2-د) وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(72) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(74)
إننا ونحن نمشي الهُوينى بين الآيات المحدّثة عن أهل الكتاب، سنجمع أطرافا إلى أطراف لنرى نَظما بديعا يختصّ به القرآن. يعطينا صورا مجسّدة عن أحوال هؤلاء وعن صفاتهم، وكأننا نرى إعراضهم بأعيننا، وكأننا نتتبّع خطاهم وهم يتسللون بين المؤمنين، يشيعون أكاذيبهم وأباطيلهم وغاية أمنياتهم أن يضلوهم عما جاءهم من الحق ...
ولكأني ألمحهم وهم يعضّون أنامل الغيظ من الحسد والغيرة ... فهم يسعون سعيهم بكل سبيل بإلقائهم الشُّبهات، وتصيّدهم لما يوقع المؤمنين في شِراك الشك والتململ والاضطراب ...
تمهّلوا ...! فسنجمع هذه الأطراف التي تجعلنا نتحرك حيث يتحركون، ونبصرهم وهم يتحيّنون المكان والزمان لردّ المؤمنين عن الحق ...
أين نحن الآن ؟؟
إنّنا نسمع الله تعالى وهو يخبرنا عن مكرهم الذي يمكرون، وكيدهم الذي يخطّطون له بليل، يخططون له خفية عن أعين الناس جميعا، ولكنّ الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية يفضحهم ويُعلِم المؤمنين بما يحسبه أولئك المجرمون يخفى على العليّ سبحانه !
ولكأني بهم يُتمتمون في ليل مُرخٍ سدوله على الناس فهُم في غيابات النوم والسكون، بينما هُم يظنّون من إجرامهم وانعدام إيمانهم وتقديرهم لله تعالى أنّهم يُسِرّون فلا يدري عن سرّهم حتى عالِم سرّ الأسرار، الذي يعلم دِقّ النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء ...
أراهم مجتمعين... تقدح أعينهم شرا ومكرا وتنضح قلوبهم حقدا على رسول بُعِث بالحق فكان سبب انفضاح حالهم وقد لبّسوا على العرب زمنا طويلا أنهم أهل الكتاب الذين نزلت فيهم الكتب من السماء، والذين بُعث فيهم الأنبياء ...
أطِلّ من نافذة كلمات الآية ... فألمح رؤساءَهم وأسيادهم الآمِرين، وهم الذين وصفهم الله تعالى في الآيتَيْن السابقَتَيْن بـ : "
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُون" "
وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " ...
الذين يحملون لواء العلم بينهم، ويحملون راية الشهادة على ما أنزل الله تعالى ...
هؤلاء الذين يُفتَرض بهم أن يقودوا الناس إلى هُدى الله، ويبلّغوه لهم وهم ورثة الأنبياء، هم أنفسُهم مَن يسعى حثيث السعي لإضلال الناس ...! وتلك الطامة الكُبرى ...!!
لنستمع إلى ما يقولون... لنستمع إلى ما يأمرون به مَن هُم دونهم لينفّذوه ... إنّ الآيات ليُصدِّقُ بعضها بعضا ... إني لأرى كيف هُم أولاء أربابٌ آمرون بغير الحق، يأمرون بغير أمر الله، ويتخذهم المأمورون أربابا من دون الله، وهذا ما جعله الله بَندا من بنود الكلمة السواء التي تساوي بين الكلّ وتجعلهم على عقيدة واحدة صافية نقيّة ...
"آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"
هذا قولهم الذي قالوا ... هذا ما حسبوه مستترا عن عالِم السرّ والعلانية، هذا ما ظنوا أنهم يُخفونه ويتسارّون به ولا يعلمه غيرُهم، بينما يكشفه الله تعالى في كتابه، ويصبحون بعد ليل مكرهم ذاك وهم يسمعون المؤمنين يتداولونه فيما بينهم، يتْلُونه قرآنا نازلا حديثاً من ربّ السماوات والأرض ...عالم الغيب والشهادة ...
هم أولاء يأمرون : اذهبوا، وتسللوا بين المؤمنين، وادّعوا إيمانكم بما آمنوا به، ادَّعوا أنكم منهم، وأنكم مصدّقون بما صدّقوا به وجه النهار أي أول اليوم، ثم عودوا آخره وأعلنوا كُفركم بما هُم عليه لعلّ ذلك أن يكون دافعا لهم ليرتابوا ويشكوا، وينظروا في أمركم وأنتم أهل الكتاب المعروفون بينهم من أزمنة بعيدة، الذين اختصّكم الله بالكتب السماوية قبلهم، وتُعرفون بينهم بالعلم...
