسْتَكْبَر"
فهو قد جمع بين صفتَيْن شيطانيّتَيْن أصيلتَين : "إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا"  و: " ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ" ... العناد والكِبر.

لقد طفا كِبْرُه ! وهي تلك لحظة ارتكاسِه الرسميّ ونُكوصه ...لقد حجب العقل، وأذهب النظر والفِكر هباء... فأعلنها الوليد :
" فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)"
هذا ما قرّر وصفَ القرآن به من بعد ما أعيتْه الحِيل، ومن بعد ما ضرب عن العقل صفحا ...! ليُعلِن ولاءَه للنعمة المُطغِية، وعداوتَه للمُنعِم سبحانه... !
ولكنّه مهما كبُر، ومهما بلغ مالُه وولدُه، ومهما سُمِعَتْ له كلمة، وأطيعَ له أمرٌ وأنفِذ ... ومهما كثر جُنْده وخَدَمتُه، فإنّه صلى الله عليه وسلم، قد علّمه ربُّه أنّ "الله أكبر"
« آخر تحرير: 2020-12-03, 09:04:36 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ولقد أخبره أنّ شأنَ هؤلاء العُتاة المستكبرين المعاندين له، هو متولّيهم ...
فهو ذا يقرّر مصيرَه وهو بعدُ حيّ ... هو ذا يُسمِعه عبرَ القرآن ما ينتظرُه من رُزء المآل وسوء العُقبى: 
"سَأُصْلِيهِ سَقَــــــــــــــر(26) "

 وسيعلم يومَها... يومَ يُنقَر في الناقور، سيعلم أيّ سِحر هذا الذي يُسلِكه العذاب الصُّعُد، ويُرهقُه صَعودا ! أيّ سِحر هذا الذي يُسلِكه في أنكال وجحيم، ويُطعمه ذا الغُصّة من زقوم وغِسلين... !
يومَها سيُصلَى سَقَر ! سيراها بعينه، وليتَه يملك منها فِرارا ... ! ليتَ له حميما مُطيعا، أو شفيعا مُغيثا... ليتَ مالَه يُنجيه، بل ليتَ كلّ بنيه وكلّ مالِه وكلّ مَن في الأرض يُنجيه ... !
سيعلَم أيَّ مُنقَلَب يقلِبُه ربّ الآيات التي عاندها ! سيعلم أيَّ وعد متحقّق يحمله السحرُ الذي قلّب كلّ فِكرِه ليصفَه وينعَتَه، فما أسعفه منه إلا أن قال في الحقّ باطلا ...! سيعلم أيَّ مُرْدَى قد أرداهُ عنادُه وكِبرُه ... !

لقد كان صلى الله عليه وسلم يرى : "سَأُصْلِيهِ سَقَرَ " رأيَ العَين من فرط ما كان يصدّق بهذا الحديث ...فكان يصبر وهو يوقِن أنّ الله متمٌّ أمرَه، وأنّه محقٌّ كلمتَه، وأنّه مؤتٍ كُلّاً ما وعدَه ...
وهكذا... لم يكن "ابن المغيرة" وحدَه المعنيّ بهذه الآيات، بل كلُّ مَن كان ذا عناد للحق في كل زمان وفي كل مكان، من كان ذا كِبر يُبطِر به الحقّ...ولقد قال صلى الله عليه وسلم يصف الكِبرَ: "الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ"
وكم يَعُجّ عالَمُنا وعصرُنا بأشباهِه، منهم علماءٌ أخذوا بنواصي علوم الدّنيا المختلفة، وهم كلما زادوا علما زاد إنكارُهم لله، بل يَجِدّون أكبَرَ الجِدّ، والآيات مِلْء السمع منهم والبصر ليثبتوا ألا إله ...! وأيّ عذاب هو أكبر من رؤية الحقّ وكُرهِه، ومعرفته واختلاق الأسباب لإبطاله... !

كذلك هي حال المتكبّرين في الأرض، مصروفون عن الآيات وهي تملأ أعينهم وأسماعَهم !! أليس سبحانه يصفُهم في قوله : "سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا  ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ" -الأعراف: 146-
يصرفهم سبحانه بما كذّبوا وبما عاندوا ...

"وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) "

هي ذي أوصاف سقر التي توعّد الله بها كلّ معاند لآياته، متكبر في الأرض بغير الحق، صادّ عن دين الله وعن سبيله، متصدّ لدعوته في كل زمان وفي كلّ مكان ...
" وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ " للتهويل والتدليل على فظيع حرّها...
"لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ " لا تُبقي من المُلقَى بها لحما ولا عظما، ولا نقطة من نقاط جسمه كلّها إلا أشبعتْها حرقا وصليا وشَيّاً، وليتَ موتا يخلّص ويُنهي العذاب... !!  إنه لا موت ... ! "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ  إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا" -النساء:56-
" لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ " مُسَوِّدة للبشرة من شدّة حرقها لها، يقال: لوّحته الشمس أي غيرت لونَ بشرته ...

تلكم هي سَقَر -أجارنا الله وإياكم- ... تلكم هي جزاء المُعانِد المستكبر بمال وولد وأمر مُطاع، وهو المتولّي عن أمر ربّه !  فأي شيء أشدّ، وأي عذاب أكبر وأيّ مصير أفظع ...! وأيّ دُنيا كان يرتع فيها وحسب أنّها ستبقى نوالَه ... !!
"عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ(30)" عليها تسعة عشر ملَكا يتولّون أمرَها ...

وفي هذا العَدد حاجَّ كفّار قريش، فجعلوا يستهزؤون ويتجرّؤون عليه وهو قد نزل قرآنا ...
يُروى عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية "عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ" .قال أبو جهل لقريش: ثكِلَتْكُم أمهاتكم! محمد يخبر أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم؟)
ويُروى أن أبا الأشدّ فيهم، كان قد بلغ من القوة- فيما يزعمون- أنه كان يقف على جلد البقرة، ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدميه، فيتمزق الجلد، ولا يتزحزح عنه ...قال: " أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، عشرة على ظهري، وسبعة على بطني. واكفوني أنتم اثنين"  إعجابا منه بنفسه.

فأنزل الله تعالى: "وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً  وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا  وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ  وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا  كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ  وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ  وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ (31) "

إنّ أصحاب النار الذين دعاكم عددُهم للاستهزاء والسخريّة والتجرّئ على الله، ملائكة غِلاظ شِداد، جاء وصفُهم في قوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" -التحريم:06-
هؤلاء هم الذين مِن تكبّرهم وعِنادهم وكُفرهم ولِجاجهم جعلوا الملائكة مادة للسخرية والتندّر ... !
وبعد ذِكر صفتهم، يأتي التفصيل في عِدّتهم : "تِسْعَةَ عَشَر"

"وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا..."
هكذا سبحانه في سابق إرادته وبتمام حكمته كان... تسعة عشر، جُعِل الإعلان عنها فتنة وامتحانا للكافرين ... فلقد أقحموا أنوفَهم في عددهم، فقالوا لِمَ كانوا تسعة عشر ولم يكونوا عشرين؟ وهل هذا العدد كافٍ لعذاب البشر من بداية الخلق إلى نهايته ؟!
وَيْكأنّهم صدّقوا بالنار، وبتعذيبها للكافرين أصلا، ليجادلوا في شأن خزنتها !! ولكن هذا ديدنُ المعاندين، السفهاء، الذين يكفرون بلا حجّة، الذين يتخذون سبيل الغيّ سبيلا، ويُعرضون عن سبيل الرُّشد والرّشاد ...

أما أهل الكتاب والمؤمنون فشأنهم آخر :
"لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا  وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ..."
الخبر هنا عن أهل الكتاب والمؤمنين جاء في شِقَّيْن:
1-) الشِقّ الأول: عن اليقين وازدياد الإيمان :
ليقع اليقين في نفوس أهل الكتاب، وهم الذين جاء في كُتُبِهم العدد ذاتُه لخزنة النار "تسعة عشر" ... وليزداد الذين آمنوا إيمانا، وهم الذين لا يجادلون في أمر الله وفي إرادته، لأنهم مستيقنون من حكمته وقُدرتِه، وفعله لما يشاء... بل سبحانه يقضي بهذا العدد لخزنة جهنّم، وليس العَدَدُ داعي شُبهة، لأنّه في مشيئة الله وقُدرتِه المُطلقَتَيْن أن يجعل فيهم قوة الألوف والملايين ... ليس العدد عنده سبحانه هو المحكّ، وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ...! وهو الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له "كُنْ" فيكون ... بهذا الإيمان، وبهذا اليقين، وبهذا التصوّر يزداد الذين آمنوا إيمانا، وهم في كلّ مرة يعرفون من عظمة الله وطلاقة قدرته المزيد والجديد الذي لا يُقاس بقدرة البشر ولا بعلمهم ....

2-)الشِقّ الثاني: عن الارتياب  : "وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ"
فهو اليقين عند صاحبِه الذي لا يَعرِض للارتياب، لا يُساوِرُ صاحبَه شكّ في شأنه. هو التأكيد على الإيمان الحاصل والمُزداد عند تلقي هذه الفئة لخبر عِدّة خزنة النار، ثم هو الذي لا ينفذ به لصاحبه شكّ ولا ريب ... لن يقوى كفار قريش على زعزعة إيمانهم...إنهم وقد وقع في قلوبهم اليقين، لن ينجحوا في تشكيكهم وإرابتِهم ...

"وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا..."

هذا قولُهم من بعد ما فُتِنوا، من بعد امتحانهم بهذه العِدّة ... هذه نتيجة امتحان هؤلاء (الكافرون) ... والذين في قلوبهم مرض، لم يتمكّن الإيمانُ من قلوبهم، فسُرعان ما يقفز الشكّ منها إلى ألسنتهم ...
إنه لِجاجهم ومجادلتهم وسؤالُهم عن إرادة الله ومشيئته وتدبيره لأمر النار كما يدبّر كل أمر : " مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا "   لماذا هم تسعة عشر ؟!

يسألون عن فِعله، وهو الذي لا يُسأَل عمّا يَفعَل، وهم يُسأَلُون ...وتلكم نتيجة امتحانهم، وذلكُم إخفاقُهم فيه .... لتُقام عليهم الحجّة... ليُرَوا يوم الحساب صحائفَهم وهي تحمِل مجادَلَتَهم ولِجاجهم واستهزاءَهُم بآيات الله ...
"كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ  وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ  وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ"
سبحانه يُلقي في قلب مَن يشاء أن يَعُبّ من نور الهِداية ويستوعِبه، ويُلقي في قلب مَن يشاء أن يُعرِض عنه ويَرُدّه ... ! بعدل عدْلٍ وبعلم عليم، وبحكمة حكيم سبحانه ...

" وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ" سبحانه، يعلم مَن يجنّد ومن يستخدم لإنفاذ أمره ولتحقيق إرادته، سبحانه يُعلِمنا بشيء وتخفى عنّا أشياء وأشياء ... فنعلم أنّ من جندِه هؤلاء الغِلاظ الشِّداد من الملائكة خزنةً قائمينَ على جهنّم، ولا نعلم كثيرا وكثيرا من جنوده ....

"وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ" ... وما "سقَر"، وما ذكرُ النار إلا ذكرى للبشر وموعظة، وإنذار وتحذير ...

ولقد ناسبَ كلَّ المناسبة أن يأتي ذكرُ مآل المعاندين المتكبرين الكافرين، وذكر أوصاف سقر وخزنتها مع ما افتُتِحت به السورة من أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالإنذار لقوم ما أتاهم من قبله من نذير  : "لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" -القَصَص: من الآية46-
« آخر تحرير: 2020-12-03, 09:09:00 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ونلاحظ السَّوقَ السَّلِسَ العجيب الذي نُساقُه من الآيات إلى الآيات ... !
فمِن أمرٍ له صلى الله عليه وسلم بالإنذار، وباتخاذ أسباب المواجهة القوية للدعوة الصريحة التي لا تُبطِل شيئا وتترك شيئا، بل تُبطِل الأباطيل والأضاليل جُملة بلا مُداهنة، إلى ذكر حال العنيد المتكبّر، ومآله الذي يُسقَط على كل مَن تلك حالُه في كل زمان وفي كل مكان، إلى تفصيلٍ في شأن النّار التي يُلقَى فيها مذؤوما مدحورا ...

لنجِدنا الآن مع نقلة جديدة، بصيغة جديدة في الخطاب والموعظة ...
نجِدُنا بين يَدَي قَسَم في شأن النار، وعِدّة خزنتِها التي كانت فتنة للذين كفروا، والتي زادت المؤمنين إيمانا واستيقن بها أهل الكتاب :
"كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ (36) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) "

"كلّا" ...  تُستخدَم للإبطال والزّجر والرّدع ... وهي الثانية في هذه السورة من بعد الزجر الذي جاء للطامع أن يزيدَه ربُّه وهو العنيد لآياته...
فهي هنا لإبطال تقوّلاتهم في عِدّة الملائكة الموكَّلين بسَقَر، ولإبطال كفرِهم بها ...

" كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)" ...
قسم بالقمر وبالليل وبالصبح ...
فأما القمر، فالقَسَم به وحالُه واحِدة هي الاكتمال والنور، وأما الليل فالقَسَم بإدباره لا بإقباله، وأما الصُّبح فبإسفارِه لا باحتجابِه...
قَسَمٌ ملائم لكلّ ما سبق، فكان بدء السورة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يُؤمَر أن يقوم فينذِر، ثم جاء وصفٌ لحال العنيد لآيات ربّه المتكبّر في وصفٍ للظلمات الغارق فيها مَن هُم حولَه...
فهذا القمر المنير في الظلمات، ولكأنّه محمّد صلى الله عليه وسلم وهو المبعوث نورا يضيئ في الدُّجى، ويهدي السبيلَ ...هو الذي وصفه ربُّه فقال فيه : " ودَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا(46) " -الأحزاب-
فما أشدّ حُلكة الأرض قبل بعثته، واللّيلُ مُطبِقُ عليها لا يُدبِر.. ! وما أعظَمَ وما أجمَلَ نورَه الهادي يُطِلّ فيه سِراجا، ليس سوادا من السواد الغاشي، بل هو قطعة حسناء مضيئة في كَبَد السماء المُظلمة كلّها ... !

ليس ثيابُه كثيابهم، لا يقرُبُ ما يقربون من رجز، لا يَكْبُرُ في عينِه شيء والله في قلبه الأكبر... فهو النور في قلب الدُّجى ... !
وهذا اللّيلُ مع القمر المنير الذي كسر عصا الظلمة، وكان على خلاف ما يغشى ويطغى  "إذْ أَدْبَر"  و"إذْ" هنا تعني الوقت والساعة التي يُدبِر فيها الليل لحلول أول شُعاع النّهار ... فهو إذ يُدبِر يُعلن بداية النهار... !
إنّ القمَر المنير في الدُّجى بِعثتُه صلى الله عليه وسلم، وإنّ إدبار الليل بما بُعِثَ به من نور ليُقبِل النهار لا محالة، لا ريب، لا شكّ... !
ساعة بعثته، هي ساعة الإيذان بإدبار الليل... وهي ساعة الإيذان بإسفار الصّبح ... فما يُدبِر الليل إلا ليأتي النّهار ... " والصّبح إذا أسفَر"

وهكذا ...
تتمثّل لك صورة الليل الذي أطبَقَ على الأرض أمداً طويلا، وهو ذا بحلول القمر يستعدّ للرحيل ... وكما يبدأ الشُّعاع الأول من النّهار، ليَلحق به شعاعٌ،  فشعاع فشعاعٌ صُعُدا نحو الأفق ... ! فجرٌ هو الخيط الأول، ثم صبح هو المُسفِر الظاهر المنبلج...  كذلك هذه الدعوة طريقُها...  بدأت من تلك المنطقة النائية المنعزلة، من قلب الصحراء العربية، أشعّت من هناك حتى أشرقتْ شمسا بضيائها على الأرض شرقا وغربا... !
بهذه الصورة العظيمة لانبلاج النور من بعد ليل بهيم طويل، كان القسم على : "إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ (36) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) "
جواب للقسم على أنّ  النار إحدى الكُبَر، إحدى كُبريات الأمور وعُظْمياتها التي جعلها الله تعالى نذيرا للبَشَر ...
ونلاحظ دوامَ الاتّساق والتناسب والتواؤم بين مقاطع السورة وهي كلّها في ظلال ما ألقَت به السورة أوّل أمرِها "قُمْ فأَنْذِرْ" ... ليأتي ذكرُ المنذَر منه... ثم ها هو القسم على أنّها إنذار للبشر، وفي كلمة "البشر" تعميم يُلقي بعموميّة الرسالة الخاتِمة...

"لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ(37) "
وهنا جاء التفصيل بعد الإجمال في الآية السابقة أنّ الإنذار للبشر، إنذار لمَن شاء من البشر أن يتقدم أو يتأخر، مع الالتفات من أسلوب الغيبة إلى أسلوب الخطاب بـ : "منكم"
فـ: "من شاء أن يتقدم" هو الذي اختار أن يتقدّم إلى الدّاعي، ويُقبِل عليه، ويَقبَل دعوته ويصدّق بها، فالنّار له نذيرُ ذكرى، تجعله يصرّ على تقدّمه ويثبت على طريقه ...
أما من شاء أن يتأخر فهو الذي يُعرض عنها ولا يقبَلُها، والنار نذير له لتُقامَ عليه الحجّة، فلا حُجّة له على الله يوم يقوم بين يدَيه. فالمشيئة هنا مشيئة الاختيار في الإنسان .

ثم نَخْلُصُ من هذا الاختيار، وهذه الإرادة الحرّة في الإنسان الذي خُلِق ليُبتلى أيُحسن أم يسيئ، إلى مزيد بيان لهذا الاختيار المخلوق به في قوله سبحانه  : "كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) "
كلّ نفس بما كسبت من عمل رهينة، سواء أكان عملُها حسنا أو سيئا. والرهين هو الذي يُحتَبَس حتى يُؤدَّى ما من شأنه أن يَفُكّ رَهْنَه وحَبْسَه ...
فيُفَكُّ  رهْنُ مَن يُسفِرَ عملُه يوم القيامة عن فوز بالجنة ونجاة من النّار، هو عندها حُرٌّ لا عذابَ ولا عقاب... وما دام الإنسان في الدنيا فهو رهين، رهينُ عملِه، وهو الذي لا تُؤتَمَن عليه الفتنة مادام حيّا ...

ما من حيّ يعلم مآلَه، ما من مؤمن -مهما بلغ إيمانُه ووَرَعُه- يضمن نجاتَه ومقامَه في الجنّة، بل هو الذي بين خوف ورجاء ما حيِي...وقد قال صلى الله عليه وسلم : "فإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ، حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ" -صحيح البخاري-
إذن، فكلّ إنسان رهينٌ ما حيِي، ويبقى رهينا يوم القيامة مَن لم يُخلِّصه عَمَلُه ، لذلك جاءت الآية الموالية تستثني من الرَّهن "أصحاب اليمين"

"إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)"

إنّ هذه الصفة "أصحاب اليمين" مُحقّقة في الآخرة لا في الدنيا، فإذا هو جَمعٌ بين الدنيا والآخرة، في أنّ كلّ نفس بما كسبت من عملها في الدنيا -خيرا كان أو شرّا- رهينة، حتى إذا قامت الساعة استُثنِي من هذا الرَّهن من كان سعيدا فائزا بالجنّات  ...
"فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ (47) "

نعرف في القرآن في غير ما موضع، أنّ أهل الجنة وأهل النار يحدث بينهم حِوار، كلّ مِن مقامه الذي هو فيه... في "الأعراف" : " وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا  قَالُوا نَعَمْ  فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" –الأعراف:44-
"وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ  قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ" -الأعراف:50-
"قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ(54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ(55)" -الصافات-

وكذلك في هذا الموضع من سورتنا، أصحاب اليمين يتساءلون فيما بينهم، ويُلقون بسؤالهم لأهل سَقَر: " مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ "
لنسمعهم يجيبون، في إخبار من الله تعالى لنا بهذا الذي سيكون لا ريْب عند قضاء أمرِه في عباده، فأصحاب جنّة وأصحابُ نار ... ! ويأتي كالعادة الفعل ماضيا : "قالوا" للإيذان بتحقّق هذا الأمر بلا أدنى ريب، فكأنه الذي كان وانتهى !  أجارنا الله ونجّانا.
فكان أولُ سبب لسلوكِهم سقر : "قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)"

لم يكونوا موصولين بربّ العزّة... قُطِعت تلك الوشيجة التي تضمن الحياة الآمنة في الدنيا والآخرة في كَنَف الربّ الذي منه الخَلق والإيجاد وإليه المَرَدّ .
وتُقرَن مباشرة بــ: " وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ " .  وقد عرفنا هذا القَرْن من قبل في قوله تعالى : "إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ(34) " -الحاقة-

كما نعرفها مقترنة بعدم الإيمان باليوم الآخر في قوله سبحانه: " أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (01)فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (02)وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ(03)" -الماعون-

ومن عظمة هذا الوَجه من الإنفاق نراه مقرونا برأس أركان الإيمان، الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر.
واستحضر معي من سورة المزمّل أواخرها، وفيها القَرنُ بين الفريضة والنافلة في إعلاء لقيمة النافلة التي تَزيد العبدَ قُربا من ربّه، وتزيد حسناته.

" وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) "
إقرارٌ منهم أنّهم كانوا يتّبعون، ويقلّدون، ولا يفعلون ما يفعلون عن تعقّل وإرادة نابعة من الذات بقناعة وعقل مُعمَلٍ.
وفي هذا إشارة ضمنيّة لخطورة الاتباع الأعمى... وقد عرّفتنا سورة المدثّر من خلال نموذج الوليد، كيف لا يَجدُر بالمؤمن الانبهار بصاحب الفِكر والعقل حَدَّ عَدِّ كلّ ما يصدر منه جواهرَ لا يُشَكُّ في نفاسة معدنها، لا لشيء إلا لأنّ فلانا من المفكرين هو القائل... !
كذلك الوليد أقرّ الله تعالى له بالتفكير، وقد كان بينهم ذا رأي ونفوذ وسُلطان ومال وولد، ولكنّه وقع في شِراك الكِبر، فكان فِكرُه وتقديرُه هباء ووبالا عليه وعلى من اتّبعه ...
صدق مَن قال: الرّجال يُعرَفون بالحقّ، ولا يُعرف الحقّ بالرّجال.

"وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) "

مثلهم في كلّ زمان وفي كلّ عصر، والإلحاد في أيامنا وكأنه الموضة المُتَّبَعة ، فإذا من أبناء الإسلام ومن حاضنة الإسلام مَن يُلحِد، في دخول منهم لجُحر الضبّ الذي يدخُلُه أهل المادة والحضارة والقوة المادية... !

 "حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ (47)"

وليتَ شِعْري... !  إن اليقين المُنجّي هو يقين المؤمن بربّه في الدنيا، فلكأنّه يرى الغَيْب بعينه ويلمسُه بيدِه، فذاك يوم القيامة ناجٍ وهو يرى وعْد الله، ويرى نفسَه وهي التي تلقّت علم اليقين في الدنيا بالقَبول والإقبال فأيقنتْ، قد صارت إلى عين اليقين وحقِّه ...
إنّ هذا إقرار أنفسهم على أنفسهم ! لم يعودوا يملكون فِرارا، ولا كذبا ولا ادّعاء ... فما ينفعهم شيء ... ! ما ينفعُ الوليدَ وكلّ وليد في الدنيا عبر الأزمنة، مالٌ ولا ولد ولا جاهٌ ولا خَدَمة مطيعون مِن حَولِه  : "
فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)" ....
إنّه لا شفيعَ لهم أصلا على الحقيقة، وحتى على افتراض وجود الشفيع، فإنّه لن تنفعهم شفاعة ...
« آخر تحرير: 2020-12-03, 09:40:13 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وبعد كلّ هذه الصور، وهذا التصوير من العليّ القدير ...بعد هذا الإعلام بخبر الآخرة، وبخبر النار وأهلِها، وبأنها إحدى الكُبَر، وبحالها وصِفَتها، وبعِدّة القائمين عليها وبقوّتهم، وبأنها الذكرى وبأنها النذير ...
وبعد هذا الخبر عن أهلِها، وعن نجاة الناجين في الجنّات وهلاك الهالكين المُعذّبين في النار ... 
بعد أن وُضِع الإنسان مع هذه الصّور الحيّة المتحرّكة التي تهزّ المشاعر، وتُزعزِع الوُجدان في قلب الحقيقة، وأحيطَ علما بما ينتظر المعاندين من أهوال ...

بعد ذكر أسباب الإرداء فيها، يُعدّدها المُرْدَونَ فيها بألسنتهم !ومن بعد بيان خسَارِهم وبَوارِهم وفَوْت أمرِهم، وهُم ما سمّوا اليقينَ يقينا إلا حينما وجدوا أنفسَهم والوعيد متحقّق فيهم ... !
أبعد كلّ هذا ... !! مازال المُعرضون مُعرِضين ؟؟!

"فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51) "
إنه استنكار واستفظاع واستشناع لحالهم مع هذه الذّكرى، مع هذا النّبأ العظيم... ! مازالوا مُعرضين ... !
وكأنّك وأنت تسأل : "أبعدَ كل هذا هُم معرضون؟؟ ! مالَهُم ؟؟؟"
يأتي الله تعالى بسؤالك قبل أن يَعرِض لك : " فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) " ويزيد فيأتي بوصفٍ دقيق لحالهم : "كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51) "

كأنّهُم حُمُر (جمع حمار) فارّة هاربة مما يُلاحِقها، ويُعرف عن حمار الوحش سُرعة استنفاره من أدنى خطر يُحسّه ...
و "قَسْوَرة" اسم من أسماء الأسد، كما أن القسورة جماعة الرُّماة الذين يُطاردون الحُمُرَ الوحشية...
فلكأنّ القرآن هو ذاك المُفتَرِس الذي تفِرُّ منه الحُمُر فِرار الروح بالروح ... ! وهو الروح فوق الروح ... ولكنّ الخاسرين السُّفهاء الضالين يرون سبيل الرُّشد فلا يتخذوه سبيلا، ويرون سبيلا الغيّ فيتخذوه سبيلا... !

ويزيد الله في وصف تَبارهم فيقول :
" بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً (52) "
أيّ قشّة من حجّة واهية واهية واهية هُم يذكرون ؟؟!!! أيُّ شيء بعيد بعيد هم يزعمون أنّهم يريدون ؟!
كل امرئ منهم يودّ أن يُؤتى صحيفة تنزل عليه من الله، تحمل اسمَه، وأنها إليه قد أنزِلت ... يودّ كل منهم أن يكون رسولا ... ! أو لو أنّ كُلّا منهم ينزل عليه من الله بيانٌ فيه أن محمدا على الحق فيتّبعه... !

"كَلَّا  بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) "

تلكم هي حقيقتهم ... ! ليس افتقارهم لصُحف منزّلة عليهم من السماء تحمل أسماءَهم، بل هم لا يخافون الآخرة ... لذلك هُم لا يؤمنون ...لذلك هم يُكذّبون محمدا... لذلك هم لآيات الله معاندون ...
ومَن يزعم في أيامنا أنّه يتعقّل، فيُنكِر الرسالات والرُّسُل، ويُنكِر كل غيب بدعوى أنّ عقلَه لا يلمسه،  إنما ذلك منه ادّعاء تعقّل، وكذبٌ وبُهتان...

وهو الذي يُكبِرُ في نفسه عقلَه ويُكبِر، اسأله إن كان يقوى على الإحاطة بكلّ ما حولَه... بل أن يعلم ما هو حاصلٌ له بعد ساعة، بل بمَن يقف خلف باب موصَد بلا عين سِحريّة يطلّ منها ليعرف أنه فلان أو علان ... !
أهذا الذي لا يُحيط بأقرب الأشياء منه، بَلَه الكونَ الذي يعيش فيه، ودقائق شؤون الخلائق فيه، وما جرى عليها، وما هو مقضيّ ليجري عليها ! أهذا يُنكِر الغيب، وما غاب عن علمه في الدنيا التي يعيشها لا يُحسَبُ ولا يُعَدُّ...!  يُنكِر الغيبَ والغيبُ من حولِه... محيط به... !

"كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ  هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) "
ونأتي على آخر السورة... لنجدها تقرّر أنّ القرآن كلّه تذكرة، فمَن شاء أن يُعرض عنها ويبقى مُعرضا عنها فليبقَ حيث هو، وسيرى قريبا غير بَعيد مغبّة إعراضه واختياره وهو مُلقى في سَقَر ... !

" وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ  هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ(56) "
وما يذكُر ذاكرٌ إلا أن يشاء الله تعالى، الذي يهدي عن علم محيط كامل، وعن عدل تام، ويُضلّ عن علم وعن عدل سبحانه ...
هو سبحانه أهلُ التقوى، هو أهلٌ أن يُتّقَى ويُخشى، أن يُتَّقى سخَطُهُ وعذابُه،  وهو سبحانه أهل المغفرة، بابُ مغفرته مفتوح لا يوصَد، في رحمة منه لكلّ من أعرض أو نأى أو غفل ثم عاد يخاف غضبَه، ويرجو رحمته ويبتغي منه فضلا ورضى...

وهكذا .... جاءت "المدثّر"  في بدايات أمر بعث الأرض للحياة، ببعثة محمّد نبيا ورسولا في الظلمات الداجية ! جاءت تقِرّ دور الداعية ودور الدّعوة في مسيرة ذات شقَّيْن، شقّ دنيويّ، هو الرسالة المؤدّاة لتوحيد الله سبحانه الذي يخلق مَن يخلق وحيدا مُجرّدا من كل حول وقوة ... وهو الرازق الذي يُصيّر الإنسانَ إلى خير وإلى نعمة وإلى نفوذ وإلى سلطان ... فيكون بذلك الابتلاء، أهو الإقرار بالعبودية له وبطاعة أمرِه مع الإقرار بربوبيته وخلقه، أم أنه الغرق في النعمة ومعاندة المُنعِم... !

وذات شقّ أخرويّ، هو ساعة الجزاء على ما كان من إقرار وتوحيد وإيمان، أو تكذيب وكفر وعصيان ... ! فإذا الكُبراء من عطايا الرب الرازق، وهم المعاندون لآياته، المنكِرون لتوحيده وعبادته، هم أهلٌ لسقر، إحدى العُظميات والكُبَر نذيرا للبشر ...وإذا المؤمنون المقرّون أصحاب يمين، أهل لجنات ونعيم ...

ولا تتحيّر من إصرار المعرضين على إعراضهم، فإنما ذلكُم منهم كُفْرٌ بالآخرة، وعمى، وصرفٌ من الله للمتكبرين في الأرض عن آياته، حتى إنهم ليرون سبيل الرشاد فما يتخذونه سبيلا، ويرون سبيل الغيّ فيتخذوه سبيلا ... !
وهكذا ... جاءت "المدّثر" تحمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيان هوان الدنيا على الله، وأنّ ما فيها من إعراض معرض، وكفر كافر آيلٌ إلى الله، وإلى يوم تشخص فيه الأبصار، فيُوفّى مستكبر معاند جزاءه بما صال في الدنيا وحسب أنها منه الصولة التي لا تنتهي ...

جاءت تأمر رسول الله بالقيام للإنذار... لأنه سبحانه ما خلق عباده ليعذبهم، بل ليبتليهم، وهو يعلّمهم مآل الإيمان، ومآل الكفر ... فبعث فيهم منذرا لينقذهم من هول اختيارهم الباطل على الهُدى ...
جاء فيها سريعا سريعا بعد أمره بالقيام، وتكبير ربّه، والصبر:  "فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ"... !  مدار الدنيا بأكملها على هذه النقرة ! إنما هي قصيرة، هيّنة، صغيرة ... جعلت للابتلاء والامتحان، وسرعان سرعان ما يُنقر في الناقور لتنتهي .... !
جاءت تعلّم رسول الله، ولتعلمنا عبْرَه، أن الله أكبر من كل من كبر وعلا في الأرض، وطغا وبلغ بطغيانه ما تراه أعيننا أهوالا عِظاما ... !! أنه الذي قد أعِدّت له سقر ... وما أدراك ما سقر ... !

ولتعلّمنا أنّما نُكرانهم الآخرة، ونُكرانهم وعيد الله هو سبب عتوّهم، وسبب إعراضهم في كل زمان ... !
جاءت "المدّثر" مع "المزمّل" ... تنبئاننا عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن الدعوة والرسالة ليلا ونهارا ... ! وأنّ الدعاة على دربه، واجب عليهم القيام، بلا منّ وبلا استكثار...

فاللهُمّ اجعلنا من المتّقين، واغفِر لنا وارحَمْنا أنت أهل التقوى وأهل المغفرة،  ونحن أهل التقصير والغفلة...وأبلِج اللهمّ صُبح الأمة، وأذهِب ليلَها، وأخرِج من أصلابها حُماة حارسين قائمين بالدين، متطهّرين، مكبّرين، كما قام سيّد الدّعاة وإمام المرسلين محمد الهادي الأمين، القمرُ المنير في الظلمات، البشير النذير ... وأجِرنا اللهم من لحظة في النار، واجعلنا في أصحاب اليمين ...
« آخر تحرير: 2020-12-03, 09:42:07 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب