فلـــــــــــــــنعرُج ..."
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)"
الذين يصدّقون بيوم الدين، فلا ارتياب في أنفسهم من وقوعه ولا شكّ ...
هم المداومون على صلتهم بربّهم، وهم الذين لا يقطعون ما بينهم وبين إخوانهم، بل يصلونه. بأن يُعطوا المسكين ويرحموا، ويلامسوا بذلك قول ربّنا : "
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" ...وهُم هُم المصدّقون بيوم الدين...
وإنها الصّلة أيضا ... الصلة والاتصال في وجه آخر، في معنى آخر...
إنه وصل دنياهم بالآخرة، إنهم الذين لا يقطعون ما بين حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى، بل هم الموقنون من ذلك اليوم الذي فيه الحساب والجزاء، ليسوا الذين يُقصِرُون وجودهم على الدنيا، بل إنهم الممتدّ بصرهم امتدادَه إل الدرجات العُليا على مِعراج السموّ الروحيّ... إلى ما هو خير...ليسوا بالقاصرين المحدودين... ! ليسوا بالذّين يلتبس عليهم الأمر إذا ما مسَّتهم مصيبة، فيجزعوا حتى يُنكروا وجود ربّ عليم خبير، له في ابتلائه بالشرّ حكمة، بل هم الصابرون عندها، الذين يحتسبون صبرَهم عند الديّان ليوم الدين... !
فصَلاتُهم صِلة بالله حتى يلقوه، وعطاؤهم من مالهم لمن هُم أدنى منهم مبتغين رضى الله حتى يلقوه، وتصديقهم بيوم الدين واقرٌ في القلب، به يلقون الله ...إنه المُرتقى ... وإنها الصلة بالله معزّزةٌ بالحركة في الأرض لله... !
بحركة عليها لا تنقطع عنه، على غير حال الإنسان اليوم وهو يتألّه بمعارفه وقدراته، وعلمه، ويُنكر الإله الخالق المسيّر، المدبّر، فيتوه ويتوه ... ويغرق في لُجّ الحيرة واللاغائيّة ... ! فيفتعل لنُكرانه وإلحاده الأسباب الواهية، أوّلها تلك التي صنعتها أهواؤُه -وهو الذي لا يحتكم لقانون ربانيّ- ... أنّ التعاسة والشرّ دليلان على عدم وجود إله، لأنه لا يؤمن بيوم آخر فيه جزاء الصابرين على ابتلاء الشرّ بإحسان، وفيه السعادة التي لا تُعكَّر، والصفو الذي لا يُكَدَّر ... !!
ولنا أن نتخيّل مداومةً على الصلاة مقرونة بهذا الاعتقاد المجسّد أفعالا، وإذا بهذه المداومة تأخذ يوما عن يوم طابع الحبّ والقوّة، فلا تبقى في إطار العادة وحدها، بل تصبح بنكهة التراحم، والسعي للرأفة بعباد الله، والتصديق بوعد الله تعالى وبلقائه يوم الدين...
ستتعزّز تلك المداومة باستشعار القُرب من الله والحركة لوجهه ولنيل رضاه، ستصبح صلة أقوى ورابطا أوثق ...! إنّه كلما ولّى وجهَه شطر القِبلة مصلّيا قرأ في كل ركعة : "
الحمد لله ربّ العالمين ** الرحمن الرحيم** ملك يوم الدين **إياكَ نعبد وإياك نستعين** اهدِنا الصراط المستقيم..."
هكذا في كل ركعة "بصيغة الجمع" يقرّ بالعبودية لملك يوم الدين، ويسأله العون، ويستهديه، وهو على الأرض يتحرك متصلا بإخوانه، محقّقا الوصل المجتمعيّ، مُعطيا مما أعطِي، محققا روح الأمّة... فيُعانُ ويُهدَى... !
وهكذا في مداومة على تلك الصلة العظيمة(الصلاة) يبعث في نفسه رُوحَها وحياتَها وفعلَها بالعمل... إنّ صاحبَها ليَعرُجُ مبتغيا قُرْب ذي المعارج... !
ومع تصديقهم بيوم الدين، هم مِن عذاب ربهم مشفقون، عذاب لا يأمنونه: "
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ" -الأعراف: 99- مُعْظِمون هُم لطلاقة قدرة الله تعالى، فلا يرون من أنفسهم وَرَعاً لا يُدانَى، بل هم المستقلّون لما يفعلون، الرّانون بإشفاقهم للاستزادة من الأعمال...
إنّه الحَذَرُ الذي يولّد العمل ... ! ثم إن الإشفاق من عذاب الله لازمة تُهَوّن على صاحبها كل مصائب الدنيا، فلا يعود ذلك الجزوع وصبره عليها أجر وثواب يُنجيه من عذاب هو أحرى أن يُشفَقَ منه ... ! فلنتأمّل الدرجات المرقّيات ...!
وإنهم الواصلون دنياهم بأُخراهم، لا ينقطعون عنها وهي الغائبة عن أعينهم، بل إنّ قلوبهم موقنة بها، متشوّفون لخيرها ونَعمائها، حريصون على الفوز فيها ...
"
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)"
إنهم الذين يصونون أنفسهم إلا من العلاقة الزوجية المُباحة، التي هي أصل الأسرة الطبيعية، لا ما يَشْهدُه عالَمُنا من انطماس للفِطرة وقلبٍ لها... !
فهذه القوانين تُسَنّ وتُشرَع، ليُشرَع بها باب المعاشرات الشاذة بين الجنس الواحد تحت سقفٍ تحميه قوّة القانون، وتجتمع لأجله البرلمانات، ويحتّج فيها الرّجالات، لتُصادِق عليه في قفزة تحرّرية نوعيّة يُؤرِّخ لها أرباب الفساد والإفساد في الأرض... !
أيّ انتكاسة وأي ارتكاسة يعرفها عالمنا اليوم ! ورئيس دولة يقف مُلوّحا بيدٍ لشعبه وعشيرُه باليد الأخرى ! زوجُه بلغة قوانينهم !! بل ويفخر به في المحافل الدولية، وهو يأخذ صورة في مَجمعٍ لنساء رُؤساء الدول ""العُظمى"" ... !!
ويُدندن أرباب هذا الانخلاع الكليّ من الفطرة بأن الإسلام دين الرجعيّة والتخلّف، ويردّد خلفَهُم ببغاواتٌ من بني جلدتنا منبهرين بحضارة تجعل من الأسرة مَسْخاً بجنس واحد ... !!
هذا عالمنا في نُسَخِهِ المتجدّدة، ليصبح أمام هَوْلِها وقذارتها، الحديثُ عن زنا واختلاط أنساب، نافلة... ! وهو الذي تترنّح الأرض من لأوائِه وثِقَله... !!
وهذه المعارج... وهذا العُروج الإنسانيّ ليواجِه ابتلاءات الدنيا وتقلّباتها...
هذه درجة أخرى تُضاف إلى صلة بالله لا تنقطع، يعزّزها الفعل، وصلة بالناس تجسّد المساواة والتراحم، ويقين بلقاء الله لا يتزعزع .. إنه حفظ للشرف الإنسانيّ، وللوجود الإنسانيّ حتى لا يصبح والوجود الحيوانيّ سواء ...
غريزة مهذّبة، منضبطة بضوابط حافظة، فلا تَرَهْبُن، ولا إنكار لمَيْل الجنس من البشر إلى الجنس الآخر في امتداد للترابط الآدميّ الحَوّائيّ، لنَعِيَ أنه الاتصال البشريّ على الأرض، والامتداد للأسرة الطبيعيّة التي جَبَل الله الناس عليها مُذْ بدأ الخلق... وليس هو الإطلاق العنانيّ للغريزة، لتصبح الأرض غابة بذوات اثنَيْن لا بذوات أربع ... !
ولنتأمّل صُعُدا مدى الحرص على الحفاظ على المجتمع، من خلال صَون الفرد والحفاظ على إنسانيّته بضبط الغريزة مقدِّمةً لضبط الهلع في النفس وكبح جِماحِه ...
"
فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ"
وهذه وحدها إعجاز تعبيريّ ليس إلا للقرآن... وهي تكفي للتّدليل على الإبداع في مضمار الفساد والتفسّخ الأخلاقي ! فالعلاقات خارج إطار الزواج أصبحت بموضات وصيحات ... عياذا بالله.. !
وارتقاء جديد، وعُلِّيَّةٌ جديدة: "
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)"
فإذا الأمانات المادية بأنواعها هي أول ما يتبادر إلى الذهن، بينما تُغفَل أُولى الأمانات وأَوْلاها بالأداء... !
**فأَوْلاها استخلافٌ في الأرض هو دورُ الإنسان المُلازِم لكَيانِه، بإحقاق لكلمة الله عليها وإبطال لغير كلمته... وكلٌّ موكّلٌ به، وليس حِكراً على قائد يكون سببا من أسباب نصر الله لعباده المؤمنين، أو على جنديّ يقاتل في سبيل الله، بل هو الاستخلاف فيها بأن نمشي في مناكِبها برؤوس مرفوعة، معتزّة بالإسلام، تحيا به نبضا وروحا، ولا يغرّها مَشيُ تَيْهٍ بغيره، فهي القائدة المعلّمة لا المَقودة المقلِّدة : "
إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا"-الأحزاب:72-
**وأَوْلى الأمانات بالأداء نفسٌ بين الجَنبَيْن ترتاح وتطمئنّ وترتقي بنهج خالقها، فإما إيمان فامتثال وائتمار، وإمّا كفرٌ فانتكاس وارتكاس ...
**وَأَوْلى الأمانات بالأداء نفسٌ تخرج من نفس، فهي وليّها، وهي راعيها، وهي المسؤول عنها يوم اللقاء، أحسنت تنشئتها أم أساءت، علّمتها منهج العُروج أم تركتها فالهلع كما هو فيها... خِلقةٌ وساكنٌ لا يبارح... !
ثم هي ذي العهود مقرونة بالأمانات: " وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ" فأوّلها عهد العبد مع ربّه أن يؤمن به ويكون له العبد المطيع، ومن ثمَّ عهود منبثقة تستوجب الوفاء والإيفاء، وكلّها الائتمار بأمر الخالق المربّي سبحانه، والانتهاء عن نهيه ... فهو الذي لا يخون ولا يخدع الناس، وقد أوفى مع ربّه ...
ولنتأمّــــــــــــــــــــــــــــل...فكُلُّها الصلة والاتصال والامتداد ... ! كلّها تشترك في كونها صلة واتصال... !
لكأنّي بها الدّرجات الموصولة المُصعِدة، فلا انفصال بين واحدتها وأخرى، وكلّ واحدة منها بذاتها وصلٌ واتصال... ومع العهود والأمانات هو اتصّال الأرض بالعهد الأوّل للخلق، العبوديّة للربّ الخالق منذ عهد الذرّ فطرةً مركوزةً في الإنسان، يدعو أولها آخرَها أنْ أوفِ ووفِّ ...فهو العهد الأول كما كان للخلقِ أوّلُ ... !!
ولنرتقِ... ولنصعد... ولنعرُج .......
"
وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) "
الركن الأول من إسلام المسلم وإيمان المؤمن أن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله... شهادةٌ تحتاج أن يكون بها قائما، فلا يقعد، ولا يتنازل، ولا يُداهِن، ولا يطأطئ بها رأسا لمَن لا إله لهُم يشهدون بوحدانيته، ولمَن إلهُهُم الهَوَى في الأرض فهُم يَقْلِبون به الفطرة والحق، نافِثين في الأرواع أنّ الظُّلمَةَ نور كما تعوّدوا النّفث بسحر البرمجات اللغوية العصبية وألاعيب الآلة الإعلامية ... !!
إنّ هذه الدّرجة من مِعراج النفس لسميكة... !وأيّ سماكة ...! إنها القيام بالدين في النفس على الأرض، إنها الثبات عليه... !
ويالِأنوار هذا المِعراج النفسيّ...! ويالأنوار هذا العُروج !! ويالِسورة المعارِج ... !!
"
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ "
سبحانك ربي ...! أوَّلُها المداومة عليها، وآخرها المحافظة عليها ... !
ولكأنّ الصلاة وهي الصلة بالله، وهي القُرب منه، وهي بذرة الارتقاء، تترعرع وتنمو وتكبر، ليس على أنها تولية الوُجوه شَطْر القِبلة، والحركات والركعات التي تنتهي بإلقاء السلام يُمنة ويُسرة... !
لا... لا... !
إنما ذلك الفهم القاصر المخلخَل الذي كُرِّس في أذهاننا عن الصلاة... !
ولكأنّي بـ : "الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دائِمُون" تعني تلك الصلة التي لا تنقطع أصلا، فالعبد يستشعر أنه بين يدَي ربّه في كل حين، يقوم بين يدَيه وقتَ الصلاة يقرّ بالعبودية، ويستعينه ويستهديه للقابل من حركة له على الأرض، ويستغفره على ما مضى بين صلاته الآنِفة وصلاته التي هو فيها ... يأخذ من قيامه بين يَديه مصلّيا، الطاقة والقوة والزاد والمَدَد، لحركة على الأرض لا تنقطع فيها صلتُه بربّه ...
ليست حياة منفصلة منقطعة، تدوم دقائق من الزّمن، وما تلبث أن تنتهي بالتسليم... ! بل هي حياة ممتدة، تستمدّ حياتَها من الحركات الأخرى، من حركات الحياة...فحقٌّ معلوم للسائل والمحروم، مُؤدّى في حركة اتصالٍ بالمُجتمع، وتراحم، وإحساس بالآخر، في حركة الإنسان مع أخيه الإنسان لا مع نفسه وجُدرانها وحسب ... هي اتصال، وهي معاملات، وهي بحثٌ عن نفس تُخْفي ألَمَهَا وحاجتها، لتستشعر إحساس الآخر بها وهي المعثور عليها، وأنّها في المجتمع الحيّ بالله، الموصول بالله...لا تُترَك ... !
هي ذي بذرة القُرب والاتصال بالخالق، تستمدّ حياتها وسُقياها من امتداد ليس يُحدّ ببصر ولا بمسافات، بل بالماورائيات، فهي تصِل دنياها بأُخْراها، تعمل في الدنيا بيقين فنائها، لتحصد عملها في الآخرة الباقية، وكأن الدنيا في نفس المؤمن يدٌ تُمدّ للآخرة تُمسِك بها لئلا يقع صاحبُها بل ليرتفع ... ! بل ليرتفع... !
لتعرج روحُه في ذلك اليوم ... لا بمِعراج بل بمعارج ... !
معارج القُرب من الملِك الديّان سبحانه ... رُتب ودرجات وعلاليّ ... !
فهل تذكرتَ معي بدايات السورة ؟ ! : "
تعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ " ...
لقد عاشت تلك الروح -وهي النفخة من الخالق- تعرج وتعرج ... لم تَبْقَ على هلعٍ خُلِقت عليه، لم تُبعَث على ما خُلقت عليه من هلع .... بل بُعثَت وهي العارجة التي أتمّت عُروجها بنَوَالها خير الآخرة ونعيمه... !
لقد كانت في الدنيا موصولة بذلك اليوم العظيم ... اشرأبّت إلى الآخرة وتشوّفت إليها وإلى درجاتِها العُليا ... !
أفرَأيْنا كيف هي بذرة الصلة بالله ؟ كيف هي الصلاة وهي تنمو وتُزهِر ؟!
أفرأينا كيف لصاحبها هي الناهية عن الفحشاء والمنكر، إنها وهي تستمدّ حياتَها، وتنمو من حركة في الحياة تحقّق الوصل أبدا ...! بل تزيد وتزيد في القُرب ... !
لقد كانت الدرجة الأولى من مِعراج الروح "المداومة على الصلاة"... فهي المداومة بالإنماء والتعهّد والرعاية والسُّقيا ... فأصحابها أصحاب تشوّف للآخرة، أصحاب خوف وإشفاق من عذاب الله الواقع الذي ليس له من دافع، أصحاب إشفاق يعلو بالنفس، لترنو للعمل يعضّد العمل، يرفع العمَل...
وبذرة الصلة بالله تُرعَى وتُسقى، فصاحبها يصل النّسل الإنسانيّ بأصله الإنسانيّ، وهو يهذّب الغريزة فيه ويضبطها، فلا يجمح، ولا ينساب حيوانا لا يفرّق بين حلال وحرام ... بل هي الأسرة، هي الأخرى بذرة تنمو وتكبر مُجتمعا طاهرا ساميا لا خلط فيه ولا فساد ... لا غابة تُصنع من ذوات الاثنَيْن، بل هي لذوات الأربع ... !
لقد زاد القُرب ... لقد نما... ! لقد أينعت ثِمارُه... !
لقد ارتفعت النفس وسمت وعلتْ... لقد عرجتْ الروح، ولقد حييت وارتاحت...لقد سُقِيت وارتوت ... وكيف لا وهي المعارج ؟!!
والأمانة، وتقدير ثقلها، وأولاها تحقيق الاستخلاف في الأرض، فصدقٌ وحفاظ وأداء... وبالعهد وفاء وإيفاء، وأوّله العهد بالعبودية لجلال الربوبية والألوهية الواحدة ...فما كان مع الربّ موصولا لن يُقطع بالخيانة مع العبد ... !
فكيف هي الصلاة التي بُدئ بالحضّ على المُداومة عليها ... ولم يقتصر الأمر على المُداومة... بل نُصب المِعراج ... وتبيّن الدَّرَج ... واعتلت الدرجة منه تؤدّي إليها الدَّرَجة ... !
إنها الصلاة المُحافَظ عليها ... إنها الصّلة المُحافَظ عليها ... إنها التي زرعَتْ الطمأنينة والسكينة في النفس، فأذهبَت ريح الجُموح والاندفاع ... ريح """
الهلـــــــــــع"""
أيّ هلع ؟؟ وما الهلع.... ؟؟
إنه الجزع عند مسّ الشرّ والمنع عند مسّ الخير ... لقد ترقّت تلك النفس المخلوقة على الهلع ... فعاشت تستطيع أن تصبر عند الابتلاء بشرّ فلا تجزع، فزَعُها إلى الله، إلى صِلَتها به، إلى صَلاتِها... تبثّ الهمّ والحزن والشكوى: "
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ "-البقرة:153-بل تستطيع وهي تترقّى أن تبلغ مبلغ: "
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا " ..كما عرفنا الدرجة الواحدة وهي ذات ترقّيات ...
نفسٌ تشكر عند الابتلاء بخير فلا تمنعه ... بل تعطي وتجود، وترحم، وليس دَيْدَنُها ودأبها أن تجمع وتجمع وتوعي، بل الحقّ المعلوم معلوم تُعطيه برحابة صدر، بل وتبحث وتسعى لتعطي ... فلا تستكبر في الأرض بمادة، بل هي الشاكرة أبدا... !
وهكذا .... كان الحفاظ على تلك الصلة، الحفاظ على الصلاة، على القُرب ... على الدرجات العاليات ... على التشوّف لمَعارج الآخرة ... !
لقد كانت الصلاة البداية ... وهي ذي المُنتهى ...
ليست نهاية المُرتقى، بل إنّ المِعراج الروحيّ الذي عرفْنا هو في ذلك اليوم العظيم معارج... معارج قُرب تستحقّها النفس فتُجزاها، وهي في الدنيا قد عرفت المرتقى، فارتقت، فلم تعد على هلعها ...بل لم تُلاقِ ربّها وهي على هلعها... !
وتأمّل معي بعد كل الذي مررنا به ...
هذا مقام، أشير فيه إلى ورود لفظ "دائمون" في قوله تعالى :"الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ" لا "مداومون" ...وإنك عادة تصف الواحد من الناس يكرّر عملا، ويحافظ عليه بقولك : "المداوم عليه" لا الدائم عليه، ولكأنّي بـــ "دائمون" جاءت توحي في زيّ اللفظ بمعنى المداومة على الصلة بالله في كل حين، ليس في وقت الصلاة وحده، بل في كل وقت من اليوم، في كل حركة من حركاته، بما يجمع تلك الترقّيات التي تعطي معنى الصلة للصلاة ...تعطي معنى ديمومة الاتصال ...