المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي(سورة الملك)  (زيارة 444 مرات)

0 الأعضاء و 2 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
سورة الملك ...


تُفتتح هذه السورة العظيمة بقوله سبحانه يصف ذاته العليّة : "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ "
لا تشبيه ولا تمثيل، سبحانه، المُلك كُلُّه قبضة يده... كناية عن القدرة الكاملة، والعظمة المتناهية. حتى أنّ الكون بما فيه عنده قبضة: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ" –الزمر:67-  لنقرأ أول ما نقرأ بعدها ما يزيد في بيان طلاقة هذه القدرة :" وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " .
قدرته التي نمّت عنها تلك القبضة الإلهية العظيمة، ليست قدرة محدودة، بل قدرة طليقة لا تحدّها حدود، وليس شيء من الأشياء بمعجِزه سبحانه ! ...

إنه الملك سبحانه... والملوك مِلْء الأرض زمانا ومكانا، لا يُعرف عن أعظمهم أنه الذي يقدر على كل شيء ... بل إنّه الذي مهما بلغ مُلكُه لن يتعدى حدود مكان هو حاكِمُه، بل إنّ ما هو تحت حكمه وأمره، لا ينفي أن يكون فيه لرعيّته ما يملكون وليس له أن يملكه ...سبحانه الملِك القدير ... الذي لا تحُدُّ قدرتَه حدودٌ ...

وإنّ أبرز وأهمّ ما يختصّ به المَلِكُ سبحانه ...الخَلْق...

فليس يخلق غيرُه ...وإنّ أول ما يتبادر إلى الذهن مع قضية الخلق، خلق الإنسان، وخلق الكون، بسماواته وأرضه، وأفلاكه، وكواكبه ومجرّاته، وبجباله وبحاره، وبكل ما فيه ... ولكن لن يتبادر إلى الذهن ما اختصّ به الله سبحانه بداية هذه السورة من خلقه... بل إنه الجمع الوحيد في القرآن كلّه بين هذين المخلوقين اللذَين لا يتبادران إلى ذهن  إنسان أوَّلَ ذِكْرِه لقضية الخلق :
"الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ"
لم يأتِ هنا ذكر خلقه للإنسان ولا للكون، بل جاء عن خلقه لعارضَيْن يعرِضان لمخلوقاته... إنهما "الموت" و"الحياة "...

فلنتأمّل ... !
إننا عندما نتحدث عن قضية الخلق، لا نفكر معها إلا بما يوجده الله سبحانه لأحد أمرَيْن :
إما لتُبثّ فيه الحياة فيحيا. أو ليكون سُخرةً للحيّ والحياة ...
فالإنسانُ والنباتُ والحيوانُ، مخلوقات تُبث فيها الحياة لتحيا، اصطُلِحَ على تسميتها : "كائنات حيّة"،  والجبال والبحار والشمس والقمر والنجوم وغيرها من كلّ مسخّر لحياة الكائنات الحيّة، والتي على رأسها الإنسان، الكائن السيّد، الذي سُخِّر له الكون بما فيه.

ولكن في هذه السورة تحديدا وحصرا يذكر الله تعالى خلقه للموت والحياة، وخلقه للموت بوجه خاص هو الذي يلقي على النفس ظلالا من الرهبة والهيبة، والإكبار لهذا المعنى العظيم، ظلالا من التساؤل عن خلق الموت... ! وأيّ سِمة في الموت تجعله يدخل تحت أحد الأمرَيْن السابقَيْن ؟!
أهو المخلوق الذي ستبثّ فيه الحياة ليحيا، أم أنّه الذي سيُسخّر للحياة ؟!
لا هذا ولا ذاك ... !  كلاهما لا يدخل الموت في دائرته ... إنه الموت !
إنه خَلْق الموت ...بل إنّ ذكر خلقه لَسَابقٌ لذكر خلق الحياة... !

تأمل معي ... أليس سبحانه قد خلق الموت للحياة، وقد خلق الحياة للموت ...؟!

بلى... بلى... قد خلق  سبحانه الموت لتكون نهايةَ حياة الإنسان في الدنيا...
لم يخلق الحياة وحدها، بل خلقها وخلق معها الموت، ليكون العارض الذي يعرض للحياة فيُعدِمها، كما خلق الحياة أيضا لتؤول أخيرا إلى الموت ... !

ولولا الموت، لما تحقّق للدنيا أن تكون دار ابتلاء :
" الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا " .
إنه ذلك الفاصل بين الدارَيْن... دار خُلِق لها الموت، ودار لم يُخلَق لها الموت، دارٌ هي ذاتُها تموت بفنائها، ودارٌ للبقاء والقرار ولحياة بلا موت ...
هو الفاصل بين دار للعمل، ودار للجزاء...دار عمل لم تكن ولم يُخلق فيها الإنسان إلا ليُبتلى، ودار جزاء على ما كان من ابتلاء، فكان الموت بمثابة القطار الذي ينقل من دار إلى دار ... !

ومَن ذا يقدر على الإحياء والإماتة غير الله...الملك سبحانه .... ؟!

فذاك النمرود حينما تبجّح وتشدّق ردّا على إبراهيم عليه السلام : " إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ "... لم يَسَعْه وإبراهيم عليه السلام يسأله أن يأتي بالشمس من المغرب إلا أن يُبهَت... !

فإن الملك بين الملوك وإن كان أقدرَهُم وأوسعهم ملكا، وأبسطهم علما وجسما، لن يقدر على إحياء أو إماتة ... !وحده سبحانه الملك الذي هو على كل شيء قدير. ومَن ذا سِواه يقدر على الإحياء والإماتة ... ؟!

وكأنما سُبحانه قد قرن الخلق بهذين العارِضَيْن المخلوقَين لتستبين طلاقةُ قدرته على كل شيء بهذا الذي لا يُعجِزُه، بينما يُعجِز أقدر الملوك وأوسعهم ملكا وسلطانا في كل زمان وفي كل مكان ...

بل إنهما وهما مقترنتان، مع بيان الغاية من خلقِهما والغاية من خلق الإنسان: " لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً " قد جمعتا في سِعة تعبير عجيبة فريدة بأقل الألفاظ إيجادَه سبحانه للدنيا بالإحياء (الحياة)، وإعدامه لها بالموت، وإيجاده للآخرة بعد الموت... إنه بيان أنه ملك الدارَيْن سبحانه... !

وسيأتي في لاحق من الآيات تفصيل من سورة الملك ذاتها لمعنى: "أحسن عملا" ...والجَمالات والكَمالات ودقة استخدام اللفظ... تَتْرا كلها في هذه السورة التي تستوقفني في محطات منها كثيرة ...

فأجدني أتساءل، ما سرّ الإتيان بـ: "الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" تحديدا دون غيرهما من أسماء الله سبحانه ؟ لا بدّ أنّ لموقعهما مجتمِعَيْن مناسبة ...

أما "الْعَزِيزُ" فهو الذي لا يُغلَب ولا يُقهَر سبحانه، ولا يكون إلا أمره ...وهذا مناسب أيّما مناسبة للملك ...
إنه تأكيد على أنه الملك الذي لا يُقهَر، الملك الذي لا يُغلب وكل الملوك تُقهر وتُغلَب إن لم يكن بهزيمة حرب، فبالموت الذي يتساوى فيه ملك ومملوك .
كما أنه الذي لا يَغلِبُ أمرَه وإرادتَه شيءٌ من فعل عباده في الأرض...

فمهما بلغ ظلم ظالم منهم وتسلط متسلّط و تجبّر متجبّر، فإنّ ذلك كلّه لن يغلبَ أمره وفعله وإرادته، وإن بدا أنّ الإنسان عائث في الأرض فسادا وإفسادا، وإن تنادى أهل الإلحاد والكفر بأنّ الشرّ الذي في الأرض لا يناسب وجود إله عليم رحيم ... !

إنه سبحانه الذي جعل الدنيا، وخلق الإنسان فيها ليُبتَلى ...ولا يكون الابتلاء إلا بأن يتحرك الإنسان وِفق ما يختار من طاعة أو عصيان، لا يكون الابتلاء إلا والإنسان يعرِض للشرّ كما يعرِض للخير...

وأما "الغَفُور" فهو الذي يناسب كل المناسبة :" أحسن عملا"...
لأنه ما من إنسان وإن بلغ من الطاعة والإذعان والإيمان ما بلغ، إلا وله أخطاء وذنوب لا يغفرها له إلا الغفور الرحيم سبحانه ... كما أن المسيئ المسارع للتوبة أيضا معنيّ بهذه المغفرة، بل وداخل في دائرة "أحسنُ عملا" ... أليس هو القائل سبحانه : "وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" –آل عمران:133-

ثم نمضي مع "الملك" ... فإذا وصف جديد من الله لذاته العليّة، وما نزال في دائرة الخلق :
"الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ(3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ(4)"

خالق السماوات السبع طباقا، مماثِلةً الواحدة منها للأخرى، منطبقة عليها وصفا وخلقا، وكائنة بعضها فوق بعض، طبقة فوق طبقة ...لا يلحظ الرائي وهو يصعّد النظر فيها ما يَشي بتفاوت في الطبقات، أو شقّ فيها يشي بنقص في تركيبها، أو بنائها طبقة فوق طبقة ...
لم تُثقِل السماوات الستّ على سمائنا الدنيا حتى نرى فيها شقا يؤذن باحتمال تساقطها من ثقل ما تحمل !...
وإنه يحضرني ما قال المشركون بلسان التحدّي لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا " ...
ولكأنّي بهم والأعين منهم ترى السماء المتماسكة، التي لا يعرفون فيها شقّا ولا فطورا، مِن يقينهم بتماسكها وقوتها، طفقوا يتحدّون أن تُسقَط عليهم كسفا وهي المتماسكة المتلاحمة... !
لكأنّي بهم وهم يعلنون اللّجاج والعناد والتكذيب والتحدّي لا ينتبهون ليقين عندهم بقوة هذا المخلوق، الدال على عظمة الخالق ... !!

" ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ"
يالهذا الوصف، وهذا التعبير، وهذا التصوير البديع الدقيق... !
يالِوقوفي مشدوهة، منبهرة، مأخوذة بسحر هذا الوصف، ودقّة هذا التصوير، وأنا أراني وبصري شيئَيْن لا شيئا واحدا ...! ذاتَيْن لا ذاتا واحدة !
إنه البصر منّي ... ولكأنّه ذاك المنفصل عنّي... !

لكأنّي به ذاك الرّسول، وأنا المُرسِل ... ! لكأنه الكائن المتحرّك المنفصل عن ذاتي ... أُرسِلُه لينظر ... ثم من جديد لينظر.. ومن جديد ... ومن جديد ... عساه يأتيني بنبأ يقين عن فُطور من هنا، أو فطور من هناك ... !
ولكنه يعود ... وليت شعري كيف يعود ... !

يعود خاسئا، خائبا، تعِبا كليلا من فرط ما أرسلْتُه ... لكأنّي به يعود خاشعا ذليلا ... لا يملك بما أودِع فيه أن يعود بخبر عن خلل في السماء ...
إنه رسولي إليها ... وهو الجزء منّي، كأنه المنفصل عنّي ... هكذا يوحي وصفُه، وهكذا هي حقيقته ... !

إنه المخلوق في الإنسان، كأنّه يذكّر الإنسان ، ويعود له حاملا فطرةً فُطر عليها، حاملا إقرارا بإتقان الصانع، إقرارا بعظمة الخالق الذي خلقه ... ! لكأنه الجزء منه المقرّ بخالقه وإن جحد الإنسان وأنكر، وإن كذّب وكفر... !

سبحان الله ... ! ولكأنّه شكل من أشكال تبرّئ جوارح الإنسان من الإنسان في الدنيا ... وهي التي تتبرأ منه يوم القيامة إن باء بالخسار والبوار -عياذا بالله- . أليس سبحانه القائل : " حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " –فصلت:20-
« آخر تحرير: 2020-11-19, 10:18:05 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ومع سورة الملك... نمضي الهُوَينى ..


إنه المَلِكُ سبحانه، الذي هو على كل شيء قدير، الذي خلق الإنسان وجعل له الحياة للابتلاء، وجعل له الموت لينقله إلى الحياة الأخرى حيث يُجازَى على ما كان من ابتلاء... وقد فاز مَن أحسنَ عملا ، هو الملك سبحانه العزيز الذي لا يُغلَب، الغفور لعباده على ما فوّتوا وما قصّروا ...

إنّ رحمة الملك العظيم سبحانه لتُلوِّح، وإنّ فجرَها النديّ ليَلُوحُ على صفحة القلب ونحن في حضرة المُلك والقدرة ...
رحمته في إنعامه بالخَلْق المُتقَن البديع : "الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ "... وفي مغفرته لعباده ...

وسنبصر هذه السورة، وسنُرجع البصر فيها، فإن الرحمة لا تغادرها ...
ومازال حديث المَلِك سبحانه عن السماء، وهذه المرة يخصّص عن السماء الدنيا، لتستبين من بين السّبع الطِّباق:
 "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ"

ليستوقفني ما في هذه الآية من زينة... !

إنّ الزينة التي توشّح السماء جمالا ونورا يخترق العتمة وكأنها حبات لؤلؤ قد برزت من صدفاتها ...تلك الزينة التي تأخذ الألباب، هي ذاتها السلاح المُشهَر في وجه الشياطين المترصّدة لأخبار السماء.. وسبحانه القائل في ذلك: " وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ(16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ(17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ(18)"-الحِجر-

إنها الزينة، وإنها هي هي السلاح ... !

تلك النجوم الحسناء البهيّة، شأنها كشأن القمر...
قد عرف الإنسان على مدى الأعصار أنّها آيات من آيات الجمال، حتى إذا وَصَف جمال أحدهم قال : كأنه القمر ليلة اكتماله، أو قال عن المرأة المضيئة: كأنها النجمة ...
وليس بعيدا عن العقل الذي يقيس ويشبّه أنّ المشبَّه به أعلى قيمة من المشبَّه ... فالقمر والنجوم مضرب المثل في الحسن والجمال ..وإنها المرأة الحسناء، وإنها النجمة الحسناء، بل الأكثر حُسنا ...ولكنّ الأولى تُغَرّ بلا ثناء بَلَه إذا أثنِي عليها ! بينما الثانية على حسنها مسبّحة مع كل ما يسبّح بحمده سبحانه، وذلك أكبر شُغلها، أن تؤدّي ما لأجله خُلِقت، وأن تسبّح بحمد ربها. فهي الزينة، وهي الهادية لمن استهدى في طريق، وهي السلاح المُشهَر في وجه الشياطين حفظا للسماء ...

لنتأمل... !
أليست تلك نهاية الشياطين إذا ترصدت لخبر السماء ؟! أليس قد حال هذا الرجم بالنجمات المزيّنات دون استراقهم لخبر الملأ الأعلى ؟
إنه بهذا يحقّ لنا أن نفهم على وجه الجزم واليقين كيف أنّ الأمر في السماء محسوم لا ريب ولا مِراء، لا مكان للشياطين فيها ... مُذ أخرِج الشيطان من الجنّة، مُذ أهبِط الأرض مع المُهْبَطَيْن آدم وحواء، والأرض مستقرّ الابتلاء ، ولا يُحسم الأمر فيها إلا بعد زوال الدنيا ... أليس سبحانه القائل : "قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36)قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ(37)" -الحجر-

بل إنّ مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مَوْعِدَ الإبعاد الكليّ للشياطين من ذلك الفضاء، فلم يعد لهم من مكان حتى لاستراق السمع.
وقد نقل لنا الملك سبحانه ما قالته ألسنة النفر الذين آمنوا من الجنّ : "وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا(08) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا(09)" -الجنّ-
لكأنّ البَدْءَ بذكر حال السماء مع الشياطين في هذه السورة الجليلة -بعد بيان أن الغاية من خلق الإنسان إنما هي الابتلاء- قد جاء ليبيّن بترتيب واتّساق وتنظيم أنّ الابتلاء مضمارُه الأرض لا السماء...

ولنتأمل ... فإذا الآية الموالية تؤكّد ما كان، وهذا التمييز بين المُبتَلين من خلق الله (البشر)، وبين المسيَّرين من خلقه (الملائكة). وإنّ كون الإنسان مخيّرا لا مُسيّرا لَمِن تكريم الله له... إذ لا يُخيّر ولا يكلّف إلا من عُرف أنه أهل للاختيار ولأداء الأمانة.
فلقد تبيّن لنا من رجم النجوم للشياطين أنّ الأمر في السماء محسوم، وقد طُرِدوا منها، وأُبعِدوا عنها في الدنيا، مع ما ينتظرهم من عذاب في الآخرة : "وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ" ... .
أما أهل الأرض، أتباع الشياطين منهم وأولياؤهم، فإن أمرهم في الدنيا ليس بالمحسوم، لأن الأرض هي مضمار عمل الشيطان من جهة، ولأنّه الطرف الأبرز في معادلة الابتلاء من جهة أخرى... في معادلة امتحان الإنسان، أيعصي ربّه سبحانه ويتّبع الشيطان وغوايته، أم يطيع ربّه ويرجم الشيطان، وقد بَرَقَتْ في نفسه لآلئ النجوم الهادية (الرُسُل والأنبياء )المخترقة لعتمات الأرض التي تعمّ وتطمّ كلّما أوغل الناس في اتباع الشيطان...

لنُرجع البصر في سورتنا العظيمة، في آياتها المتتابعات المتسلسلات، التي تفصّل التالياتُ منها السابقات ... هل نرى من فطور ؟!

إن العقل لَيُوقن في كل مرة، آيةً بعد آية أنه كلام الملك العظيم ... ولا يكون كلام كهذا إلا من ربّ السماوات والأرض، ربّ الجمال والبيان...
"وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"
ها نحن مع هذه الآية ننزل إلى الأرض ... ننزل إلى حيث الابتلاء ... وإلى حيث الموت والحياة، لا الحياة وحدها كحال أهل السماء ...
إلى دار الابتلاء ... إلى حيث لم يُحسَم الأمر... وكيف يُحسَم وقد تقرر أنها للابتلاء والامتحان ... ؟! كيف يُحسم وقد تقرر أنّ الشيطان مُنظَرٌ إلى يوم يبعثون ؟! إلى أتباع الشياطين وأوليائهم ... إلى من كفر بربّه ...
إنه عذاب جهنّم، عذاب الدار الآخرة، والأمر في الأرض يُحسَم يوم الحسم العظيم، يوم يُبعثون ...

ثم يأتي تفصيلٌ في شأن جهنّم وحال أهلها فيها، بتصويرٍ ليست دقّته إلا للقرآن العظيم وحده :
"إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) "

ومرّة أخرى، يُضفي سبحانه على ما لا يُعقل صورة الذي يُعقل، فإذا جهنّم –أجارنا الله منها – نعرف فيها صفات الغاضب الذي يكاد يُفتّته الغضب...
"إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ..."
« آخر تحرير: 2020-11-19, 14:06:03 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

"إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) "

إنّ جهنّم وكأنها الكائن العاقل الذي يغضب، بل إنها تكاد تتفتّت من الغضب، وهم إذ يُلقون فيها يسمعون لها شهيقا من شدّة فورانها: " تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ "
يُلقَون فيها أفواجا تلو أفواج ...وكلما ألقِي فوج، سألهم خزنتُها، وهم الأعلم بهولها، وحرّها، وحرقها، وعذابها،  يستنكرون عليهم، يبكّتونهم : " أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ !!"
ألم يأتكم مَن أنذركم كل هذه الأهوال، وخوّفكم إياها ؟؟ ألم يأتكم مَن دعاكم لما يُنجيكم من عذاب أليم ؟؟
وإنّا لنسمعهم من أغوار الغيب المتحقّق لا ريب، من خلال صُوره في القرآن، صور تلحقنا قبل أوانها ...وهي كما صُوّرت كائنة ... حتى جاء التعبير عنها بصيغة الماضي تدليلا على تحقّقها، فكأنها الشيء الذي حصل وكان، وهو في نبأ الله في قرآنه العظيم ترجمة حقيقيّة لساعة تحقّقه يوم الجزاء ...

وها هو القرآن يُسمعنا ردّهم : " قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ ... " إنهم يُقرّون بمجيئ النذير إليهم، كما يقرّون بتكذيبهم، وبافترائهم الكذب على الله ... ! ليأتي ردّ الخزنة زيادة في خَسْئهم، وخِزيهم وإسماعهم كلمات الخسار والبوار : " إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ".

"وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ"
وهم أولاء يقرّون بأنه كان لهم اختيار، وأنهم كانوا أصحاب إرادة حُرّة، وأنهم لم يُجبَروا على شيء، بل إنهم هُم مَن عطّل العقل فيهم، وادّعى مَن ادّعى منهم أنه كانوا مُجبَرا لا مُخيّرا، حتى قالوا: " وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ..." –النحل: من الآية35-

إذن... وكعادة القرآن، ينقلنا نقلا سلسا من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، والمسافة آيات معدودات...
من السماوات نزلنا إلى الأرض بتخلّص حَسَن، سلس لا يكاد يُشعِرك أنك تنتقل. فمِن رجم الشياطين في الدنيا إلى ما أُعِدّ لهم من عذاب في الآخرة، إلى ذكر أتباعهم في الدنيا، لنجدنا على الأرض ...

ثم من بيانٍ لشأن حالهم مع عذاب الآخرة، يعود بنا سبحانه إلى الدنيا... إلى الذين آمنوا، إلى الذين أحسنوا عملا ... وكلّه في تفصيل لقوله تعالى في مستهلّ السورة :   "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا "
"إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(14) "

خشية الله بالغيب، خشيته دون رؤيته سبحانه ...وإنني لأرى الآية الموالية لصيقةً بمعناها، متمّمة له ...فالذي يخشى الله وهو لا يراه، مؤمن بوجوده، منطبق عليه أبرز وصف للمؤمنين : "الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ" .

ولكن...رُويدك... ! ألستَ وأنت تؤمن بوجود أحدهم، تستسهل فعلَ أو قولَ ما يكره وهو غائب عن ناظرك ؟
بلى ... ولذلك فإنّ تمام الإيمان وتمام الخشية أن توقن أنه يراك وأنت لا تراه... أنه يراقبك، ويعلم خائنة عينك وما يخفي صدرك، تماما كما يعلم ظاهرك . وذلك قوله تعالى في الآية الموالية : "وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور"

وإنّ هذا ليس إلا الإحسان... إذ سُرعان ما يقفز من ذاكرتي إلى حاضرتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه عن جبريل عليه السلام، إذ تمثّل في هيئة رجل دخل يسأل رسول الله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجيبه : "قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ ما الإحْسَانُ؟ قالَ: الإحْسَانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ"-صحيح البخاري-
وهكذا جاءت الآيتان شارحتَيْن لمعنى قوله تعالى : "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا "



ثم تأتي الآية التالية وكأنها تجيب عمَّن تعجّب مِن علمه سبحانه بذات الصدور في شكل استفهام تقريري:" أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " سبحانه الخبير أي العليم بدقائق الأمور، اللطيف الذي يسري قضاؤه وأمره بلطف من حيث لا يقوى الإنسان على تبيّنه لا من أسبابه ولا من حركته، بل كثيرا ما يبدو في هيئة شرّ وهو الخير الملفوف في لطف خفيّ...

وانظر إذا أحببتَ إلى يوسف عليه السلام وما جرى عليه من أقدار لا تكاد تُصدّق أنّ من وراء سريانها يأتيه الخير العظيم، حتى قال لأبيه عليه السلام : "...يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ"-يوسف:100-

ثم نمضي مع السورة، كَمَنْ يمشي على طريق، نسترشد بالآيات نجمات هاديات، فإذا الآية تفصّل الآية وتشرح الآية، وتفعل فعل المَعْلَم على الطريق يهديك إلى المَعْلَم، فإلى المَعلْم... لتستبين الهدف ونقطة الوصول.

وإنّ أول الغيث لَقَطْرة، وإنّ أصل أن يقطر وينزل أن يتكثّف البخار ويجتمع بعضُهُ إلى بعض في السحابات...
كذلك الآيات في السورة، إذا أخذتَها وِحْدات متفرقة فهمتَ شيئا من هنا وشيئا من هناك، وكأنها القطرات المتفرقة، الواحدة منها شرقية والأخرى غربية، ولا يكون غيثا ما تفرّقت قطراته شرقا وغربا ...! والسّورة لُحمة واحدة مترابطة الأطراف، تُلقي الآياتُ بظلال موضوعها الجامع ...
وعلى هذا فلنتأمل الآيات التاليات مجتمعة :
"هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)"

سبحانه المَلِك يذكر من آلائه على عباده : "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"
أمَرَ عبادَه بالمشي في الأرض وقد ذلّلها لهم، ذلّلها كما تُذلّل الدابة لصاحبها، فهي المتحركة ولكنّها بين يديه طَوْع أمره، كذلك الأرض التي تُقِلّنا، تبدو لنا الثابتة وهي المتحركة التي تدور حول نفسها، وتدور حول الشمس، ومن رحمة الله بنا ذلّلها لنا، فهي المستقرّة التي نتحرك عليها باطمئنان، بينما هي المتحركة التي لا تتوقف عن الحركة... !

وليس المَشْيُ المأمور به هو الخَطْوُ على الأرض وحسب، بل هو المشي في أطرافها لاستكشافها، لاستغلال ما فيها من خيرات سخّرها الله، لتطويع ما على ظاهرها، وما بباطنها ... للعمل، للسعي، للبناء، للتعمير، للاكتشاف والاختراع، للانتفاع عليها بالعلم ... كل هذا هو المَشي المأمور به ...

" وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ " ...
إنّ الضمير في: " رِّزْقِهِ " وحده يذكّر، وينبّه أنّ ما عليها مما يَطعَمُه الإنسان وتستمرّ به حياته، وقد زرعه بيده، أو صنّعه بيده إنما هو منه سبحانه... عطاؤه وفضله... !
الضمير المتّصل وحده كاف لإحداث هزّة في الضمير... ! للتذكير والتنبيه، ولإيقاظ كلّ مَن تأخذه سِنة من غفلة في خضمّ العمل والحركة والاجتهاد، والتطلّع لثمرة الحركة والعمل، وتلمُّسِها  حقيقة متحقّقة ...

إنها الوسطيّة في الحال ... فهو الأمر بالحركة والتعلم والعمل ومواكبة ركب الحضارات لإعمار الأرض ... شريطة التذكّر دوماً أنّ الفضل من الله، وأنه عطاؤه ومَنُّه، وأنّه الذي سخّر وذلّل ...
لأنّ من شأن الإنسان إذا بنى وأعلى وشيّد، وبرع وصنّع واخترع،  أن يغترّ، وأن يظنّ بنفسه الظنون العُلا، حتى إنه قد بلغ  بمَن تمكّن منه الغرور أن رأى نفسه الربّ الأعلى ... أليس قد قالها فرعونُ زمانٍ مضى : "أنا ربكم الأعلى" ... كما قالها ويقولها الفراعنة في كل زمان... ؟ !
فهو أمر من الله الملِك سبحانه أن يتحرك الإنسان وفي رَوعه لازمةٌ لا تغادره أنّه عبدٌ للربّ الإله الملك سبحانه، وأنّ كلّ خير يبلغه إنما هو من فضله ونَعْمائه ...

وتزيد تتمّة الآية : "وَإِلَيْهِ النُّشُورُ " تنبيها وإيقاظا، وتزيد تأكيدا على هذا الحثّ المشروط، الحثّ الذي يُبقي الإنسان في دائرة إنسانيته... في دائرة حريّته التي لا تتحقق إلا وهو المتحرّر من قيود النفس إذا اغترّت، فطغت فرأت أنها المستغنية عن ربّها ... وهو سبحانه القائل: "كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَى(8) " -العلق-

فلننظر... !
فلننظر في الآيات الموالية، لنعرف أن الله عليم بأنّ الإنسان في حاجة إلى مزيد تنبيه وتذكير، وتأكيد على خطورة الفخّ الذي يوقع به نفسه وهو في غمرة الغرور يرى السمّ الزعاف المُهلِك عسلا مصفّى ... !

هذا التلميح بخطورة الغرور يحتاج إلى مزيد بيان، فينتقل سبحانه من التلميح إلى الإنذار، ليذكّر بغضبه وبمشيئته المطلقة :
"أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(18) "

أجل... تلك الأرض التي جعلها الله للإنسان ذلولا رَكوبا يرتع في أرجائها، فتطاوع مُراده منها، إنما هي كذلك من تذليل الله لها، هي الأرض ذاتها التي بأمر ربها تنقلب على الإنسان فتنخسف به، فإذا هي المائرة المضطربة التي لا يقرّ لها قرار... !

فبأيّ حال يكون له الأمر عليها إذا ما انقلبت عليه ؟!
وكذلك السماء التي سُخّرت له، تأتمر بأمر ربها، فكما قضى فجعلها سقفا محفوظا، وجعلها للإنسان عطاء وخيرا، كذلك تنقلب عليه عذابا إذا أراد ربُّها ...

أليس هذا إنذارا وتخويفا للإنسان من حقيقة ملك الله تعالى لسماواته وأرضه، الإنسان الذي يأخذه الغرور إلى غيابات جبّ التألّه والتربّب ؟!
ألسنا نعرف من الإنسان ذلك في كل زمان ؟!
فهذا عالِم اخترع أو اكتشف فأرْدَاه زُهُوُّه بعقله حَدَّ تأليهه بدل خالقه فيه، ظنّ أنّ الله محلّ نظر وتجربة وحِسّ في مختبراته، فأوجب وِفقَ ذلك إنكار وجوده ... !!

ألسنا نعرف الملِك الذي إذا ما مَلَك طغى وتجبّر وظلم، وحسب أنه الذي لا يُقارَع، فكان بالمرصاد لكلّ من تجرأ على مواجهته أو على ما يخالف أمرَه ؟! ولا عجَبَ في الاضطهاد الذي يُمارَس على كل من أعلن أنه عبدٌ لله وحده، إذ أنّ ذلك يقضّ مضاجع المتألّهين ويقطع عليهم طريق أحلامهم التسلّطية ... !

هذان المثالان وغيرهما على الأرض صورة للإنسان حين تأخذه العزّة بالغرور فيتألّه ...
وإنك إذا عرفتَ في أحدهم تماديا وإيغالا في الغرور والاعتداد بالعقل، أو بالجمال أو بالقوة، أو بالسلطان، خِلتَه قد جعل لنفسه جناحَيْن وطار ... !وهيهات هيهات أن يطير إنسان !!

إنه المستحيل الذي تعلم يقينا أنه لا يحدث، وأنه الذي لا يَقوَى عليه إنسان ... فتقول للمغرور غضبانا، ضاجا من غروره متحدّيا : إنْ وسِعك أن تطير فطِرْ ..! وتُلحّ عليه بقولك : طِرْ... طِرْ ... وأنت موقن أنّ ذلك مُعجزُه،  لعلّه ... لعلّه ينثني أو يَرْعَوي... !
فلنُنظر ... فإذا الغرور الذي عرفنا في الآيات السابقات تقدّماً تدريجيا نحو بيان خطورته على الإنسان، يُتبَعُ بحديث عن الطير :
"أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ"

أيها الإنسان الذي يغيّبك الغرور عن الحقائق، وأُولاها حقيقة نفسك، وحقيقة الغاية من وجودك، وحقيقة ما يربطك بهذا الكون المسبِّح، المُسخَّر لك من المَلِك الكريم حتى ترى نفسك الملك والمالك، فتَخْبط وتخلط، وترفُس وتعفِس في الأرض، تريد أن تنفذ من أقطارها...! حتى إنّك لا تحب لنفسك العظيمة المتعالية أن تهبط فتنظر إلى أديمها لولا خوفك التعثّر أو الوقوع ... ! فيا مَن تحرُسُ نفسك أن تقع، أنّى لك بحفظ غيرها من أن يقع ... !

فانظر... انظر أيها المغرور إلى السماء كما تحبّ أن تفعل... !
يا مَن أنت أكبر من الأرض وما فيها... يا مَن ترى بصَرَك حقيقا بالسماء لا بالأرض... أليس في السماء طيور ... ؟
إنها : " فَوْقَهُمْ " ... وهذا أول ما يشي بالفوقيّة عليك يا مَن ترى نفسك الأعلى... إنه يجتمع عليك اللفظ مع المعنى... !!

إنك لن تقوى على مُجاراتها ... إنها فوقك... !
وإن كنتَ على الأرض -التي لولا تذليل المَلِك لها لما عرفت عليها استقرارا- قد اغتررتَ واستكبرتَ حتى نسيت أنك ترتع في مُلك المَلِك، فإنّ الطير "فوقك" قد سُخّر لها جوّ السماء، قد سُخّر لها الهواء ... ذلك الهواء الذي لو داهمك منه تيّار قويّ وأنت على الأرض لما قويتَ على مقاومته، ولذهب طولك، ولذهبَتْ قوّتك أدراجَه : " وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا "-الإسراء:37-
إنها المسخّرة في جوّ السماء ... وما سخّرها لها إلا ربّ السماء، فهي السابحة فيها، كما سخّر لك الأرض فأنت المستقرّ عليها... !
فإنّ من شأن تأمّلك في أجنحتها المصفوفة والمقبوضة تخترق بها جوّ السماء العصيّ عليك أن يقصف أجنحة غرورك ... ! وأن يذكّرك بالملِك الذي ملك ما لا يبلغ بصرُك أعلى منه، بَلَهْ ما هو تحت قدمك... !!

"مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ..."
ثم انظر ... انظر كرّة أخرى، أليست تَسْبَح في جوّ السماء، تغلب الهواء ولا يغلبها ... أليست هي التي يمسكها الرحمن، فهي السابحة كيف تشاء ... ؟!

أليس هذا أحرى أن يكون حالك أنت أيها الإنسان ؟!
أن تستمسك بالعروة الوثقى، بالله سبحانه... بهُداه ... فإذا أنت المهتدي، الواثق من طريقه ومن مسيره ... الثابت، وما يثبتك إلا الرحمن ...
جدير بك يا صاحب العقل أن تبحث، وأن تسأل عن أسرار ذلك المخلوق الطائر ... فإنّ البحث سيُسفِر لك عن عجب عُجاب، عن عظمة مخلوق هي من عند الخالق لا من سواه... !

إنّ هذا الطير المُحَلّق فوقك لَـيُبصر طريقه كل الإبصار... بل إنه ليعلمها، وليتبيّن معالِمَها...فهو الذي يهاجر من قارة إلى قارة لا يخطئ طريقه، يعرف وجهته، ويعرف كل محطّاتِها، لا تختلف عليه الاتجاهات، ولا يَتُوه، ولا يذهب حيث لا يجب أن يذهب ... مزوّدٌ جهاز الإبصار فيه ببروتين يتبيّن به الضوء الأزرق والمجال المغناطيسي للأرض الذي يحدّد به الاتجاهات دون أدنى شك أو ارتياب. بل إنه الذي يهتدي ليلا بالنجوم ... !!

حريٌّ بك أيها الإنسان، أن تنطوي على نفس "طَيْرِيّة" تُقارع الأهواء، وتثبت في جوّ الابتلاء، تُبصر طريقها، وتعرفها، وتتبين معالِمَها، وتَسْبَح كيف تشاء وهي المستمسكة بالرحمان الذي لا يمسكها غيره... ! لا أن تتخذ الغرور أجنحة تريد بها أن تطير بلا هُدى...
وتالله ما تحملك تلك الأجنحة، وما تجدُك بها إلا بين يَدَي التّبار والخسار والرَّدى... وكيف يُفلح من اتّخذ من دون الرحمن هاديا ومرشدا ومثبتا ...؟!

يالِعظمة هذا السياق كُلّه ...!
يالعظمة التدرّج الربّاني في التربية، وفي طَرْقِ الموضوع من مواضيع النفس البشرية ... !!
يُطرَق الغرور في النفس في هذه السورة، التي هي سورة "الملك" ...
وهو من أهمّ ما يناسب جوّها المهيب، الغرور الذي يأخذ الإنسان إلى توهّم المُلْك على أرض لم تكن طَوْع يديه إلا من تذليل الله لها لتكون طوعه ... !

فمن التذكير بالتلميح، إلى التذكير بالإنذار والتخويف، إلى التذكير بالنظر في الطير ... وأيّ نظر هو ؟! يأخذك إلى عوالم لا إلى عالم واحد ...! يأخذك إلى نفسك، إلى حقيقتها... إلى التعلّم من الطير المحلّق... !

وها هي الآية الموالية تكمّل السياق وتُتَمِّمُه، وتؤكّد جَوَّه وهي تحمل الكلمة، انتهاء إلى التصريح الكامل من بعد ما عرفنا البدء بالتلميح في أول آية من هذا السياق، في قوله تعالى : " هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ " .

إنه مذلّلها سبحانه، وإنك مأمور بالمشي في مناكبها، والأخذ بالأسباب عليها، شريطة تذكّر أنّ ما عليها من عطاء هو رزقُه، رزق ربّ الأسباب ومسبّبها، وأنّه لا بقاء فيها، بل الرُّجعى إليه سبحانه ... فالأمر منه وإليه ...

ثم انتقالا إلى الإنذار والتخويف، حتى يُنتَبَه إلى خطورة السَّدر في غيّ الغرور، وأنّ الذي سخّر الأرض والسماء عطاء وخيرا ونعمة، هو القادر سبحانه على جعلها جنوده التي تنقلب على الإنسان المغرور الناسي ربّه عذابا ونقمة ... !

ثم توجيها إلى النظر في مدرسة الطير المُحلّق ... وانتهاء إلى مرحلة تسمية الشيء بمسمّاه في قوله تعالى : " أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ "...
"إِلَّا فِي غُرُورٍ"... أيّ جُند لأي مَلِك على الأرض هو ذو أوتاد وأوتاد يَنصُر من دون الرحمان الذي هو بكل شيء بصير ؟! إن هو إلا الغرور فيمن كفر بربّه وظنّ أنّ نصرا يأتيه من غير عند الله...
إنه لَفحة من لفحات الشياطين التي جعل الله نجوم السماء لها رُجوما، وتوعّدها بعذاب الآخرة الأليم، ثم بيّن مآل أتباعها على الأرض ... ومآل من يحسب لفحاتها نفحات ...فكان الغرور أحد أسلحتها الماضية في الإنسان... !

ويا آيات كتاب ربي إنه ليس شيء كمثل حسنكِ إلا آيات ربي ... !!
« آخر تحرير: 2020-11-19, 14:13:02 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ونواصل مع سورة الملك ...


هذه السورة العظيمة التي نمشي في مناكبها، فإذا كلّ ما فيها يصدع أنّ المُلك كلّه لله وحده...

فمِن بعد ما أُدْخِلنا مدرسة الطّير، وعرفنا اهتداءها لطريقها، وإمساك الله لها في جوّ السماء، فاستشرفنا نفسا "طَيْرِيّة" تستهدي بالله، ولا يثبّتها إلا الاستمساك بهدى الله في جوّ الابتلاء الذي خلقنا الله له...

ها هما الآيتان المواليتان تبيّنان أنه ما من جُند يَعتدّ به ملك على الأرض ينصر من دون الرحمن... أنه هو الناصر سبحانه، وأنه الرزّاق :" أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ(20) أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُور(21) "

واذكر معي... أليست قريش حديثة عهد بنصر، وبتأمين ؟!

ستقول لي: سورة الملك مكيّة، ولم يكن القتال قد فُرض على المسلمين في مكة وهم بعدُ قلّة مستضعفون لا دولة لهم ولا سطوة ... فعن أي نصر تتحدثين وعن أيّ تأمين ؟!
أجل... عن نصر وعن تأمين ... أليست حادثة الفيل قريبة عهد من أهل مكة ؟

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسِل إليه وهو في الأربعين من عمره، وهذه واحدة من أولى سور القرآن نزولا، فهو صلى الله عليه وسلم لا يزيد عندها عن ثلاثة وخمسين عاما، وحادثة الفيل كانت عام مولده المبارك، وعلى هذا فإن مَن بلغ من العمر ستين عاما والرسول مبعوث، قد عاين الحادثة وهو يَعدّ من عمره عشرة أعوام، ومنهم من عاينها وهو في العشرين...
لقد رأوا الطير الأبابيل وهي ترمي أصحاب الفيل بحجارة من سجيل، بحجارة من نار ... وكم يناسب ورود الجُند في هذه الآية، ونحن نتذكر كيف كان الطير جُنديّا من جنود الله تعالى ... فحمى الملِكُ سبحانه بيتَه من كيد مَلِكٍ ظنّ أنه القادر على هَدمِه مستقوياً بجنوده وبفِيَلته الضخمة، فبرك الفيل الموكّل بهدمه، وعصى أمرَ أصحابه، وأمّن الله سبحانه أهل مكة من خوف عظيم أحدق بهم... !

فأيّ جُند للملِك من ملوك البشر يَعتدّ به، ويظنّ أنه المنصور به على قوة أوتِيها لا من أمر الله تعالى...إنْ هو إلا الغرور الذي عرفْنا في البشر يُرديه فيُدخله لُجّ العماية...
ثمّ مَن ذا الذي يُطعِم من دون الله سبحانه إن أمسك رزقَه ؟؟ "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ(3) الذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ(4)"-قريش-

وإلى مبلغنا هذا من السورة، نكون قد عرفنا  من الملِك سبحانه إمساكا وإمساكا، وشتان بين الإمساكَين ... !

أليس هو الذي يمسك الطّير في جوّ السماء ؟ وإنه لو شاء ما أمسكهنّ، ولكن لأنّه سبحانه الرحمان، فهو يمسكهنّ، بل ما يمسكهنّ إلا الرحمان ... وهو الذي سبحانه لا يمسك رزقه، وهو الذي لو شاء أمسكه، ولكن لأنه الرحمن سبحانه فهو لا يمسكه... !  سبحانه قد رحم إذ أمسك، وقد رحم إذ لم يُمسك... !
فمَن ذا الذي يعلم علمه ويرحم رحمته فيُمسك ما يضرّ، ولا يمسك ما ينفع ... وحده الملك الرحمان سبحانه... !

وتنجو وتأمَنُ برحمته، وتَطْعَم برحمته، ثم تظنّ أيها الإنسان بنفسك الظنون ...؟!
ولكأني بالمولى عزّ وجلّ يجيب على هذا السؤال الذي يردّده الإنسان خاشعا ذليلا إذا ما عرف حقيقة نفسه، حقيقة ضعفه، حقيقة أنّه وما يملك مملوك للمَلِك سبحانه، يجيب على سؤال مَن انقلب إليه عقله وقلبه خاسئَيْن حسيرَيْن وقد عرفا أنّه ما من فُطور في قضيّة أنّ المُلْك بيد الله وحده، فيقول سبحانه :
"أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(22)"
سؤال يحثّ العقل بمثال حسيّ يعرفه الإنسان في الماشي والماشي، بين مَن يمشي على وجهه يعفس ويرفس ولا يعرف له طريقا، ومَن يمشي مستويا مطمئنا مبصرا لطريقه، عارفا به مهتديا...فهو مستوٍ، وطريقه مستقيم ...

وتعود بي الصُّور إلى الطّير الذي عرفناه من إمساك الله له، يستبين الطريق ولا يخطئه وهو في جوّ السماء ...كما أنني أجمع سحابات السورة، فإذا الغيث منها ينهمر، وإذا "الصراط المستقيم" مرسوم في السورة مَعلَما إثر مَعلَم ...

إنه الهُدى، وإنه الطريقّ السويّ ...
أليس قد تبيّن لك معلم على الطريق المستقيم وأنت تعرف أنّه سبحانه هو الذي بيده الملك، وأنه الذي خلقك ليبتليك ؟

ما خُلقتَ إلا لتُبتَلى ...هكذا بالمواجهة الصريحة التي لا مواربة فيها، لم تُخلَق لتعرف السعادة والهناءة أبدا، كما يريد أن يصوّر الحياةَ أهل المادة ولا إله، حتى تاهوا وضاعوا وهم في دار فيها من الشرّ كما فيها من الخير، وهم قد قرّروا أنهم يريدون السعادة بلا انقطاع، لأنهم لا يؤمنون بدار أخرى يكون فيها للمُحسن ما أحبّ وما ابتغى، دارٌ لا تنقطع فيها سعادتُه، بل فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر بقلب بشر... !

إنك أيها الإنسان تُواجَهُ بهذه الحقيقة على طريقك، فإذا وعيتَها لن تُدندن كما دَنْدَنَ شاعر تائه متخبط : (جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتيت ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت وسأبقى ماشيا إن شئتُ هذا أم أبيتُ كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري! وطريقي، ما طريقي؟ أطويل أم قصير؟ هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور. أأنا السّائر في الدّرب أم الدّرب يسير أم كلاّنا واقف والدّهر يجري؟ لست أدري)... !

ورُكّبَت الألحان لأقواله على أنها العظيمة ... وصدح بها المغنّي والمغنّي، وترنّم بها شباب المسلمين جيلا بعد جيل ...! وما هي في حقيقتها إلا حال المُكِبِّ على وجهه الذي لا يدري لمَ خُلق... !

أليس مَعْلَماً جديدا على طريقك المستقيم علمُك بأنه سبحانه الذي حسم الأمر في السماء، وترك أمر الأرض للابتلاء، وأنّ الهُدى قائم على خشيتك ربَّك بالغيب، بل يُزاد بها الهدى على الهُدى : "ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3) "

أليس مَعْلَماً على طريقك المستقيم أن تتسلّح باليقين بالله مَلِكاً ومالِكاً مهما بلغ عقلك المَبَالِغ، ومهما طوّعتَ الأرض لمُرادك ؟ فتسعى بالعقل وبالجُهد وأنت موقن بأنك المملوك للملِك في مُلك الملِك ...؟ !

كلها معالم على الطريق المستقيم تُدِرّها السورة وتجود بها بيانا حتى نبلغ قوله سبحانه منها : " أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(22) "
لتجيب أيها الإنسان بأعلى ما فيك : بل الذي يمشي سويا على صراط مستقيم يا رب ...

إذن فهو الهدى من الهادي سبحانه ... وقد اصطفى من عباده لتبليغ هُداه رُسلا مبشرين ومنذرين ... ولهذا نجدُنا بتسلسل عجيب، وبانتظام واتساق بين يدَي مجموعة آيات، كلها فيها الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم متمثلا في "قُل" ...لنجدنا مع أسلوب مغاير لما عهدناه في الآيات السابقات، وهذا حال القرآن ينوّع الأساليب في جماليّات مركّبة بعضها إلى بعض، لا تكاد تُعجَب بإحداها ويُبهِرك انسيابها حتى تدخل عالم الانبهار بالأخرى... فلا تملك أن تفاضل بين هذه وتلك وأنت تقول في كل مرة، ومع كل أسلوب : ليس أروع من هذا ... !

إنها نهايات السورة ...إنه الهادي سبحانه إلى الصراط المستقيم، وعَبْرَ نبيّه المصطفى صلى الله عليه وسلم يبلّغنا هُداه ... فيأمره أن يذكّر عباده بأول خلقه لهم، وامتنانه عليهم بما من شأنه أن يجعلهم مُبصرين بقَدْرِه سبحانه عارفين به، شاكرين له، ثم أنه كما خلقهم ثم ذرأهم وكثّرهم وبثّهم في الأرض سيُحشرون إليه : "قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ(23)قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24) "

ثم هُم كعادتهم اللاجّون في تكذيبهم بما أنبأهم المبلّغ عن ربّه :" وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(25) "
فيعلّمه الملِك سبحانه، أنه ليس للمملوكين أن يسألوا عما قضى الله أن يبقى من خاصّة علمه وحده، وهو الذي لا يسترضيهم ليرضوا، وما قضاه قد قضاه: " قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ(26)"
حتى إذا رأوا الوعد الحقّ قُبالة أعينهم ساء مرآه وجوهَهم : "فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ(27) "

ولَكَمْ تمنّوا هلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه، ولكم يتمنى اليوم أشباههم وورثة عُتُوّهم وباطلهم وضلالهم هلاك المؤمنين في كل أرض. حتى قيّضوا في بلاد الإسلام مَن يعمل على إهلاك أهله ودُعاته بكل سبيل، فكان لهم من بني الجلدة من يخدم مآربهم ويكفيهم مؤونة الحرب والسلاح، وهم لهم سامعون مطيعون، والله سبحانه يبيّن بتلقين نبيه صلى الله عليه وسلم أنّهم وإن كانت تلك غاية أمانيهم، وتحقّقت فماذا ينفع الكافرينَ هلاكُ المؤمنين والعذاب الأليم لا محالة لاحقُهم: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) "

ثم ... وأخيرا ... هي ذي عقيدة المؤمنين تُسفِر عن نفسها بما يُلقَّن الرسول صلى الله عليه وسلم : "قُلْ هُوَ الرَّحْمَٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (29) "
إنهم الذين جاء فيهم في هذه السورة : " إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(12) "

إنهم الناجحون في الابتلاء ... إنها عقيدتهم، وإنها سبيلهم، وإنها صراطهم المستقيم ...
ألسنا قد عرفنا أنّ من جواب الكافرين لخزنة جهنّم قولهم :"قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ"
كانوا يقولون للرسول من رُسُل رب العالمين ما نزّل الله من شيء، كما كانوا يصِمونه ومَن معه من المؤمنين بالضلال الكبير : " إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ".
فإذا تأملنا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقّنه ربّه أن يُسمعهم في الدنيا بصيغة الجمع قوله : " هُوَ الرَّحْمَٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ".

فليس سَوْقهم لما كانوا يصِمون به الرسول مع أتباعه، إلا من توعّد الرسول لهم في الدنيا أنهم سيعلمون من هو في ضلال مبين... فلما علموا يوم لا ينفعهم علمهم، وعرفوا المقام والمآل، اعترفوا أنّ قولهم كان باطلا، واعترفوا أنهم أهل الضلال المبين ... !

وكما بدأت السورة تنتهي ... بدأت بإقرار أنما الدنيا دارٌ للابتلاء، وليتبيّن فيها المُحسن من المسيء، ولينال كلٌّ جزاءَه، وهي ذي تنتهي بما يُلَقَّنُهُ الرسول صلى الله عليه وسلم مما عرفنا من إقرار الحقائق ذاتها...

ثمّ تُختم بقول الملِك سبحانه، الذي يملك أن يُمسك وأن يُرسل، ولا تَحُدُّ قدرتَه حدودٌ، ولا تعلو على مشيئته مشيئة : " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ "
فإن كنتم قد كذّبتم باليوم الآخر وبما يكون فيه، فأنتم أولاء في الدنيا، وهي ذي محاجّة عن الدنيا، عن الحياة ...مَن ذا يأتيكم بسبب الحياة الأعظم ... الذي جُعِل منه كل شيء حيّ إذا ما ذهب وانقطع ...؟!

لنتأمل ... إنه : " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ "... ثم في نهايات السورة، ها هو ذكر الإنعام بالحياة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ثم التذكير بالموت وما يتبعها يوم الحشر، ثم يعود ذكر الحياة بهذه الآية الأخيرة ... وكلّه مُلْكُه، وكلّه خَلقُه ...الموت والحياة سواء بسواء... لا تصرّف لأحد سواه في شيء منها ... !

وإنني لا أرى في هذه الآية الماء الذي يُشرَب، وحياة الأجسام التي به تقوم وحسب ... بل تتراءى لي حياة أعظم، حياة أعمق ... !

إنها حياة القلوب... وهو سبحانه الذي أراد لعبده حياة للجسم تلازمها حياة للقلب بالإيمان والهُدى، ولم يُرِد له حياة ظاهرية تنطوي على موت في القلب بالكفر والجحود والنّكران والتّيه في الضلالات تسوق للضلالات، والعَمى يقود إلى العمى ... !

فمَنْ... ؟ مَنْ غيرُ الله تعالى يأتي بالهُدى المَعين كلّما غار الإيمان في الأرض... رسولا إثر رسول ونبيّا إثر نبيّ، ختاما برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالقرآن حياةً للقلوب في أرض غار فيها الهُدى، ونضب مَعينُه ...نضب في الأرض كلّها : "وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"-الشورى: 52-

جاء بالقرآن روحا وحياةً للأرض كلها... !!

وأيّ سورة هي سورة المُلك ... والتي لا يسعني مع نهايتها إلا أن أقول قوْلي في كلّ مرة، ومع كل سورة : وأي شيء أعظم، وأي شيء أجمل ؟!
إنها سورةٌ تُشعرك بالتحرّر من كل قيد، وأنك العبد ... !
نعم... العبد لله وحده لا لأحد سواه ... تشعرك بقوة مليكك، وبوجوب العبودية له، بل وتُحبّبك في العبودية له ...

كيف لا وهو الملِك الذي أنزل القرآن العظيم ... ! الذي أنزل سورة المُلك ...!
« آخر تحرير: 2020-11-19, 14:56:46 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب