"
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) "
إنّ جهنّم وكأنها الكائن العاقل الذي يغضب، بل إنها تكاد تتفتّت من الغضب، وهم إذ يُلقون فيها يسمعون لها شهيقا من شدّة فورانها: "
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ "
يُلقَون فيها أفواجا تلو أفواج ...وكلما ألقِي فوج، سألهم خزنتُها، وهم الأعلم بهولها، وحرّها، وحرقها، وعذابها، يستنكرون عليهم، يبكّتونهم : "
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ !!"
ألم يأتكم مَن أنذركم كل هذه الأهوال، وخوّفكم إياها ؟؟ ألم يأتكم مَن دعاكم لما يُنجيكم من عذاب أليم ؟؟
وإنّا لنسمعهم من أغوار الغيب المتحقّق لا ريب، من خلال صُوره في القرآن، صور تلحقنا قبل أوانها ...وهي كما صُوّرت كائنة ... حتى جاء التعبير عنها بصيغة الماضي تدليلا على تحقّقها، فكأنها الشيء الذي حصل وكان، وهو في نبأ الله في قرآنه العظيم ترجمة حقيقيّة لساعة تحقّقه يوم الجزاء ...
وها هو القرآن يُسمعنا ردّهم : "
قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ ... " إنهم يُقرّون بمجيئ النذير إليهم، كما يقرّون بتكذيبهم، وبافترائهم الكذب على الله ... ! ليأتي ردّ الخزنة زيادة في خَسْئهم، وخِزيهم وإسماعهم كلمات الخسار والبوار : "
إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ".
"
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ"
وهم أولاء يقرّون بأنه كان لهم اختيار، وأنهم كانوا أصحاب إرادة حُرّة، وأنهم لم يُجبَروا على شيء، بل إنهم هُم مَن عطّل العقل فيهم، وادّعى مَن ادّعى منهم أنه كانوا مُجبَرا لا مُخيّرا، حتى قالوا: "
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ..." –النحل: من الآية35-
إذن... وكعادة القرآن، ينقلنا نقلا سلسا من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، والمسافة آيات معدودات...
من السماوات نزلنا إلى الأرض بتخلّص حَسَن، سلس لا يكاد يُشعِرك أنك تنتقل. فمِن رجم الشياطين في الدنيا إلى ما أُعِدّ لهم من عذاب في الآخرة، إلى ذكر أتباعهم في الدنيا، لنجدنا على الأرض ...
ثم من بيانٍ لشأن حالهم مع عذاب الآخرة، يعود بنا سبحانه إلى الدنيا... إلى الذين آمنوا، إلى الذين أحسنوا عملا ... وكلّه في تفصيل لقوله تعالى في مستهلّ السورة : "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا "
"إِ
نَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(14) "
خشية الله بالغيب، خشيته دون رؤيته سبحانه ...وإنني لأرى الآية الموالية لصيقةً بمعناها، متمّمة له ...فالذي يخشى الله وهو لا يراه، مؤمن بوجوده، منطبق عليه أبرز وصف للمؤمنين : "
الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ" .
ولكن...رُويدك... ! ألستَ وأنت تؤمن بوجود أحدهم، تستسهل فعلَ أو قولَ ما يكره وهو غائب عن ناظرك ؟
بلى ... ولذلك فإنّ تمام الإيمان وتمام الخشية أن توقن أنه يراك وأنت لا تراه... أنه يراقبك، ويعلم خائنة عينك وما يخفي صدرك، تماما كما يعلم ظاهرك . وذلك قوله تعالى في الآية الموالية : "
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور"
وإنّ هذا ليس إلا الإحسان... إذ سُرعان ما يقفز من ذاكرتي إلى حاضرتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه عن جبريل عليه السلام، إذ تمثّل في هيئة رجل دخل يسأل رسول الله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجيبه : "
قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ ما الإحْسَانُ؟ قالَ: الإحْسَانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ"-صحيح البخاري-
وهكذا جاءت الآيتان شارحتَيْن لمعنى قوله تعالى : "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا "
ثم تأتي الآية التالية وكأنها تجيب عمَّن تعجّب مِن علمه سبحانه بذات الصدور في شكل استفهام تقريري:"
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " سبحانه الخبير أي العليم بدقائق الأمور، اللطيف الذي يسري قضاؤه وأمره بلطف من حيث لا يقوى الإنسان على تبيّنه لا من أسبابه ولا من حركته، بل كثيرا ما يبدو في هيئة شرّ وهو الخير الملفوف في لطف خفيّ...
وانظر إذا أحببتَ إلى يوسف عليه السلام وما جرى عليه من أقدار لا تكاد تُصدّق أنّ من وراء سريانها يأتيه الخير العظيم، حتى قال لأبيه عليه السلام : "
...يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ"-يوسف:100-
ثم نمضي مع السورة، كَمَنْ يمشي على طريق، نسترشد بالآيات نجمات هاديات، فإذا الآية تفصّل الآية وتشرح الآية، وتفعل فعل المَعْلَم على الطريق يهديك إلى المَعْلَم، فإلى المَعلْم... لتستبين الهدف ونقطة الوصول.
وإنّ أول الغيث لَقَطْرة، وإنّ أصل أن يقطر وينزل أن يتكثّف البخار ويجتمع بعضُهُ إلى بعض في السحابات...
كذلك الآيات في السورة، إذا أخذتَها وِحْدات متفرقة فهمتَ شيئا من هنا وشيئا من هناك، وكأنها القطرات المتفرقة، الواحدة منها شرقية والأخرى غربية، ولا يكون غيثا ما تفرّقت قطراته شرقا وغربا ...! والسّورة لُحمة واحدة مترابطة الأطراف، تُلقي الآياتُ بظلال موضوعها الجامع ...
وعلى هذا فلنتأمل الآيات التاليات مجتمعة :
"
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)"
سبحانه المَلِك يذكر من آلائه على عباده : "
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"
أمَرَ عبادَه بالمشي في الأرض وقد ذلّلها لهم، ذلّلها كما تُذلّل الدابة لصاحبها، فهي المتحركة ولكنّها بين يديه طَوْع أمره، كذلك الأرض التي تُقِلّنا، تبدو لنا الثابتة وهي المتحركة التي تدور حول نفسها، وتدور حول الشمس، ومن رحمة الله بنا ذلّلها لنا، فهي المستقرّة التي نتحرك عليها باطمئنان، بينما هي المتحركة التي لا تتوقف عن الحركة... !
وليس المَشْيُ المأمور به هو الخَطْوُ على الأرض وحسب، بل هو المشي في أطرافها لاستكشافها، لاستغلال ما فيها من خيرات سخّرها الله، لتطويع ما على ظاهرها، وما بباطنها ... للعمل، للسعي، للبناء، للتعمير، للاكتشاف والاختراع، للانتفاع عليها بالعلم ... كل هذا هو المَشي المأمور به ...
"
وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ " ...
إنّ الضمير في: "
رِّزْقِهِ " وحده يذكّر، وينبّه أنّ ما عليها مما يَطعَمُه الإنسان وتستمرّ به حياته، وقد زرعه بيده، أو صنّعه بيده إنما هو منه سبحانه... عطاؤه وفضله... !
الضمير المتّصل وحده كاف لإحداث هزّة في الضمير... ! للتذكير والتنبيه، ولإيقاظ كلّ مَن تأخذه سِنة من غفلة في خضمّ العمل والحركة والاجتهاد، والتطلّع لثمرة الحركة والعمل، وتلمُّسِها حقيقة متحقّقة ...
إنها الوسطيّة في الحال ... فهو الأمر بالحركة والتعلم والعمل ومواكبة ركب الحضارات لإعمار الأرض ... شريطة التذكّر دوماً أنّ الفضل من الله، وأنه عطاؤه ومَنُّه، وأنّه الذي سخّر وذلّل ...
لأنّ من شأن الإنسان إذا بنى وأعلى وشيّد، وبرع وصنّع واخترع، أن يغترّ، وأن يظنّ بنفسه الظنون العُلا، حتى إنه قد بلغ بمَن تمكّن منه الغرور أن رأى نفسه الربّ الأعلى ... أليس قد قالها فرعونُ زمانٍ مضى : "أنا ربكم الأعلى" ... كما قالها ويقولها الفراعنة في كل زمان... ؟ !
فهو أمر من الله الملِك سبحانه أن يتحرك الإنسان وفي رَوعه لازمةٌ لا تغادره أنّه عبدٌ للربّ الإله الملك سبحانه، وأنّ كلّ خير يبلغه إنما هو من فضله ونَعْمائه ...
وتزيد تتمّة الآية : "
وَإِلَيْهِ النُّشُورُ " تنبيها وإيقاظا، وتزيد تأكيدا على هذا الحثّ المشروط، الحثّ الذي يُبقي الإنسان في دائرة إنسانيته... في دائرة حريّته التي لا تتحقق إلا وهو المتحرّر من قيود النفس إذا اغترّت، فطغت فرأت أنها المستغنية عن ربّها ... وهو سبحانه القائل: "
كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَى(8) " -العلق-
فلننظر... !
فلننظر في الآيات الموالية، لنعرف أن الله عليم بأنّ الإنسان في حاجة إلى مزيد تنبيه وتذكير، وتأكيد على خطورة الفخّ الذي يوقع به نفسه وهو في غمرة الغرور يرى السمّ الزعاف المُهلِك عسلا مصفّى ... !
هذا التلميح بخطورة الغرور يحتاج إلى مزيد بيان، فينتقل سبحانه من التلميح إلى الإنذار، ليذكّر بغضبه وبمشيئته المطلقة :
"
أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(18) "
أجل... تلك الأرض التي جعلها الله للإنسان ذلولا رَكوبا يرتع في أرجائها، فتطاوع مُراده منها، إنما هي كذلك من تذليل الله لها، هي الأرض ذاتها التي بأمر ربها تنقلب على الإنسان فتنخسف به، فإذا هي المائرة المضطربة التي لا يقرّ لها قرار... !
فبأيّ حال يكون له الأمر عليها إذا ما انقلبت عليه ؟!
وكذلك السماء التي سُخّرت له، تأتمر بأمر ربها، فكما قضى فجعلها سقفا محفوظا، وجعلها للإنسان عطاء وخيرا، كذلك تنقلب عليه عذابا إذا أراد ربُّها ...
أليس هذا إنذارا وتخويفا للإنسان من حقيقة ملك الله تعالى لسماواته وأرضه، الإنسان الذي يأخذه الغرور إلى غيابات جبّ التألّه والتربّب ؟!
ألسنا نعرف من الإنسان ذلك في كل زمان ؟!
فهذا عالِم اخترع أو اكتشف فأرْدَاه زُهُوُّه بعقله حَدَّ تأليهه بدل خالقه فيه، ظنّ أنّ الله محلّ نظر وتجربة وحِسّ في مختبراته، فأوجب وِفقَ ذلك إنكار وجوده ... !!
ألسنا نعرف الملِك الذي إذا ما مَلَك طغى وتجبّر وظلم، وحسب أنه الذي لا يُقارَع، فكان بالمرصاد لكلّ من تجرأ على مواجهته أو على ما يخالف أمرَه ؟! ولا عجَبَ في الاضطهاد الذي يُمارَس على كل من أعلن أنه عبدٌ لله وحده، إذ أنّ ذلك يقضّ مضاجع المتألّهين ويقطع عليهم طريق أحلامهم التسلّطية ... !
هذان المثالان وغيرهما على الأرض صورة للإنسان حين تأخذه العزّة بالغرور فيتألّه ...
وإنك إذا عرفتَ في أحدهم تماديا وإيغالا في الغرور والاعتداد بالعقل، أو بالجمال أو بالقوة، أو بالسلطان، خِلتَه قد جعل لنفسه جناحَيْن وطار ... !وهيهات هيهات أن يطير إنسان !!
إنه المستحيل الذي تعلم يقينا أنه لا يحدث، وأنه الذي لا يَقوَى عليه إنسان ... فتقول للمغرور غضبانا، ضاجا من غروره متحدّيا : إنْ وسِعك أن تطير فطِرْ ..! وتُلحّ عليه بقولك : طِرْ... طِرْ ... وأنت موقن أنّ ذلك مُعجزُه، لعلّه ... لعلّه ينثني أو يَرْعَوي... !
فلنُنظر ... فإذا الغرور الذي عرفنا في الآيات السابقات تقدّماً تدريجيا نحو بيان خطورته على الإنسان، يُتبَعُ بحديث عن الطير :
"
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ"
أيها الإنسان الذي يغيّبك الغرور عن الحقائق، وأُولاها حقيقة نفسك، وحقيقة الغاية من وجودك، وحقيقة ما يربطك بهذا الكون المسبِّح، المُسخَّر لك من المَلِك الكريم حتى ترى نفسك الملك والمالك، فتَخْبط وتخلط، وترفُس وتعفِس في الأرض، تريد أن تنفذ من أقطارها...! حتى إنّك لا تحب لنفسك العظيمة المتعالية أن تهبط فتنظر إلى أديمها لولا خوفك التعثّر أو الوقوع ... ! فيا مَن تحرُسُ نفسك أن تقع، أنّى لك بحفظ غيرها من أن يقع ... !
فانظر... انظر أيها المغرور إلى السماء كما تحبّ أن تفعل... !
يا مَن أنت أكبر من الأرض وما فيها... يا مَن ترى بصَرَك حقيقا بالسماء لا بالأرض... أليس في السماء طيور ... ؟
إنها : "
فَوْقَهُمْ " ... وهذا أول ما يشي بالفوقيّة عليك يا مَن ترى نفسك الأعلى... إنه يجتمع عليك اللفظ مع المعنى... !!
إنك لن تقوى على مُجاراتها ... إنها فوقك... !
وإن كنتَ على الأرض -التي لولا تذليل المَلِك لها لما عرفت عليها استقرارا- قد اغتررتَ واستكبرتَ حتى نسيت أنك ترتع في مُلك المَلِك، فإنّ الطير "فوقك" قد سُخّر لها جوّ السماء، قد سُخّر لها الهواء ... ذلك الهواء الذي لو داهمك منه تيّار قويّ وأنت على الأرض لما قويتَ على مقاومته، ولذهب طولك، ولذهبَتْ قوّتك أدراجَه : "
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا "-الإسراء:37-
إنها المسخّرة في جوّ السماء ... وما سخّرها لها إلا ربّ السماء، فهي السابحة فيها، كما سخّر لك الأرض فأنت المستقرّ عليها... !
فإنّ من شأن تأمّلك في أجنحتها المصفوفة والمقبوضة تخترق بها جوّ السماء العصيّ عليك أن يقصف أجنحة غرورك ... ! وأن يذكّرك بالملِك الذي ملك ما لا يبلغ بصرُك أعلى منه، بَلَهْ ما هو تحت قدمك... !!
"
مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ..."
ثم انظر ... انظر كرّة أخرى، أليست تَسْبَح في جوّ السماء، تغلب الهواء ولا يغلبها ... أليست هي التي يمسكها الرحمن، فهي السابحة كيف تشاء ... ؟!
أليس هذا أحرى أن يكون حالك أنت أيها الإنسان ؟!
أن تستمسك بالعروة الوثقى، بالله سبحانه... بهُداه ... فإذا أنت المهتدي، الواثق من طريقه ومن مسيره ... الثابت، وما يثبتك إلا الرحمن ...
جدير بك يا صاحب العقل أن تبحث، وأن تسأل عن أسرار ذلك المخلوق الطائر ... فإنّ البحث سيُسفِر لك عن عجب عُجاب، عن عظمة مخلوق هي من عند الخالق لا من سواه... !
إنّ هذا الطير المُحَلّق فوقك لَـيُبصر طريقه كل الإبصار... بل إنه ليعلمها، وليتبيّن معالِمَها...فهو الذي يهاجر من قارة إلى قارة لا يخطئ طريقه، يعرف وجهته، ويعرف كل محطّاتِها، لا تختلف عليه الاتجاهات، ولا يَتُوه، ولا يذهب حيث لا يجب أن يذهب ... مزوّدٌ جهاز الإبصار فيه ببروتين يتبيّن به الضوء الأزرق والمجال المغناطيسي للأرض الذي يحدّد به الاتجاهات دون أدنى شك أو ارتياب. بل إنه الذي يهتدي ليلا بالنجوم ... !!
حريٌّ بك أيها الإنسان، أن تنطوي على نفس "
طَيْرِيّة" تُقارع الأهواء، وتثبت في جوّ الابتلاء، تُبصر طريقها، وتعرفها، وتتبين معالِمَها، وتَسْبَح كيف تشاء وهي المستمسكة بالرحمان الذي لا يمسكها غيره... ! لا أن تتخذ الغرور أجنحة تريد بها أن تطير بلا هُدى...
وتالله ما تحملك تلك الأجنحة، وما تجدُك بها إلا بين يَدَي التّبار والخسار والرَّدى... وكيف يُفلح من اتّخذ من دون الرحمن هاديا ومرشدا ومثبتا ...؟!
يالِعظمة هذا السياق كُلّه ...!
يالعظمة التدرّج الربّاني في التربية، وفي طَرْقِ الموضوع من مواضيع النفس البشرية ... !!
يُطرَق الغرور في النفس في هذه السورة، التي هي سورة "الملك" ...
وهو من أهمّ ما يناسب جوّها المهيب، الغرور الذي يأخذ الإنسان إلى توهّم المُلْك على أرض لم تكن طَوْع يديه إلا من تذليل الله لها لتكون طوعه ... !
فمن التذكير بالتلميح، إلى التذكير بالإنذار والتخويف، إلى التذكير بالنظر في الطير ... وأيّ نظر هو ؟! يأخذك إلى عوالم لا إلى عالم واحد ...! يأخذك إلى نفسك، إلى حقيقتها... إلى التعلّم من الطير المحلّق... !
وها هي الآية الموالية تكمّل السياق وتُتَمِّمُه، وتؤكّد جَوَّه وهي تحمل الكلمة، انتهاء إلى التصريح الكامل من بعد ما عرفنا البدء بالتلميح في أول آية من هذا السياق، في قوله تعالى : "
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ " .
إنه مذلّلها سبحانه، وإنك مأمور بالمشي في مناكبها، والأخذ بالأسباب عليها، شريطة تذكّر أنّ ما عليها من عطاء هو رزقُه، رزق ربّ الأسباب ومسبّبها، وأنّه لا بقاء فيها، بل الرُّجعى إليه سبحانه ... فالأمر منه وإليه ...
ثم انتقالا إلى الإنذار والتخويف، حتى يُنتَبَه إلى خطورة السَّدر في غيّ الغرور، وأنّ الذي سخّر الأرض والسماء عطاء وخيرا ونعمة، هو القادر سبحانه على جعلها جنوده التي تنقلب على الإنسان المغرور الناسي ربّه عذابا ونقمة ... !
ثم توجيها إلى النظر في مدرسة الطير المُحلّق ... وانتهاء إلى مرحلة تسمية الشيء بمسمّاه في قوله تعالى : "
أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ "...
"
إِلَّا فِي غُرُورٍ"... أيّ جُند لأي مَلِك على الأرض هو ذو أوتاد وأوتاد يَنصُر من دون الرحمان الذي هو بكل شيء بصير ؟! إن هو إلا الغرور فيمن كفر بربّه وظنّ أنّ نصرا يأتيه من غير عند الله...
إنه لَفحة من لفحات الشياطين التي جعل الله نجوم السماء لها رُجوما، وتوعّدها بعذاب الآخرة الأليم، ثم بيّن مآل أتباعها على الأرض ... ومآل من يحسب لفحاتها نفحات ...فكان الغرور أحد أسلحتها الماضية في الإنسان... !
ويا آيات كتاب ربي إنه ليس شيء كمثل حسنكِ إلا آيات ربي ... !!