ثم ها نحن نُقبل على معنى جديد، على نبأ جديد من أنباء الغيب الذي ينقله الله لنا عبر هذا الكتاب الموحَى به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد كانت الآيات (42-44) مقدّمة عرّفتنا قيمة مريم وقدرها عند الله تعالى، وتنزُّهَهَا عن كل خبث ودنس يقول به المتقوّلون عليها، والطاعنون في عفّتها وشرفها كما فعل قومُها، وقد كانت المقدّمة لمريم أيضا لإيناسها بما يثبّتها وهي المقرّبة من ربها من قبل أن تسمع ما يشقّ عليها من الأمر العظيم الذي أراده الله فيها... وها نحن بين يدَي أمر الله تعالى في مريم :
إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ(46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ(48)
6- ها هي مريم تُخاطَبُ من الملائكة بكلام غير الكلام الأول، تُخاطَب هذه المرة بالأمر العظيم الذي اصطفاها الله تعالى له دون نساء العالمين، وها هنا تفصيل وبيان هذا الاصطفاء الثاني الذي خُصّت به(عرفناه في الحديث عن الاصطفاءَيْن) :"
إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45)"
يبشرها سبحانه بكلمة منه، أي كلمة هي هذه التي يبشرها بها سبحانه ؟ أي كلمة هي هذه التي اختُصّت بها مريم من الله تعالى ؟
إن الملائكة لا تلبث إلا نزرا قليلا حتى تُبِينَ لمريم عن كُنْه هذه الكلمة ... إنها البشرى !
وهذا الله الذي اصطفاك يا مريم مرتين، الذي طهّرك ونزّهك بشهادة منه سبحانه، ومَن أعلى ومَن أحق من الله شهادة ؟! هذا الله الذي تقبّلك بقبول حسن، فأعلى مقامكِ حتى كان الأحبار يتخاصمون أيهم يكفلكِ صغيرة ...هذا الله الذي أنبتك نباتا حسنا، وكفّلكِ زكريا النبي ... هذا الله الذي خصّك وأنت الأنثى دون الإناث بخدمة بيته، وبتحريرك له كما تمنّت أمك الطائعة الخاشعة... هذا الله الذي أمركِ أن تقنتي له وتسجدي وتركعي ... هو الله سبحانه الذي يبشرك الآن ...
هي البشرى يا مريم ... هي والله البشرى، إنكِ بين يدَي ربكِ الرحمان، إنكِ بين يدَي أمره فيكِ ... وأنت القانتة العابدة الساجدة، صاحبة المحراب، والقائلة عن يقين أنه الذي يرزق مَن يشاء بغير حساب ...
إنكِ من علّم زكريا أن يتوجه لربه على كِبر، وعلى وَهن العظم منه، وعلى عقر زوجه سائلا الذرية الطيبة ...
6-أ) بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ... بكلمة منه يبشرك، اسمه المسيح عيسى ابن مريم...
فأما الكلمة فهي التي كوّن الله تعالى بها عيسى في رحم مريم بلا واسطة أب، وهي قوله سبحانه لأمر إذا قضاه : "
كُنْ" فيكون :
** "
...قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ"-آل عمران: من الآية47-
** "
إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" –آل عمران :59- .
** "
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ(34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(35)"-مريم-
** "
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ(81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82)"-يس-
ترى ما سرّ تذكير الضمير في: "
اسمه" بدل تأنيثه وهي "
كلمة" ؟.. الشأن أنّ هذه الكلمة ليست هي عيسى ابن مريم في ذاتها، كما يتقوّل أهل الكتاب على الله بهتانا وكذبا من أنها تعني اتِّحادَ الإلهيّة بعيسى في بطن مريم فجعلوا عيسى ابناً لله ومريم صاحبة لله. تعالى سبحانه عن ذلك علوّا كبيرا..فجاء في تذكير الضمير مزيد حِياد عن التأويل بأن الكلمة هي ذات الله .
كما نستحضر من القرآن الكريم ما يؤيّد هذا المعنى لـ"كلمة" في قوله تعالى: "
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا "
وعن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
من شهدَ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه ، وأن عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه ، وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه ، والجنةُ حقٌّ ، والنارُ حقٌّ ، أدخله اللهُ الجنةَ على ما كان من العملِ ."-صحيح البخاري-
إن اسمه هو :
المسيح عيسى ابن مريم.وفي أقسام اسمه الثلاثة تفصيل أورده بالمخطط أدناه :
6-ب) وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ... وذو الوجاهة هو صاحب الشرف الرفيع، والكرامة بين القوم، والذي لا يُردّ له طلب. وهذا الوصف لعيسى عليه السلام من تمام البشارة التي بشرت الملائكة بها مريم، فهي تبلّغها أنباء عن صفات هذا الولد الذي ستُرزَقُه، فأما وجاهته في الدنيا فاختصاصه بالرسالة من الله تعالى، وجعله من أنبيائه ورسله، وهو قد جاء بالإنجيل مصدقا لما بين يديه من التوراة، وليحِلّ لبني إسرائيل بعض الذي حُرّم عليهم بنسخه لشرائع قديمة، وإقامته لشرائع جديدة، زيادة على ما اختُصّ به من معجزات ستأتي مفصلة في الآيات القريبة المقبلة. وأما وجاهته في الآخرة فهي ما يكون من تمام صدقه وكمال إيمانه يوم القيامة عند محاورة الله تعالى له : "
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" –المائدة: 116- فيجيبه ربه بشهادته العظيمة فيه على الملأ في يومٍ مجموع له الناس: "
قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ "-المائدة:119-
ومريم وقد سمعت ما كتب الله أن يكون من أمرها، سمعت كلام رسول ربها إليها بالبشرى، فوَعَتْ بهذه الكلمات الأمر كله، وَعَتْ أنه ولد منها من غير زوج، وعتْ أنه أمر الله العظيم الذي تقدّر عظمته وتعلم قدرته على كل شيء، وتوقن أنه الذي يرزق من يشاء بغير حساب..
سمعت اسمه، وصفته وأنه بها يُكنّى : "
ابن مريم"، ثم سمعت وجاهته التي اختصّه بها الله في الدنيا والآخرة وأنه من مقرّبيه سبحانه ... وما تزال بعدُ تسمع :
6-ج) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ :
** سيكلّمهم مرة وهو في المهد معجزةً من الله تعالى، ينافح بكلامه عن أمه الطاهرة ويُؤكّد لقومها إيجاده بمشيئة الله المطلقة وبكلمته التكوينية، وقد عرفنا تفصيل كلامه في المهد في قوله تعالى من سورة مريم : "
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً(30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً(31) وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً(32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً(33)" .
وكان لا بدّ أن يُحفظ كلام خاصّ ومعجز كهذا الذي نطق به عيسى عليه السلام وهو في المهد صبيّ، ويُنقل رجلا عن رجل، وامرأة عن امرأة، وجيلا عن جيل، ولكنّ الذين حرّفوا وبدّلوا لم يكونوا ليحرّفوا ولا ليبدّلوا لو أنّهم كانوا أمناء عليه ... بل إنّ ذلك كان من أهمّ ما طُمِس وأُخفِيَ... كيف كانوا ليقولوا بالتثليث أو بأنّ الله هو عيسى لو أنهم نقلوا وكانوا الأمناء ... ؟!
** وسيكلّم الناس كهلا، والكهولة هي السنّ التي يخرج بها صاحبها من فترة الشباب، وفيها تكتمل القوة وينضج العقل، عندها سيكلّم عيسى عليه السلام الناس بكلام الله تعالى ووَحْيه، برسالته إليهم، بشرائع الله يبلّغهموها ويعلمهموها . وذلك كلام النبوة والدعوة والإرشاد.
ويقرن الله تعالى وصف عيسى عليه السلام بكلام الناس في المهد وكهلا بصفة أخرى، هي الصلاح:
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ، وإنّ لي مع هذه الصفة المُردفة لمعجزة كلامه وقفة ...
كلام الناس الذي ذكره الله تعالى، هو كلام النبي المبعوث المأمور بالدعوة،
بالإصلاح ، ولن يكون المصلح أهلا للإصلاح حتى يكون في نفسه صالحا، وربما قال قائل: وهل تحتاج صفة النبوة في نبي إلى مزيد بيان بغيرها، وهي في ذاتها بيان عن قمّة الصلاح ؟
أقول أن الأنبياء عليهم السلام، من أهم سماتهم التواضع لله تعالى، وقد عرفنا منهم ذلك في مواقع عديدة من القرآن الكريم...
فهذا نبي الله شعيب عليه السلام يعلن لقومه إرادته الإصلاح، وأنه وهو يريد إصلاحا، سيكون أول من يتّبع ويأتمر بما يأمرهم به، ولن يكون ممن يخالفون من أنفسهم ويأمرون غيرهم بما لا يلتزمون به هم أولا، وفي ذلك بيان لصلاحه :"
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ ما أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ "-هود:88-
كما عرفنا في دعاء سليمان عليه السلام : ".
..وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ"-النمل: من الآية19- فهو ذا لا يستنكف وهو النبي أن يسأل الله أن يوفقه لعمل صالح يرضاه، وأن يدخله في عباده الصالحين برحمة منه وفضل، فلا يدّعي لنفسه صلاحا من نفسه وهو النبي، بل ينسب الفضل في عَدِّه من الصالحين لله تعالى، لا.. بل يسأل الله أن يتفضّل عليه ويجعله منهم برحمته!
و في دعاء يوسف عليه السلام : "
ربِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ"-يوسف:101-
وكأنّ الصلاح هو الخُلّة العُليا التي يجب أن يتحلّى بها من يريد إصلاحا، إذ يكون بها أهلا لدعوة غيره وهو الذي يقول ما يفعل، ويُلزم نفسه بما يأمر به غيره ويتخذه دعوة إصلاح، والأنبياء هم أوّل الناس تخلّقا بهذا الخُلُق الذي يكون مؤهّلهم لنشر دعوتهم بين الناس.
ولذلك جاءت : "
ومن الصالحين" لبيان صلاحهم في ذواتهم، والتزامهم بما يحملون على عواتقهم من أوامر الدعوة والرسالة قبل أن يأمروا الناس بها. وقد جاءت مقترنة بـ "
يكلم الناس" تحديدا ولم تقترن بغيرها
لشدة ارتباط صلاح المُصلحين برسالة إصلاح الناس.