المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (سورة المـــــعارج)  (زيارة 1273 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وسورة جديدة، وجنّة جديدة... وتَسَوُّرٌ منّا لسُورِها نريد أن نتملّى بأزهارها، وأن نشتمّ رياحينها، وأن نجلس عند غُدرانِها نشرب ونسقي، وأن نقطف من ثمارها وأن نذوق ونُذيق ... !

لا أن نكتفي بالمرور حَذْو السُّور... لا  أن نكتفي بالعُبور ونحن نُمنّي النفس بالحروف حسناتٍ كافيات، ونحن غاية مُرادِنا الحروف ! فإذا الجنّة على قربها ظلّت تلك البعيدة... ! البعيدة التي لا تُمسّ ولا تُدخَل، ليس لأنها الممنوعة من اللّمس أو التي كُتِب عليها ألا تدخلوها... بل لأننا لا نفعل ... !

فلنتسوّر ....
وكما تعوّدنا استصحاب السُّور السابقة لسورتنا، ليس عن تكلّف منا، بل إنها هي التي تدعونا بصوتها، تصدع بالتّرابط والتسلسل، وبأنها الخَرَزَة التي لا تُفكّ عن الخَرَزة في سلسلة منتظمة انتظاما ... !

فسورة "الملك" انتهت بقول الملِك سبحانه : "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ"...  ليس ماء حياة الجسم وحده، بل ماء حياة الروح، الذي لا تقوم للإنسان قائمة من دونه... القرآن ... !
لنجِدَنا مع أوّل "القلم" حيث القَسَم به وبما يسطرون على أنّ المُؤْتَى ذلك الماء المعين على خُلُقٍ عظيم، ولنُدرك أنّ الإنسان قِيَمٌ وأخلاق، وأنّ الكتاب الذي يُدرَس والذي يُعاش والذي يكون في الأرض حُكْمُه هو كتاب الربّ الخالق الملِك سبحانه لا غيره... كتاب فيه العدل والحقّ وألّا سَوِيّة بين مجرم ومسلم ... !

ولتنتهي بالإشارة إلى المكذّبين بيومٍ يُكشف فيه عن ساق، وأنّما هو الإمهال من الله والاستدراج والإملاء يحسبه الظالمون نعيما مقيما لا يزول، لنُساق سَوْقا إلى "الحـــاقة" التي بها يكذّب المكذّبون... فعرفنا أهوالها مصوّرةً تصويرا يهزّ النفوس هزّا، ويزلزل المشاعر، ويوقظ الإنسان من نومة الدنيا ليعي المُنْتَهَى، وليعمل قبل فوات الأوان ... !
ومع نهاياتها، هو القسم على أنّ القرآن وما جاء فيه حسرةٌ على الكافرين، وأنه حقّ اليقين ...   وأنّ غاية العقل والبصيرة مع تمام بيانه أن نسبّح باسم ربنا العظيم:   "فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ"...

وها نحن تَوَّنَا مع سورتنا الجديدة ...سورة "المعارج"...

هي سورة مكيّة، يُرجّح أنها رديفة "الحاقة" نزولا، كما هي رديفتها ترتيبا في المصحف ...
من : " فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ " ...إليها ...
"سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)"

عرفنا العذاب في سورة "الحاقة"، وما أنزل الله بأقوام في الدنيا، وعرفنا أنّ عذاب الآخرة أكبر ... وهذا الآن سائل... سائل يسأل ... لا على التخصيص ولا على التعيين، هو سائل وانتهى، حتى مع ما يُروى من أنها  التي نزلت في النضر بن الحارث أحد عُتاة قريش، إلا أنه في القرآن لم يُعيّن، سائل بالتنكير لا بالتعريف ... وهذا يكفينا لنعيش السّياق ونتفهمه ... فأمثاله على مدى الأزمنة والعصور بمثل سؤاله يسألون ....
من "الحاقة"  وما كان فيها من تفصيل عن العذاب، إلى هذا السؤال الذي هو سؤال على الأرض لا ينقطع، سؤال المكذّبين بالحاقّة ... فدعونا نستكشف معالجة القرآن لهذا السؤال الوجوديّ الذي يطرق النفوس التي لم ترتوِ حقّ الارتواء من ماء القرآن الزُّلال ...
ولذلك رأيت من الضرورة أن أضع بين أيدي القراء -المؤمنين قبل غيرِهم- منهجا لمعايشة روح القرآن، ولقراءته قراءة معايشة وملامسة وحياة ... معايشة لحركة كلماته، ولروحها التي تُدِبّ فيه الحياة، وتجعله روحا تُحيي، وبلسما يشفي ... يشفي ما يحيك في الصدور من تردّدات وتساؤلات، قد يستحيي من يستحيي حتى من التصريح بها، لتبقى لزيمة نفسه، يتفحّل بها الداء فينقلب شكّا مُمرِضا، قد ينقلب ذهابا لنور الإيمان من قلبه ... !

القراءة السطحيّة ليست كفيلة بالجواب، ولا كفيلة بالزاد الذي يأتي بالجواب ...
لم يكن الأوّلون ممن كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقّون القرآن بقراءة حرفيّة، بل كانوا يتلقّونه  دستورا للحياة ...  وكانوا يسألون، ويسألون ليستزيدوا، وقد تلبّسهم اليقين من أنّ هذا الذي ينزل هو الدستور الذي وجب أن يجعلوا حياتَهم على نبضه ... فلكأنّ أسئلتهم كانت استسقاء لماء القرآن ليُغيثهم، وليحوّل جَدب أنفسهم خضارا، وقَحْل أرواحهم نماء ...فكان القرآن يذكر أسئلتَهم، "يَسْأَلُونَك" يُعقِبها بالجواب تصويبا أو هداية أو تشريعا ... !

عِلّتُنا أننا استمسكنا بالأجر على القراءة الحرفيّة، فاستسهلنا الحياة على نبض الأهواء لا على نبض روح الوَحي، ودلالات الوَحي، وهدايات الوَحي، وأدويته لعلل الصّدور  ... !
علّتُنا أننا استمسكنا بالقراءة السطحية حَدَّ اتخاذ القرآن دواء ماديّا يشفي أسقام الأبدان، ولم نفهم أنه شفاء لأسقام أكثر استعصاء، هي أسقام الصّدور التي تتردّد فيها الأسئلة دونما جواب يجعلها التي تزور وتمرّ ولا تقيم ... ! بل تكون عاملا من عوامل زيادة إيمان المؤمن، وبابا له لمعرفة أعمق، ولفهم أشمل ...
فبعد أن عرفنا في "الحاقة" معالم قاعدة تصوّرية أساسية من قواعد الإيمان، هي الإيمان بالبعث، والجزاء، هذه الآن معالجة لحالة من حالاتٍ وحالات متكرّرة ... حالات السؤال، سواء كان سؤالا للفهم وللاهتداء، أو سؤال استكبار واستهزاء ... !
فلننــــــــــــــــــــــظر ...

"سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ "

إنه واقع لا محالة، لا ريب... آتٍ آت.... !
إنه الحق الذي عرفنا في الحاقة ... وقد كان الكفار حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن هذا العذاب الذي بلغَهُم عبر القرآن نبؤُه. كانوا يكذّبون ويتجرّؤون على الاستهزاء بالنبأ العظيم، كما عرفنا عن تكذيب ثمود وعاد قبلهم، إذ كذبوا بالقارعة وعصوا رُسُل ربّهم، وعلى سُنّتهم مضت قريش، ففعلت برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوا  هم برُسُلهم...

وإذا تأملنا تركيب الخبر عن سؤالهم : " بِعَذَابٍ وَاقِعٍ " وجدنا حرف الباء مكان "عن"، وعادةً يكون السؤال عن الشيء لا به  ... وقد جيئ بهذا التركيب لأنّ فعل "سأل" بالباء يصلح لمعنى الاستفهام والدّعاء والاستعجال. بمعنى أنهم استِهْزاءً وتَجَرُّؤاً على الله وإغراقا في تكذيب رسوله يدعون بهذا العذاب الواقع العظيم، وقد أخبر الله تعالى عنهم في قوله:  "وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيم"-الأنفال: 32-

إنه العذاب المتحقّق المؤكّد وقوعُه وإن استهزأ المستهزؤون، وإن سخِرَ مَن سخِر مِن نبئه ومن المبلِّغ لنبئه :
" لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ" ...
وهنا أيضا مَلحَظٌ دقيق في مجيئ الباء ملابِسة للكافرين بدل : "على"، ففي عادة وقوع الشيء السيّئ وحصوله وتحقّقه، أن يقع عليهم، بينما جاءت اللام في : "للْكَافِرِينَ" تُشعِرك بشدّة ملابسة هذا العذاب لهؤلاء...بلصوقه بهم، واختصاصهم به حتى صار لهم، وأصبح لهم خاصّا ليس لغيرهم، لهم قد جُعِل  ...  وما مِن دافع يدفعه عنهم، زيادةً في التأكيد مقابل إصرارهم على التكذيب ...
نعم إنه العذاب الواقع، وإنه لكم، وإنه مع زيادة لِجاجكم وتجرُّئِكم أضيفوا إلى علمكم أنّه الذي لن يُدفَع عنكم بدافع، ولن يدفعه عنكم دافع ... !

فممّن هو واقع ؟ ممّن هو مرسَل عليكم ومجعول لكم ؟

إنه : "مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ"
فمِن إسهاب في "الحاقة" عن أمر القيامة بما فيها من جزاء بعذاب وهوان، و بنعيم وإحسان، إلى حديث عن عذاب واقع يسأل به المكذّبون استهزاء...

مِن قوله تعالى في نهايات الحاقّة : " وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ " إلى مزيد كشف لأمرهم ...وهم يسألون استهزاء ...
من آخر كلمات في الحاقة: "  فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ "  إلى : "مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ" ...

هو ربنا العظيم الذي نسبّحه تنزيها له عن كل عيب وعن كل نقص، وإقرارا له بالكمال والجلال، هو سبحانه العظيم ذو المعارج ...
والمِعراج لغةً هو ما يُصعَد به ... وهي هنا معارج لا معراج واحد، فهي الدّرجات والرُّتَب العاليات التي بها يُرتقى إلى الله تعالى ...  سبحانه العليّ صاحب المكان العليّ الأعلى، العظيم ... الذي يُرتَقى إليه وكلّ ما سواه دنيّ أدنى  ... !  وفي هذا تمام الاتّساق بين السّورة والسورة ...

أنت أيها المستهزئ بعذاب واقع عظيم... أنت الصغير الحقير المخلوق من تراب بِيَد ربّك العظيم ، المفتقر إليه مُذْ لم تكن شيئا مذكورا إلى أن تُوارَى التّراب...تستهزئ بأمره، وبعذابه ... !!
سورة الحاقة وقد جاءت تصدع بالحقّ الذي في يوم القيامة، تُتبَع بسورة المعارج التي تُستهلّ بسؤال السائل المستهزئ به ...
فلنَرْقُب، ولنتتبّع ...لعلها جاءت تعالج أمر هذا السائل ... لعلها جاءت تُسهِب في شأن نفسه المستهزئة ...!  وفي دوافع حالِه...

"تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ "

إنه الله ذو المعارج سبحانه ...  و"الرُّوحُ" كلمة تحتمل أكثر من معنى، فقد يكون المعنيّ بها جبريل عليه السلام، وقد جاء ذكرُه بعد ذكر الملائكة عطفا للخاص على العام تشريفا للمقام، وقد تحمل معنى الروح التي هي من أمر الله، الروح المنفوخة في الإنسان من ربّه ... وجمع المعنيَيْن عندي أشمل وأنفع ...

تعرج الملائكة والرّوح إلى الله ذي المعارج سبحانه، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، هذا هو اليوم المحدّد في هذه الآية والذي يستبين به أمر الزمن المعنيّ ... إنه يوم القيامة ...

وقد جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدريّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قرأ : ("في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ" -المعارج: 4- فقيل : ما أطوَلَ هذا اليومَ ؟ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : والَّذي نفسي بيدِه إنَّه لَيُخفَّفُ على المُؤمِنِ حتَّى يكونَ أخَفَّ عليه مِن صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلِّيها في الدُّنيا ) –صحيح ابن حبّان -

ذلك هو اليوم الحقّ، يوم الحاقة... اليوم الذي يكذّب بالعذاب فيه ذلك السائل المستهزئ ...
فهو عروج الملائكة وجبريل إليه سبحانه في ذلك اليوم العظيم، ذلك اليوم الطويل الطويل... الذي يساوي خمسين ألف سنة مما يعدّ البشر ... أو هو عروج الملائكة وأرواح السّعداء الأتقياء من العباد إلى ربّها، ونعرف عُروج الأرواح بعد قبضها، وأراها تحتمل أيضا العُروج المعنويّ للأرواح -التي هي من ربّها- إلى ربّها ... عُروجا يليق بالرّوح التي تستقي من مصدرها العلويّ وهي في الأرض لترتقي حتى تبلغ منتهاها وهي الراقية الحقيقة بالعُروج إلى ذي المعارج سبحانه ... !وإنّ المؤكّد في شأن زمن ذلك اليوم من الحديث الصحيح، ومن لاحِق السّياق أنه يوم القيامة  ...
لنتتبّع المعارج ... لننظر إليها وهي تلك المصاعد التي بها يُرتقى إلى العليّ الكبير العظيم سُبحانه ... فإنّ لها فيما هو آتٍ لوَقع ... وأيّ وَقع... !!

هذه هي حقيقة هذا اليوم العظيم، الذي درَجْنا على تسميته "يوم"....
يوم اللقاء، يوم الحساب، يوم الحشر، يوم الجزاء، يوم القيامة .... على هذا درجنا ... ولكنّ حقيقةَ مقداره خمسون ألف سنة ... هذا هو طول هذا اليوم، هذا دوامُه، من ساعة بَعْث البشر إلى ساعة القضاء في الناس، فدخول أهل الجنة الجنة، ودخول أهل النار النار...خمسون ألف سنة هي مدّة هذا اليوم العظيم... !!

وإنه من هوانِه على الله تعالى سمّاه يوما... !
إنه في ميزان الله العظيم يوم، ولكنّه في ميزاننا عدّا وطولا وثقلا آلافُ السنوات، وأهوال وأهوال لا يصفها لسان ... ولكنّه سبحانه يرحم عباده المؤمنين، فيجعله أخفَّ عليهم من صلاة مكتوبة يُصَلُّونها في الدنيا ... !
أما الكافرون فهو عليهم طويل بقدر مدّته، بحجم سنيه : " فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)"-المدثّر-

وكذلك ... كما أنه عند الله يوم، فإنه عنده قريب... هكذا هو ميزان الله تعالى،  كلّ شيء عليه هيّن، كلّ أمر عنده يسير، كل بعيد عنده قريب :
"فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)"
إنه القريب عند الله زمانا ووقوعا، وإنه البعيد عند الكافرين، البعيد بُعد الوقوع أصلا، لا بعد الزمان  ...
ولقد أمر سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وسلم في سورة القلم بالصبر: "فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ... ". ولكنّه هذه المرة يأمره بالصبر الجميل... !

فمن الصبر إلى الصبر الجميل...
الأول صبرٌ أمَرَهُ أن يكون منه لحُكْمِه سبحانه الذي لا يمضي في الأرض حكمٌ غيرُه، وإن كان المظهر صَوْل الإنسان وجَوْلُه بباطله...والثاني صبر جميل ... إنه الارتقاء في الصبر، إنها الدرجة الأعلى ... ! إنه عُروج في مرتقى الصبر ... !  وإنها سورة المعارج .... فلنتأمّل ... !!

إنه من تمام عظمة الله تعالى ذي المعارج، العليّ المتعالي، عَدَّهُ خمسين ألف سنة يوما، ورؤيته لموعد ذلك اليوم قريبا وهو الذي يراه الإنسان بعيدا بعيدا ...
وعلى هذا الوجه من عظمة الله وهوان كُلّ أمرٍ عليه، هو ذا سبحانه يأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يصبر الصبر الجميل الذي ليس معه سخط ولا تذمّر ولا تأوّه...
صبرُ مَن يوقن أن العظيم سبحانه ذو المعارج كائنٌ أمرُه، وقريب أمرُه...
الدنيا بطولها وعرضها عليه هيّنة، والزمان منذ أن خُلق الكون إلى يوم ذهابه وزوالِه قصير عنده... فمهما امتدّ بالإنسان عمرٌ فهو إلى انقضاء، وهو إلى ربّه صائر، وبين يدَيه سيُقضى بالقضاء الحق .... قريبا غير بعيد:    " وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ  إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"-النحل:77-
وقد وصف سبحانه هَوانَ الدنيا على الإنسان بعد انقضائها وحلول الساعة: "كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا" –النازعات:46-

فاصبر صبرا   ......"""جميلا """ ....   
إنه العروج .... ! إنه الارتقاء ... !
فلنرقُبْ، ولنتتبّع الآيات خطوة بخطوة ... لعلّ ظلال الارتقاء والعُروج ستلوح لنا من قريب غير بعيد في حنايا سورتنا ... فلنرقُب... !
« آخر تحرير: 2020-11-28, 15:14:41 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

لقد لمحنا عُروجا وارتقاء مع قضية الصبر والصبر الجميل ... ولقد نوينا التشوّف لعلّ العُروج والارتقاء يلوح لنا من جديد بين حنايا سورتنا ...

"يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) "
شيء من أهوال ذلك اليوم وأحواله، وهو السياق اللاحق الذي يؤكّد أنّ اليوم المساوي للخمسين ألف سنة إنما هو يوم القيامة   لا غيرُه...
إنها السماء التي لا نرى لها من فطور، التي بغير عمَد هي قائمة... ذلك السقف المتين المتين... إنها في هذا اليوم ذَوْبٌ كذَوْبِ المعادن المنصهرة !! وإن الجبال كالصوف المتطاير ألوانا... !

فأيّ حال هي ؟! وأيّ خيال يستطيع استيعاب هذه الصُّور المَهُولة ؟!  فسماؤنا التي تظلّنا ذاهبة ذائبة وجبالنا الرواسي صوف متطايرة ... !
كيف هي حال الناس ؟! أمُنساحٌ هو ذَوْب السماء على رؤوسهم فمُهلكهم؟!
لا ... لا ...ما عاد من موت، سبحانه الذي رفعها في الدنيا بغير عمد نراها، هو الذي يمنع صهيرَها من أن ينساح على رؤوس الناس فيُذيبهم... !
إنّهم في قلب هذه الأهوال قيامٌ يُعرَضون على الديّان ...! يتقلّبون في الأهوال:
" وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا"
كلّ منهما للآخر حميم، قريب، محبّ حبيب، ولكن.... ما من سؤال !
أين فلان ؟ ما أخباره ؟ كيف هي حاله في هذا الكرب الشديد الأشدّ ؟؟
لا ... لا... !! فالأهوال أكبر، والخطب عظيم جَلَل، والطامّة أشدّ وأعمّ ... تُذهِل العقول، تذهب بالطمأنينة بِدَداً، تجمع كُلّ ذرّات الفِكر في الدهشة والروعة والفزع ... !
سماءٌ ذائبة، وجبالٌ متطايرة ...  وما من حميم يسأل حميما... !

رغم أنهم  : "يُبَصَّرُونَهُمْ"...  يَرونهم، يعرفونهم، يَدْرُون بحالهم وبتقلّبهم ... ولكنّه الهول في نفس الحميم يُلجمه عن السؤال عن حميمه، لا يملك من نفسه الذاهلة أن يسأل عنه، أو أن يسأله، لم يعد يستطيع نفعَه... !
ذهبت راحة الدنيا، ذهبت كل قرابة فيها وكلّ صداقة ...! ذهب حلفاء القوة والمال، أرباب السلاح والعسكر والجيوش الجرارة، والبوارج الحربية والطائرات بغير طيار، والكيماوي، والذرّي والنووي... !!  ذهبت كل قوة، وكلّ تحالف كان في الدنيا حقّا باسم القوة والمال ... !

ذهبت مؤتمرات التحرّر من الفضيلة، ومهرجانات السينما الهوليودية والبوليودية، والتفاخر بجوائز التمثيل وإشاعة الفُحش والعُري والرذيلة ... !  ذهبت مسابقات ملكات الجمال، وتهافُت رجال المال والأعمال عليها، إعلاء لراية التفسّخ الأخلاقيّ والتحرّر من الإنسانية، والتلبّس بالبهيمية الغريزية ... !
ذهب المتحابّون في جلال الفساد والإفســــــــاد... !

ها هو الإنسان وحده... ! فردا وحده ليُلاقي ربّه، يسوقه عَمَلُه ... فإما صلاح فإلى بِشر وأنوار وفوز واطمئنان، وإمّا طلاح فإلى ظلمات وخسار وخوف وهوان... !
إلا أنه حال غير المتّقين... فالله سبحانه القائل:  "الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ"-الزخرف:67-
ونُقابَل بالتأكيد على أنه حال غير المتقين :
" يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14)"

ما من حميم منقذ نافع ... بل إنّ المجرم لَيَودّ لو يفتدي نفسَه من العذاب الواقع الذي ليس له عنه من دافع ببنيه... !!بأحبّ الناس إلى قلبه... وإننا لنعرفهم بيننا بني الإسلام، مَن خاض لأجل بنيه المخاضات مساويا بين حلال وحرام، باحثا عن تَرَفِهِم وانتشائهم وفرحهم، لا يهمّ من أين يأتيهم بما يُقيمهم، الأهمّ أن يرضوا، وأن يعيشوا كأحسن ما يعيش لاعبٌ لاهٍ تائهٌ عن ربه ...وذلك حبّه لبنيه ... !

أما اليوم ففيمَ نفعُ مخاضات الدنيا لأجلهم ؟؟  إنّه يودّ لو يجعلهم فِداءَه من عذاب به واقع !! أي حبّ هو حبّ لَهْوِ الدنيا، وعبادة الدنيا ونسيان الآخرة !! أي حبّ ؟!

وصاحبته ... صاحبته، ذلك المُجرم...
ولا تذهبنّ بعيدا، لا تقولنّ كافر فهي ذي حاله ...!!
بل لنبحث فينا، في تلاطمنا، وترامينا، في اتّباعنا سُنَن الغرب شبرا بشبر، وذراعا بذراع، في دخولنا جُحور الضّباب ... ! إن يَكُنْ ضبّا أو أسدا جَسورا أو غولا أكولا ... إنّ دربَه هو دربي وفعله هو فعلي ... ! فلستُ بالذي يدري خيرا مما هو يدري... !!
صاحبتُه ...زوجُه، ألصقُ الناس به، وأعلمهم بأخفى شؤونه ... يودّ الوُدّ لو أنها له الفِداء من العذاب ... لو تُعذَّب مكانه !!
وبأخيه .... "وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ"... فصيلته التي تحميه، فهو منها ومن أصلها وجذورها، هي حاميَتُه وهي آويتُه ... يا ليتها تكون الفِداء... !!
"وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ "... !
 لو أنّ كل هؤلاء يكونون له الفِداء، كلّ البشر لا يبقى واحد منهم ... !! المهم أن ينجو... !  لا أخُوّة لا خِلّة، لا بُنوّة، لا أبوة... كلها فِداء .... آه لو تكون له الفِداء !!

أيّ حبّ، وأي مودة، وأيّ تضحية كانت في الدنيا كلها كاذبة وهي اليوم تضع الجميع كبش فِداء لو أنه فقط يُقبَل... !!
وهيهات هيهات أيها المجرم... لم يعد لك من تدبير ولا مكر ولا دهاء ...!!!  لقد سألتَ مستهزئا عن عذاب، ها هو اليوم قُبالتك... وها أنت اليوم بلا سلاح ولا مَضاء تمضي إلى حتفك... !

لقد كذّبتَ وقلتَ لا حياة بعد الموت وإنها النهاية ... !
لقد حثثتَ العقول العاقلة على أن تتحرّر من الإيمان بالغيب، وألا تؤمن إلا بما تحسّ وتلمس وترى ... هكذا جعلتَ للنفس حدود الدنيا فما نفعتْك تلك الحدود وقد خرجتَ منها تقول ألا حياة بعدها، فإذا أنت الآن حيٌّ، تتمنّى لو أنها كانت القاضية !! وهيهات هيهات ...! ما لوُدّك اليوم من حُسبان ولا حقيقة ولا بيان... !

ها هي ذي الحقيقة ... وها هو ذا البيان :
"كَلَّا  إِنَّهَا لَظَىٰ (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ(18)"

كلا ... ! إن هذه هي الحقيقة ... إنها لظى، لهيب حارق، لهيب وأيّ لهيب !
تنزع الشَّوى نزعا، والشّوى جمع "شَواة" وهي كل جارحة في الإنسان، كاليد والرِّجْل، وهي أيضا فَرْوة جلد الرأس، إنها تنزع كل هذا فلا تبقيه ...!! عياذا بالله منها .  وإنها لتدعو ... وكأنها الكائن الذي به روح وحركة ووعي وإدراك ... !

إنها التي تأتمر بما به أُمِرتْ ... فهي ذي تدعو ... تدعو من أدبر وتولّى ...أدبر في الدنيا عن دعوة الحقّ، ولاّها دُبُرَه ...أعرض عنها،  وتولّى عنها إلى غيرها، إلى صنم، إلى دينار... إلى قطيفة... إلى دنيا يعبدها، إلى مادة لم ينفكّ عن إِسارها حتى هو ذا اليوم ذو شَوَى فيُشوى... !

وإنه الذي أدبر وتولّى، وجمع فأوعى ...جمع المال إلى المال،  دَيْدَنُه حِسابه، وزيادته، وجمعُه، بخِل ومنع ... وأوعاه... فأين مالُك اليوم يا عبده...ليخلّصك وهو ربّك ... !!

أيّ فزع ... وأيّ هلع ... !!  ما بالُه …  ؟ لمَ هي ذي اليوم حالُه ؟!

إنها سورة المعارج، وإنّ هذا ما ستُعالِج ... ستعطينا الجواب ...
"الحاقة" كانت عن اليوم الحق، كانت عن يوم القيامة وأهواله، فجعلت تصف شيئا من أحوال الكون فيها، ثم أسهبت في حال الناجي، وحال الهالك... وكذلك المعارج نجدُنا معها في قلب ذلك اليوم ... ولكنّ فرقا أصيلا بين كلَيْهما -وإن كان الظاهر أنّ كلتيهما تُعنيان بيوم القيامة-  يكمن في هذه المعالجة، يكمن في التعرّف إلى أسباب هلاك مَن هلك، وأسباب نجاة من نَجا ...  إنها تُصوّر نفس الهالك ونفس الناجي، وكيف يصير كلٌّ منهما إلى ما صار إليه ...
كيف يكون إنسان وإنسان، ولكنّ واحدا يحقق الإنسانية على الأرض، وآخر يحقّق البهيمية عليها ... إنها تفاعلات النّفس مُذ خلقها ربّها، وما تحتاجه حتى ترتقي...
 
ما الذي يجعل من الإنسان إنسانا يَليق بأنوار يوم القيامة، ويليق بمعارج ذي المعارج سبحانه ...؟! ما سرّ المعارج ؟؟ ما خصيصتها المميّزة ؟؟ ...
ذلك ما ستجيبنا عليه الآيات القادمات  ...
« آخر تحرير: 2020-11-28, 15:16:46 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

فلنرَ ... فلنمدَّ البصر عاليا، لعلّها وهي المعارج تحتاج منا أن نستشرف العُلو... !

تُرى لو سُئِلنا أيّ الأوصاف أنسب بذاك المجرم، وبحاله الرُّزء... بنفسه المتطايرة التائهة اللاهثة خلف الأماني السرابيّة الهوائيّة ؟
ربّما ...ربما قد تجيب بـ : "الهلع" .. كما قد تجيب بغيرها ...
الآية التالية ستمدّنا بالوصف الدقيق :"إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)"
نعم، إنها تحمل وصف الهلع، ولكنك ستقول أن الله  سبحانه هنا يصف خِلقة في الإنسان وطبعا جُبِل عليه، ولا يُحدّث عن حال المجرم الآيل إلى ربه ... !

هو ذاك...أدْري...!
ولكنني ها هنا أراه مَربطا للفرس، أراه مستقرّا بالغ الأهمية في خصوصية هذه السورة، لن يُسفِر الآن ... ! سنمضي الهُوينى لنجده بيّنا مُستبينا ... بل وسيُسفر معه الترابط الذي لا يغيب، فيما قد تحدّث نفسك بأنه الانقطاع ... ! فمن حالٍ في الآخرة ومآل إلى أوّل أمرِ الإنسان... !

خُلق الإنسان  """هلوعا"""    ... فكيف تُراه هذا الذي هو طبعٌ فيه وخِلقة ؟ إننا  لن نبتعد ولن نبحث في قواميس اللغة عن معناه، ففي الآيَتَيْن المواليتَيْن نبؤه : "إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)"
شرٌّ وخير... طرفان هُما في معادلة الحياة، هما مادّتاها الأصيلتان، واللّبِن في بُنيانها، والهواء المُخالط للهواء في أجوائها... !
خير وشرّ... فما من إنسان إلا والخير ملابسٌ له، مصاحبٌ لأطواره، تماما كما أنّ الشرّ ملابسٌ له، مصاحبٌ لأطواره ... يتقلّب بينهما حالا بعد حال:  "لتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ" -الانشقاق:19-

ألم نعرف ونتبيّن الغاية من إيجاد الإنسان ومِن خَلقه ؟ ألم يعلّمنا الخالق سبحانه أنّما قد خُلِقَ ليُبتلى ؟ ألم نعرف قريبا في سورة الملك أنه: " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا..."  - الملك: من الآية 02-
وبَيِّنٌ هو أمر الابتلاء في غير ما موضع من القرآن الكريم، وإننا لنَلمَسُه ونتحسّسه تقلّبا في أطوار الحياة . ولكنّ فهمَنا له قاصرٌ منقوص، إذ كلّما ذُكر، تبادر إلى الأذهان الشرّ من مصائب ونوازل وشدائد، بينما الخير عند الناس أمان واطمئنان، يُغفَل وهو المركّب الأساسيّ الذي لا يكتمل معنى الابتلاء في الحياة الدنيا إلا وأنت تجعله جنبا إلى جنب مع الشرّ، حالة هو من حالات الابتلاء  : " كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً  وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" -الأنبياء :35-

هكذا هو طبع الإنسان... إذا مسّه الشرّ جزِع ولم يصبر، وإذا مسّه الخير مَنَع ولم يُعطِ  ... مجرّد المَسّ يجعله كذلك . وهو متمثّل أيضا في قوله تعالى: " وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (09) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ(10)"  -هود-

وهي ذي حال الإنسان على الأرض، جَزوع مَنوع ... !
خُلِق كذلك، وتحرّك على الأرض وتقلّب، وركب طبقا عن طبق، وهو الجزوع المنوع... بقي على خلقته الأولى ... جَزَعٌ عند الشرّ ومَنعٌ عند الخير...اضطراب، تململ، حركة نستشعر فيها السّرعة والاندفاع والخوف... ! الخوف من الشرّ إذا مسّ، والخوف من ذهاب الخير إذا مسّ ... !
انعدامٌ في التوازن، ميْل متطرّف إلى الجزع خوفا، وإلى المنع خوفا، ولكأنّك بدابّة هائجة جامِحة يُفتَقَد لِجامُها، أو مركبة دون كوابح تنطلق لا تلوي على شيء... !

وهذه صيحات الملاحدة اليوم تتعالى، وهُم يجعلون من وجود الشرّ في الدنيا عَصَاهم التي يتوكؤون عليها لإنكار وجود الله تعالى، بينما أصل إنكارهم هو للابتلاء... به ينكرون وجود  الله ... جعلوا بينهم وبين فهم المغزى من الوجود حاجزا مانعا، فلا ينفذ إليهم هُدى، يريدون إقرار قانونهم، قانون السعادة التي لا يعكّر صفوَها أدنى معكّر، وأنّه ما دام هناك ما يعكّرها ويبدّلها حزنا وهمّا، فإنه لا إله... ! لأنه –بحسب هواهم- لا يتوافق وجود شرّ مع إله رحيم ... !  مُنكِرون للابتلاء...ميزان السعادة عندهم حدوده الدّنيا، وما وراءها لا وجود له ...الدنيا وانتهى ...فهُم الهلِعون أبدا... !

ولننتبه ... إن الآيات ما تزال تزيدنا بيانا وما تزال تمضي بنا لتكتمل الصورة :
" إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (35)"

سلسلة كاملة من الاستثناءات المعطوف بعضها على بعض، المترابطة المتلاحمة، المتكاملة، لا ينفكّ بعضها عن بعض. كلّها مُنْضوية تحت : "إلا" في استثناء مستغرق مفصَّل، يضع ويوضّح ما يهذّبُ هذه الخِلقة في الإنسان ويكبح جِماحَها، ما يجعله وهو يتقلّب بين الأحوال، ويركب الطبق عن الطبق في أطوار الحياة مستوعبا لمعادلتها الأساسيةّ، معادلة الابتلاء... !
فاذكُر هنا ما استوقفني قبل قليل بمناسبة : "سأل سائل" ... قضية القراءة السطحية، وقضية التساؤلات التي تطرق النفوس، ودور القراءة الحيّة لحياة القرآن وروحه في إشباع اعتقاد الإنسان بالتصوّرات السليمة للوجود وللغاية منه، وللكائن بعده ... !

ولقد قال سبحانه في خلق الإنسان: " يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ  وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا"-النساء:28-
كثيرا ما نجد أنفسنا نَجنح إلى هذه الآية جُنوحا متطرّفا نفسّر به الانتكاس والارتكاس والكسل، والخمول وحبّ التقوقع، والخوف من ركوب الصعب من أنفسنا ... بينما الجمع بين الأطراف هو الذي يعطي الصورة كاملة مكتملة، هو الذي يجعلنا ننطلق في مخاضة الحياة ونحن متزوّدون، نفهم الضعف فينا على وجهه الصحيح، فنعرف متى نقرّ أنه الضعف، من بعد استكمال أسباب الحركة والجدّ والاجتهاد والترقّي... !

إنّ هذه الاستثناءات هي مربط الفرس في خصوصيّة هذه السورة، والتي يجب أن نتوقّف عندها لنفهم أنّ هذه الخِلقة وهذه الجِبِلّة التي عليها جُبِل الإنسان، جعلها الله فيه ليكون هناك ما بعدها، ليكون بعدها عمل الإنسان مع نفسه بموجب المنهج الربانيّ الحكيم الذي أنزله الخالق لعباده ليستضيؤوا به على درب الحياة، فيقطعوه على بصيرة، وبقوّة تُزيح العوائق وتُبقي في النفس نورا لا يذهب ... !

الارتقاء... أليس هو العُروج ؟؟! أليس هذا جوّ السورة من أولها ؟
بلى ... هو هو ... !
إنّ هذه الاستثناءات هي معراج الأنفس إلى الكمالات الإنسانية...هي التي تقابل منطق :"وخُلِق الإنسانُ ضَعِيفا"، ومنطق: "إنَّ الإِنْسَانَ خُلِق هلُوعاً"، هي التي تكتمل بها الصورة ... هي الارتقاء إلى القوة في  النفس، وهي حصنها الحصين دون الجزع من مسّ الشرّ، ودون المنع من مسّ الخير ...

فلنرتقِ المعراج المنتصب قُبالتنا في هذه الآيات ... لنضع القدم على الدرجة الأولى من درجاته ...ولنعرُجْ... !

"إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)"
رأس الاستثناءات كلها... الحلقة الأولى من حلقات السلسلة... المبتدأ والمنطلق : " إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ" .
مداومون عليها... لا يقطعونها وهي الصلة بين العبد وربّه، وهي مناجاتُه وسؤاله...  مُداوَمَة عليها بأوقاتها الخمسة، بالقيام بين يَدي الله، والاتصال به خمس مرات يوميا... اتّصال به لا ينقطع، وارتباط به لا ينبتّ ... بتكبيرات فيها ملءَ اليوم والليلة، وتسبيحات، وذكر، وقراءة للقرآن... !

إنها المداومة على الاتصال، إنها الحبل الواصل الممدود الذي لا يجب أن يُقطَع ...فالشرط الأول المداومة ...
ولكن ممّا نعرف ونرقب ونشاهد، نجد مداوما عليها ولكنّه الجزِع إذا أصيب، المانع إذا أعطِي ...لا فرق ! بل نعرف ذلك حتى في أنفسنا قبل أن نلتفت إلى غيرِنا ... نكون مداومين ولا نملِك قِياد أنفسنا، ولا نقبض على الكوابح اللازمة... نعم... ذلك كائن... !
ولكن رُوَيْدَك ورُوَيْدي ... !  فإنّها السلسلة المتكاملة لا الحلقة الفريدة ...!
ولأذكُر ولتذكُرْ معي أنه المعراج ذو الدرجات لا الدرجة الواحدة، إنه الصعود درجة فدرجة ... إنه الارتقاء... !

فلتداوِم أولا ... داوِم، لا تقطع ... واذكُرْ معي نهج حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو يعلّم المؤمنين أن يأمروا الطفل بالصلاة في سبع، وأن يُضرب على تركها في عشر...
لنتأمّل تلك السنوات الثلاث، التي هي كلّها تدريب وتكرار، وتربية وحثّ على المُداومة، ليتعوّد الطفل، ليألفها عادةً فلا يقطعها ...
إنه في تلك السنّ لن يكون الصبور عند أقلّ أذى يلحقه، ولن يكون المِعطاء الذي لا يستكثر أن يُعطي مما هو له، بل يُعرف عن الطفل سرعة جزعه، واستئثاره بما يحبّ لنفسه...  ولكنّه أسلوب تربويّ تدريجيّ لتعويد الإنسان على الصلاة أول الأمر، التعويد كغاية في حدّ ذاته في ذلك الطور لاستسهال المُداومة ... !

فلا نقفَنَّ عند  الدرجة الأولى ثم نُدَنْدِن ببقاء العلّة ...!  لنَمضِ قُدُما، فتحصيل السلسلة لا يُجيز القطع ... !
"وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) "

مُداومٌ على الصلاة، وفي مالِهِ حقّ معلوم للسائل والمحروم...
"حقّ"  ...بهذه الكلمة الواضحة، لا يجد المسكين في نفسه كسرا أو ذُلّا، أو مهانة وهو له حقّ مقسوم... كما أنّ المُعطي يعطيه وهو يؤدّي حقا واجبٌ عليه تأديتُه، يواظب على العطاء، ويدرّب نفسَه على ألا يستأثر بمالِه لنفسه، يخلّصها من ربقته...ويحرّرها من إِساره ...

هكذا أراد الله بهذا العِلاج، درجة تُرتقى في هذا المِعراج الذي يُخلّص النفس من حبائل الهلع، حتى يتعلم الإنسان كيف لا يأسِرُه الخوف على ضياع الخير فيبخل ويقتّر، ويمنع ظانّا من نفسه المحافظة عليه، بينما هو بذلك يخسر حريّته وهو يحيط نفسَه بأسواره وقضبانه، ويُبقي على اضطرابها وتململها وقلقها وعدم اتّزانها... !
صلاة دائمة لا تنقطع، هي صلة بالله دائمة، يفتح منها المؤمن بابا إلى صلة بأخيه المؤمن دائمة تجعله وهو سواء، تجعله يفكّر به كما يفكّر بنفسه. وقد علّمَنا صلى الله عليه وسلم أنه: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه" . إيمان منقوص هو الإيمان مع بخل، مع منع، مع تفكير بالنفس، لا خروج عن حدودها.

إنه العُروج ... إنه الارتقاء في سلّم الإنسانيّة بالتّراحُم... بألا نجعل من المادّة حاكما وحَكَما، سواءٌ حُكمُها بحق أو بباطل، سواءٌ -مع سُلطانها الآسِرِ- المسلمُ والمُجرم، سطوتها على رِقابهم أقوى من كل حق... !

فصِلَةٌ بالله دائمة، تعقبها صلة بالناس دائمة، صلة رحْمة وأخوّة وحبّ الخير للآخر  كما يُحَبُّ للنفس...

ولننظر إلى الهلع وحال النفس معه ... إلى تلك الخِلقة، والجبلّة التي عليها جُبِل الإنسان ... أليست بهذا الارتقاء تنحصر وتبهَت...؟!
إنه لم يعد من حجّة لمن يتعلّل بخلق الإنسان هلوعا على ما هو كائن في الأرض من هلع... على ما هو كائن فيها من جزع من مسّ الشرّ، ومن منع من مسّ الخير ... لا وَقْع لحُجّة منه وهو يقول بأنّ الخِلقة فيه تجعله لا يُلام على ما يكون منه... فهي فيه الخِلقة... !

إنّ هذا المنهج الربانيّ السامق السَنِيّ، يبيّن لنا أنّ التفاعل مع الابتلاء بمادَّتَيْه (الشرّ والخير) يكمن في هذا الترقّي،  في أن يأخذ بهذه العلاجات، وفي أن يضع قدمه على الدَّرَج يبتغي العُروج ... !
تِلْكُم هي آليّة التفاعل مع ما يتقلّب فيه الإنسان من الابتلاءات بخيرها وشرّها. أتعزم على العُروج أم تبقى حيث أنت، كما هي خِلقتك...؟ فلا نجد للتفاعل مع الابتلاء من كينونة ومن وجود في النفس ...
إنّ هذا الترقّي، وهذا العُروج هو مَظَنّة الاختيار في الإنسان، ومدار الإرادة الحُرّة التي جُعلت فيه... !
فقولُنا أنّ فلانا من الناس قد ابتُلي بمصيبة فصبر، إنما ذلك من فَهْمِه لمعادلة العُروج ...لآليّة التفاعل مع الابتلاء، أما القائل بأنّ جزَعَه جَبْرٌ من الجَبْر مادام الله قد خلقه هلوعا، إنما هو بذلك يُلغي الاختيار، ولا يُعطي المفهوم الصحيح لإرادة الإنسان واختياره في الحياة الدنيا، ويُلغي عمَل هذا المنهج الربانيّ فيه، فهو وِفقَه ووِفْقَ تعاليمِه وتربيته وترقياته، يختار إزاء المصيبة الصبرَ كابحاً للجزع فيه، كما يختار أن يعطي كبْحا للمنع من نفسه  ... !

وعَوْداً إلى هذا الحقّ المعلوم في ماله، فإذا هو للسائل والمحروم...
فأما السائل فبيّنٌ أمرُه، وأما المحروم فهو الذي يحتاج ولا يسأل الناس أن يُعطوه. وإنّ هذا العطاء من صاحب المال للمحروم في حدّ ذاتِه ارتقاء وترقٍّ في الدرجة الواحدة، فهو لا بدّ باحثٌ عنه، لأنه ليس بالذي يُعرِّض نفسَه للناس ويسألهم فيَعْلموا عنه بالضرورة، بل هو المُخفي أمرَه، المتعفّف، الذي يحتاج ولا يسأل ... فأن يُبحَث عنه ليُعطَى عطاءٌ من النفس آخر للبذل... !
المنع ...فالعطاء، فالسعي إليه سعيا ... وإنها المَعارج ... فلا عَجَب... !
« آخر تحرير: 2020-11-28, 15:21:11 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

فلـــــــــــــــنعرُج ...

"وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)"

الذين يصدّقون بيوم الدين، فلا ارتياب في أنفسهم من وقوعه ولا شكّ ...
هم المداومون على صلتهم بربّهم، وهم الذين لا يقطعون ما بينهم وبين إخوانهم، بل يصلونه.  بأن يُعطوا المسكين ويرحموا، ويلامسوا بذلك قول ربّنا  : "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" ...وهُم هُم المصدّقون بيوم الدين...

وإنها الصّلة أيضا ... الصلة والاتصال في وجه آخر، في معنى آخر...
إنه وصل دنياهم بالآخرة، إنهم الذين لا يقطعون ما بين حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى، بل هم الموقنون من ذلك اليوم الذي فيه الحساب والجزاء، ليسوا الذين يُقصِرُون وجودهم على الدنيا، بل إنهم الممتدّ بصرهم امتدادَه إل الدرجات العُليا على مِعراج السموّ الروحيّ... إلى ما هو خير...ليسوا بالقاصرين المحدودين... ! ليسوا بالذّين يلتبس عليهم الأمر إذا ما مسَّتهم مصيبة، فيجزعوا حتى يُنكروا وجود ربّ عليم خبير، له في ابتلائه بالشرّ حكمة، بل هم الصابرون عندها، الذين يحتسبون صبرَهم عند الديّان ليوم الدين... !

فصَلاتُهم صِلة بالله حتى يلقوه، وعطاؤهم من مالهم لمن هُم أدنى منهم مبتغين رضى الله حتى يلقوه، وتصديقهم بيوم الدين واقرٌ في القلب، به يلقون الله ...إنه المُرتقى ...  وإنها الصلة بالله معزّزةٌ بالحركة في الأرض لله... !
بحركة عليها لا تنقطع عنه، على غير حال الإنسان اليوم وهو يتألّه بمعارفه وقدراته، وعلمه، ويُنكر الإله الخالق المسيّر، المدبّر، فيتوه ويتوه ... ويغرق في لُجّ الحيرة واللاغائيّة ... ! فيفتعل لنُكرانه وإلحاده الأسباب الواهية، أوّلها تلك التي صنعتها أهواؤُه -وهو الذي لا يحتكم لقانون ربانيّ- ... أنّ التعاسة والشرّ دليلان على عدم وجود إله، لأنه لا يؤمن بيوم آخر فيه جزاء الصابرين على ابتلاء الشرّ بإحسان، وفيه السعادة التي لا تُعكَّر، والصفو الذي لا يُكَدَّر ... !!

ولنا أن نتخيّل مداومةً على الصلاة مقرونة بهذا الاعتقاد المجسّد أفعالا، وإذا بهذه المداومة تأخذ يوما عن يوم طابع الحبّ والقوّة، فلا تبقى في إطار العادة وحدها، بل تصبح بنكهة التراحم، والسعي للرأفة بعباد الله، والتصديق بوعد الله تعالى وبلقائه يوم الدين...
ستتعزّز تلك المداومة باستشعار القُرب من الله والحركة لوجهه ولنيل رضاه، ستصبح صلة أقوى ورابطا أوثق ...! إنّه كلما ولّى وجهَه شطر القِبلة مصلّيا قرأ في كل ركعة : "الحمد لله ربّ العالمين ** الرحمن الرحيم** ملك يوم الدين **إياكَ نعبد وإياك نستعين** اهدِنا الصراط المستقيم..."
هكذا في كل ركعة "بصيغة الجمع"  يقرّ بالعبودية لملك يوم الدين، ويسأله العون، ويستهديه، وهو على الأرض يتحرك متصلا بإخوانه، محقّقا الوصل المجتمعيّ، مُعطيا مما أعطِي، محققا روح الأمّة... فيُعانُ ويُهدَى... !
وهكذا في مداومة على تلك الصلة العظيمة(الصلاة) يبعث في نفسه رُوحَها وحياتَها وفعلَها بالعمل...  إنّ صاحبَها ليَعرُجُ مبتغيا قُرْب ذي المعارج... !

ومع تصديقهم بيوم الدين، هم مِن عذاب ربهم مشفقون، عذاب لا يأمنونه: " أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ" -الأعراف: 99-  مُعْظِمون هُم لطلاقة قدرة الله تعالى، فلا يرون من أنفسهم وَرَعاً لا يُدانَى، بل هم المستقلّون لما يفعلون، الرّانون بإشفاقهم للاستزادة من الأعمال...
إنّه الحَذَرُ الذي يولّد العمل ... ! ثم إن الإشفاق من عذاب الله لازمة تُهَوّن على صاحبها كل مصائب الدنيا،  فلا يعود ذلك الجزوع وصبره عليها أجر وثواب يُنجيه من عذاب هو أحرى أن يُشفَقَ منه ... ! فلنتأمّل الدرجات المرقّيات ...!
وإنهم الواصلون دنياهم بأُخراهم، لا ينقطعون عنها وهي الغائبة عن أعينهم، بل إنّ قلوبهم موقنة بها، متشوّفون لخيرها ونَعمائها، حريصون على الفوز فيها ...

"وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)"
إنهم الذين يصونون أنفسهم إلا من العلاقة الزوجية المُباحة، التي هي أصل الأسرة الطبيعية، لا ما يَشْهدُه عالَمُنا من انطماس للفِطرة وقلبٍ لها... !
فهذه القوانين تُسَنّ وتُشرَع، ليُشرَع بها باب المعاشرات الشاذة بين الجنس الواحد تحت سقفٍ تحميه قوّة القانون، وتجتمع لأجله البرلمانات، ويحتّج فيها الرّجالات، لتُصادِق عليه في قفزة تحرّرية نوعيّة يُؤرِّخ لها أرباب الفساد والإفساد في الأرض... !
أيّ انتكاسة وأي ارتكاسة يعرفها عالمنا اليوم ! ورئيس دولة يقف مُلوّحا بيدٍ لشعبه وعشيرُه باليد الأخرى ! زوجُه بلغة قوانينهم !! بل ويفخر به في المحافل الدولية، وهو يأخذ صورة في مَجمعٍ لنساء رُؤساء الدول ""العُظمى"" ... !!

ويُدندن أرباب هذا الانخلاع الكليّ من الفطرة بأن الإسلام دين الرجعيّة والتخلّف، ويردّد خلفَهُم ببغاواتٌ من بني جلدتنا منبهرين بحضارة تجعل من الأسرة مَسْخاً بجنس واحد ... !!
هذا عالمنا في نُسَخِهِ المتجدّدة، ليصبح أمام هَوْلِها وقذارتها، الحديثُ عن زنا واختلاط أنساب، نافلة... ! وهو الذي تترنّح الأرض من لأوائِه وثِقَله... !!

وهذه المعارج... وهذا العُروج الإنسانيّ ليواجِه ابتلاءات الدنيا وتقلّباتها...
هذه درجة أخرى تُضاف إلى صلة بالله لا تنقطع، يعزّزها الفعل، وصلة بالناس تجسّد المساواة والتراحم، ويقين بلقاء الله لا يتزعزع .. إنه حفظ للشرف الإنسانيّ، وللوجود الإنسانيّ حتى لا يصبح والوجود الحيوانيّ سواء ...
غريزة مهذّبة، منضبطة بضوابط حافظة، فلا تَرَهْبُن، ولا إنكار لمَيْل الجنس من البشر إلى الجنس الآخر في امتداد للترابط الآدميّ الحَوّائيّ، لنَعِيَ أنه الاتصال البشريّ على  الأرض، والامتداد للأسرة الطبيعيّة التي جَبَل الله الناس عليها مُذْ بدأ الخلق... وليس هو الإطلاق العنانيّ للغريزة، لتصبح الأرض غابة بذوات اثنَيْن لا بذوات أربع ... !
ولنتأمّل صُعُدا مدى الحرص على الحفاظ على المجتمع، من خلال صَون الفرد والحفاظ على إنسانيّته بضبط الغريزة مقدِّمةً لضبط الهلع في النفس وكبح جِماحِه ...

"فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ"
وهذه وحدها إعجاز تعبيريّ ليس إلا للقرآن... وهي تكفي للتّدليل على الإبداع في مضمار الفساد والتفسّخ الأخلاقي ! فالعلاقات خارج إطار الزواج أصبحت بموضات وصيحات ... عياذا بالله.. !

وارتقاء جديد، وعُلِّيَّةٌ جديدة: "وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)"

فإذا الأمانات المادية بأنواعها هي أول ما يتبادر إلى الذهن، بينما تُغفَل أُولى الأمانات وأَوْلاها بالأداء... !
**فأَوْلاها استخلافٌ في الأرض هو دورُ الإنسان المُلازِم لكَيانِه، بإحقاق لكلمة الله عليها وإبطال لغير كلمته... وكلٌّ موكّلٌ به، وليس حِكراً على قائد يكون سببا من أسباب نصر الله لعباده المؤمنين، أو على جنديّ يقاتل في سبيل الله، بل هو الاستخلاف فيها بأن نمشي في مناكِبها برؤوس مرفوعة، معتزّة بالإسلام، تحيا به نبضا وروحا، ولا يغرّها مَشيُ تَيْهٍ بغيره، فهي القائدة المعلّمة لا المَقودة المقلِّدة : "إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ  إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا"-الأحزاب:72-

**وأَوْلى الأمانات بالأداء نفسٌ بين الجَنبَيْن ترتاح وتطمئنّ وترتقي بنهج خالقها، فإما إيمان فامتثال وائتمار، وإمّا كفرٌ فانتكاس وارتكاس ...

**وَأَوْلى الأمانات بالأداء نفسٌ تخرج من نفس، فهي وليّها، وهي راعيها، وهي المسؤول عنها يوم اللقاء، أحسنت تنشئتها أم أساءت، علّمتها منهج العُروج أم تركتها فالهلع  كما هو فيها... خِلقةٌ وساكنٌ لا يبارح... !

ثم هي ذي العهود مقرونة بالأمانات: " وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ" فأوّلها عهد العبد مع ربّه أن يؤمن به ويكون له العبد المطيع، ومن ثمَّ عهود منبثقة تستوجب الوفاء والإيفاء، وكلّها الائتمار بأمر الخالق المربّي سبحانه، والانتهاء عن نهيه ... فهو الذي لا يخون ولا يخدع الناس، وقد أوفى مع ربّه ...

ولنتأمّــــــــــــــــــــــــــــل...

فكُلُّها الصلة والاتصال والامتداد ... ! كلّها تشترك في كونها صلة واتصال... !
لكأنّي بها الدّرجات الموصولة المُصعِدة، فلا انفصال بين واحدتها وأخرى، وكلّ واحدة منها بذاتها وصلٌ واتصال...  ومع العهود والأمانات هو اتصّال الأرض بالعهد الأوّل للخلق، العبوديّة للربّ الخالق منذ عهد الذرّ فطرةً مركوزةً في الإنسان، يدعو أولها آخرَها أنْ أوفِ ووفِّ ...فهو العهد الأول كما كان للخلقِ أوّلُ ... !!

ولنرتقِ... ولنصعد... ولنعرُج .......
"وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) "

الركن الأول من إسلام المسلم وإيمان المؤمن أن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله... شهادةٌ تحتاج أن يكون بها قائما، فلا يقعد، ولا يتنازل، ولا يُداهِن، ولا يطأطئ بها رأسا لمَن لا إله لهُم يشهدون بوحدانيته، ولمَن إلهُهُم الهَوَى في الأرض فهُم يَقْلِبون به الفطرة والحق، نافِثين في الأرواع أنّ الظُّلمَةَ نور كما تعوّدوا النّفث بسحر البرمجات اللغوية العصبية وألاعيب الآلة الإعلامية ... !!
إنّ هذه الدّرجة من مِعراج النفس لسميكة... !وأيّ سماكة ...! إنها القيام بالدين في النفس على الأرض، إنها الثبات عليه... !

ويالِأنوار هذا المِعراج النفسيّ...! ويالأنوار هذا العُروج  !!   ويالِسورة المعارِج ... !!

"وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ "
سبحانك ربي ...! أوَّلُها المداومة عليها، وآخرها المحافظة عليها ... !
ولكأنّ الصلاة وهي الصلة بالله، وهي القُرب منه، وهي بذرة الارتقاء، تترعرع وتنمو وتكبر، ليس على أنها تولية الوُجوه شَطْر القِبلة، والحركات والركعات التي تنتهي بإلقاء السلام يُمنة ويُسرة... !
لا... لا... !
إنما ذلك الفهم القاصر المخلخَل الذي كُرِّس في أذهاننا عن الصلاة... !
ولكأنّي بـ : "الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دائِمُون" تعني تلك الصلة التي لا تنقطع أصلا، فالعبد يستشعر أنه بين يدَي ربّه في كل حين، يقوم بين يدَيه وقتَ الصلاة يقرّ بالعبودية، ويستعينه ويستهديه للقابل من حركة له على الأرض، ويستغفره على ما مضى بين صلاته الآنِفة وصلاته التي هو فيها ... يأخذ من قيامه بين يَديه مصلّيا، الطاقة والقوة والزاد والمَدَد، لحركة على الأرض لا تنقطع فيها صلتُه بربّه  ...

ليست حياة منفصلة منقطعة، تدوم دقائق من الزّمن، وما تلبث أن تنتهي بالتسليم... !  بل هي حياة ممتدة، تستمدّ حياتَها من الحركات الأخرى، من حركات الحياة...فحقٌّ معلوم للسائل والمحروم، مُؤدّى في حركة اتصالٍ بالمُجتمع، وتراحم، وإحساس بالآخر، في حركة الإنسان مع أخيه الإنسان لا مع نفسه وجُدرانها وحسب ... هي اتصال، وهي معاملات، وهي بحثٌ عن نفس تُخْفي ألَمَهَا وحاجتها، لتستشعر إحساس الآخر بها وهي المعثور عليها، وأنّها في المجتمع الحيّ بالله، الموصول بالله...لا تُترَك ... !

هي ذي بذرة القُرب والاتصال بالخالق، تستمدّ حياتها وسُقياها من امتداد ليس يُحدّ ببصر ولا بمسافات، بل بالماورائيات، فهي تصِل دنياها بأُخْراها، تعمل في الدنيا بيقين فنائها، لتحصد عملها في الآخرة الباقية، وكأن الدنيا في نفس المؤمن يدٌ تُمدّ للآخرة تُمسِك بها لئلا يقع صاحبُها بل ليرتفع ... ! بل ليرتفع... !
لتعرج روحُه في ذلك اليوم ... لا بمِعراج بل بمعارج ... !
معارج القُرب من الملِك الديّان سبحانه ... رُتب ودرجات وعلاليّ ... !

فهل تذكرتَ معي بدايات السورة ؟ ! : " تعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ " ...
لقد عاشت تلك الروح -وهي النفخة من الخالق-  تعرج وتعرج ... لم تَبْقَ على هلعٍ خُلِقت عليه، لم تُبعَث على ما خُلقت عليه من هلع .... بل بُعثَت وهي العارجة التي أتمّت عُروجها بنَوَالها خير الآخرة ونعيمه... !
لقد كانت في الدنيا موصولة بذلك اليوم العظيم ... اشرأبّت إلى الآخرة وتشوّفت إليها وإلى درجاتِها العُليا ... !
أفرَأيْنا كيف هي بذرة الصلة بالله ؟ كيف هي الصلاة  وهي تنمو وتُزهِر ؟!
أفرأينا كيف لصاحبها هي الناهية عن الفحشاء والمنكر، إنها وهي تستمدّ حياتَها، وتنمو من حركة في الحياة تحقّق الوصل أبدا ...! بل تزيد وتزيد في القُرب ... !

لقد كانت الدرجة الأولى من مِعراج الروح "المداومة على الصلاة"... فهي المداومة بالإنماء والتعهّد والرعاية والسُّقيا ... فأصحابها أصحاب تشوّف للآخرة، أصحاب خوف وإشفاق من عذاب الله الواقع الذي ليس له من دافع، أصحاب إشفاق يعلو بالنفس، لترنو للعمل يعضّد العمل، يرفع العمَل...

وبذرة الصلة بالله تُرعَى وتُسقى، فصاحبها يصل النّسل الإنسانيّ بأصله الإنسانيّ، وهو يهذّب الغريزة فيه ويضبطها، فلا يجمح، ولا ينساب حيوانا لا يفرّق بين حلال وحرام ... بل هي الأسرة، هي الأخرى بذرة تنمو وتكبر مُجتمعا طاهرا ساميا لا خلط فيه ولا فساد ... لا غابة تُصنع من ذوات الاثنَيْن، بل هي لذوات الأربع ... !

لقد زاد القُرب ... لقد نما... ! لقد أينعت ثِمارُه... !
لقد ارتفعت النفس وسمت وعلتْ... لقد عرجتْ الروح، ولقد حييت وارتاحت...لقد سُقِيت وارتوت ... وكيف لا وهي المعارج ؟!!

والأمانة، وتقدير ثقلها، وأولاها تحقيق الاستخلاف في الأرض،  فصدقٌ وحفاظ وأداء... وبالعهد وفاء وإيفاء، وأوّله العهد بالعبودية لجلال الربوبية والألوهية الواحدة ...فما كان مع الربّ موصولا لن يُقطع بالخيانة مع العبد ... !
فكيف هي الصلاة التي بُدئ بالحضّ على المُداومة عليها ... ولم يقتصر الأمر على المُداومة... بل نُصب المِعراج ... وتبيّن الدَّرَج ... واعتلت الدرجة منه تؤدّي إليها الدَّرَجة ... !

إنها الصلاة المُحافَظ عليها ... إنها الصّلة المُحافَظ عليها ... إنها التي زرعَتْ الطمأنينة والسكينة في النفس، فأذهبَت ريح الجُموح والاندفاع ... ريح """الهلـــــــــــع"""
أيّ هلع ؟؟ وما الهلع.... ؟؟
إنه الجزع عند مسّ الشرّ والمنع عند مسّ الخير ...  لقد ترقّت تلك النفس المخلوقة على الهلع ... فعاشت تستطيع أن تصبر عند الابتلاء بشرّ فلا تجزع، فزَعُها إلى الله، إلى صِلَتها به، إلى صَلاتِها... تبثّ الهمّ والحزن والشكوى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ "-البقرة:153-بل تستطيع وهي تترقّى أن تبلغ مبلغ:  " فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا " ..كما عرفنا الدرجة الواحدة وهي ذات ترقّيات ...

نفسٌ تشكر عند الابتلاء بخير فلا تمنعه ... بل تعطي وتجود، وترحم، وليس دَيْدَنُها ودأبها أن تجمع وتجمع وتوعي، بل الحقّ المعلوم معلوم تُعطيه برحابة صدر، بل وتبحث وتسعى لتعطي ... فلا تستكبر في الأرض بمادة، بل هي الشاكرة أبدا... !
وهكذا .... كان الحفاظ على تلك الصلة، الحفاظ على الصلاة، على القُرب ... على الدرجات العاليات ... على التشوّف لمَعارج الآخرة ... !

لقد كانت الصلاة البداية ... وهي ذي المُنتهى ...
ليست نهاية المُرتقى، بل إنّ المِعراج الروحيّ الذي عرفْنا هو  في ذلك اليوم العظيم معارج... معارج قُرب تستحقّها النفس فتُجزاها، وهي في الدنيا قد عرفت المرتقى، فارتقت، فلم تعد على هلعها ...بل لم تُلاقِ ربّها وهي على هلعها... !
وتأمّل معي بعد كل الذي مررنا به ...
هذا مقام، أشير فيه إلى ورود لفظ "دائمون" في قوله تعالى :"الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ"  لا "مداومون" ...وإنك عادة تصف الواحد من الناس يكرّر عملا، ويحافظ عليه بقولك : "المداوم عليه" لا الدائم عليه، ولكأنّي  بـــ "دائمون" جاءت توحي في زيّ اللفظ بمعنى المداومة على الصلة بالله في كل حين، ليس في وقت الصلاة وحده، بل في كل وقت من اليوم، في كل حركة من حركاته، بما يجمع تلك الترقّيات التي تعطي معنى الصلة للصلاة ...تعطي معنى ديمومة الاتصال ...
« آخر تحرير: 2020-12-01, 13:30:54 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وبهذا الذي عرفنا ... نجدنا -عَوْدا على بدء- نعود إلى ذلك المجرم الذي يودّ لو يفتدي يوم اللقاء العظيم ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومَن في الأرض جميعا ثم ينجيه ... ! وقد أسلفتُ أنّ رابطا قويا كائنٌ بين تلك الآيات وبين التقرير الإلهيّ في آية خلقه الإنسان هلوعا...
ألا نراه -وهو بما يودّ، وبما يصنع من أوهامٍ بالياتٍ لن تُجديه نفعا- هلِعا ؟؟!

إنه الهَلِع الهلوع ... !
إنه الذي لم يرتقِ درجات ذلك المِعراج الروحيّ العليّ ...
لقد خُلق هلوعا، وبُعِث هلوعا ... لم يترقّ... !
 لم يؤمن بالله العظيم، لم يُعظِم الصلة به.... لم يذق حلاوتها....  لم يمدّ حياة صلاته ونماءَها من حركة له على الأرض هي لله وبالله وفي الله ...
كان مُنْبَتّ الصلة بخالقه، فلم يترقّ  ليزداد قربا ... فكان ابتلاؤه بالخير أكبر... ويا ما أشدّ ابتلاء الخير على المنقطعين غير الموصولين... !!
ابتُلي بالخير وزيدَ عليه الخير... إغراقا له واستدراجا وإملاء ... ! فجمع وجمع وجمع وأوعى، ومنع ... ألم يصفه الله ولظى تدعوه:  " تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ (17)وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ(18)"

بقي هلعُه ...  وبقيت روحُهُ ظمأى، وبذرة الصلة فيه ذاوية ذاوية ... فهو لا يودّ إلا الفِداء ... ! وكلّا  ثم كلّا ... إنها لظى تنزعه شوى... !

أما أهل المِعراج الروحيّ الذين ارتقوا درجاته ...فتقوّت الصلة وأحكِم الرباط، بالحفاظ على الصلاة ... فهُــــــــم أولاء:  "أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ"

في جنّات .... ليست جنّة... بل جنّات ... كما هي معارِج لله  تعالى، يرتقيها  أصحاب الأرواح المؤمنة يوم اللقاء، كما ارتقوا في الدنيا مِعراجا نُصب في القرآن، نُصب في هذه السورة ليعتليه المؤمنون، فيكونوا عند الابتلاء من الناجحين ... إنهم يومئذ في جنّات... وإنها المنتهى... !

وسبحان الله ... ! كم بات التساؤل مِن حَسَنِ النية ومِن سَيّء النية، قائم عمّن يصلي وفِعاله شرّ، وسلوكه شرّ ... بل وتجد حتى من يقع في جُبّ الشكّ والحيرة والتفلّت من الدين وهو يرى أفعال أحدهم مخالفة لكونه مصلّيا ... !

ربما غفلنا عن مِعراجٍ أولى درجاته المداومة، وآخرها المُحافظة ...
مِعراج بذرتُه الصلة بالله، وسُقياه درجات ملازمات مرقّيات للصلاة وحياتها وقيامها، مُمِدّات لها بالنبض والمعنى...درجات مقرّبات من الله، موطّدات للصلة به، مُحكِمات للرّباط، فهي مجتمعةً كوابح على درب الابتلاء، ورأسها تلك الصلة التي دوامُها أساسٌ في البناء، والمحافظة عليها سقفٌ له حافظ ... !

وإننا الآن إلى نقلة...وهي في حقيقتها الوصلة مع الوصلة :

"فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ(38)"
 
الذين كفروا ... تصويرٌ لحالهم وهم حَوْل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء المستهزؤون، الساخرون من رسول الله، ومن كتاب الله الذي جاء به، وهي ليست حال كفار قريش وحدهم، بل هي حال كفار كل زمان ...
مُهْطِعون  ... والمُهْطع من يُقبل ببصره على الشيء فلا يرفعه عنه، مادّا عُنُقه، مصوّباً رأسه...
إنهم باتجاهك، مسارعون حاردون، لكأني بهم مقبلون نحوك بأجسامهم  كلها... !

هم عن يمينك... وعن شمالك عِزين، جماعات متفرّقين... !
وإنّه لَلإدبار منهم في شكل إقبال، إذ هم المستهزؤون من جنس ذاك السائل الذي افتتِحت به السورة، السائل سؤال استهزاء عن عذاب واقع، سؤال تكذيب به... كذلك حالهم وهم نَحْوَك مقبلون ... كأنّهم وهم يمدّون أعناقهم يحملون رؤوسا خالية من عقل ! فالله يتمّم وصفهم مستنكرا حالهم في قوله سبحانه: " أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ"

لا تجني عقولهم ولا قلبوهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، يحيطون به وهُم على تكذيبهم قائمون ... بل يتخذون كلامه هزؤا، إذ يتبجّحون فيظنّون بأنفسهم أهلا لجِنان الرحمان وهم يسمعونه يحدّث عنها... !
يحسبون أنّ نوالَها كنوالهم الخير في الدنيا وهم كافرون، فهم به في قلب الابتلاء ويحسبون أنهم المُصطفون المنعّمون...! يكذّبون ويكذّبون، حتى إذا ذُكِرت الجنان رأوا أنفسهم -وهُم في الدنيا كُبراء وعِلية- أهلا لكل ذكر عِلية وإن كان مما به يكذّبون ... !

أيطمع كل امرئ منهم أن يُدخل جنّة نعيم ؟!  أيحسبون الجنّة لأمثالهم؟؟
وقد سُبقت هذه الآيات بحال مَن استحقوها فهي جنات هم فيها مُكرمون ... عملوا، جاهدوا، ارتقوا... لم يكتفوا بالقُعود وإن آمنوا، فكيف بمَن لم يخالط الإيمان قلبَه ؟!
 
وإنّ تصوير القرآن لإحاطتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم جماعات متفرّقة لتمتثل لنا به صورتان... إحداهما لتضييقهم الخِناق عليه صلى الله عليه وسلم، وما كان يُعاني من محاصراتهم وتتبّعاتهم، بسفاهاتهم وتجرؤاتهم عليه وعلى القرآن، والأخرى صورة حالهم المضطربة المهتزّة، وهُم شغلُهم الترصّد لصاحب دعوة الحق، بما يجعلهم أهلَ دركات تهوي بهم دركة إثر دركة في مهاوي الإجرام والخسار والتّبار ... ! خِلافا وضدّا لأهل ذلك المِعراج الروحيّ العليّ الذين هُم أهل الجنّات والدرجات العاليات...

لنتأمل ... !
إنهم يكرّسون للهلع فيهم وهُم بهذا الاهتزاز وبهذه السّفاهة والهَبائيّة ...!   
فهذه المعارج ... وذاك مِعراجٌ للمؤمنين ينصبه لهم القرآن ليرتقوه في الدنيا، حتى يكونوا أهلا لعطايا ذي المعارج ودرجاته العالية ... وهذه دركات الكافرين وهُم فيها يتهاوون ويَهْوُون إلى القعر السحيق ... ولذلك حقّ فيهم:  "كلا إِنَّهَا لَظَى(15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ(16)"

وهو ذا إنكار جديد ... إنكار عليهم، وإبطال لأمانيهم :
"كَلَّا  إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ(39)"

وهذا ما يؤكّد هوانَهم وأنهم هَباء، تذكيرهم بأنهم المخلوقون من ماء مهين، يعلمون جيدا أنهم منه مخلوقون ... ! وفي هذا ما فيه من كسرٍ لكبريائهم الزائفة ... حقيقتهم ماء مهين، كان هيّنا على الله سبحانه أن يخلقهم منه ... كما هو هيّن عليه سبحانه أن يبعثهم ويُحييهم بعد موتهم لينالوا جزاءهم، والعذاب الذي به يكذّبون ...

فجاء في ذلك قسم من الله عليه :
"فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)"

المشارق والمغارب، بعَدِّ مطالع الشمس ومغاربها على الأرض على مدار اليوم، إذ هي في مكان ما من الأرض تطلع في ساعة، وفي مكان آخر منه تطلع في ساعة أخرى، حسب دورة الأرض اليوميّة حول نفسها بمقابل الشمس الثابتة ...
أقسم سبحانه بمشارقها ومغاربها أنه القادر على تبديل خلقه بآخر خير منه، سواء في ذلك تبديل بعث بعد الموت، أو تبديل حياة بحياة، تبديل بَشَر ببشر آخرين، هم أطوع لله : "وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ" سبحانه على كل شيء قدير، لا يعجز عن ذلك ولا يُفات ولا يُسبَق إليه ...

"فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(42)"

إنه سبحانه يأمره أن يتركهم توعّدا منه لهم بما ينتظرهم، جزاء وِفاقاً لِلَعِبِهم وخوضهم ... لأنّه كان حريّا بهم وهم يبلُغُهم هذا القرآن، أن يتأمّلوا هداياته، وأن يتداووا بعلاجاته، لا أن يُعرضوا عنه، ويتخذوه لعبا، ويخوضوا بأحاديث هي الاستهزاء والسُخرية... كان حريّاً بهم أن يعرجوا، والمعارج منتصبة في هذا القرآن ارتقاء بالأنفس، وإبقاء لحياة الأرواح ... لا أن يختاروا الدّركات ويحسبوا الأمر لَهْواً ولعباً وخوضا عابرا ... !
 وقد عرفنا في سورة القلم:   " فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ"
ولنرَ ... إنه على مدار سورة المعارج العظيمة، نحن بين صعود وهبوط، بين عُروج في الدرجات وتهاوٍ في الدّركات ...
سبحانه بيّن خَلْقَه للإنسان هَلوعا، فعرفنا المُجرم وهو يُبعث هلوعا كما خُلِق وهو الذي لم يعرف صعودا ولا قربا ولا ترقّيا، بل تهاوى، وانحطّ، وابتعد... !
ثم عرفنا أهل العُروج الروحيّ الممتثلين لهدايات القرآن وإضاءاته على درب الابتلاء، وكيف يُدرَّبُون ويترقّون، فينجحوا في مواجهة الابتلاء إن بشرٍّ أو بخير ...

ثم عرفنا مَن يقابلهم من أهل الدّركات المتهاويات المُهوِيات، وكيف -وقد خُلقوا على الهلع-  هم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه وفي كل زمان، يستهزؤون ويتجرؤون ويخلطون ويخبطون، يرفعون رؤوسهم في كبرياء كذّابة ...بالأهواء رؤوسهم وقلوبهم مَلْأَى، لا بالتعقّل والتبصّر والحكمة والتروّي...

فها هُم أولاء في ذلك اليوم العظيم :
"يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ  ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)"

إنّهم لم يكونوا يسمعون، ولم يكونوا يبصرون:   "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ  لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا  أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ  أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" - الأعراف :179-

كالأنعام  عاشوا، وكالأنعام يُبعَثون !
خُلقوا هلوعين، وبُعثوا هَلوعين، لم يقدّروا هذا القرآن حقّ قدْرِه، فاستهزؤوا وكذّبوا وتهاووا، لم يفهموا أنّ القرآن معراج الروح في الدنيا وقربةٌ من نافِخها في عبده...أنه الروح للروح: " يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ..." -النحل: من الآية02- ...وأنه لها في الآخرة معارج وارتقاء وفوز بالدّرجات العُليا...

كأنهم إلى نُصب يوفضون... كما أدبروا في الدنيا عن دعوة الحق، وتولوا أصنامَهم وباطلَهم، فهم اليوم كأنهم يسرعون إلى أنصابهم، إلى أصنامهم التي سَفَهاً اتخذوها من دون الله الواحد ذي المعارج سبحانه ...!
هم أولاء كما اختاروا الدّركات في الدنيا، أذلّة هلِعون مقبلون على الهلاك بأرجلهم...بل إليه هُم مسارعون ... !!

ذلك ما كانوا يُوعَدون، وكانوا به يكذّبون ...

إنه اليوم الذي سيفوز فيه أهل المِعراج ...أولئك الذين ترقّت أرواحهم وسمتْ حتى هي اليوم عند ذي المعارج المترقّيةُ  القريبةُ   : "تعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ "....

وها قد تملّيتَ حُسنَ المعارج ... ! وها قد عزمتَ على العروج ... لا أن تبقى عند أدنى درجة ثم تتساءل عن سرّ الجزع فيك، وعن سرّ المنع ... !
اعرُجْ فإنه معراج روحك هنا إلى معارج روحك هناك ... ! حينما تلقاه وقد كنت العارج في الدنيا، فيُعرَج بك إلى مرتقيات الجزاء .... ! إلى أعلى... فأعلى... فأعلى ... فلا تظلم نفسَك ولا تبخلْها ... !

« آخر تحرير: 2020-11-28, 15:34:02 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب