ولقد فُرِض قيام الليل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه أول الأمر بنزول هذه الآيات، ثم خفّف الله عنهم فأصبح نافلة .
عن سعد بن هشام رضي الله عنه، عن عائشة رضي الله عنها وهي تجيبه عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
أَلَسْتَ تَقْرَأُ يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ؟ قُلتُ: بَلَى، قالَتْ: فإنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ في أَوَّلِ هذِه السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا في السَّمَاءِ، حتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ في آخِرِ هذِه السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَة" -صحيح مسلم-
ولكنّ الأمر بالقيام وجوبا بقي خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها، وقد جاء في ذلك قوله سبحانه : "
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا" -الإسراء:79- . أي زيادة لك خاصّة، فكانت عائشة رضي الله عنها إذا سألته عن سبب قيامه حتى تتفطّرَ رجلاه، أجابها صلى الله عليه وسلم قائلا : "
يا عَائِشَةُ أَفلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا" -صحيح مسلم-
وهكذا ... كان صلى الله عليه وسلم، كلّما أمره ربُّه ائتمَر، وأدّى على التمام والزيادة والكمال ....
فكان قيامُ الليل القوّة التي كان يَجدُها صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يدعو ويربّي ويعلّم، ويوجّه، ويؤدّب، ويصنع الأنفسَ، ويُخرجها من ظلمات الجهل إلى نور العلم والحقّ، ويزيح عن البصائر غشاوة الاتّباع الأعمى لكلّ ناعق، ليُشِعّ فيها الانصياع لأمر الخالق الهادي الملِك سبحانه، واتّباع رسوله إلى عباده .
"
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)"
وهذا نهار محمد صلى الله عليه وسلم...يخبره سبحانه أنّ له فيه سبحا طويلا، أي له فيه تقلّبا وانشغالا بأمور الدنيا، وبأمور الناس ...
لقد كان صلى الله عليه وسلم يقضي نهارَه داعيا لربّه، معلّما للناس، مُجاهدا، ثابتا رغم تصدّي الكافرين لدعوته، وصُدودهم عنها، وترصّدهم وكَيْدهم له ولمَن تبعه، ورَمْيه بالجنون والشعر والسحر... !
كان دَيْدَنُه الدّعوة، والعمل دائبا على تبليغ الرسالة وأداء الأمانة ...
ويعود بنا هذا إلى آخر ما جاء في سورة الجنّ : "
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)"
لقد كان صلى الله عليه وسلم يتزوّج النساء، وكان له منهنّ الوَلَد، وكان يأكل ويشرب، ولكنّه كان في كل ذلك يتزوّد ليبلّغ رسالات ربّه، فهو القائم نهارا، القائم ليلا ...
"
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا "
تربية ربّانيّة، وإعداد ربّانيّ له صلى الله عليه وسلم، على درب الدعوة، ذلك الدرب الشاقّ المُضني، الذي ينوء بالعُصَب أولي القوّة، والذي لم يكن له إلا محمد صلى الله عليه وسلم، إمام أنبياء الله ورُسُله، وسيّد وَلَد آدم ...
يربّيه سبحانه أن يكون له ذاكرا: "
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ"
فمِن بعد أن أمره بالقيام ليلا، هو ذا يوجّهه للذّكر نهارا، ليجتمع عليه يومٌ هو فيه مع الله بِطرفَيْه... بِلَيْلِه ونهارِه ... فهو بذلك منقطع لربّه، متّصل به على الدوام، لا تشغله الحياة ولا حركتها، ولا حركة الناس مِن حوله عنه سبحانه ...
ويؤكّد سبحانه هذا المعنى بقوله : "
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا "
إذ أنّ التبتّل هو الانقطاع، الانقطاع عن الدنيا إلى الله سبحانه ...
وهنا وجبتْ مني وقفة أبيّن فيها ما استسهل كثيرون فَهْمَهُ، على نحو ليس هو المُرادَ من قول الله تعالى : "
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا "، وأسقَطوا ذلك الفهمَ على الحياة، فأصبحت الدنيا وكأنّما خُلِقَت لنجافيها مجافاةً، فلا نهوض لنا فيها، ولا دَوْرَ ولا أثر... بل ويُؤخَذُ هذا الوجود الهامشيّ فيها على أنّه الدّين، وأنّه من الدين، وأنه ما يقتضيه الدين... !
التبتّل الذي دعا الله إليه عبدَه وصَفِيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم، لا يعني الانقطاع الكليّ عن شؤون الدنيا، وعن الحياة، ولو كان ذلك لما جاءت: "
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا " . ولو كان ذلك هو الفهم الصحيح لما تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما عرفناه يردّ على مَن جاءه يقول باعتزال النساء فلا يتزوج أبدا، وبالصوم فلا يفِطر، وبقيام الليل أبدا، بأنه أخشاهم لله وأتقاهم، ولكنّه يصوم ويُفطِر ويتزوج النساء، ويقوم وينام. فكان يدعوهم للتأسّي به صلى الله عليه وسلم وقد بُعِث، وللمؤمنين فيه أسوة.
بل المعنى أن يعيش المؤمن ويقضي مآربَه، ولا ينقطع إلا عمّا يُغضب الله...
ذلك ما يُجانبه كل المجانبة... أما شؤون الحياة، فيقضيها، ويعمل ويتحرّك ويتعلم ويعلّم، ويكتشف ويخترع، ويُعلي، ويُواكب العلوم وهو ذاكر لربّه، فلا يتألّه بعقله في الأرض إذا ما علِم وإذا ما اكتشف، حتى يعبد المادّة والملموس والمحسوس...
... موقنٌ هو أنّ العليم سبحانه هو الذي علّمه، فلا يُنكر أنّ للكون خالقا، ولا ينكر أنّ غيوبا تتلفّف عنّا في عالَم أوانُه لأعيننا له كتابٌ موقوت، الإيمان بها أهمّ علامات المؤمن...
فَهْمٌ خطير طغى على الأمّة في قضيّة العبادة، فتصوّر مَن تصوّر أنّما العبادة الحقّة، والتقوى وسامق درجات الوَرَع أن ننقطع عن الدنيا، وأن نتركها لغيرنا هنيئا مريئا، فَهُم أربابُها وأسيادُها، والمنعَّمون بها، ولنا نحن نعيم الآخرة وهو خير وأبقى ... ! وما هذا الفهمُ منا للتبتّل إلا المِشْجبَ الذي نعلّق عليه تقصيرنا وقعودنا وتكاسلنا، وجُنوحَنا إلى الدَّعة والراحة ... !
فكثيرٌ ممّن يُطلِق لِحيتَه لتكون له سِمة من سمات التعبّد والتبتّل لله، فلا يغادر المسجدَ إلا إلى مسجدٍ غيره ...معتكفٌ هو أبدا...! ولعلّك لو تقصيتَ أمرَه، لوجدتَه قد غادر مقاعد الدّراسة وطلب العلم، بدعوى أنّ العلمَ الشرعيّ وحدَه الذي يُطلَب، أما علوم الدنيا فالغربُ أهلُها، لأنهم أهل الدنيا وناسُها، أما نحن فأهل الآخرة وناسُها ... !!
حالٌ عرفناها في الأمّة، كان من أهمّ أسبابها، دعاةٌ وعلماء أخذوا التبتّل على أنه الانقطاع عن الدنيا وعن العمل فيها، وعن أن يصنع المسلمون لأنفسهم مكانا، وجانِبا مُهابا، في عالَمٍ القويُّ العامل فيه يأكل الضعيفَ القاعِدَ... !
ولكنّا لا نَفْطِن لخطورة هذه الحال إلا حينما تُستَباح أراضينا من أقوياء عملوا، واخترعوا وتترّسوا بسلاحٍ صنعتْه أيديهم، وهم من قبلُ أغنياء بغذاء زرعتْه أيديهم عن فُتاتٍ يُلقي به إليهم غيرُهم ليُغيثَهم ... !
عندما تُداسُ رقابنا بنِعالهم ... عندما تُستَباح أوطانُنا وتغدو كعكة تُسيل لُعابَهم، فيتصارعون على تقاسُمِها... عندها نفطنُ أن التبتُّل كما فُهِم لم يكن هو التبتّل الذي أراد الله ... !
بعيدون نحن بذلك كلّ البُعد، عن التأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن فَهم مُراد القرآن العظيم، فقد كان أول ما فكّر به صلى الله عليه وسلم وقرّر العمل عليه عند دخوله المدينة المنوّرة، أن يكون للمسلمين سوقٌ، وأن يكون لهم مورِد ماء، وقد كان اليهود فيها أصحاب تجارة ونفوذ ماليّ، فتشوّف بنظره البعيد إلى وُجوب الاستقلال الغذائيّ عنهم كمُنطَلَق، إذ أنهم هُم أصحاب الحقّ وهم الذين سيضطلعون بمهمّة نشره في الأرض وإعلاء كلمته، وإذهاب الباطل وتسفيل كلمته. وبذلك سيصبحون سادة قراراتهم، وأهلا لتبليغ رسالة الحقّ، فلا يضطرّهم جوع أو ظمأ لأن يخضعوا لأهل الباطل... !
واسمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرد عثمان...
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "
رَدَّ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، ولو أذِنَ له لَاخْتَصَيْنَا"-صحيح البخاري-
وإنّ البطولة ليست في الانقطاع عن الدنيا إلى التعبّد، بل البطولة في خوض غِمار الدنيا والقلب ذاكر لله، فهو المتحسّب في كل خطوة تُخطَى، يُراعي عينَ ربّه، فلا يكذب، ولا يخدع، ولا يتملّق، ولا يُداهِن وهو يتعامل، وهو يعمل، وهو يتعلّم ... وهو يبيع ويشتري، وهو يتحرّك حركةَ الحياة ... في ذلك تكمُن البطولة، ويتبيّن معنى سَبح النهار الطويل، وذكرُ الله والتبتّل إليه ... !
قلبٌ معلَّقٌ بالله، موصول به، فهو في الحياة تراه صاحب وظيفة أو في مقعد دراسة، أو في مقام مسؤولية كيفما كانت، وقلبُه موصول، يتحرّى الرَّشَد، ويتحرّى مرضاة ربّه وهو حيث وجَدْتَه ... !عابدٌ هو في صومَعة لا تدْرِكُها الأبصار، بل يُدرِكُها عالم السرّ وأخفى ... !
وإن كنّا نوقِن أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو أعرف عباد الله بالله، وهو أتقاهم وأخشاهم له ، وهو صاحب المسؤولية والرسالة الخاتِمة العظيمة التي لم تُنَط ببشر قبله، ولن تُناطَ ببشر بعده- لا يكون ائتمارُه بأمر الله إلا على قدرِ عظيمِ معرفتِه به سبحانه، وعظيم خشيته له... فكان يقوم الليل حتى تَرِمَ قدماه، وكان يقضي نهارَه داعيا لله، مجاهدا في سبيل تبليغ الرسالة.
إلا أنّ هذا الذي يُؤمَر به صلى الله عليه وسلم، ينسحب على كلّ من يحمل على عاتقه مسؤولية الدّعوة إلى الله . كما ينسحب على المؤمنين كافّة على اعتبار أنّ كل مؤمن راعٍ ومسؤول عن رعيّته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإنّ ما يفرّق بين مؤمن وغير مؤمن، أنّ المؤمن يعيش اعتقاده بربّه الواحد حياةً وحركة في الحياة، فلا يفصل الدين عن الحياة ثم يتمطّى بمقولة العلمانيّين الشهيرة : "الدين لله والوطن للجميع" !! وذلك بفصل الدين عن شؤون السياسة في علمانية مصغّرة كما يسمّونها، ثم تدرّجا إلى فصله عن الحياة كلها ... !
"
رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)"
إنّ الذي يأمره صلى الله عليه وسلم أن ينقطع إليه في كلّ حركات الحياة، هو ربّ المشرق والمغرب، والمشرق مكان شروق الشمس، والمغرب مكان غُروبها، كما أنّهما الزمان أيضا، فالشروق علامة بداية النهار، والغروب علامة بداية الليل.
ربّ المكان والزمان سبحانه، خالقُهُما ! وخالقُ الإنسان في محيطهما، فهو لا يُعرَف له وجود، ولا حركة إلا في إطارهما ... أما هو سبحانه فهو الذي لا يحويه مكان، ولا يحدّه زمان، هو الذي كان سُبْحانه ولا مكان ولا زمان... !
ربُّ المشرق والمغرب، الربّ الخالق المالك سبحانه، لا إله إلا هو، الإله الذي يُعبَد ولا يُعبَد سِواه ...
ولقد كان العرب يقرّون بربوبيته، ولكنّهم لم يكونوا يتخذونه إلها معبودا، لم يكونوا يأتمرون بأمره وينتهون عن نهيه، بل كانوا يختلقون العبادات، فيَرضَون بالتذلّل لصنم من حجر، ولِوَثن من خشب يعكفون عليه، ويأبون التذلّل لخالق كل شيء ومالك كلّ شيء ! ويدّعون اتّخاذ الصنم قُربى وزُلفى إلى الله، على اعتبارهم له رمزَ الرّجل الصالح الذي كان فيهم، ويأبون التقرّب إلى الله بطاعة رسوله بدعوى أنه بشر مثلُهم، وكأنّ الصالح فيهم لم يكن بشرا ...!! وذلك خَلْط الإنسان وخَبْطُه حينما يترك نفسَه نَهْبا للشيطان، ويزْوي عقلَه حتى يهوي إلى دركات الهباء ... !
وليست أصنامُ وأوثانُ العرب وحدَها، التي كانت شِركا بالله وكُفرا، بل إنّ الإنسان في كل زمان إذا ما أعرض عن أمر ربّه وقع في شِراك السَّفَهِ واللاعقل ...
وبين بني الإسلام اليوم مَن لا يعرفون من القرآن إلا اسمَه، أو حرفَه، فإذا عرضَتْ له الشُّبُهات، ألْفَيْتَه متخبّطاً وقد تلجلج فِكرُه وترجرج، وشكّ واضطرب، وليتَه كان شكَّ السَّؤول الباحث الذي يتشوّف للحق، بل هو الذي كان القرآن بين يدَيْه فما عرف منه إلا حروفَه... !
فانظر... انظر في هذه الحال، واحذرْ ! فإنّ القرآن كنزٌ لا يُدرَك إلا بمعايشته، لا يُدرَك بقراءة الحروف وتهجيتها، وبتقديس لفظيّ، وبتقبيل للمصحف، ومسح التراب من عليه ... ! بل إنه الذي يُعاش، ويُتحرّك به، الذي يبثّ الحياة فينا، وما أهملنا معايشته عشنا بلا معنى لوجودنا ... !
ربّ المشرق والمغرب، ربّ الليل والنهار، ربّ الزمان والمكان، فكيف يُعبَد غيرُه ؟! هكذا يخاطِب القرآنُ العقلَ، وهو يَعلَم قُدرتَه على العمل والاستدلال والنّظر ... فيدعوه لينظر ويستدلّ ويستنتج ...
وكيف لا ينقطع الإنسان إليه في حركات حياته كلّها، وهو الذي يَعُدّ عليه حركاتِه وسكناتِه، ويحيط بما لديه ويحصي كل شيء عددا ... وكالعادة تعود بنا آيات السورة إلى آيات السورة التي سبقتها : "
لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا" -الجنّ:28-
ونتأمّل كيف تسُوقُنا المعاني في الآية الواحدة إلى ما يتمّمها، في منهجيّة خطابيّة تحرّك العقلَ حركة الفِكر والنظر والاستنتاج ...
إنه الربّ الإله الواحد... فاتخذه وكيلا ... ومن يكون لك وكيلا ومعتمَدا وتُفوّض له كلّ أمرك غيرُه وهو الربّ والإله ؟!
إنه سبحانه يُعِدّ نبيَّه لحمل القول الثقيل والمسؤولية الجسيمة، فيأمره أن يقوم الليل بين يَديه، وأن ينقطع في سائر أوقات اليوم إليه، انقطاع مَن هو في حركة الدنيا ومع حركة الناس وقلبُه موصول بربّه ...فكما ألقى عليه سبحانه قولا ثقيلا، يوجّهه لأن يُلقي هو حِملَه على الله ! فلا يخاف ولا يجزع، وقد علّمتنا الجنّ أنّ من يؤمن بربّه فلا يخاف بخسا ولا رهقا !
وفي تدرّج وترابط نعرفه بين الآيات، وفي تخلّص حَسَن من شأن إلى شأن، يأخذنا هذا الأمر لنبيّه صلى الله عليه وسلم أن يفوّض أمرَه كلّه إليه وأن يُلقي بما يُثقِله من هموم الدعوة إلى ربّه، إلى بيان أصل هذه الهموم في قوله سبحانه :
"
وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)"
اصبِر على ما يقولونه فيك وفيما بُعِثتَ به...
وإننا في هذا الجزء المبارك العامِر الفيّاض، عرفنا توجيهَه له إلى الصبر في قوله سبحانه : "
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ" –القلم:48- وفي قوله بعدها: "
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا" -المعارج:05- وفي قوله ها هنا : "
وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا"
وقبل أن يأمرَه بالصبر، جهّزه بالعُدّة اللازمة، جهّزَه باليقين، وهو يوجهه للقيام ليلا ونهارا بين يَدَيه سبحانه لا يغفل عنه، ولا ينشغل عن أمرِه في كل حال يكون فيها، وعلّمه أنّ مَكْرَهُم وكلّ ما يُلقون به من أشواك على طريق دعوته إلى ربّه، ومآلَهم، وما ينتظرهم، له وحدَه، فهو الذي لا يغفل ولا تخفى عليه من شأنهم خافية ...وهو ناصرُه وكافيهم شرَّه ...
الصّبر قد سُبِق بالصلة التي لا تنقطع... بالصلاة ...هكذا على أنها الصلة الدائمة -كما عرفنا ظلالها في سورة المعارج- إذ هي المبتدأ وهي المنتهى في معراج الرقيّ الروحي، وهي الأساس وهي السقف الحافظ ...لا ركعات موقوتات بوقت ينتهي جوّها ما أن يُسلّم العبدُ يُمنة ويُسرة !
وقد كان الصبر الجميل مِرقاةً، رُقّي إليها صلى الله عليه وسلم من بعد أمره بالصبر المجرّد، ليُزاد إليه ها هنا الهجر الجميل : "
وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا"
اهجُرْهم هجرا لا يُتبَع منك بأذى، لا من قول ولا من فعل...
فتتمثّل لك بهذا الأمر صورة العبد المنيب المطيع، الربانيّ العامر قلبُه بربّه، المشحون يقينا، الواثق في علم الله وفي تدبيره، الثابت، الجَلْد الذي يقوده يقينُه بربّه إلى الصبر على أذى المُؤذين، المتجرّئين عليه بكل صنوف التدبير والكَيْد والمَكر، وهو يعلم غلبة تدبير الله وكيْده ومَكره سبحانه... !