عشنا في رحاب سورَتَي المُلْك والقلم حياةً ... هي الحياة...
لامسْنا أحوالنا وتقلّباتنا بين ثنايا القرآن... عرفناه يبصّرنا بالحق، ويهدينا الطريق المستقيم، ويعرّفُنا العقبات والمُعيقات، ويعلّمنا سُبُل تجاوزها، ويحذّرنا المُهْلِكات الصامتة المغلّفَة في ورق الزّينة، وفي زيّ الخير والنّعمة... !
يبلّغنا أعماق الحقيقة لئلا نغترّ بمظهر... يَسْبُرُ بنا ما وراء المظاهر...يعرّفنا ألطاف الأقدار مع طبْعَ العَجَلة فينا...
يبيّن لنا أنّ الحكمة حسناء قابعةٌ خلف قضبان العادة والمظهر والسطح، كلّها تأسِرُها وتُبعِدُها عن الإنسان، يعلّم المؤمن كيف تمتدّ يدُه إليها لينحّيها عنها فتنكشف له، ليفوز بحَسْنَائِه ... !
كانت آيات سورة "
الملك" عن المَلِكِ الذي نحن عبيده، والذي لا يملِكُ على الحقيقة غيرُه، وكلّ الملوك وما يملكون قبضةُ يمينه... المَلِكُ الرّحمان الذي تسبق رحمتُه عذابَه...وارقُبْ في السورة إن شئتَ ترامي "
الرّحمان" في أطرافها المَلَكيّة... !
عرّفتْنا كيف يغترّ الإنسان المُكرَّم من ربّه، المسخّر له الكون فيتمرّد حَدَّ التألّه، وأمْنِ مَكرِ الملِكِ سبحانه الذي هو على كل شيء قدير... !
وكيف أُمِر أن يمشي في مناكب الأرض مَشْيَ العبد الذي يوقِن أنه من ربّه وأنّ النّشور إليه...فتستشعر في حناياها الحُريّة وأنت لا ترى نفسك عبدا لسواه، وكلّ ملك وما يملك عبدٌ له ومُلْكُ يمينه ... !
فمشينا في مناكب السورة، ومن رزقه ومَنّه تدبّرنا فقُلْنا... قُلْنا من وحي عظمة الآيات، وتسلسلها، وتساوُقها ...
ودعوتُك ونفسي أن نقرأ القرآن هذه القراءة الصحيحة، وأن نولّي عن قراءات لنا هي من صنع السطح، ومن صنع الأصوات والمدود والقلقلات وحدَها، لا من صنع الأعماق والحقائق، والعِبر والتربية والنور الذي يهدينا في عتمة الدّرب ...
قراءة لا تجعل القرآن قطعا مفرّقة، بل تبيّن تلاحُمَه وتعاضُدَه، واجتماع جمالاته في لوحات ربانيّة بديعة، خطوطها النور والحكمة والحقّ الساطع والحركة والحياة في الحروف روحا هي لحياتك الحياة... !
مشينا مستهدين بنور الآيات لاستخراج كنوزها... فكنّا كلما وقعنا على كنز جمُلت حياتنا، وعمرت أيامنا، وتفتّحت أزاهير قلوبنا... وسألنا الله ألا نكون ممن يقولون ما لا يفعلون ... أن يكون منا العمل بما عرفنا لا القول وحده ... !
عرفنا من سورة القلم العظيمة كيف أنّ الأمرَ في الأرض أمرُ المَلِك سبحانه، وأنّ الحُكم حكمه، وكيف أنه من دستور كتابِه الذي أنزل لعباده تقوم للأرض قائمة، وتكون سالمة... دستور الأخلاق الذي يعلو ليحقّق إنسانية الإنسان، وأنّ الحقّ الذي جاء فيه لا يقبل المُداهنة ولا التنازل، تماما كما لا يستقيم للداعي إليه عملٌ إذا يئس مِن مَدْعوّيه، بل الصبر هو دعامتُه وهو المثبّت، وما التنازل واليأس إلا طرفان متطرّفان، هما أنصاف حلول تُزلِق صاحبَها ليَجد نفسَه على طريق الباطل... !
وكلّها الإضاءات على طريق الابتلاء قانونِ هذه الحياة الدنيا الآيلة إلى ذهاب وزوال، ليأتي موعدُ الحساب والجزاء ... !
وهكذا في رحاب القرآن، وفي رحلة التدبّر وتطلّب الفَهم للعَيش من سورة إلى سورة، نُساق سَوْقا من مكان إلى مكان... من زمان إلى زمان، وكلّ النقلات والتنقلات ملائمة لكل أزمنة الإنسان، لكلّ أحواله، لكلّ أطواره ... تُضاءُ له شُموع في العتمة، فإذا ما اتّبع النورَ اهتدى ووجَدَ مزيد هُدى لإكمال المسير ...
والتذكرة أبدا بأنّها دار الابتلاء، وأنّ عُمرَها إلى انتهاء، وأنّ السعادة الحقّة، والكمال المنشود، والراحة التامّة لا تكون إلا في دار البقاء، حيث يرنو المؤمن إلى نعيمها المُقيم وراحتها السرمديّة... حيث لا تسوية بين مسلم ومجرم ...! وأنّ للمؤمن جنّات النعيم:" إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ"
ومن نهايات "القلم" حيث الإشارة : "
فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ(44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(45)" نحن مع موعد مع سورة جديدة ... مع "
الحاقة"... مع سورة تحمل اسما من أسماء يوم القيامة . يوم الإيذان بانتهاء الدنيا، وبحلول أوان الجزاء ... فلنتأمّل السَّوقَ و الإشارة والانتقال والترابط ... !
"
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ(3)"
إنها الآيات الثلاث الأولى من السورة ... وإنّ الكلمة ذاتَها في كلّ منها : "
الْحَاقَّةُ " ...
فأما الآية الأولى فهي الكلمة وحدها، وحدها آية ...
"
الحاقّة" من "
الحقّ"، من حَقَّ الشيء وثبتَ وقوعُه، فهي التي فيها يتحقّق الوعد والوعيد، والتي فيها لن يجعل سبحانه المسلمين كالمجرمين، فيها أعدّ للمتقين جنات النعيم...
سبحانه يستدرج المكذّبين من حيث لا يعلمون حتى يجدوا أنفسهم في قلب يومها الذي لا رجعة بعده... لا عودة... لا فرصة للعمل ... ! الفرصة التي عرفنا في "
القلم" حُظوة أصحاب الجنّة بها رغم الصَّرِيم، وحُظوة كلّ إنسان ما يزال في الدنيا أن يعود ويغتنم...فرُبّ مصيبة مُرجِعة ... !
إنه اليوم الحقّ ... إنه الآتي حقّا حقّا ...! صدقا صدقا ...
وفي تأمّل منّا دائم لتناغم السُّوَر وتسلسلها، في أواخر سورة القلم، من بعد ذكر حال من أحوال المكذبين يوم القيامة : "
يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ(42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ(43)"
يبيّن الله لنبيّه أنّ أمرَهم إليه وحده في قوله: "
فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)"
أمر من يكذّب بحديث الآخرة، بحديث الساعة، بحديث الحساب والعقاب والجزاء، ليُعقَب مباشرة ببدايات هذه السورة... أنّما ذلك تكذيب بالحاقّة، تكذيب بالحق الكائن... المتحقق لا محالة.
"
الْحَاقَّةُ " ...هكذا بشكلها، بطريقة قراءتها، وهي التي تحمل مدّا طويلا، مُثقّلا، هو في أحكام التجويد : "
المدّ اللازم الكلميّ المثقّل" ...
إي وربّي... ! اللازم لزوم الحاقة ولزوم وقوعها...
"
الكلميّ المثقّل"... ثقيلة هي الكلمة، ثقيلٌ معناها، وأيّ ثقل ...؟! ثقيلة حقيقتها، وأيّ ثقل ؟! حتى أنّك لتجِد الآية الموالية تسأل كما أنت الآن تسأل : "مَا الْحَاقَّةُ ؟"... كلٌّ مِنّا من قبل أن يعرف عنها لا بدّ هو سائل: وما الحاقّة ؟!
بل حتى من عرف عنها، سيسأل مستفهما استفهام مَن لا يقوى على وصفٍ لهولها، ولثقلها : "
ما الحاقّة "... ؟!
اقرأها ... اقرأها وأنت تمدّ وتثقّل حرف القاف، وكأنّك بذلك تؤكّد على الحقّ فيها... !
اقرأ الآية الأولى، ثم ثنِّ فاقرأ التالية، وأنتَ بطريقة القراءة وحدَها تقدّم لعظمتها ... !
إنه لم ينتهِ أمر حروفها بعدُ ...! فأنت مع المرة الثالثة، في إعظام، وتهويل:
"
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ " ... ما أدراك يا محمد ما الحاقّة ...؟ !
لعلّك تمضي بعدها لترفع شيئا من ستار الدنيا المُسدَل عليها، فتطّلع على شيء من معناها، شيء من أهوالها، وإن كانت الكلمات قاصرة عن تصويرها... إلا أنها كلمات القرآن ... فلنطلّ ... فلنربط على قلوبنا، ولنحزِم، ولننظر... ولنتتبّع :
"
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)"
كما جاءت الإشارة إلى هذا التكذيب في أواخر "
القلم" : "
فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ "... يأتي هنا تفصيل في شأن هذا التكذيب ... فـ : "
الحَاقّة" و "
كذّبت" ...
تكذيب بالحق... كذّبت كلتا القبليتَين بالحقّ الكائن لَمّا دُعيتا إليه من رُسُل الله... قبيلتان عربيّتان من أصل تلك الأرض، الأرض التي نزل فيها القرآن، وبُعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم، فكذّبه أهلُها وعذّبوه، ووَصَموه بالجُنون، وبأنه الساحر، وبأنه الشاعر...
هي ذاتُها الأرض التي سبق وأن حملت مكذّبين برسل الله تعالى... "
ثمود" الذين سكنوا شمالي الحجاز بين مكة والشام، و"
عاد" الذين سكنوا الأحقاف بين اليمن وحضرَمَوت...
قريبٌ جدّا منكم أيها العرب، يا قوم محمد، قريبٌ منكم جدا ثمود وعاد...!
ها هُنا كانوا هُم أيضا...حيث أنتم اليوم ...في ثمود بُعِث صالح، وفي عاد بُعِث هود عليهما صلوات الله وسلامه.
"
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) "
كلّ منهما كذّبت بالقارعة... و"
القارعة" اسم آخر ليوم القيامة الذي أنذرَهم رسلهم أهوالَه وما ينتظر المكذّبين فيه ... وسبحانه هذه المرة جاء باسم آخر مع الحاقة، اسم آخر للحاقة : "القارعة"
فدعونا نجمع هذه الكلمات القارعة، الشديدة المَهولة في هذه السّورة، وهي ملأى بها امتلاءَها بأهوال هذا اليوم العظيم المُزَلزِل.... ولنا مع "القارعة" فيما يلحق وقفة ...
كذّبوا بما جاءهم به رسلهم من أنباء الساعة ولقاء الله، والجزاء والعقاب ... فماذا كان ؟
"
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)"
"
طَّاغِيَةِ "و "
عَاتِيَةٍ " ... كلمتان قارِعتان جديدتان في جوّ هذه السورة الرّهيبة ... في خضمّ هذه الحقيقة المروّعة الثقيلة الآتية لا محالة، المتحققة لا ريب..."الحاقّة" ...
أهلِكوا لما كذّبوا... أتاهم عذاب الله سبقا في الدنيا قبل الآخرة، كذّبوا بعذابه الحقّ في الآخرة، فأذاقهم عذابا في الدنيا، قبل أن يَلْحقهم عذابٌ أكبر وأخزى في الآخرة... !
ثمود كذّبوا برسولهم وبالناقة المبصرة، وعقروها وقد توعّدهم الله أن يأخذهم بعذاب إن هم مسّوها بسوء: "
وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ" –هود:64-
و"
لَا تَمَسُّوهَا " لمنع أن يُلحقوا بها أقلّ ضرر أو سوء...
فجاوزوا الحدّ وطغوا، وألحقوا بها أكبر الضرر إذ عقروها، استهزاء بأمر الله وتجرُّؤاً عليه : "
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) "
فكان وعيد الله لهم حقّا متحقّقا ذاقوا وبالَ استسهالَه وتكذيبه: "
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)"-الأعراف-
الرّجفة التي أخذتهم من هَوْل الصّيحة العظيمة التي أتت عليهم...
كانوا ينحتون من الجبال بيوتا حتى سُمُّوا أصحاب الحِجر، وقد اتّخذوا الجبال حِجرا لهم وحصنا حصينا دون القوارع والنوازل، ظنّوا أنه ما من متحصّن تحصّنهم... اغترّوا ...أمِنوا مَكْر الله، وقد طغوا، فاستغنوا، فكفروا... فإذا بصيحة تهلكهم... صيحة كانت أقوى من الجبال ... !!
فذاك إهلاكهم بـ "
الطَّاغِيَة" من جنس طغيانهم ...
"
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)"
وفي شأن قوم عاد تفصيل أكبر، تتخلّله المخاطبة بالرؤية : " فَتَرَى " "فَهَلْ تَرَى" ... لتجدَك في قلب الحَدَث، وكأنك الحاضر بين يَدَي عذابهم العظيم، تراهم بعينك ...تُعايِن الأهوال ... !
وقد عُرِفوا بالقوّة والشدّة، حتى زهوا بشدّتهم، واعتدّوا بقوّتهم، واغترّوا، فما رأوا لهم من نِدّ ولا قبيل : "
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ"-فصّلت:15-
كما كانوا جبابرة معتدين : "
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)وتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ(129)وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ(130)" -الشعراء-
وهكذا كان العذاب النازل بهم من جنس ما كان منهم من استكبار وعتوّ :
"
فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ "
سبحان الله ! سبحان العظيم القويّ القدير ... !
تحضرني آيات من سورة القلم حيث بيان استدراج الله لعباده وهم في غفلة : "
سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ" ... وأذكر كيف مضى قوم عاد في عتوّهم، وسدروا في غفلتهم حتى قالوا في عارِض العذاب الذي قارب أوديتهم : "
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا "
من حيث حسبوا أنّهم المنعَّمون أبدا، وهم الذين لم يعرفوا لنعمة الله قدرَها، وأصرّوا على تكذيبهم لرسول الله، جاءهم العذاب وهم بعدُ يحسبونه النّعمة .. من حيث لا يعلمون... !
يَهْلَكُ هؤلاء العُتاة المستكبرون بريح عاتية... شديدة ... !
لكأنّي بهم وهم يصارعون تلك الريح...! بُناة المصانع، ومُشيّدو المعالم الشاهقة، الذين كانوا يحملون بأيديهم، وعلى كواهلِهِم ثقيل الموادّ والحجارة، وما كانت تُعجِزُهم... !
هي ذي اليوم ريح ...! هواء يتحرّك بقوة، فما يملكون به بطشا، كعادتهم بالبطش والسّطو ...ريح صرصر، شديدة البرودة... !
الأقوياء الأشدّاء، العُتاة تغلبهم الريح... ! الريح المسخّرة عليهم من ربّها ...
وهم أولاء... وكأني بهم يصارعونها بكل قوّتهم، وهم في ذُهول وحيرة ...في تقلّب، وفي شدّة وهول...! لا يفقهون من الأمر شيئا، تصطكّ أسنانهم، وترتجف أوصالهم من بَرْدها، وتتقاذفهم من شدّتها ذات اليمين وذات الشمال ...أنحنُ نحنُ ؟!
أين ذهب اعتدادهم بقوّتهم : "
وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً "... !
إنّ ريحا سخّرها الله عليكم لأشدّ منكم قوة ... !
إنهم ليُصارعونها سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوما...هكذا يذوقون العذاب أياما متعاقبة، لا ينقطع عنهم، الليل كالنهار، ليل النائمين المطمئنّين ينقلب عليهم عذابا وفواجع وأخذا من الله شديدا ... ! فمن يُفجَع منهم في قريب لا يلبث إلا قليلا ليُفجَع في غيره وغيره، ولا يلبث إلا قليلا ليلحق بهم... !
ليال وأيام حسوم، تتوالى عليهم لتحسم أمرَهم الواحد تلو الآخر، والجماعة تلو الجماعة، وهم ينظرون إلى أنفسهم تذهب قطعة فقطعة، وهم يُحاط بهم، فلا يملكون من أمر الله فِرارا... !
أيّ عذاب ... أيّ عذاب هو عذاب الله لعباده المستكبرين في الأرض ؟!!
أيّ قوّة هي قوّتك أيها الإنسان الذي تُسلَط عليك ريح بأمر الله فلا تملك لها دفعا ؟! ولا منها فِكاكا ؟ !
بل إنها التي يزيد الله سبحانه فيصف فعلَها فيهم: "
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ(8)"
"صرعى" ... إنها الكلمة المحدّدة بذاتها التي جاءت لتشي بأنها كانت المصارعة، مصارعة أولئك الجبابرة العُتاة للريح أياما وليالي... !
تعوّدوا البطش بالناس وإهلاكهم والتجبّر عليهم، ولم يَدْرُوا أنّ ريحا لا تقوم لها أرجل على الأرض، ولا تملك يدا باطشة، ولا سلاحا بتّارا، ستفتِكُ بهم، وتذرهم في عذاب تتعاقب عليهم أيامه ولياليه... !
إنّهم صرعى ... كأنهم أعجاز نخل خاوية ... كأنهم جذوع نخل ...
لا رؤوس... بقيت أسافل أبدانهم دليلا عليهم ... !! قُطِعت رؤوسهم، فكانت "الحُسوم" بما تحمل من معنى القطع في الحُسام البتّار...
أولئك الذين رفعوا رؤوسهم علوّا في الأرض واستكبارا على خلق الله، وتباهيا بقوّتهم ...إنهم اليوم بلا رؤوس ... أعجاز نخل...!! جذوع نخل، بل أكثر ... إنها خاوية... مفرغة، صفِرَتْ فيها الريح حتى أفرغتها مما فيها ... ! حتى بلغت قعرَها: "
تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (20)" -القمر-
أليس سبحانه قد أشار إلى أنها الرؤية بقوله : "
فتَرَى الْقَوْمَ..."
بلى يا رب... إنها لرؤية ...! وأي رؤية أوضح وأبيَن مما هو ماثل لأخيِلتنا مثول الشيء للعين المبصِرة بهذا التصوير الدقيق البديع ... حتى إنّ الأوصال لترتعد فَرَقاً من هذا الهول الذي أحاط بهم... ! والألسنة تتلوّى، لا تجد أدقّ من وصف القرآن لمآلهم ... !
"
فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ" ...
لا يا رب... لا نرى من باقية ... وأي باقية في هذه الأشلاء ؟!
الرؤوس وقد تطايرت حتى كأن لا وجود لها في مصرع الصرعى، لم تُذكَر ... وكأنك لا تشهد إلا أجسادا بلا رؤوس، أجسادا مفرغة من أحشائها، منقعرة ... أعجاز بالغٌ تجويفُها القعرَ منها... !
وعلى هذا تعود بي هذه المصارع، وهذه القوارع إلى وصفه سبحانه تكذيبهم بالآخرة بـ : "القَارِعَة" ... لكأنّ هذا الاسم تحديدا بما فيه من قرع للأسماع وللقلوب، جاء بمكانه المحدّد لما قرعتْ به هذه الأهوال والعذابات أنفُسَ القوم ... كذّبوا بالحاقّة، بالقارعة التي تقرع القلوب والأسماع، فحلّ بهم ما قَرَعَ قلوبهم وأسماعهم قبل حلول يوم القارعة ... !
ويْكأنّنا عايشْنا أطرافا من يوم القيامة، ونحن نشهد هذا العذاب العظيم الذي ألمّ بمن استكبر في الأرض، وعتا عن أمر ربّه !
إنّه سبحانه يُرينا طرفا من عذاب أصغر، شهِده مَن شهِده في الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر، لعذاب الحاقّة أكبر... !
هكذا لنعيش طرفا من أهوالٍ هي أكبر وأعظم، في جوّ سورة رهيبة مهيبة عظيمة ... كلّ جوانبها تنضح بالقوّة والشدّة، وعتوّ أمر الله فوق كل عاتٍ، وطغيان أمره فوق كلّ طاغٍ ...تقرع القلوب، وتزلزل المشاعر ... !
ويستمرّ القرع، وتستمرّ النوازلُ ... ويذكّر المولى عزّ وجلّ بمَن كان على شاكلة قوم عاد وثمود في التكذيب والصُّدود، وكيف كان مآلُهم في آيتَين جامِعتَين شامِلتَيْن :
"
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ(09)فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً(10) "
فرعون الذي تكبّر هو الآخر وتجبّر في الأرض حتى قال لمَن حوله : "أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى" ، ومَن قبلَه من الأمم التي كذّبت برسل ربّها، والمؤتفِكات (من "ائتَفَكَ" بمعنى انقلب، ائتفك البلد بأهله: انقلب وصار أعلاه أسفله ) هم قوم لوط عليه السلام الذين انقلبت عليهم بأمر الله لمّا طغوا: "
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ"-هود:82-
كلّهم جاؤوا بالخاطئة... الخاطئة التي يفصّل الله فيها بقوله: "
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً " ..
كلٌّ منهم عصى رسولَ ربّه، فأخذهم الله أخذة بالغة في الشدّة والقوة... أخذة أتت عليهم وأهلكتهم، فلم تُبقِ لهم من باقية ...