وإنه لإعجاز من من إعجاز أسلوب القرآن العظيم أن تحمل الآية المعنيين :
** البرّ كفعل من العبد
**والبرّ كجزاء من الله ..
** الحديث عن سوء استغلال الدنيا من الكافر
** يقابله حُسن استغلالها من المؤمن
وكالعادة دأبي في عَرَض حياتنا على هذا الدرب أن أتبيّن التسلسل والتناسق فلا يُغمّيه عليّ شيء، سائلة الله أن يرزقني بصيرة لذلك من عنده... فأين الانقطاع وما تكلّفْنا الترابط بل هو الناطق عن نفسه بنفسه ... ؟!
وما أزال أتملّى جمال الآية وتعدّد أوجهها ...
حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ لعلّ أحدا أن يرى الإكثار على المؤمن بهذه الدعوة للإنفاق مما يحب، من أكثر شيء يحبّه في الدنيا، لعلّه يقول بأنه التعسير والتضييق ...
أقول ... بل إنه على حقيقته التخفيف ... أجل التخفيف بما تؤتيه الكلمة من معنى ...
ألم نعلم ونفهم، بل ألم نُفجَع بصورة ذلك الكافر يوم الهول الأعظم وهو يودّ لو يفتدي نفسه بملئ الأرض ذهبا، والأمر أنّ أمنيته هباء من الهباء وسراب من السراب والله لا يقبلها منه ؟
أي إكثار بالإنفاق مما يحبّ العبد في الدنيا أمام صورة ذلك الكافر الذي لن ينجّيه من عذاب الله ملء الأرض ذهبا ؟!
بل إنه التخفيف وإن الذي يقرأ لليوم الآخر قراءته السليمة، وينظر بعين المؤمن به وبحلوله لن يستكثر تكليفا من ربه، ومن لا يحسن إلا قراءة ظاهر من الحياة الدنيا فسيستثقل كل تكليف ...
وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ(92)عليم سبحانه بالنية من إنفاقه، سواء كان الكثير أو القليل، ورُبّ قليل مخلصٌ صاحبه لوجه الله وهو ينفقه، خير من كثير ينفقه صاحبه رياء ...! ولا يعزب عنه سبحانه مثقال ذرة، وحتى لا يظنّ ظانّ أنّ: "
مما تحبون" تقتضي الكثير والنفيس، بل هي مما يحب كلٌّ بما هو مُيسَّر له، فمَن ينفق بما يتناسب وبسيط إمكانياته وهو مما يحب أدرك البرّ، ومن أنفق مما يحب متناسبا مع إمكانيات أكبر هي في متناوله قد أدرك البرّ أيضا .إلا أن الشرط اللازم لكليهما أن يكون لوجه الله تعالى خالصا ... ولذلك جاءت: "
من شيء" لأن قليلا خالصا لله خير من كثير لا يُتوِّجُه الإخلاص.
وسبحان الله والحمد لله على كلام الله بين أيدينا جمالا وجلالا وكمالا يجعلنا نسبح في عالم من الإعجاز الذي يزيد العبد يقينا على يقين ... رزقنا الله اليقين .
إذن فبعد ما كان من بيان أحوال أهل الكتاب، وبيان أن الدين الحق هو الإسلام وهو ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه على خطى كل أنبياء الله دينا واحدا، وبيان أن ما عداه من اعتقاد كفر تكشّفت لنا في الآيات الأخيرة مآلات أصحابه ...
بعد كل هذا نلاحظ كيف أنّ الله تعالى توجّه للمؤمنين بهذا الخطاب الأخير دخولا إلى جوّ من العمل بمقتضى الدين وبمقتضى اعتقاده،
وفي معنى نوال "البرّ" ما يدلّل كبير دلالة على أن هذا الدين ما جاء إلا ليسمو بالعبد بدعوته إلى خير العمل الذي يقابله خير الجزاء.ماذا بعدُ... ؟ فلــــــنرَ ...
7-ب) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(93) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(94) قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(95)لقد أرشد الله تعالى المؤمنين إلى البذل من أكثر ما يحبون ابتغاء نوال البرّ درجةً سامقة في الثواب والجزاء، وحتى يوقَى شُحّ نفسه فيبلغ منها درجات العطاء العُليا... وإنّ هذا الذي يترك مما يحبّ في سبيل الله وفي سبيل جزائه يقابله في هذه الآيات تطبيق من تطبيقات الأنبياء قادة الناس إلى أوجه البرّ ...
كيف ذلك ؟ وأين ؟كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(93)سنمشي مع هذه الآية خطوة بخطوة ... فإنها تبدو لي بحاجة إلى فهم دقيق لتشرّب معناها ووجودها في هذا السياق، وعليه فسأرتب أبعادها في نقاط :
أولا : إنه إسرائيل وهو الاسم الثاني ليعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.. حرّم على نفسه بعض الأطعمة مما يحب نذرا لله تعالى عندما شفي من مرض أصابه . ورد ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في مجيئ وفد من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه في خِلال لا يعلمهنّ إلا نبيّ، فكان حوار بينه وبينهم جاء فيما جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم لهم:
"
هل تَعلَمون أنَّ إسرائيلَ يعقوبَ عليه السَّلامُ مرِضَ مرَضًا شديدًا وطال سَقَمُه، فنَذَرَ للهِ نذْرًا، لَئِنْ شفاهُ اللهُ تعالى مِن سَقَمِه ليُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرابِ إليه، وأَحَبَّ الطَّعامِ إليه، وكان أَحَبُّ الطَّعامِ إليه لُحمانَ الإبلِ، وأَحَبُّ الشَّرابِ إليه ألبانُها؟ قالوا: اللَّهمَّ نعَم. قال: اللَّهمَّ اشهَدْ عليهِم. " –مسند الإمام أحمد-
وهذا هو وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها من حيث سلوك سيدنا يعقوب عليه السلام سلوك البرّ بأن حرّم على نفسه أحبّ مأكل إلى قلبه وأحب مشرب، لحم الإبل ولبنَها نذرا عن طيب خاطر متقرّبا به لله تعالى، زاهدا في أكثر ما يحبّ لينال من الله ما يحبّ. برَّ وبلغ البِرَّ لينال بِرّ الله تعالى وإحسانه .
وهذا التعبير بـ: "
حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ " يبيّن لنا تمام البيان كيف أنه لم يشرّعه لقومه تحريما، وذلك ليس له بل لله تعالى المحلل والمحرم سبحانه، ولكنه حرّم على نفسه على وجه التقرّب لله والشكر له على نعمه. وهذا ما يُسمّى
تحريم المنع ، وغيرُه يسمى
تحريم الشرعومن أمثلة تحريم المنع قوله تعالى : "
وحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن ..." –القصص:من12- ومن أمثلة تحريم الشرع : "
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ... "-النساء:من23-
ثانيا : ما يريده الله تعالى من أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا الذي حرّمه إسرائيل على نفسه هو ذاك الذي حاجّت فيه يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإننا بهذه الآية نعود إلى سابق الآيات التي حكت عن أحوال أهل الكتاب، وعن الحوارات التي كانت معهم، وعن محاجّاتهم ... يعود بنا الله تعالى إليها استكمالا، وفي مزيد بيان للحجة الدامغة لباطلهم الذي يتمايلون به ذات اليمين وذات الشمال ...
ولقد عرفناهم يحاجون في إبراهيم عليه السلام على أنه اليهودي أو النصراني(66-68)، وعرفنا التلقين الإلهي لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، وعرفنا زيادة على ذلك أن أولى الناس بإبراهيم هم الذين اتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم .
ولكأنّ الله تعالى يعود بنا إلى تكملة تلك المحاجة، وهم قد لغَوا في القول بأهليّة المسلمين لإبراهيم لا بأهليّتهم هُم وهم يفترون على اعتقاده الكذب ... فقالوا لرسول الله لو أنك كنت على ما كان عليه إبراهيم لكانت هناك مطاعم محرّمة عليك وعلى من اتبعك كما كانت محرّمة على إبراهيم وعلى من جاء من بعده ...
إنهم هنا قد افتروا على إبراهيم فرية جديدة بأن ادّعوا أنّ لحوم الإبل وألبانها كانت عليه محرمة كما هي محرّمة عليهم، وليس هذا منهم إلا تعزيزا لقولهم بأنهم الأولى بإبراهيم، وما أولويتهم به إلا بمزيد افتراء عليه، وأنّ ما عليه محمد وأتباعه ليس ما كان عليه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
وقبل أن أستطرد ... أحب أن أتأمل أولا موضع تكملة هذا الحوار ... لماذا لم تكن في سياق الحوارات والمحاجات ؟ بل جاءت متأخرة عنها ....
لقد تبيّن الآن حقيقة ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه من اعتقاد مع ما رأينا من تدرّج في تعريف الإسلام وصولا إلى أنه الدين عند الله الذي لا يُقبل من أحد دينٌ غيرُه... دين الفطرة والأصل، الدين الذي عليه كل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، بالدعوة الواحدة والاعتقاد الواحد .
ولندقق بالمخطط أدناه :