وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌإنه سبحانه المحيي المميت، هذا هو التصحيح لهذا الاعتقاد المشوّه الذي تنضح به أوعية المنافقين، والذي لا يجب أن يمرّ دون تصحيح، لئلا يتشوّش المؤمنون... هذا هو التصويب الإلهي، والتوجيه الرباني لعباده المؤمنين أن يكون هذا اعتقادهم، لا تلك التصوّرات المشوّهة التي تغشى قلوب الكافرين ...
إنه سبحانه المحيي والمميت، الحيّ الذي لا يموت، وقد كان أمره في عباده حتما مقضيا ... لا يؤخّر الموتَ عمّن حضره مؤخِّرٌ، ولا يقدّمه لأحد مقدّم ...
في هذه الآيات يرسّخ الله في نفوس المؤمنين حقيقة الموت، من خلال الرد على شُبَه المنافقين في كل زمان، ما حاولوا به زعزعة إيمان المؤمنين في ظروف غزوة أحُد، وما يسعى به منافقو هذا الزمان في ظروف مماثلة لها نعايشها اليوم، سعيا حثيثا وعملا مكثّفا مدعّما من العلمانيين وأنصارهم أصحاب الأهواء والشبهات والشهوات ...كما عرفنا سابقا في : "أُحُد وأيامنا"
11-ب)وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ(157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ(158) أنتم أيها المؤمنون ... أيها المعنيّون بهذه التربية الربانية السامية...
تلك التي ابتدأت بالتحذير من سلوك درب الكافرين المخلِطين والمُخبطين في أمر الحياة كما في أمر الموت، فهم كما لا يعرفون حقيقة الهدف من الحياة، أو الأحرى أن نصفهم بالمنكرين لما سطّره الدين من هدف للحياة... كذلك هم لا يعرفون حقيقة الموت ... لا يعرفون حقيقة البداية كما لا يعرفون حقيقة النهاية ... التصوّر السليم مغيّب عنهم ...
فملاحِدة ينادون بألا إله والحياة مادة، وأنه لا حياة بعد الموت، وأنّ الإنسان جاء صدفة وبخبط عشوائيّ، كضربة حظّ في لعبة نرد ...! فهم التائهون، الضائعون الهائمون على وجوههم يعرفون الوجود وينكرون حقيقة معناه، ويعرفون الموت، وينكرون حقيقته ...يتشبثون بالأوهام وباللاهدف وباللامعنى ... وبالعشوائية، وبضربة الحظ ...! هكذا في عالم عظيم التركيب، دقيق التكوين، ليس لشيء من أتفه وأضعف أشيائه خبطُ عشوائية، فكيف بسيّد الكائنات فيه أن يكون بخبط عشوائية ...؟!!
واليوم أولئك "الطبيعيوّن"، الرافضون للاعتراف بإله خالق مبدع واحد يعبدون نظرية "التطوّر" التي تقضي بعدم وجود إله، وتقضي بأن الصُّدفة والعشوائية هي الفاعل، وتقضي بأن الخلية طوّرت نفسها بنفسها، وتقضي بأن البكتيريا ذكية والفيروس ذكيّ، والمادة ذكيّة ... ! وكله عندهم قابل لأن يكون الفاعل الأول إلا أن يُؤتى على ذكر الخالق المبدع، فعندها تقع الواقعة وتَصعق الصاعقة ... ! وإنّ مما يُضحك شرُّ البلية ... !
نجدهم يُلغون الخالق والخَلْق من كل حساب، بل وينظّرون للخُرافة باسم العلم، وتتوشّى أكاذيبهم ومساعيهم المسعورة لترسيخ اللاخلق باسم العلم ...
إن روح الانتقام من اضطهاد الكنيسة قد عملت فيهم عملها، بل وأغرقت وأغرقت في أنفسهم كفرا وإلحادا، وتأليهاً للمادة، وللخُرافة، وللكذب، وللدجل وللّعب بالعقول والاستخفاف بها باسم ماذا ؟؟ باسم العلم .... !وهم إذ لا يعترفون بالخالق في مختبراتهم ... يقدّسون كل شيء إلا أن يقدّسوا خالق كل شيء ... !! فتمثّل لي قوله تعالى : "اقرأ ".... وإنها لم تكن "اقرأ" مجرّدة ... لم تكن اقرأ وانتهى ....بل كانت : "اقرأ باسم ربك".... باسم ربك يجب أن تقرأ ...أما إذا قرأت هذا الكون، وهذا الإبداع، وهذا النظام المتكامل المتناسق المتّسق هكذا دون اسم ربك ... فستقرأه مقلوبا ... منكوسا، معكوسا ... ستقرأه وأنت تؤمن بالعشوائية، وبأن البيئة والطبيعة تنتقي وتنتخب وتختار ... أما أن يفعل ربك، فلا ... وأما أن يريد ربك فلا وأما أن يقدّر ربك فلا وألف ألف لا .... !!
نعم ستُبهِر الكلّ بما تكتشف من جديد، ولكنك لن تقول يوما أنه من إبداع الخالق ومن إرادة الخالق ... ستنسبه لكل شيء إلا لمبدِعه وخالقه الذي أذِن فعلمتَ ولو لم يأذن لما علمتَ ...
عندما تقرأ بغير اسم ربك... سيكون كل شيء إلا أن يكون ربّ كل شيء ... إلا أن يكون خالق كل شيء ...وإنها لم تكن : "اقرأ باسم ربك " وانتهى.... بل كانت : "اقرأ باسم ربك الذي خلق " أول صفة لهذا الرب ... هذا الرب الذي أنعم أول ما أنعم فخلق ..."خلق" هكذا مُطلقة ... لأنه خلق كل شيء ... كل شيء.... أيها الإنسان اقرأ باسم الذي خلق.... فإن قراءتك مجرّدة عن الذي خلق، بعيدا عن إيمانك بخالق وخَلْق هي ولا شيء، هي والخُرافة سواء.... هي والعشوائية والخبط والخلط سواء ... وماذا هُم مُنكِرون أصلا ؟؟ ولأي شيء هم يؤصّلون ويكرّسون أصلا ؟؟
هو سبحانه الخالق الأكرم الذي علّم ... هو خالق العقل، ومُكرِم الإنسان بالعقل، ولولا كرمه لما كان الإنسان المتجبّر اليوم، المُنكِر لربه اليوم شيئا يُذكر ...
وإنه لولا كرم ربّه لبقي كما كان : "هَلْ أَتَى عَلَى الِإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئا مَذْكُورا"
ولكنه خلقه ... وعلّمه ... علّمه ما لم يكن يعلم ...فلما تنعّم وتعلّم .... كفر بالخالق المُنعِم الذي علّمه ...!!
إنّ اعتقادكم أيها المؤمنون ليس اعتقاد أولئك الهائمين، إنه :
وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَإنّ الحقيقة التي يقررها هذا الدين، وهذا الإله الخالق للموت والحياة للابتلاء والامتحان، أنّ منْ يُقتل في سبيل الله أو يمتْ فإنّ له مغفرة من الله ورحمة هما خير من كل ما يجمعون ...
إنّ هذه القتلة التي ينكرها المنافقون، وهذه الموتة التي يظنون أنهم مؤخّروها بقعودهم وبأمر غيرهم بالقعود، لهُما وهُما في سبيل الله تعالى خير مما يجمعون، لما يجني بها صاحبها من عظيم المغفرة وواسع الرحمة...
إنه التعليم الرباني للتصوّر السليم للموت ... دين يعلّم حقيقة الحياة، وحقيقة الموت، دينٌ يعلّم أن أمرهما بيد الله تعالى وحده، يُنفِذُهما في عباده متى شاء وكيفما شاء ... ونذكر في هذا السياق ما عرفناه في بدايات السورة، من نفخه سبحانه الحياة في عيسى عليه السلام من غير أب : "
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(6)"
وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ(158) وبعد ذكر الموت يأتي ذكر البعث ... ذكر الحياة الأخرى التي سينبعث لها الإنسان، من بعد حياة أولى تعقبها موت، حياة أخرى يعقبها خلود فلا موت...فإما في جنة وإما في نار عياذا بالله من النار ...
إنه تمام التعليم الربانيّ الدقيق لحقيقة وجود الإنسان والغاية من وجوده:" الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ"وما هذا البلاء وهذا الامتحان إلا لجزاء يُوفّاه صاحبُه في الحياة الأخرى