وهكذا...
على مدار سورة القلم العظيمة عرفنا أن الأخلاق مقياس قيام الحق في الأرض، وأنّ قيامها بالمادة وحدها خُلْواً من الأخلاق ضربٌ من ضروب الوهم والخداع، الذي يتبيّن لمَن يدقّق النظر في حال الإنسانية اليوم وهي الجَوْعَى للعدل، الظّمأى للعيش الكريم، وفي مدى جَوْر الحكم على سلامتها بِعَدِّ ما عليها من عمران شاهق، وبنيان مَشيد وكلّ ما من شأنه تيسير حياة الإنسان من ابتكارات واختراعات، وبما صارت إليه أطراف هذا الكوكب من تقارب وتسامع بعضها إلى بعض عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، وبما نعرف من تطوير للسلاح ومظاهر قوّة في دول باتت تُعرف بالعظمى اقتصاديا وعلميا وعسكريّا، حتى بات جانبُها مُهاباً، وباتت تعيث في الأرض، لا تأبَهُ إلا لمآربها وحظوظها من كلّ قطعة عليها... !
لا تأبَه لإنسانيّة الإنسان ما دامت هي وحدها صاحبة الحقّ لا لشيء، إلا لأنها صاحبة القوّة والمال... !
نعم ... كُلُّهُ عرفناه من هذه السورة العظيمة ... ولستُ أهذي !! ولست أُقحِم فيها ما ليس منها...وأنا أسوق الدّول باقتصادها وعمرانها وحروبها ...
إنه القرآن ... إنه دستور الإنسان على الأرض...
أوَ ليست الشهادة الإلهية العظيمة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالخُلق العظيم، مُقسَما عليها بالقلم وبكل ما سطره البشر وما يسطرون من ثمرة عقولهم التي علِمت، واخترعت، وابتكرت، واكتشفت، وأعلتْ وشيّدت، وطوّرَتْ... وأنّ هذا البَشَرَ منه صِنفٌ جِلفٌ محبّ لأن يُسمَع ويُطاع، لأن يُذلّل البشر لنفسه المغرورة كما تُذلَّلُ الدابّة لسائسها... صنف منّاع للخير، أثيم، همُّهُ نفسُهُ ومآربها... جعل من ماله قوّة ذَلَّ له بها عَبَدةُ المادة، فصيّروه إلها يُطاع ولا يُلتَفَت لشيء من فساده وإفساده... !
أوَلَيس قد أُمِرَ صاحبُ الخُلُق العظيم -وهو الحقيق بالطاعة والاتّباع- أن يخرق القاعدة الفاسدة التي وضعها الناس، وأن يُصلح بقوانين ربّ الناس سبحانه، فيبيّن أنّ الإنسان أخلاق، وأنّ الفاسد المفسِد داءٌ إما أن يُنتَبَه لخطورته، ولوجوب الحدّ من زحفِه على سائر الجسم، ولبيان أنّه صاحب بضاعة فاسدة لا تصلح للاستهلاك، أو أن يُترَك فيُهلِك و يسحق ويمحق ...يَمحَق الإنسانية في الإنسان حتى تذهب عنه الغاية من وجوده، ومن أنّ عبوديّته ليست إلا لله وحده، لا للبشر المتألّهين الذين يتوهّمون أنّ الأرض وما عليها مملكتهم الخاصّة ... !
أوَلَيْسَ قد أمِرَ ألا يُداهن في الحق، وأنّ مُداهنة أهل الباطل إذهاب لريح دعوة الحق على الأرض ...؟!
أولم نعرف أنّ الابتلاء بالخير على الأرض... بالمادة... بتفتّح زهرة الدنيا على الناس، من شاكلة ابتلاء أصحاب الجنّة الذين رأوا في حقّ يُعطى للمساكين حماقة، وأنّ الفطنة تقتضي أن يُحرَمُوا هذا الحق ؟!
أليس هو الاغترار بالمادة ؟! أليس الشَّرَهَ الذي لا يشبَعُ صاحبُه، ولا يحسّ بالشبع وإن ملك ما ملك ؟! أليست هي العين التي ترى المادة، لا شيء غير المادة، فلا اعتبار لمسكين ولا لمستضعف ولا لمحتاج ... نفسي ومِن ورائي الطوفان ... !
ألم يكن "أوسطهم" مثالا للمداهنة التي تقضي بأنصاف الحلول، وبالوقوف في منتصف الطريق، وبأنّ المداهنة إلى المُداهنة هي القطرة إلى القطرة في أسْنِ ماء الحقّ وذهاب صفائه في النفس، حتى ينتهي إلى غَوْر وجفاف... !
ألم تعلّمنا "القلم" أنّ المعتدي الزّنيم يصطنع قوانين باطِله ويُبطِل قوانين الحق...؟! و "أساطير الأولين" كلمتُه المَقولة، يردّدها أمثاله عبر الأزمان بأشكال وأشكال، تصبّ كلّها في إبطال قانون الله، الربّ الخالق، وإمضاء قانون الهوى والباطل، وأنّ الحقّ مع الأقوى... مع الأغنى ... !
وسواءٌ في ذلك "المهين الأثيم" المتربّب المتألّه و "أوسطُهم" المُداهِن المتنازل، المتّبِع... كلٌّ منهما طرف في معادلة صناعة قوانين الهوى، قوانين العبثيّة، واللاغائية التي يُلبسونها مُسوح الحريّات الفردية، والتنويرات الفِكرية، والحقيقة النسبيّة، وأنّ أخلاق أو لا أخلاق سواء .... ! لا فرق... !!
يقرّ المولى سبحانه تهافُتَ هذه العبثيّة البشريّة، وهذا العجز البشريّ عن الإتيان بقانون للأرض ولقيامها، ولقيام الاستخلاف فيها، وبالهُراء في احتكام الإنسان للهوى ولقانون القوّة الماديّة الظالمة الغاشمة، فيعرض لنا حوارا عقليّا فيه التلطّف بالمخلوق المكرّم بالعقل عساه يعقل ! فيه الكرم الإلهيّ على عبده بالفرصة عساه يغتنم ... !
"ما لكم كيف تحكمون ؟!" ...لن يكون ما ترومون من حكم عبثيّ لا ينساق إليه إلا من غشّى عقلَه الهوى، فما عاد يرتضي بحكم الإله المالك في مُلكِه وخَلقِه...
ولقد مضيْنا حتى بلغْنا المُحاجّة في الشركاء، ومطالبتهم بأن يأتوا بهم يوم القيامة لينقذوهم إن كانوا صادقين في ادعائهم سلامة اتّباعهم يوم لا مفرّ من أمر الله ...
وها نحن مع مبلَغِنا من الآيات، نجدنا مع نهاية هذه الدنيا التي كفر مَن كفَر بالبعث بعدها، وأنكر مَن أنكر الموجِد لها أصلا بَلَه الباعث ! وساوى مَن ساوى فيها بين مسلم ومُجرم، بين أخلاق وفساد وإفساد، بين إنسانيّة وبهيميّة... بل بين عقل ولا عقل ... !
فليأتوا بشركائهم الذين أشركوهم مع الله الواحد يوم يُبعثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لربّ العالمين ... فليأتوا بهم، ولتكن لهم كلمة، ولتكن لهم نأمَة ... ! فلتكُن ...
"
يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)"
يوم يُكشف عن ساق، كناية عن الأهوال والشدّة والبَرَح في ذلك اليوم العظيم، اليوم الحقّ ...والأمر يومئذ للملِك، ملك يوم الدين ...فلا ملوك ولا أصحاب سلطان، ولا أصحاب مال، ولا أصحاب بنين ...
لن ينفعَهم مَن أطاعهم في الدنيا لجبروتهم ولشرّهم، ولمالهم... لن ينفَعَهم مَنْ ألّههم من دون الله ... لن تنفَعَهم دنيا رتعوا فيها وحسبوا أنهم مُلّاكُها وأصحاب الأمر والنّهي فيها .... ! لن تنفعهم دنيا تُرِكوا فيها ليرتعوا وقد وصفوا آيات الله وقانونَه، ودستور الأخلاق الذي أنزل بأساطير الأوّلين ... !
لن ينفعهم معبود اتخذوه من دون الله، وإن كانوا في الدنيا ممن أعلنوا أنهم لا يعبدون شيئا ... بينما كفاهم أنّ إلهَهُم هَواهُم ...! فنادوا بالتحرّر من ربقة الدين، إلى مرتع الهَوى ... حيث سرحوا ومرحوا فساووا بين حقّ وباطل، وبين أخلاق وانحطاط ...
هم أولاء.... !
هُم أولاء يُدعون إلى السجود ... أن اسجدوا...
وكأنه الأمر لهم ليروا من أنفسهم العجز ساعة ودّوا لو استطاعوا ... ليذوقوا أَلَمَ العجز عما غدتْ غاية أمانيهم القدرة عليه ... !!
لقد كانوا في الدنيا يعتدّون بالقوة وبالمال، وبالقدرة، كما اعتدّ بها أصحاب الجنّة، فأقبلوا على عزمهم وهم لا يُساورهم شكّ في قُدرتهم ... !
تيقّنوا من قدرتهم، ونسوا أنّهم عِباد الذي هو على كل شيء قدير ... حتى فاجأهم بقدرته وقد عمِلتْ قبل عملٍ منهم، بإرادته وقد أُنفِذت قبل إرادة منهم ... !
وكما أتى الطائف على الجنّة وهم نائمون ... كذلك يأتي الطائف على الدنيا وهم في غفلة سادرون ... !
لا يستطيعون ...... لا يستطيعون السجود ... ! وودّوا لو أنهم استطاعوا... حُرِموا السجود ساعة تمنّيهم له ... ! حُرِموا لأنهم حَرَموا أنفسهم منه ساعة وجوبه... !
أيّ مفارقة هي .... أيّ مفارقة ...! لم تعد من فرصة ... ! انتهـــــــــى... !
قُضِي الأمر، ولم يكن سبحانه ليبدّل القول ... انتهى الامتحان، واليوم لا عمل ... بل جزاء ... وحده الجزاء ... فما عاد ينفعكم تمنّيكم السجود... لم يعد ينفعكم تمنّيكم العمل ... !
حُرِم أصحاب الجنّة ساعة حسبوا أنّه الغُنم الأكبر، ساعة حَرَموا أصحاب الحقّ حقّهم .... وكذلك... هُم أولاء المكذّبون في هذا اليوم يُحرَمون وقد حَرَموا أنفسهم حقّ العبودية لله وحده ... ظلموا أنفسهم ... !
خاشعةً أبصارُهم، تغشاهم الذلّة ... !
فأين ما كانوا فيه من اعتداد بأنفسهم، وبمالهم، وبأتباعهم، وبأوامرهم في مُطِيعِيهِمْ ...إنّهم لم يُظلَمُوا، بل لقد دُعُوا إلى السجود في الدنيا إلا أنّهم هُم من ظلموا أنفسهم... !
إني لا أراه السجود الذي يلاصق فيه رأسُ الإنسان الأرضَ، بل أراه الخضوع لله، والاستسلام له ولأمره ...لقد دُعوا إلى التوحيد، وإلى الاستسلام لأمر الله الحاكم، وللطاعة والخضوع، ولكنّهم استكبروا، وأصرّوا على استكبارهم، وخلطوا حقا بباطل، وقانون الإله الخالق بقانون البشر، ولقد داهنوا، وتنازلوا، وارتضوا الدنيّة في الدين حتى يرضى عنهم أصحاب القوة والمال والسلطان ... !
ويستمرّ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن أمره سبحانه أن يسألهم عن الزعيم بالسويّة التي ادّعوا، مرورا بدعوى الشركاء، ثم بحالهم يوم القيامة ...
"
فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)"
فها هو ذا سبحانه، يبيّن لنبيّه أنّ أمرَهم إليه وحده، وأنّه وحده الذي سيفعل بهم ما هو لاحق بهم، " فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ " ...
من يكذّب بحديث القرآن، وبالحقّ الذي جاء فيه، وبالبعث والحساب، والهول العظيم ... بحديث الآخرة...أمرُهُم إليه وحده سبحانه، هو الذي يقضي فيهم... أمرُهُ فيهم نافذ : "
سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)"
هكذا رويدا رويدا، درجة إثر درجة، حبّة فحبّة ... خطوة فخطوة... سيأخذهم الله من حيث لا يعلمون...
سيجعلهم يَرْكنون إلى أنهم الأفضل، وأنهم الأعزّ، وأنهم أصحاب المال والبنين والنّعم ذات الألوان، إلى أنهم أرباب المال والأعمال والمادة... وإنّهم بجوّ النعيم ذاكَ سيُسحبون إلى حتفهم وهم على غفلتهم، سيزيدون سدرا في الغفلة ...!
سينامون مطمئنّين كحال أصحاب الجنّة، إذ طاف بما يملكون الطائف وهم نائمون مطمئنّون ... ومن حيث ظنوا أنهم على موعد مع الصبح القريب السعيد، أُخِذوا ... ! كذلك أصحاب كلّ غفلة عن الله، وعن لقائه، وعن أمره في الأرض، وعن دستور الحياة عليها ... سيذهبون في نومة الغفلة العميقة مطمئنّين، ومن حيث لا يعلمون سيُأخَذون ... !
بل سيُملي لهم، سيمُدُّهُم بالعمر المديد، حتى يستفحل في أوصالهم كلِّها الأملُ في الدنيا ثم الدنيا ثم الدنيا ... حتى يروها المبتدأ واللامُنتهى ... !
ذلك لأنّ كيد الله قويّ متين، شديد لا يفطن له النائمون الغافلون .... !!
وإنّ لي هنا لوقفة ... !
لننظر كيف كان أصحاب الجنّة أصحابَ حُظوة رغم ما بدا من إهلاكٍ لجنّتهم عن بِكرة أبيها، حتى انقلبت الجنّة الوارفة اللفّاء صريما أسودا ليس للحياة فيها من أثر... ولكنهم على ذلك هُم أصحاب حُظوة... وأيّ حُظوة ... !
ما أكبر خطأ من يرى أن الابتلاء بالمصيبة مَظنّةُ سوء وشرّ، بينما هي المصيبة والحياة الدنيا بعدُ قائمة... الإنسان فيها ما يزال في عِداد الأحياء، الفرصة ما تزال قائمة ... !
إنها بابٌ يُفتَح للرجوع... للأوبة ... إنها صفعة تُعيد العين الحَوْلاء إلى نِصابها لتستقيم الرؤية ... ولتستبين السبيلُ ... !
أما الإمداد والإمهال والإبقاء على النعمة أمدا طويلا، مع ما يُعرف في صاحبها من بُعد عن الجادّة، فتلك المصيبة، وتلك الطامّة، وذلك الشرّ المستخفي، ومن مثل هذا هو الخوف... كل الخوف ... إنه كيدُ الله المتين ... !
وما نحن نعايشه من زيادة في قوّة الظالم المعتدي، ومن مدّ لأصحاب التسيّب والتفسّخ الخُلُقيّ بالمال وبالمُداهنين، وبالوسائل المسهّلة لسُوسِهِم النّاخر، كلّه حقيقة أمر الله تعالى فيهم، أنْ يمدّ لهم في غيّهم حتى إذا كان أمرُه فيهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر ... !
وهؤلاء الملاحدة الجُدُد... ودَعَاوَاهُم التي يؤلّفون فيها الكتب ذوات العدد، أنّ هذا الكون لو كان من إله رحيم عليم قدير عدل، لما كان للشرّ وظلم الظالم واستضعاف المظلوم من أثر على الأرض...
وإنما هم يَخيطون تصوّراتهم الملفّقة على مقاس محدوديّة الفِكر البشريّ ومحدوديّة علمه، ولا يستمدّون تصوُّرَهُم للوجود من خالقه وموجِده، فجعلوا الدنيا دار القرار النهائي، التي ليس بعدها من دار، فلا ابتلاء ولا موعد للجزاء.. جعلوا من الدنيا البداية والمنتهى، وما بعد الموت اللاشيء والخواء ... !
وهكذا فلا هدف من الحياة، ولا غاية من الوجود، ولا معنى للأخلاق، ولا للتفريق بين ظالم ومظلوم، ومسلم وكافر، وصاحب مبدأ ومنطلق وصاحب فراغ وعَدميّة...! لا قيمة لأيّ قيمة...بل للهباء ... !
بينما الشرّ في حقيقته على الأرض ابتلاء، والمَدّ لأهل الظلم والجبروت، كيد الله المتين، وإرادته في خَلقِه الذي خَلَق ..."
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ "
وتستمرّ المحاجّة ... وتُطرَق كل الأبواب عليهم ... !
"
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (46) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)"
أم إنّك يا محمد تسألهم أجرا كبيرا، فهو مُثقلٌ كاهلهم حتى نفروا وكذّبوا وأعرضوا ... إنما أجرك هو عند ربك، وإنه المُقسَم عليه في بداية السورة : "
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)"
أم أنّ الغيب عندهم، مطّلعون عليه، فهم يكتبون منه -لا من غيره- ما هو من تسويتهم بين بَرّ وفاجر ومسلم ومجرم ؟!
ما ترك الله لهم من حجّة إلا وجاءهم بها... ما ترك من باب من أبواب حُسبانهم إلا وطرقه، ولو أنّ كل هذا كان بأيديهم، وكان بمَلْكِهم لكان ما قالوا به مستساغا، إلا أنّه لم يكن لهم شيء من هذا ... فبأيّ حجّة هم يتصدّرون ؟! لا حُجّة، لا معنى، لا عقل ....!! هي الأهواء، وهو الهُراء...
بعد كل هذا البيان لخطورة المُداهنة والمسايرة لأهل الباطل، ولخطورة أنصاف الحلول، وكيف أنها لا تُبلِغ دعوة الحق مبلغها، بل تُصيّر أصحاب الحقّ جماعة من المداهنين، المتّبعين الإمّعة الذين لا مبدأ لهم، ولا قِيَم يقومون على حراستها، وألا دستور ولا قانون ربانيّ يُحكَّم في الأرض، وتجعل الغَلَبة لأهل الباطل والظلم والجبروت لا لأنّهم أصحاب القيام بالعدل والخير والفضيلة، بل لأنهم أصحاب المال والأعمال والقوّة المُهابَة... لا يعود لميزان الأخلاق من قيمة، بل الميزان الأوحَد ميزان الأقوى وإن كان مصدر الشرّ كلّه ... لا يعود يُعدُّ شرُّهُ إلا الضرورة والحتميّة التي يقتضيها "البقاء للأقوى"... قانون غاب بامتياز ... !!
بعد كل هذا البيان ... وأنّ أصحاب الخلط والتسوية بين حق وباطل ليسوا أصحاب حجّة ولا عقل، ليسوا أصحاب دليل ولا بُرهان، ليسوا أصحاب عدل ولا ميزان ... يأتي أمر الله تعالى لنبيّه، وتوجيهُه له في لُجّ هذا النّفور والعتوّ منهم :
"
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)"
اصبرْ يا محمّد...
فإنّك تعلم أنّ الأمر الحقّ لله، وأنّ التدبير له...
ولقد عرفنا من السورة السابقة كيف أنه سبحانه الملِك الذي هو على كل شيء قدير، وجاءت بعدها سُورَتُنا هذه تبيّن كيف أنّ المَلِكَ متصرّف في ملكه بما يشاء، بحكمته وعلمه، وكيف أنّ قانونَه الأعلى هو القانون الذي أنزله للأرض لتَسْلَمَ، ولخَلقِه ليَسْلَمُوا ... وأنّ أهواءَهم مهما بدتْ مُحكّمة، وإن عضّدتْها المادة والسلطان الجائر، والمُهادِن المُطيع المنبطِح المُسايِر، فإنما هي الباطل الذي يجب أن يكون لأهل الحقّ قوة في دفعِه بإظهار الحق، وعدم الخجل بقلّة تابعيه، وأنّه لا مُداهنة فيه، مادام الإيمان بالربّ الملك الحَكَم القدير العدل الحكيم متمكّن من النفس ... !
إنّ هذا الحقّ لا يحتاج قوّة بالمقام الأول، بقدر ما يحتاج صبرا... "فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ"
ولا يكتفي سبحانه بأمره صلى الله عليه وسلم بالصبر، بل يزيد بيانا بالغ الأهميّة، حينما ندقّق، ونتملّاه ...إنه : "
وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)"
إنّني أرى هذا المقطع من السورة وقد جاء ليُتمّم الصورة، وليضعها بإطارها الصحيح، وليجعلها الواضحة التي لا غبش فيها.. لأنّ النفس الإنسانيّة دوما بين نازعَيْن، نازع الإفراط ونازع التفريط ...
فأما التفريط فقد عرفناه في المُداهن الذي يطيع المَهين المعتدي الأثيم لماله وبنيه، وينصاع لأوامر شرّه لأنّه يرى في ذلك مسايرة تقضي بها الحياة المجتمعية التي تحتكم لمنطق القوّة كيفما كان فعلُها على الأرض، فسواءٌ -وِفْقَ ذلك- الإحسان والإساءة... عرفنا التفريط في "أوسطهم" الذي قال كلاما أجوفا من الفعل، وهو يساير أهل الباطل ويمضي معهم إلى عزمهم لا يتأخر عنهم...
عرفناه في أنصاف الحلول التي تقطع الطريق على الحقّ فلا يبلُغ ولا يعلو، بينما ينتفش الباطل وينتفش...
وحتى تكتمل الصورة، وتنبعث أنوار الحِكمة انبعاثا تامّا صحيحا ها هي هذه الآيات الأخيرة تبيّن الموقف المقابل، المضادّ... إنه الإفراط ... !
صاحب الحوت، سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام، هَجَر قومه المكذّبين المعاندين مُغاضبا، ولم يكن غضبه إلا لله، وإلا لأنّهم قومٌ عاندوا وكابروا وأصروا على التكذيب بدعوة الداعي لتوحيد الله...
يئس من قومه، فذهب مغاضبا ... هرب عبر البحر، إلا أنّ مشيئة الله تعالى قضت أن يلتقمه الحوت، ويلبث في بطنه ما شاء الله له أن يلبث إلى يوم نجّاه منه...
هذا هو الموقف المضادّ المقابل... أنّ الغضب لله تعالى، ولدعوة الحق، ولكتابه الذي أنزل، لا تأتي بشيء حينما يبلغ بالداعي أن يفرّ منها، وييأس من المدعوّين ويقضي بقضائه فيهم أنّهم الذين لم يعد من أمل فيهم ...
إنّ هذا يا "محمّد" ما لا يجب أن يكون منك، رغم كلّ ما هو محيط بك من تكذيب وظلم وتجنٍّ على الحق من أهل الكفر والشّرك، وإنه ما لا يجب أن يكون من كل داعية على درب الحق ...
فلا المُداهنة تبلّغ الدعوة مبلغا، ولا اليأس من المدعوّين يبلّغها مبلغا ...الصبر هو الحلّ...ليس صبر منطق العاجزين القاعدين الذين من ضعفهم يتوقفون عن دعوتهم، وعن عملهم... ليس ذلك صبرا بل اعتزال...
ولا هو صبر المُداهنين الذين ينبهرون بقوة مخالفيهم، فيرَون في المُداهنة طريقا يجب سلوكه ليحدث التوافق والتعايش...
بل هو الصبر بمعناه السليم، صبر مَن لا يُداهن، ومن لا ييأس، هكذا يعمل بالموازنة بين الكفَّتَيْن فلا يفرّط ولا يُفرِط ...
وإنه حُكم ربّك ... هذا ما قضاه سبحانه، هذا هو الكتاب الذي يُستمدّ منه قانون الأرض، وقانون البشر عليها ... هذا هو الكتاب الحقيق بالدراسة، هذا الذي يحمل الحقّ، ويقرّ الحق، ويُزهِق الباطل، هذا الذي يكون حكمه في الدنيا وفي الآخرة ... ولا تسوية فيه بين مسلم ومجرم ... بل فيه العدل التامّ ... فيه الدستور الأخلاقيّ ... فيه دواء الأرض من أدوائها ... !
وكما جاءت سورة المُلك بأنّ المُلك قبضتُه سبحانَه، جاءت سورة القلم تقرّ أنه صاحب الأمر والحُكم بالحق في مُلكِه... !
وهكذا نبلغ بهذه الآيات تمام الصورة في هذه السورة... أنّ دعوة الحقّ لا تقبل المُداهنة، كما لا تقبل اليأس...
وصاحب الحوت، تداركته نعمة من ربّه، من مناداته ربّه في الظلمات : "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" .
هكذا أقرّ أنّه الذي لم يصبر، وأنّه الذي فرّ من قومه، وإن كان دافِعه الغضب لله، إلا أنه خرج من دون إذن إلهيّ له أن يخرج ... فكانت عليه من الله تلك العقوبة الدنيوية، وكان عليه السلام من المؤمنين، بل من المصطفَين، ففطن أنها العقوبة على قلّة صبره، وعلى هَجْرِه قومه دون إذن أعلى من ربّه، فنادى مسبّحا مقرّا أنه كان من الظالمين لأنفسهم ...
كانت كلمات يونس عليه السلام... وهي ذاتها كلمات أصحاب الجنة، حينما فطِنوا للعقوبة الإلهية، فنادوا : "
سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمين"...
وسبحان ربّنا ....! أن يجتمع في هذه السورة كلام أصحاب الجنّة وكلام يونس عليه السلام ... وهي الكلمات المُنجِية من الغمّ، المقرّبة من الربّ، الماسحة للذنب، الحاملة للإقرار بالنقص مقابل كمال الكامل سبحانه... !
فهُم قالوها حينما أفاقوا من غفلتهم عن ربّهم حتى فرّطوا، وهو عليه السلام قالها حينما أدرك أنّ مغاضبته كانت إفراطا أذهب صبرَه ...
فسبحانك ربّنا لا إله إلا أنت . إنا نقّر أنّا كنّا من الظالمين ...
فاصبِر يا محمّد ... وليصبر كل داعٍ للحق على خُطاك، ولكنّه الصبرُ الصبرُ، لا ما يدّعون أنه صبر وهم يسايرون ويداهنون، ولا ما يدّعون أنه الغضب لله الذي يقطعون به طريق الدعوة ...فهذا نصف حلّ وذاك نصف حلّ ... وأنصاف الحلول لا تبلّغ سائرا على دربٍ مُنْتَهَاهُ ... !
وهذه حقيقتهم ... هذه يكشفها الله تعالى عالم السرّ وأخفى، هذه نظرة أعينهم إليك :"
وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (52)"
هذا حنَقُهُم عليك... وغيظهم الشديد منك، لأنك يا محمّد المؤيَّد من ربك، المُربَّى من ربك، المُؤتى أنوار الحكمة من ربّك ... فأنت الصابر على الدّرب، العزيز بربّك، أنت الذي لا تُداهِن في الحقّ يا محمد... !
أنت الذي لا تطيع غير أمر ربّك ... أنت الثابت رغم كلّ ما يَحِيكُون... رغم كلّ ما نعتوك به من أبشع النعوت ... أنتَ يا صاحب الخُلُق العظيم ... يا مشهودا له به من ربه العظيم ... !!
وكلّ هذا يُغيظهم، ويغيظهم...! بل يقتلهم غيظا، حتى أنّ أعينهم لتكاد تُزلِقك ... تماما كما ودّتْ قلوبهم أن تنزلقَ وتحيدَ عن دربك، فإما أن تُداهن أو أن تضجر وتجزع، فتفرّ ولا تصبر... !
إنّك والقرآن متلازمان، يا من أنت القرآن الماشي على الأرض...فسماعهم للذكر الذي بُعثتَ به يقتلهم غيظا .... !
وما يملكون والغيظ يقتلهم إلا أن يقولوا : "
إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ " ...
ولقد أبصرنا بين حنايا هذه السورة بأيّ الفريقَيْن هو المفتون ... !
أبصرنا يا ربّنا أنهم المفتونون، أنّهم أحقّ من يُنعَتُ بالجنون، وهُم قد ألغوا فيهم العقل المميّز حتى جعلوا حقا كباطل ... حتى جعلوا عبثيّتهم وهبائيّتهم ولاغائيّتهم وكُتب أهوائهم قانونا مكان الكتاب الكامل الشامل الحق... !
"
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ"
ذكرٌ للعالمين ...فيه الذكرُ بأنّ الله وحده صاحب المُلك والأمر والحُكم، وأنّه منزِل القانون الملائم للبشر ... للعالمين ... لكل الناس، لا للعرب دون غيرهم، بل للعالمين ...
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسورة القلم من أوائل ما نزل، وهو في لُجّ تكذيب قريش وتعنّتها وعتوّها، تنزل هذه الآية: "
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ" ... للعالمين... وحده الذي تقوم به قائمة للأرض، وحدَه الذي يحقّق إنسانيّة الإنسان ...
في عزّ قوّة قريش، وضعف القلة المؤمنة التي اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المرحلة، في قلب تكذيب قريش، وبطرها واستكبارها تنزل : "
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ "...
إنّكم تترصّدون للدعوة، وتتهمون صاحبها بالجنون، وترون أنفسكم الأقوى بعددكم، وملئكم، وبجاهكم، وسلطانكم في مكة ... وربّ العزّة يُسمعُكُمُوها إنها للعالمين ... يا من تحسبون أنكم عليها قادرون... !
وإنه للحقّ الذي تحقّق، وامتدّت الدعوة من مكة إلى الأرض قاطبة .......
ويا سورة القلم ... !
لله درّكِ يا سورة القلم ما أعظمكِ ... ما أسطع نوركِ... ويا أنوار الحكمة فيكِ ... ويا قواعد الوصول فيكِ ... يا بيان قوّة الحقّ...وبيان العقبات الكؤود على درب الحقّ، وقيام الأرض به لا بغيره، بالنّهل من مَعين الخُلُق العظيم ... !
يا فُرقانا بين حق وباطل وخُلُق وانحطاط وعقل وجُنون ...!
يا حُكمَ الحَكَم الحكيم وحدَه للأرض الحُكمُ والمنهج والدواء، لا شيء معه مما يسطرون ... !
سلاما ...سلاما يا سورة القلم ... يا عظيمة.... !!!