سيقولون ما كان لهم أن يؤمنوا أصلا إن كان الحسد دافعهم في إعلان كفركم، بل لقد آمنوا ثم هُم أولاء يكفرون، ولو أنهم وجدوا الحق الذي عرفوه قبلنا من كتب نزلت فيهم لما رجعوا كافرين بما آمنوا به وقتا ...! لا بدّ أنهم قلّبوا في هذا الدين نظرهم الفاحص وأعملوا فيه علمهم الراسخ ... ولذلك قد تركوه ... !!
وهكذا سنحقّق مأربنا ... سنحقّق أمنيتنا بأن نجعلهم في حيرة من أمرهم وشكّ من دينهم...
إنها الحيلة المُحاكة المحبوكة التي لن تجعلنا موضع اتهام عندهم، بل ستجعلنا أصحاب قرار مُتَّخذ عن علم وعن بحث وعن نظر، وأصحاب نوايا حسنة. حتى أننا دخلنا معهم ولم نستكبر، ولم يكن إعراضنا هكذا من غير معرفة بما عندهم ...!
إنهم بهذا سيضطربون، سيشكّون ... وليس أقرب للتراجع عن أمر من الشك فيه... وهذا ما نبتغي... سيرجعون ...
ألم تخبرنا آية قريبة سابقة أنهم يتمنون إضلال المؤمنين ؟
فلنتأمل ... أليس في هذه الآية الآن تفصيل لسبيل من سُبُل إضلالهم ؟؟ أليس في كشف الله لخُططهم معنى أنهم يحسبون أنفسهم الناجحين وهم الفاشلون في الإضلال : "وما يشعرون"
لنتأمل هذا المخطط :
ويتراءى جليّاً أنّ هذا إخبار عن غيب لا يعلم به أحد، وهو لو كانوا على غير حالهم المركوسة دافعٌ من دوافع إيمانهم وتسليمهم لهذا الحق والإذعان له... ولكنهم كما وصفهم القرآن كالحجارة بل أشد قسوة ...
ومازالوا يُتَمْتِمون، ويُسارّ كبراؤهم صُغَراءَهُم، ويعتدّون بهذه الخطط الشيطانيّة منهم وهم يرون فيها غاية المكر والدهاء والانتصار لباطلهم...
مازلت أستمع إليهم يكملون توصياتهم :
وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(73)احذروا أن تؤمنوا لهم، احذروا أن يأخذوكم في دينهم... لا تؤمنوا إلا لمن كان تبعا لدينكم...
فيكون معناه نَهْيُهُم عن الإيمان بما عليه غيرهم، وهنا نلاحظ كيف أنها "
لــمن" مسبوقة بلام، وهناك فرق بين "آمن بـ" و"
آمن لـ" (آمَنَ بِهِ : وَثِقَ بِهِ وَصَدَّقَهُ آمَنْتُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) (آمَنَ لَهُ : اِنْقَادَ لَهُ وأَطَاعَهُ) .
فتأتي هنا : "
لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم" مزيد تحريض على ألا يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يطيعوه، ولا ينقادوا له، على اعتبار ما كانوا يرونه من أنّ شريعة التوراة لا تُنسَخ، ولا يتأتّى لأحد أن يأتي بشرع غير شرعها لأنّ ذلك عندهم يُعدّ من البداء أي تبديل الله لكلامه ... تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ..
وفي هذا حضّ لهم على الثبات على ما هم عليه لأداء مهمتهم كاملة كما خُطّط لها، وتحسبا لئلا ينقلب السحر على الساحر...
يأتي ما لقّنه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم مقابلة لمكرهم وكيدهم وحِيَلِهم الشيطانية ...
"
قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ"... الهدى الحق هو هدى الله لا غيره، لا ما يدّعونه دينا وأنهم أتباعه.. ويَدْعون إليه بهذه الحِيل والأحابيل .. وفيها إيماءة إلى أنّ مَن لم يكن من حظه هُدى الله تعالى فلا قدرة لأحد على هدايته .
"
أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ" ولقد اختُلِف في هذا الكلام، أهو من تمام ما يلقنه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، أم أنه من تمام توصية رؤساء أهل الكتاب لمرؤوسيهم ..
والغالب والأقرب أنه من تمام كلام رؤساء أهل الكتاب لمرؤوسيهم. فإن "قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ " جملة معترضة يأتي بعدها تمام كلامهم ..
وفي التركيب اللغوي لهذه الآية ما أحب أن أضع فيه كلاما لابن عاشور :"
فتقدير الكلام لأن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وحذفُ حرف النفي بعد لام التعليل ، ظاهرةً ومقدّرةً ، كثيرٌ في الكلام ، ومنه قوله تعالى : { يُبين اللَّه لكم أن تضلوا } [ النساء : 176 ] ، أي لئلاّ تضلوا."-التحرير والتنوير-
لئلا يتحقق في أذهان المسلمين أنهم أهل كتاب حقيق بأهل الكتاب أن يتبعوه ويتبعوا دعوته وشريعته، أو أن يحاجوكم عند ربكم بأنّكم وقد اتبعتم فقد أقررتم بصحته .
وفيه تحذير ضمنيّ من أن يطلعوا غير أهل دينهم على ما في كتبهم من ذكرٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولنبوته، لئلا يعلم المسلمون أنهم قد أوتوا ما جاءت كتب أهل الكتاب ذاكرة له ومقرّة بحصوله، أي أنه يتأكد لهم أنهم أوتوا كتابا من الله كما أوتي أهل الكتاب، وأنهم بذلك سيحاجونهم يوم القيامة، منكرين عليهم كفرهم بما جاءت كتبهم مبشرة به مقرّة له ... وفي هذا مزيد تأكيد وتحريض منهم على كتم الحق الذي في كتبهم ...
فيأتي ردّ الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم أنّ الفضل بيد الله، ولذلك آتاهم سبحانه من فضله بمشيئته الواسعة وبعلمه بمَن يستحق هذا الفضل وهذا التخصيص ...
يقول ابن عاشور في "واسع" : "
و { وَاسع } من صفات الله وأسمائِه الحسنى وهو بالمعنى المجازي لا محالة لاستحالة المعنى الحقيقي في شأنه تعالى ، ومعنى هذا الاسم عدمُ تناهي التعلقات لصفاته ذاتتِ التعلق فهو واسع العلم ، واسع الرحمة ، واسع العطاء ، فسعة صفاته تعالى أنها لا حدّ لتعلقاتها ، فهو أحقّ الموجودات بوصف واسع ، لأنه الواسع المطلق.وإسناد وصف واسع إلى اسمه تعالى إسناد مجازي أيضاً لأنّ الواسع صفاتُه ولذلك يُؤتَى بعد هذا الوصف أو ما في معناه من فعل السعة بما يميز جهة السعة من تمييز نحو : وَسِع كل شيء علماً ، ربنا وسعت كلّ شيء رحمةً وعلماً."-التحرير والتنوير-
ويقوّي أنّه من تمام كلام رؤساء أهل الكتاب قوله تعالى : "
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"-البقرة:76-
وينتهي هذا الجزء بقوله تعالى :
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(74)لقد اختصّ برحمته سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم، وهو ذو الفضل العظيم.
ونخلُص من هذه الآيات الأخيرة إلى أنّ هذا من الغيب الذي أنبأ به القرآن المؤمنين، فيحصل أنّ إضلال أهل الكتاب لهم أمنية تذهب أدراج الرياح مع ما يتصدّى به القرآن لهم من فضح وكشف لأخصّ أسرارهم، ولأكثر أحابيل حِيلهم حياكة وحبكا...
وأي غباء عليه أهل هذه الحيلة وهم لا يعرفون لله قدره، فيرون أنّ محاجّة المسلمين لهم يوم القيامة عند ربهم سيمنعها ويدفعها كتمُهم الحق الذي جاء في كتبهم، والذي أمِروا أن يبلّغوه ...! بينما يقوم القرآن بدور الكاشف لتلك الحقائق لأنه من عند الله الذي لا تخفى عليه خافية، والذي ينزّل على عبده أنّ الكتب السماوية جاء فيها هذا الذكر ...لقد أخفوا ما أنزله الله عليهم، فأبداه الله فيما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم.
وكما تعوّدنا في قراءتنا وتأملاتنا أن نرقُب الترابط الحاصل بين الآيات، وإنها لمترابطة أيما ترابط، متّسقة أيّما اتّساق !!
بعد أن أنهينا إطلالنا على تآمرات أهل الكتاب، وتخطيطاتهم وحِيلهم والله سبحانه يُطلعنا على غيب من الغيب، وهم مستترون بالجدران، ملتحفون بدَمَس الليل الصامت الساكن ... نلاحظ كيف أن هذه الآيات (72-74) جاءت تفصيلا للآية 71 : "
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ"
وأضع تفصيل ذلك على المخطط التالي: