والآن ... إننا نسمع صوت نوح عليه السلام يناجي ربّه ... يبثّه شكواه، وهَمَّه ... نوح الذي لبث في قومه داعيا تسعمئة وخمسين سنة... !
إنه الآن نوح العبد المطيع المنيب المُخبِت لربّه ... وفي كلٍّ هو كذلك ...
قبل قليل... على بعد آية، حينما سمعناه داعيا لهم، مستجيبا لأمر ربّه بإنذارهم، مُعذِرا ومذكّرا رحمةً بهم، يناديهم نداء القريب لقريبه، مشفقا عليهم إشفاق المحبّ على حبيبه : يا قومي ... يا قومي ... يا مَن أنا منكم وأنتم مني... !
والآن كذلك... وهو العبد المنطرح بباب ربّه، المنكبّ على عتباته ... المتذلّل له وحده، الخاشع المتضرّع، الذي يعلم أن ربّه أعلم بما يُكنّ وبما يعلن :
"
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا(6) "
وإنّ "
ربِّ" لو نتملّى... وحدها تُشعِرك بالملجأ والمَنجى والمَفرّ ... !
يا مُربِّيَّ ويا سيدي... وخالقي وآمري ...يا طبيبي... !
إنه يُمِدّ ربّه العليم بتقرير حول عمله الدؤوب وسعيه الحثيث لدعوة قومه، وهدايتهم: "إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا" ...
لم يألُ جهدا، لم يَدَعْ وقتا إلا واغتنمه لدعوتهم وهو من أولي العزم من الرُّسُل ...
أذكر وأنا على عتبات الله في أوائل شبابي، مقدار ما أثّرتْ بي قصّة نوح عليه السلام، وأنا أستحضر حالَه وهو يدعو لا يفتُر ولا يَني تسعمئة وخمسين سنة... !
لكم أكبرتُ عزمَه ! ولكم دُهِشْتُ من صبرِه إزاءَ ما لاقاه من صنوف الصدود وألوان السخريّة... ! ولو كان بمَلْكي لأسمعتُ سيّدي نوح، وأنا التي من بعد قرون متطاولة متطاولة، وددتُ لو أنني قمتُ في وسط قومِه البُغاة الكَفَرة أنصره، أن أجيبوا داعي الله.... ! أجيبوا مَن لا يريد منكم أجرا ولا جزاء ولا شكورا... أجيبوا مَن صبر على تكذيبكم قرونا وقرونا ... !
قرون تلتْها قُرون وهو مقيم على دعوته، ثابت صابر، لا ييأس، مستمسك بعُروة الله الوُثقى، لم يهتزّ ولم يتزعزع، وهو القائم على أمر ربّه ... !
حتى هي ذي شكواه التي بثّها ربَّه... شكوى مَن هو قائم داعٍ، ثابت صابر والقرون والأجيال قد أكل بعضُها بعضا، وتكاثر قومُه وتكاثروا، وهُم يتوارثون تكذيبه، فالسّلف منهم يوصي الخَلَف بالبقاء على تكذيبه والسخريّة من دعوته .... وهو هو، نوح الصابر الثابت لا يتراجع ... !
ها هو ذا في مناجاته ربّه، وشكوى همّه يصف حالَهم، وربّه أعلم بها، ولكنّه يُفرِغ كأسَ نصَبِه المُتْرَعة المُفعَمة بالآلام لمَن هو طبيبُه: "
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا"....... !
مِن فرط كُفْرِهم وعصيانهم وتعنّتهم هم الفُرّار من دعوة الخير ! وكأنّه الذي يدعوهم لشرّ...! كلما دعاهم زادوا فِرارا ... وأيّ دقة في وصف هؤلاء، وكأنّنا نُبَصَّرُهم وهم يفرّون منه فِرار الهَلِع الفَرِقِ من مجذوم ...!
ولنتأمّل حتى نرتّب هذه الدرجات المتواليات في هذه الآيات، ونوح وهو يُلقي بحِمْلِه على ربّه الوكيل، يتدرّج، ويضع منهجيّة، وليس ذلك ببِدع من حكمة الرُّسل وكمال بيانهم ... فلقد :
أولا : أجمَل في الآيتين السابقتين، وهو يخبر عن مسلك دعوته وكيفيّتها(آية05)، وفي كلمات معدودة عن حال قومه بالمقابل(آية06)
ثانيا : لننظر كيف سيفصّل تفصيلا أوليّا :
"
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)"
يزيد في بيان إصرارهم على كفرهم وإعراضهم، مقابل إصراره هو على دعوتهم ... يُعطينا صورة أكثر تفصيلا عن فِرارهم...
فهو كلما دعاهم مرغّبا إياهم في مغفرة الله لهم: " وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ..." وهي نوالٌ من نوال الآخرة ... مقدّما لها على نوال الدنيا، إقرارا لأفضليّتها ولكونِها الغاية الأسمى والعطاء الأدوم ...هم أولاء يفعلون فعل الأطفال إذ يسدّون آذانهم امتناعا عن سماعه، حتى أنهم من فرط فِرارهم، وكُرهِهم لدعوته، وكأنّهم قد أدخلوا أصابعهم كلّها في آذانهم :"جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ"... فهم يسدّون ويسدّون ويشدّدون ويصرّون... !!
ولا يكتفون بذلك، بل يستغشون ثيابهم، لئلا يبقى من منفذ لسماعه ... !
فرار... هلع... هروب ... ! وكأنهم يخشَون صوت الفِطرة في أعماقهم، فهم يُغَلّقون دونَها المنافذ قبل أن يُغلّقوا دون صوت نُوح ...! واستكبروا استكبارا، تأكيدا لفرط استكبارهم.... !
وهو رغم كل ما يرى منهم، يدعو ويدعو ...
فتارة يجهر بالدعوة على الملأ، وتارة هو المُزاوِج بين إعلان وإسرار ...
أساليب الدعوة يلقّنها نوح عليه السلام لكل داعية على دربه، وعلى درب رسول الله صلى الله عليه وسلم... إصرار الداعية يبثّه في أرواع الدّعاة... صبره العظيم الجميل حُلّة مُوشّاة، بديعة رفيعة، تسحر الألباب...!
ويا صاح ... ! ألم أشر عليكَ من بداية رحلتنا في رحاب سورتنا، أن تأخذ معك من زاد السابقات ؟ ! ألم أشِرْ عليك أن تذكر خطواتِك السالفة، وما أضاءت لك مِشكاةُ آياتها من معالم الدرب الذي أنت فيه ماضٍ ؟ !
هيّا...هلمَّ إلى قبس من مشكاة المعارج ... !
لنستصحب أمْرَ الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم فيها بالصبر الجميل : " فاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا" ... ثم انظر ... ألست تراه في سورة نوح، متمثّلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكلّ داعية تَمَثُّلَ الحقيقة المصوّرة؟ !
صبر على عتوّ واستكبار بالغٍ المنتهى... صبرُ من اشتكى إلى ربّه لا إلى أحد غيرِه بعد لأْيٍ ولأيٍ ...!! وأي صبر هو ؟ وعلى أيّ لَأْي ...؟ !
فماذا كان يقول لهم ليفِرّوا كل هذا الفِرار ؟! .... إنه :
ثالثا : مزيد بيان لما كان في دعوته ... بيان تفصيليّ تلا الأوليّ الذي سبق، إنها المرحلة الثالثة في منهجيّة بثّه :
"
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهارًا (12)"
من بعد ما رغّبهم في خَيْر الآخرة، المقدّم على كل خير فانٍ، هو ذا -وهو الذي نوّع وصرّف أساليب دعوته إياهم- يرغّبهم في خيرات الدنيا، يُمددهم بها الله تعالى إن هم أطاعوا واستغفَروا ...
ويالِذكر الاستغفار في هذه السورة... ! "
يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ... " "
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ..." وهذه : "
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ..."
فهي على الترتيب في هذه الثلاثة : جزاء أخرَويّ ، وغاية الدعوة، ومفتاح خيرات الدنيا ...
الاستغفار غاية المُراد من المدعوّين ... الاستغفار مفتاح خَيْرَيْ الدنيا والآخرة ...
إنه الغفّار سبحانه، الذي يقبل عباده، والذي يعفو ويُسامح.
فلننظر ولنتأمّل، مقدار ما يريد سبحانه بعباده ولعباده من خير... بابُه مفتوح مُشرَع لا يوصَد... يكفي أن يُطرَق، بل إنه يدعو من لا يطرقون له بابا ليُجزِل لهم من فضله فيغفرَ لهم ...! "
إنه كان غفّارا"... و"كان" هنا للاستمرار ولثبوت الحال.
فإذا استُغفِر غَفَر وأعطى في الدنيا قبل الآخرة ... هو الرزّاق سبحانه، وإن من شيء إلا يسبّح بحمده... هو الذي سخّر لعباده الكونَ وما فيه... هو سبحانه يأمر مخلوقاته كلّها فتطيع... فــــ :
"
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)"
تُدرّ خيرا على عباده المستغفرين... وكأنّ الكون والإنسان يتناغمان وهما يتناسمان التوحيد والعبودية لله الواحد الديّان... !
و"السَّمَاء" في اللغة تُطلق على المطر، فهي على المستغفرين مُرسَلة مِدرارا، خيرا وبركة ونماء وحياة... والأموال والبنون كلّها عطايا الرحمان سبحانه، كلّها بأمرِه ... والجنّات والأنهار من فيض عطائه ... !
ولقد تساءل أناس... منهم من سأل استفهاما، ومنهم من سأل إغراضا وتشكيكا، ومنهم من جعل ملاحظته قرارا مُنتَهًى منه ...
أنّ الكفار اليوم يُنَعَّمون بخيرات وعطاءات في الأموال والبنين والجنات والأنهار ...حتى أنّ أغلب شباب المسلمين غاية أمانيهم أن يهاجروا إلى بلادهم لأنها بلاد الرّفاه، والعيش الرغيد، بينما تشتكي ديار الإسلام الفقر والحاجة وضيق العيش، وكثير من أراضيها مصحّرة، وكثير منها مُجدبة ... فأيّ الفريقَين هو المستغفِر إن كان الاستغفار مجلبة للخيرات والعطاءات الربانية ؟!
استصحِب معي قبسا جديدا من مِشكاة "
المُلك" و"
المعارج" ... وتذكّر...
إنّ حقيقة ما هُم فيه ابتلاء...مما عرفنا من الابتلاء بالخير... هو إملاءٌ لمَن إلهُهُ في الأرض المادة والمال، لا اعتبار لعبوديةٍ بين يدي ربٍّ خالق عظيم جبّار، لا اعتبار لما وراء الدنيا، كلّ اعتبارهم للدنيا ولحدودها، وللجاه والسلطان والمادة إلها حاكما ... !
ولقد عرفنا الترقيّ لمجابهة الابتلاء -شرّا كان أو خيرا- حتى يُكبَح في النفس الهلعُ... أمّا هُم، فهلوعون لا يعترفون بمنهج المَكَابح... جَزِعون عند الشرّ كلّ الجزع، محبّون للخير كل الحبّ، لا يعرفون للترقي من درجات، وهم البعيدون عن الربّ الخالق المُرقّي، فهُم في شهواتهم ونزوات أنفسهم التائهة مُغرَقون، فإذا أصيبوا بسوء رأيتَهم كالدابة الهائجة لا يقرّ لها قرار ... !
منعَّمون ظاهرا وأنفسهم مريضة، وأرواحُهُم عطشى، وهم الذين باقون على ما خُلقوا عليه من هلع... يطاولون الحياة لا بحثا عن الحقّ وعن مصدر ارتواء أرواحهم، بل عمّا يحقّق لهم سعادة وهميّة ينخلعون بها عن الأخلاق انخلاعا، وهم يتنادون "حُريّة ...حُريّة"، كالأبلَه يجرِفُه السَّيل، وهو يتغزّل ببرودة الماء... !!
لا يعرفون اللُّجوء إلى الربّ الخالق الطبيب... منعَّمون بأموال ...نَعَمْ ...مُترَفون... نَعَمْ ... ولكنهم مرضى، عطشى، جَوعى، والروح فيهم لا تجد ما تقتاتُ... !
وإنّ المسلمين اليوم في قَصْوٍ عن دينهم، وعن ترياقِهِ، وعن تَرَقّياتِه التي عرفنا شيئا منها في سورة المعارج ... هم في انبهار بفُتاتِ الغرب، وبسعادتهم الظاهريّة ... ! هُم في مرحلة من الاتّباع الأعمى الذي أوقعهم فرائس تُعفَس وتُرفَس ! لذلك بعُد عنهم التّمكين، وابتعد عن الأمّة ما اختصّ به الله أمّة الإسلام من العطايا الدنيوية، جزاء وفاقاً لتأخّرهم عن سنا دينهم وعن غاياته السامقة، وعن معنى الاستخلاف في الأرض بإعلاء أمره وكلمته سبحانه... !...
ورغم كل ذلك، فإننا لا نملك أن نُنكِر اختصاص المؤمن بعطايا ربانية دنيوية، يُنكِرها مَن ينكرها في غمرة عقلنة الأمور التي تبلغ حَدَّ استبعاد خصوصية في عَيْش المؤمن، مستدِلا على السَويّة بينه وبين غيره بأنه الذي يُصاب، ويفتقر، ويجوع ويعرى، ويألَم، ويحزن... !
إنّ ذلك عندنا ليس أبدا مَحَجّة، بل هو طبيعة الحياة، وما عليه خُلِقت الدنيا من تقلّب بين حال وحال، هو الابتلاء الذي هو غاية الوجود أصلا ... ولكن، رغم كل ما يلحَق بالمؤمن من مصائب وبلايا، إلا أنه المختصّ دون غيره بعطايا دنيوية ...
لنتأمّل مثلا آية أخرى مشابهة لآية عطايا الاستغفار الدنيوية في سورتنا. قوله سبحانه: "
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ "- هود:3-
نعَمْ... الكافر أيضا له من هذا العطاء، له من المتاع، ولكنّ متاع المؤمن حسن : "
مَّتَاعًا حَسَنًا " ...حُسْنٌ مقرون بالإيمان... هو العطاء المبارَك فيه من ربّ العزة للمؤمنين، متاع ليس فيه ما يغضب الله، فهو إن كان مالا لا تَهُمّ كثرته، بل تهمّ نوعيته... لن يكون رِباً، ولا مردود بيع خمر، لن يكون من مقامرة، ولا مِن بيع هوى...
نعم... للكافر أموال، بل وأموال طائلة، ولكنّ ميزة مال المؤمن المستغفر الذي وعده به ربُّه، مال طيب، يقبله الله... تُرضيه طريقة اكتسابه وأوجُهُ صَرْفِه... له في اكتسابه وفي صرفِه منهاجٌ بأحكام يتّبعُه، لا يحيد عنه ...
ولننظر ...
عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
من سَرَّهُ أن يُبسطَ له في رزقِه ، أو يُنسأَ له في أَثَرِهِ ، فليَصِلْ رحِمَه" –صحيح البخاري-
وهذا من عطاء الدنيا للمؤمن.
نعم... هناك بسطٌ للرزق للكافر، لكنّ هذه خصوصية المؤمن، إذ أن الله تعالى وقد بسط الرزق لواصل الرّحم هذا، إنما بسطه طيّبا حسنا لا يأتي إلا من طيب... لا من خبيث كما قد يكون عند كافر ..
هذا شيء مما يُختصّ به المؤمن، فضلا عن مصائب مكفّرات وأمراض طهور، وهذه لا تُعطى لكافر ... هي عطاءات دنيوية خُصَّ بها المؤمن... بل إنّ مما خُصّ به من عطايا ما هو في شكل مصائب ... ثوابها في الآخرة جزيل، ولكن هي ذاتها عطاءات دنيوية، فالمؤمن وهو يتعرض لها، ويعلم ما تُدِرّ عليه من الله، يحدث في نفسه رضى وصبر وتسليم ...صبر هو غير صبر الكافر، لأنه تفاعل دنيوي من أجل غاية أخرويّة، وعلى هذا فهو العطيّة الدنيويّة ... قال صلى الله عليه وسلم : "
عجبًا لأمرِ المؤمنِ إنَّ أمرَه كلَّه خيرٌ إنْ أصابَتْه سرَّاءُ شكَر وإنْ أصابَتْه ضرَّاءُ صبَر وكان خيرًا له وليس ذلك لأحدٍ إلَّا للمؤمنِ" -صحيح ابن حبان-
شاء من شاء وأبى من أبى ... يُختَصّ المؤمن بالعطايا الدنيوية، ذلك أنّه وهو يحيا مؤمنا، قد أوثق رباط تلك العُقدة ما بينه وبين خالقِه، عُقدة هي بمثابة الحبل السُريّ الذي يزوّد الجنين بحاجته من غذائه لتستمرّ حياتُه، ولينمو...
كيف لا يكون "للمؤمن" الذي عرف الابتلاء بخيره وبشرّه، فصبر عند الشر، وشكر عند الخير، حياة ليست كحياة غيره ؟!
كيف لا يكون عنده فهمٌ للحياة على حقيقتها، وهو يُحسن قراءة الرسائل فيها...؟ ! كيف لا يكون هناك تأثير من هذا الفهم وهذا التصوّر في نفسه وفي حياته ؟!
كيف لا يكون للإيمان من أثر على الحياة، يجعلها عند صاحبها من جنس ما وعد به الله عباده المؤمنين : "
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" -النحل:97-
هكذا... "
طيّبة" وهي ابتلاء بالخير وبالشر... بكليهما... لِما ينغرس في نفس المؤمن من فهم لمعنى الابتلاء ومآل وقوعه فيه خيرا كان أو شرا ...
و"الطيّبة" لغويا هي الحسنة ....فكل شيء حسن، ملائم، مريح مُرضٍ، يدخل في معنى الحياة الطيّبة . -وكما أسلفنا- لا ينفي أن تتخلّلها الابتلاءات، ولكنّها بصبر عند الشرّ، وبعطاء وشكر عند الخير، وفي التفاعل الإيماني مع الابتلاء حياة طيّبة تلقي بظلالها الوارفة على المؤمن ...
نعَمْ ...يضيق المؤمن... يتعب، ينسى، يخطئ، يزلّ، يصيبه همّ... يصيبه غمّ... يحلّ به كرب... نعم كل هذا يلحَق بنفسيّته، يتعبها... لن يكون مبرّءا من التعب النفسي لكونه مؤمنا، بل لأنه مُبتلى وهو البشر الضعيف، سيكون في نفسه كل هذا، ستتقلب نفسه ... ولكن في أعماقه سرٌّ ليس لغيره... في أعماقه يستقرّ الرضى والفهم... في قلبه الطمأنينة بالإيمان... باليقين ...وفي دينه الدّعم والذكرى وفُسحة العودة، فسحة الاستغفار، استزادة من الإيمان، استزادة من الهدى والتّقى... وهذا ما يجعل حياته طيّبة رغم كل ما فيها: "الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ"...
وبهذا نستضيئ لفهم الفرق بين خيرات يعيش بها الكافر على الأرض، وخيرات يعيش بها المؤمن على الأرض جزاء استغفاره وإنابتِه ...
فالأولى رزقٌ من الرزق لا يضِنّ به الله على من يكفر به لعطاء ربوبيّته، ولجلال سلطانه وعظمته، وهوان الدنيا عليه، وابتلاءً له بالخير، استدراجا وإملاء وإغراقا، فيما يصرّ الكافر على أنه غاية أمانيه، وعلى أنه سعادتُه المنشودة... مُنكِرا لحياة دائمة باقية بعد الحياة الفانية...
والثانية عطاءٌ مبارَكٌ، هو سرٌّ من أسرار العهد الموثّق بين عبد مؤمن وبين ربّه، فهو نِعمةٌ وطمأنينة ورضى وسَكَنٌ في الدنيا لا ضرر منه ولا ضِرار، خيرٌ يُعطاه فيشكر ولا يمنع، لأنه المترقّي بالحبل الإيمانيّ الموصول بين السماء والأرض ...!