المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي(آل عمران)  (زيارة 7982 مرات)

0 الأعضاء و 2 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
هنا تجدون الموضوع الأساسي "على درب الحياة والقرآن مشكاتي"   مشاركاته التي تحوي عن سورتي الفاتحة والبقرة :

http://www.ayamnal7lwa.net/forum/index.php?topic=6340.0

-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*-*

وهكذا مع القرآن ... وكما عرفنا.. فإن أخذه أجزاء متفرقة ليس هو غاية فهمه ولا غاية بلوغ مراميه، ولا غاية استشعار رسالته حركة في الجَنان تُترجم حركة على الأرض، وعيشا به على الأرض ...
عرفنا كيف أنّ لاختلاف ترتيب النزول عن ترتيب المصحف حكمة، فمع كون كليهما توقيفي من عند الله تعالى، كان لترتيب النزول في زمانه تربية وهداية ناسبتا زمن النزول على قوم ما كانوا يفقهون عن التوحيد وإفراد الله بالعبادة شيئا، كما كان لترتيب المصحف هداية وتربية تناسبان زمانا طرأت فيه على الأمة طوارئ وأحداث وتقلبات وزلات وسقطات  يعالجها ترتيب المصحف معالجة تُرقَب من المضيّ بين ثناياه والتقدم بمشكاته على درب الحياة خطوة إثر خطوة تقدّم الأولى عن الثانية والثانية عن الثالثة، لتُمنهِج السير وتنظّمه وتُحكِم الحركة فلا تكون عن عمى ولا عن جهل ولا عن خبط، بل عن فهم للغاية من الوجود والإيجاد، وللغاية من الكون والكينونة .

أحاول من خلال هذه النظرة للقرآن الكريم، أن نقرأه سويا سلسلة مترابطة، تسُوقنا فيها الآية إلى الآية والقطاع من الآيات إلى القطاع الآخر منها، والسورة إلى السورة ...
أحاول أن نقرأه سلسلة مترابطة، عقدا منتظمَ الحبات، يبلّغنا الرسالة الربانية كلا متكاملا، لا ينفصل الجزء منها عن الجزء : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ..." –البقرة: من الآية208- فلا يدّعينَّ دعيٌّ أنّه يُؤخذ بهذا الجزء منه، ولا يؤخَذ بالآخر ... كما لا يبقى قارئه ومتدبّره في قوقعة القراءة المجزّأة وحدها والفهم المجزّأ وحده ... وفي ذلك بيان فوق البيان  لإعجاز القرآن العظيم، وزيادة في الاعتقاد بربانيّة مصدره، وتفرّده عن كل كلام، ونحن نلمس ترابطه وتماسك أطرافه، وتسلسل سياقاته، واتساق معانيه.

نواصل المسير على درب الحياة والقرآن لنا مشكاة ...
ومن "البقرة" نحو "آل عمران" ...
عرفنا أن البقرة سورة المنهج ...  عرفنا كيف ونحن نفتتح (الفاتحة) بدعاء الله أن يهدينا الصراط المستقيم، لا نلبث إلا قليلا حتى تجيبنا الآيات الأولى من "البقرة" أن الهُدى الذي نسأله من الله هو في هذا الكتاب، ومنها يعرّفنا سبحانه بأصناف الناس، ثم يدعوهم جميعا لعبادته، ويبين لهم أن الغاية من إيجادهم الاستخلاف في الأرض، فيعرض لهم النموذج الفاشل فيه ليحيدوا عن سبيله، والنموذج الناجح فيه ليحذوا حذوه ... ومن ثمة يعرّف عبده بمنهجه الذي أنزل ليعيش به في مناحي الحياة المختلفة شاملا كاملا عارفا بالنفس وحاجاتها وتقلباتها ...

وقبل أن نلِج سورة آل عمران ... لنرقُب نهايات البقرة... لنرقُب ما تقدّمه في نهاياتها لبدايات  آل عمران :
قد جاء في أواخر البقرة الحثّ على الإنفاق في سبيل الله لتحرير الإنسان من ربقة المال، مما يناسب كل المناسبة التذكير الدائم لإنسان عصر المادة، عصر يأكل فيه المال القلوب، ويغشاها ويحول دونها ودون ذكر الله، فجاء تحريم الربا، وأسِّس لقانون التداين ...

« آخر تحرير: 2018-12-14, 10:17:16 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
1- وكما بدأت البقرة بذكرها أول ذكرها لصفات المؤمنين : " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4) أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(5)". تختم بذكرها لصفات المؤمنين إيمانا تاما يقضي بالإيمان بكل الكتب، وبكل الرسل. "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ " 

2-وهو إيمان يؤدي إلى تطبيق المنهج كما أمر الله أن يُطبّق، ذلك أن حال هذا المؤمن سمع وطاعة "وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285) ".

3- إلا أن بالإنسان نقصا ملازما لا يكمّله إلا الفضل من الله تعالى :



إذن فالخروج من سورة البقرة... من سورة المنهج ليس كدخولها ... 


وهذه نهاياتها تبيّن لنا أيَّ إنسان يغدو مَن تسوّر البقرة ولم يكتفِ بالمرور عليها حروفا تُهجى ...
هذا المؤمن الذي آمن بالله وملائكته، وبكل كتبه، وبكل رسله يُعلن السمع والطاعة لله مُنزِل المنهج ... السمع لما يأمر والطاعة بالائتمار .


فيدخل آل عـــــمران :


هي ذي المنزلة الثانية من منازل هذا الكتاب العظيم ... هو ذا المؤمن الذي عرف المنهج، وعرف الغاية من وجوده، يدخل هذه المنزلة  مؤمنا، سامعا، مطيعا، مستغفرا، مكمّلا ما به من نقص بسؤال الفضل من الله، مستنصرا الله على القوم الكافرين.

الم(1) اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ(2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ(3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ(4) إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء(5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(6) هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ(7) رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ(8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(9)


الم(1) اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ(2)


ونحن هنا ليس مقامنا أن نقف عند الآيات موقف تفسير للمعاني، بقدر ما نقف موقف النظر في ترابطها من حيث السياق، ومن حيث ما سبقها وما يليها، ومن حيث تنقلاتنا بين المنازل خطوة إثر خطوة على درب الحياة ...
فلا يحتاج الأمر أن نكرّر ما نجده في مختلف التفاسير حول الحروف المقطعة في القرآن الكريم من مثل "ألم" والتي يبقى تأويل معناها الصحيح عند الله تعالى .

لننظر بداية آل عمران  : " اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ(2)"

وقد عرفنا افتتاح البقرة بـ : "ذلك الكتاب لا ريب" فنلاحظ افتتاحها عن الكتاب، وقد كانت سورة المنهج الذي أنزله الله تعالى في هذا الكتاب، بينما تُفتتح آل عمران بالله تعالى الحيّ القيّوم مُنزل ذلك الكتاب الحامل للمنهج.

ذلك المنهج المُحيي من عند الله الحيّ القيّوم.
« آخر تحرير: 2018-12-12, 08:56:47 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
كما عرفنا في سورة البقرة حديثا مُسْهَبا عن اليهود مثالا عن النموذج الذي فشل في الاستخلاف، وكانت شبهتهم حول الكتاب، أما النصارى فكانت شبهتهم حول الإله..وسنرى كيف تُسهب آل عمران عن النصارى .

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ(3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ


نعم إنه ذلك الكتاب الذي عرّفتك البقرة أنه لا ريب فيه هدى للمتقين.

لا ريب فيه ----> الحق -----> بالحق.

"مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ" من الكتب السماوية التي أنزل الله تعالى، وتأتي بعدها :


1- في مزيد بيان أنّ الذي بين يديه مجسَّد في التوراة والإنجيل.

2- وأنّ الذي أنزل تلك الكتب التي يصدقها القرآن هو الله الذي أنزل القرآن .

3- وهو ذا القرآن يُذكَر أولا ب"الكتاب" ثم يُثنّى بذكره هنا باسم "الفرقان" في مزيد بيان لدوره في التفريق بين الحق والباطل، وهي صفة الكتب السابقة له أيضا، ولكنه جاء ليفرّق بين الحقّ  الذي حملتْه كما نزلت به، وبين باطل ألصِق بها بما حرّف أهل الكتاب منها، ونسبوه لله تعالى، بين حقها كما نزلت وبين ما أحدثه فيها المبطلون بتحريفها. وإن من أهم ما حرّفه أهل الكتاب قضية التوحيد، فنسبوا الألوهية لغير الله تعالى، نسبوها لبشر، كما فعل النصارى بقولهم أن الله ثالث ثلاثة، وأن عيسى ابن الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

4- وإن التوراة والإنجيل كانا من قبلُ هدى كما عرفنا تفصيلا في البقرة أن القرآن هدى، وأن المنهج الذي نزل فيه هدى .


فهو الإله الواحد سبحانه الذي نزّل الكتب بصفة واحدة (الهدى) لهدف واحد (الهداية)



« آخر تحرير: 2018-12-12, 09:11:27 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
دعونا ونحن نمشي الهُوينى نتأمل ... نتأمل بدايات هذه السورة لعلنا نقع على ما يحدد لنا صفة مميزة لها ... لعلنا نقع على محورها الذي تدور حوله ..

إنّ الدعوة إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة لتلوح ملامحها ...


فلنتأمل... هي ذي الآيات تستمر في ذكر الله الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم منزل القرآن وما قبله من كتاب هدى :

إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء(5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(6) هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ(7)

لا يخفى عليه شيء، فهو المحيط علما بما ظهر وبما خفي، بما جلّ وبما دقّ، بما كان وبما هو كائن، وبما سيكون...
هو المصوّر في الأرحام كيف يشاء، بالكيفية التي شاء أن تكون، والتي يشاء أن تكون ... ونذكر هنا تصويره سبحانه للإنسان في الرحم من بعد لقاء الذكر بالأنثى، كما نذكر تصويره له في الأرحام كيف شاء في عيسى عليه السلام دون لقاء ذكر بأنثى.
نتأمل التقدمة لهذه القصة الفريدة، لهذه المشيئة الربانية بإيجاد عيسى عليه السلام بتصويره كيف شاء على نحو مغاير لما سنّ سبحانه في الكون وفي الحياة .

فنربط ما جاء عن وصف القرآن بالفرقان في هذا المقام بالذات، ليكون فرقانا بين الحق الذي أنزل الله في كتبه، وبين ما أحدثه المبطلون بتحريفاتهم لكتب الله، وكان من أهمها باطلهم في ذات الله تعالى، حيث ألّهوا عيسى عليه السلام، وبين ذكره تعالى هنا لتصويره في الأرحام كيف يشاء.

وكما لاحظنا كيف أنّ توحيد الله يلوح من بدايات هذه السورة، فهذا قوله تعالى :

" لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ". ----->إشارة أخرى أنه وحده سبحانه الإله، وإشارة إلى تأويلات أهل الباطل بتأليه عيسى عليه السلام، وإلى تمام حكمته بخلقه له كيف شاء.

إسهاب حول المحكم والمتشابه

هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ(7) رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ(8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(9)

ما نزال مع بدايات آل عمران، ومع ذكر الله تعالى، فمن إعلان تفرّده بالألوهية، إلى تنزيله الكتب هدى، إلى إحاطة علمه بكل شيء، إلى خلقه وتصويره في الأرحام كيف يشاء إلى التثنية بإعلان وحدانيته وعزّته وحكمته ...

والآن ... مع تخصيص الكتاب(القرآن) بتنزيل الله له بآيات محكمات وآيات متشابهات، فأما المُحكمات فإليها يُرد المعنى الأصلي الواضح الذي لا خلاف فيه ولا اشتباه، من مثل الأحكام والفرائض والحدود، وأما المتشابهات  فهي التي لا تستقل بنفسها بل تحتاج إلى بيان، كما أنّ المحكم لا يحتمل إلا وجها واحدا، وتكون دلالته راجحة، والمتشابه يحتمل أكثر من وجه ودلالته غير راجحة، والمُحكمات هنّ أم الكتاب بمعنى أصلُه، أي أن الحكم الذي يُبنى عليه والفرض الذي يُقضى به ويُعتمد للتطبيق في الحياة يكون منها، كما تُردّ المتشابهات إليها،  أي قد تحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد.
فأما المؤوّلون أصحاب الزيغ والضلال فيتّبعون متشابهَه ابتغاء فَتْن المؤمنين وتشكيكهم في دينهم، وابتغاء تأويله تأويلا باطلا يوافق أهواءهم وحاجاتهم الخسيسة. بينما تأويل المتشابه على حقيقته التامة الكاملة الخالصة لا يكون إلا لله تعالى، فكان الوقف على لفظ الجلالة "الله" أوفق وأدق، ومن العلماء من قال بجواز الوقف على "الراسخون في العلم" ليُفهم أن الراسخين في العلم أيضا يعلمون تأويله، وإن كان التأويل التام لله وحده، من مثل علمه وحده بالساعة وبالروح، وبتأويل الحروف المقطعة .

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: تَلا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذه الآيةَ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } . قالَتْ : قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( فإذا رأيتَ الذين يتَّبِعون ما تَشابَه منه، فأولئك الذين سَمَّى اللهُ، فاحذَروهم ) . –صحيح البخاري-

فأهل الزيغ والضلال هم الذين يستمسكون بالمتشابه من آيات القرآن التي لا تُفهَم على حقيقتها إلا إذا رُدّت للمحكَم منها، بينما يقول المؤمنون : " آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ".

وللفخر الرازي كلام حَسَن في دور المتشابه إلى جانب المُحكَم أنقله هنا:

«أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب، ومنها: أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص من ظلمة التقليد، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة، أما لو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية، فحينئذ يبقى في الجهل والتقليد. ومنها أن اشتماله على المحكم والمتشابه يحمل الإنسان على تعلم علوم كثيرة كعلم اللغة والنحو وأصول الفقه وغير ذلك من أنواع العلوم، ومنها: أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم ونفى فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه، وبذلك يكون مخلوطا بما يدل على الحق الصريح. فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من المتشابهات، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات»

كما أنّ للجَمَل كلاما عميقا في الحكمة من وجود متشابه ومُحكَم في القرآن :

«فإن قيل القرآن نزل لإرشاد الناس فهلا كان كله محكما؟ فالجواب أنه نزل بألفاظ العرب وعلى أسلوبهم. وكلامهم على ضربين: الموجز الذي لا يخفى على سامع هذا هو الضرب الأول، والثاني المجاز والكنايات والإرشادات والتلويحات وهذا هو المستحسن عندهم، فأنزل القرآن على ضربين ليتحقق عجزهم فكأنه قال: عارضوه بأى الضربين شئتم، ولو نزل كله محكما لقالوا: هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا» .

وقد ذكر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" أن التأويل المُراد بما عليه أهل اتباع المتشابه هو تأويل الهوى، حتى حدّد ثلاثة أصناف من الناس مؤوّلين وهم المنافقون والزنادقة والمشركون.

1- فمن تأويل المشركين مثلا قول العاص بن وائل لخباب بن الأرت رضي الله عنه متهكّما عندما جاءه يتقاضاه أجرا : "وإني لمبعوث بعد الموت، فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد" فأراد الإيهام أن البعث عودة إلى الدنيا، ولذك حكى عنهم القرآن قولهم : "فأتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين".

2- ومثال تأويل الزنادقة ما حكاه محمد بن علي بن رزام الطائي الكوفي قال : "كنت بمكة حين كان الجَنَّابي زعيم القرامطة بمكة ، وهم يقتلون الحجاج ، ويقولون : أليس قد قال لكم محمد المكي : «ومن دخله كان آمناً فأيُّ أمْن هنا؟» قال : فقلت له : هذا خرج في صورة الخبر ، والمراد به الأمرُ أي ومن دخله فأمِّنُوه ، كقوله : " والمطلقات يتربّصن " -البقرة : 228- .
« آخر تحرير: 2018-10-24, 22:31:51 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
كان هذا شيئا عن المتشابه والمُحكم، أما عن السياق الذي نحن فيه، والترابط الذي نريد مراقبته، فإنّ الحديث عن اتباع المتشابه قد جاء في سياق الحديث عن النصارى الذين تقوّلوا في كُنْه  عيسى عليه السلام حتى ألّهوه، وقد عزّزوا أباطيلهم بوقوفهم عند المتشابه من القرآن في شأنه عليه السلام، ومن ذلك قولهم أن ما ورد عنه في القرآن يؤيّد ما جاء عندهم في الإنجيل، فيستشهدون بآيات، ويتركون أخرى .

كقوله تعالى : "... إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ..." –النساء: من الآية 171-
فهم يحتجون بـ : "رسول الله" على أنها البُنُوّة.
 وبـ "كلمته" و بـ "روح منه" كما جاء عندهم في صدر إنجيل يوحنا: « فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ»
وجاء في الإنجيل أيضا : «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا» .

يقول ابن عاشور عن تأويلهم لها : "بأنها اتِّحادَ حقيقة الإلهيّة بعيسى في بطن مريم فجعلوا عيسى ابناً لله ومريم صاحبة لله سبحانه ، وجعلوا معنى الروح على ما به تكوّنت حقيقة المسيح في بطن مريم من نفْس الإلَهية .".

بينما الآية فيها القصر بـ "إنّما" ، لبيان تخصيص عيسى عليه السلام بثلاث صفات، هي الرسالة، وهي أنه كلمة الله بمعنى أنه أثر كلمة الله التكوينية "كُنْ"، فهو عليه السلام بالكلمة كان، لا أنه هو ذاته الكلمة،  وأنه روح منه، لا على أن روحه قطعة من روح الله، بل أنّ روحه من خلق الله، من عند الله.

وقد كان الأمر كذلك في آدم عليه السلام : " فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ "–الحجر:29- 

فهذه روح مخلوقة من الله تعالى أودعها في آدم عليه السلام، وأُضِيفت الرُّوحُ إلى اللهِ على وجهِ التَّشريفِ، كما قال سبحانه: "وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ" -الجاثية: 13- أي: مِن خَلقِه ومِن عندِه، نسبة تشريفية لا نسبة تبعيضية، وتسمية عيسى عليه السَّلام بالرُّوحِ؛ لأنَّه وُجِدَ مِن غيرِ أبٍ، فأحياه اللهُ تعالى مِن غيرِ الأسبابِ المُعتادة. وليس معناها كما يريد النصارى أنها من روح ذاته سبحانه، فأوّلوا أنها روح الله تعالى في عيسى، فعيسى بذلك إله . تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

كما أن "الروح" تأتي في القرآن على معانٍ لا على معنى واحد. كما جاء في قوله تعالى:

"فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا" –مريم: 17-
والروح هنا بمعنى جبريل عليه السلام. وباطلٌ تأويلها أنّ روح ذات الله أرسِلت إليها، وتمثلت في بشر هو عيسى عليه السلام كما يؤوّلها أهل الهوى .  وذكر جبريل عليه السلام بالروح هنا، هو من جنس ذكره بالروح في قوله تعالى : " يوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا " –النبأ: 38-

أيضا تأتي الروح في القرآن بإضفاء معنى الروح على القرآن، على الشريعة، فكما أن الروح حياة للجسد، كذلك القرآن روح تُحيي مَوات القلوب : "كَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا  مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ..." –الشورى:من الآية 52-

وكذلك جاءت في قوله تعالى : "يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ"-النحل: 2-

وقد تعمدتُ الإسهاب في هذه الآية، وفي أمر المتشابه والمُحكَم، وأدرجتُ مثالا على ذلك ما استشهد به النصارى من القرآن على غير الوجه المُراد منه، بل على الوجه الذي أرادوا هُم، لنعرف عن كثب شيئا من طرق المؤوّلين بالهوى الذين حذّر الله منهم في هذه الآية، في بدايات هذه السورة ... هؤلاء الذين يستمسكون بالمتشابه، ويَذَرون المُحكم في هوى صارخ، وزيغ بيِّن يسعون به جاهدين للإضلال والإفساد والتشكيك .

وفي هذا المقام تحديدا، يتجلّى لنا دور ترابط القرآن آياته بآياته، وسُوره بسُوره، وسياقاته بسياقاته ... إذ أنّ الوقوف عند آية دون ربطها بما قبلها، وبما بعدها، يوقعنا في الفهم الخطأ، والتأويل الخطأ، كما يجده أصحاب الهوى لأهوائهم مرتعا، فيُلقون بشُبُهاتهم للذين لا يعلمون، ولا يحاولون تدبّر آيات القرآن، ولا العيش معه عيش الناظر فيه بعين المتفكر والمتبحّر ...فينجح خَبطهم وخلطهم معهم، كما نرى في أيامنا هذه، وقد كثر أهل الأهواء، وأصحاب الضلال والزيغ، فكلٌّ منهم يضرب بلحنه على أوتار ضعيفة سريعا ما تعزف اللحن على أنه اللحن وهو النشاز وأيّ نشاز هو... !

فهذا مؤوّل لآية بين الآيات بفهم هواه، وبما يريد، يؤوّل لفظا على غير معناه المُراد، ويؤوّل كلمات على غير معناها، ويخبط ويخلط، على أنه الذي أتى بالجديد الذي لا يجوز حِياله الحجر ولا المنع والقرآن حمّال أوجه ... وكم نلقى من هذه التخليطات وكم...! في كل حين ...

ولننظر في هذا المثال الذي وضعتُ أعلاه، والذي كان من زيغ النصارى في كُنه عيسى عليه السلام، فإذا:

1- "الروح" كلفظ لم تأتِ في القرآن على معنى واحد، فوجب التسلّح بالفهم السليم للغة السليمة، واللفظ فيها ذو معان لا معنى واحد.

2- أنّها لم تأتِ لتُفهَم منفصلة عن السياق، لمَن يراها صعبة من إلقاء المشتبِه الفتّان لها مُقتطعة عن سياقها، فلا يجد لها منه  ردّا ولا رادّا . بينما الربط الذي ننشد، والذي حوله نُدَنْدِن يُجلي ويُسفر عن المعنى  :   "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا".

فهي دعوة لأهل الكتاب بعدم الغلوّ الذي أوردهم المهالك بتأليههم لعيسى عليه السلام، ثم وصف لعيسى عليه السلام بصاحب الرسالة، وبأنه أمر الله بكلمته التكوينية وأن روحه مخلوقة من عند الله، منسوبا إلى أمه مريم في بيان لكونه بشرا بنوّته لمريم لا لله، تعالى عن ذلك . ثم دعوة للإيمان بالله ورُسُله في بيان انفصال الله تعالى عن رُسُله، مع نهي عن القول بالتثليث، وتأكيد على وحدانية الله سبحانه الواحد الذي لا ولد له، وهو مالك كل شيء.

هذا عن سياق في آية وحدها، فكيف بسياق آيات متتاليات... وبردّ آية من المتشابه في موضع  إلى آية مُحكَمة في موضع آخر من القرآن، من مثل قوله تعالى في عيسى عليه السلام: "إنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ" –الزخرف:59-
ومن مثل قوله أيضا : "إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ  خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" –آل عمران:59-
ومن مثل قوله تعالى : "لقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ"-المائدة:17-
« آخر تحرير: 2018-11-07, 20:42:02 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
حتى الآن عرفنا من قوة هذه الآيات الأولى كيف أنه البيان عن وحدانية الله تعالى، الحيّ القيوم منزل الكتب هدى، ومنزل القرآن فرقانا بين الحق الذي أنزل الله فيها كلها وبين الباطل الذي أحدثه المبطلون بتحريفهم لها، وعلى رأس ما أفسدوا التوحيد الذي هو لُباب كل الكتب السماوية، فألّهوا غير الله كما فعل النصارى بتأليههم لعيسى عليه السلام، وبنسبهم لله الولد، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وأهل الأهواء والزيغ والضلال لا يغادرون سبيلا لتشكيك المؤمن وفَتْنه عن دينه إلا سلكوه، والأنكى أنهم يأخذون من القرآن ذاته ما يحوّرون معناه ومُرادَ الله منه  إلى ما يريدون ويهوون، بالاقتطاع وبالاستمساك بالمتشابه منفكّا عن سياقه وعن المُحكَم الذي يُجليه.

وهكذا ... يعلمنا الله تعالى ما يعترض دربَنا من شُبُهات تُلقى لتشوّش على المؤمن دينه، ولتفتنه عنه،  تعترض العقل الذي يسلّم لربه لتشككه فيما علمتنا سورة البقرة أنه الكتاب الذي لا ريب فيه. وأنما الهُدى فيه لا في غيره.

ولكنّ الذي يعيش مع القرآن عَيش المتأمل، الباحث، الناظر في ارتباط أجزائه بعضها ببعض، المتأمّل في إحكامِه، ستلوح له من نظره في تسلسله وترابطه شموليتُه، وكماله وسيرى الحق ينضح منه، وسيسمعه يصدح فيه . ذلك هو المؤمن الذي يتعلم حقّ التعلم من ربّه الثبات على الحق برغم تهاطل الشُّبهات، وبرغم المزعزعات التي تعترض دربَه..

وعلى هذا .... لنتأمل إلامَ تسوقنا هذه الآيات ؟؟ إلامَ تسوقنا هذه الخطوات ؟

آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ

هكذا هو قول المؤمن الذي آمن حقا، الذي خرج من البقرة سامعا مطيعا ... وإنه ليس تسليم حُمق ولا تسليم جُبن ولا تسليم غباء، وإنما هو تسليم عقل وفكر ونظر:

وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ

واللُبّ من الشيء خالصه وخياره، وصاحب اللُبّ صاحب نظر وتأمل وفكر وتعقّل، وإذا تأملنا وجدنا أنّ أهم صفات هؤلاء المُسَلِّمين المؤمنين "العلم" بل "الرسوخ في العلم"
"وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا  وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ"

رسوخ في العلم + سلامة في العقل والنظر----> آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا

وهي إشارة إلى أن الإيمان بالله وبكتابه ليس فيه ما يحجر على العقل وعلى النظر، بل هو يدعو للنظر والتعقل لأنه قائم على العقل والعلم، ومن جلائه ووضوح الحق الذي يحمله والبرهان الذي يسطع فيه لا ينهر سائلا، ولا يضطهد رأيا ولا يخاف تدقيقا أو بحثا، ولا يقضي بالتسليم الأعمى .

فإلامَ يحملنا هذا الإيمان عن علم راسخ وعقل ناظر ؟ أإلى اكتفاء بالعقل وحده ؟
لا بل إلى استعانة بالله تعالى على الثبات، لا أن يظنّ ظانّ أنّ بيده وحده الاهتداء والثبات على الهدى.

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً  إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ(8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ  إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(9)

1- سؤال الله أن يثبتنا على الهدى الذي عرّفنا أنه في هذا الكتاب.
2-سؤاله سبحانه رحمة من لدُنه تثبّت القلب على الإيمان والتوحيد، وتلازم المؤمن في حياته وعند مماته، وبعد موته، وعند بعثه، بل إنها لَبَعْد البعث رحمة من لدنه تُدخلنا الجنة. فهو سبحانه الوهّاب الذي يهب لعباده الخير من فضله أضعافا: "مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا  وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" –فاطر:2-
3-الإقرار باليوم الآخر، يوم الجمع الذي لا ريب فيه، وهذا مَبْلغ الرحمة التي يسألها العبد من ربّه الوهّاب، أن تلازمه إلى يوم يبعث الله عباده، فيموت ثابتا على الحق، ويلقى الله ثابتا على الحق.

ها نحن مع هذه الخطوات التي خطوناها حتى الآن في هذه المنزلة من القرآن (آل عمران)...
ها قد تبيّن لنا ما قد جمع الآيات الأولى من هذه السورة (من 1 إلى 9)  ...

ولننظر إلى ما كان في سورة البقرة (سورة المنهج)، تلك التي علمتنا أنّ الهدى في هذا الكتاب، وأنّ المنهج الذي يُعاش به إنما هو في هذا الكتاب، مشكاةً تنير درب الحياة...

فإذا سورة آل عمران، تعلّمنا أن هذا الهدى، وهذا المنهج وأنت على الدرب، لن يسلم دربك من عوائق وحوائل، متمثلة في الشُبهات التي تُلقى حجرا على الدرب لتتعثر خطاك، ولتقع بشِراك الشك والتردّد، ففيها نتعلّم الثبات على الهدى.

حان مع نهاية هذه الآية التاسعة من هذا القطاع أن نعلن ما عرفنا كأول عنوان لخطوتنا الأولى بهذه المنزلة ....

الإله واحد والهدى واحد والدعوة واحدة ومُنزل المنهج هو الهادي وهو المثبّت

« آخر تحرير: 2018-11-03, 08:35:35 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وفي أواخر البقرة كنا قد عرفنا : " آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ  كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ "  وفي آل عمران جاء الدعاء بالثبات على الإيمان والهدى : " رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً  إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ"

تسوقنا الخُطى نَحو قطاع جديد من الآيات ... فلنرَ ماذا هو معلّمُنا من جديد...

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ(10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(11) قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ(13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ(17)

لنتأمل ترابط الآيات...
وقد غادرنا القطاع الأول بالحديث عن يوم الجمع الذي لا ريب فيه، تأتي الآية الموالية (10) تُحدّث عن مآل الكافرين في ذلك اليوم ... مآل الذين لم يستمسكوا بالهُدى، فلم يعرفوا له قدرا ولا قيمة، فلم تكن غاية غاياتهم الثبات عليه كحال المؤمنين. غرّتْهم الحياة الدنيا فأخذت ألبابهم وملكت عليهم قلوبهم وكل ذرّة فيهم فنسوا الله فأنساهم أنفسهم، ونسوا اليوم الآخر، يوم لقاء الله، يوم الحساب . تجبّروا في الأرض، وطغوا حتى رسخت الدنيا بمعانيها الفانية فيهم وطُبِعت في أنفسهم، فلم يعودوا يرون لها نهاية، ولا لأنفسهم ذهابا وإن كانت الموت أمام أعينهم فيمَن حولهم بُكرة وعشيا ...

1- فهذه الأموال والأولاد التي جعلتهم للدنيا عُبّادا لن تغني عنهم من الله شيئا، وجزاؤهم يوم الجمع والحساب  النار هم لها وقود عياذا بالله .

2- ثم هو ذا مثال يضربه الله تعالى للذين كفروا(آية11). آل فرعون الذين وصف الله قوّتهم وما كانوا عليه من شَوكة بقوله سبحانه : " وَفِرۡعَوۡنَ ذِي ٱلۡأَوۡتَادِ ﴿10﴾ ٱلَّذِينَ طَغَوۡاْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ ﴿11﴾ فَأَكۡثَرُواْ فِيهَا ٱلۡفَسَادَ ﴿12﴾ فَصَبَّ عَلَيۡهِمۡ رَبُّكَ سَوۡطَ عَذَابٍ ﴿13﴾" -الفجر- لم تُغنِ عنهم قوّتهم وأموالهم من الله شيئا، بل أخذهم بذنوبهم من تكذيبهم بآياته، وهو سبحانه شديد العقاب.

3- ومع الآية12 من قطاعنا هذا ... في ترابط دائم، وتسلسل ملموس يتوجه الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم بالخطاب " قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12) " وهي كذلك سنّة الله في الذين كفروا، في الذين كذبوا بآياته، "ستُغلَبون " في الدنيا، و "تُحشرون" إلى جهنّم في الآخرة.

وكما أسلفنا... نبتغي من قراءتنا هذه لقرآننا، قراءة حياتيّة... قراءة نُسقطها على الواقع، فلا نكون من واقعنا في واد ومن القرآن في واد آخر ... قد يتساءل مَن يتساءل قائلا أيّ غلبة ستكون لنا على الكافرين ونحن على ما نحن عليه من ضعف وهزيمة، وهم على ما هُم عليه من قوة وشكيمة، وعلوّ في الأرض. ؟!  كيف لهذا أن يكون اليوم ؟!

أقول ..  إنما يكون هذا عندما نكون نحن أهلا له، عندما نكون مؤمنين لا يهزّنا ويزعزعنا أنهم الأقوياء وأننا الضعفاء، فننهزم في أنفسنا قبل أن ننهزم في ساح القتال... عندما نكون على يقين من أننا أهل حق، نحمل الحق ونَعلم الحق من ربّنا، وأنّ ما معهم من اعتقاد باطلٌ بما حرّفوا وبما بدّلوا ... عندما لا ننهزم في أنفسنا، فنظنّ بأنفسنا الهوان الذي لا عزّة معه، والضعف الذي لا قوة بعده ...
عندما نقرّ بواقعنا وبصعوبته من جهة، ولا نصيّره سهلا مِطواعا بالوهم والتخيّل والبرمجة اللغوية العصبيّة ذلك المخدّر الذي يصيّرون به الواقع خيالا والخيال واقعا، وما شاكله من أساليب وأكاذيب ما أن تطلّ على مجتمعاتنا حتى يطيروا بها لينثروها مخدّرا تلقفه الأنفس العطشى التي تحسب في الملح الأُجاج عذبا فُراتا... !

كما لا يمنعنا هذا الإقرار منا بالواقع عن العمل والأخذ بالأسباب والجدّ والاجتهاد لنكون أهلا للعلوّ في الأرض بالحق الذي نحمل، والذي كُلِّفنا أن نحرس وننشر، فلا نُنكِر أسباب الدنيا بدعوى أننا أهل الآخرة حتى نُؤخذ بغبائنا، فترفسنا الأرجل وترْكُلَنا، لنغدو الهَمَل الذي لا يؤود صاحبَ قدم راسخة في الأرض أن يَركُلَه .. ! كما لا تأخذنا الدنيا وزهرتُها عن رسالة إعمار الأرض بالإيمان والتوحيد لإحلال العدل ونشر الحق، ولإنقاذ الإنسان من براثن الجاهلية ونير الظلم.

لنتأمل كيف بدأ الله تعالى في هذا القطاع من الآيات بإخبارنا عن المآل الحقيقي للكافرين، حتى لا نغترّ بقوتهم، ولا بما يملكون، وهم اليوم في أبّهة وعزّة وجاه ومُلك، بينما هم في اليوم الآخر، حينما تحين ساعة البقاء الذي ليس بعده فناء خاسرون خاسؤون ... لنتأمل وهو سبحانه يعطينا وزنَهم الحقيقي عندما نزن بميزان الحق، بميزان حياة في الدنيا تعقبها ممات تنقل المرء من عالم الفناء إلى عالم الخلود والبقاء، فإما خلود في الجنة، وإما خلود في النار ... وهم خلودهم في النار، بل هم وقودُها...

وليس ببعيد عن الأرض ولا عن الحياة عليها قوم كانوا من أشدّ الناس قوّة، ومن أعتاهم رئيسا ومرؤوسا( آل فرعون) أخذهم الله بذنوبهم فكان لهم العقاب الشديد منه سبحانه، إذ أُخِذوا في الدنيا بهزيمتهم على يد موسى عليه السلام، كما سيؤخذون بذنوبهم في الآخرة بإخلادهم في النار.
كل هذا حتى لا تحصل لنا الهزيمة النفسيّة الساحقة لكل عزم، الماحقة لكل نيّة إقدام ...

وفي الآن ذاته حتى يحصل لنا الفهم الواقعيّ لدورنا جاء قوله تعالى : "ستُغلَبون وتُحشرون إلى جهنّم" .

**ستُغلَبون (1) ---->إشارة إلى عمل المؤمنين الغالبين في الدنيا بالأخذ بأسباب القوة فيها، حتى لا يقول المؤمن أنه خُلق للآخرة ولجزائها وليس عليه في الدنيا من عمل، وأنّه متعفّف عن العلوّ فيها بدعوى الزهد وبدعوى أنّ العبادة معناها التنحّي عن الدنيا وعن أسبابها، وأنّها الصلاة والزهد والتنسّك، وأنّ الدنيا جُعِلت للكفار وَحدهم...! إنه لبَيان أيّما بَيان أنّ المؤمن مُكلّف بالأخذ بأسباب القوة في الدنيا لإعلاء كلمة الله فيها، وأنها ليست حِكرا على الكافر.

**وتُحشرون إلى جهنم (2) ----> مآل في الآخرة يتولاه الله سبحانه وتعالى، يجعله من نصيب الكافرين، دون أن يحصل الفهم له وحده دون (1).
« آخر تحرير: 2018-10-29, 08:27:26 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وها هي الآيات تسوقنا إلى الآيات ... ها هي الخطوات تسوقنا إلى الخطوات...

4- تضع لنا الآية الموالية مثالا حيّا عايَشَهُ المسلمون من أول ما عايشوا في لقاءاتهم بالمشركين، وكان ذلك يوم بدر :"قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ(13)." التقاء فئتَين، فئة مؤمنة بالله تعالى تقاتل في سبيله، وفئة كافرة. وقد يكون الخطاب للمؤمنين، كما قد يكون للمشركين أو اليهود . حيث رأى المؤمنون المشركين مثلَيْهم عدداً رَأي العين. والله أيّد بنصره المؤمنين الأقل عددا. وإنّ في نصره لهم سبحانه لعبرةً لأولي الأبصار، أي لأولي الألباب الذين لا يرون في قلة العدد والعُدّة سببا للهزيمة.

فهؤلاء القلّة قد أخذوا بالأسباب مع ما فيهم من إيمان وتوكل على الله وإقبال على الموت في سبيله، وفي سبيل إعلاء كلمته في الأرض، وكانوا قلّة قليلة نسبةً إلى الضعفَيْن من المشركين الذين التقوهم .

علّمهم الله تعالى برؤيا العين كيف أن النصر ليس بالعدد الأكبر، ولا بالعدّة الأثقل، بل بالإيمان والتوكل على الله مع العمل والسعي والإقبال في إيمان بالرسالة المُلقاة على عاتقهم، وسعي حثيث لتأديتها، فلا ردّتْهم قوّة عدوّهم، ولا أفزعهم عددهم...وإنّ في هذا لعبرةً لأولي الأبصار في كل زمان، في زماننا هذا، حتى لا تقتلنا الهزائم النفسية التي عمل مَن عمل لعقود متوالية على زرعها وترسيخ جذورها بالمؤمنين، فيتلبّس اليأس بالنفوس حتى يهنأ العدوّ أيّما هناءة فلا يكلّف نفسه مجرد التفكير باللقاء، وقد انهزم عدوّه في عقر داره من فعل نفسه في نفسه ... !!

ونكمل مع باقي آيات قطاعنا ...
ينتقل بنا الله تعالى من حديث عن مآل الكافرين، وحقيقة وزنهم عنده سبحانه، حتى لا يحدث ذلك الخوف المفزِع، والانبهار المُقعِد الذي يجعل من أكبر المستحيلات أن يفكر المؤمن مجرّد تفكير بلحوقه أو بمساواة نفسه به، بل يذكر لنا سبحانه مثالا عايشه المسلمون الأوائل وهُم بعدُ الضعاف والقلّة مقابل الكثرة الكافرة القوية، وكيف لم يَحُلْ ضعفهم دون أن يلاقوا الكافرين ويحاربوهم، بل ويهزموهم ...  كل ذلك ليخلّص الله المؤمن من نَير الهزيمة النفسية التي تنقضّ عليه فتُهلكه قبل انقضاض العدوّ عليه ....

5- وسَيْرا على الدرب مع الخطوات .... ها نحن أمام قوله تعالى : "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(14) .

تُرى ما الرابط بين ما كنا معه من بيانٍ لحقيقة الكافرين، وما نحن بإزائه من حديث عن تزيّن الشهوات للناس ؟

أليس الانبهار بقوة الكافرين وبعُدّتهم، وبما هُم عليه من تقدّم علميّ وتكنولوجي، وحربيّ وما هم عليه من علوّ في الأرض بالبنيان والأموال واحتكار أسواق العالم، وسيطرتهم على اقتصاد الدول، وسيطرتهم على خيراتها،  وإِمرتهم بذلك فيمَن هم أقل منهم تطورا وتمكّنا من أسباب الدنيا، واستغلالهم لثروات الأقل قوة وسطوة، واستضعافهم للناس ... أليس كل هذا مدعاة انبهار بهم وبحالهم وواقعهم، ومدعاة نفور من ضعف نعيشه وذلّ وهوان نُكابِده في عالم يأكل فيه القويّ الضعيف أكل الأسد  لفرائسه، لا يَلوي على شيء ... ؟!

هذا هو الرابط ... أنّ كل هذه من الشهوات التي تأخذ الإنسان، وتُزيّن له، فيرى فيها ما يحب وما يجذبه ويسحره ويُبهره، وما تستحسنه نفسه... وهكذا المؤمن وبلاده تعيش الضعف والاستضعاف من الأقوياء، لا يجد بين يَدَيه ما يجده عند أولئك، لا يجد في عَيشه ما يماثل عَيش أولئك... لا يجد ما يجدونه من تيسير لمعاشهم وتسهيل لسبل الحياة والترف والأبّهة ...!فينبهر وينبهر حتى يأخذه الانبهار بالشهوة القلبية إلى الشّبهة العقلية...

يرى أن "كل شيء" عندهم، وأن "اللاشيء" عنده ... يرى أن القوة عندهم والضعف عنده، وأنّ المال عندهم والفقر عنده، وأنّ الدنيا بزينتها مُلك أيديهم وأنّ الدنيا بزينتها مولّية عنه ...!
تأخذه الشهوة إلى وزن الحق بميزان المادة والقوة، تأخذه إلى التساؤل عن سرّ تأخر أهل الحق الذين يحملون منهج الحق الذي أنزله ربّ الناس للناس ...

تأخذه الشهوة إذ تستفحل في نفسه فتتمكن من قلبه إلى تحقيق مآربها وإشباع شهواتها، وإلى التمسّح بمسوح الغير، وإلى الخجل من هويّة يرى أنها هويّة المستضعفين، فيتنصّل من أصله ويُلحق نفسه غصبا بالآخرين ...! ولا تعود له لغة غير لغة تقديس أهل القوة والتقدم والترف والرفاهية، وتسفيه الضعفاء المستضعفين، إلى الحد الذي يسهل عليه فيه التخلّي عن دينه بالكليّة في سبيل مُبهِرات الدنيا، في سبيل إشباع الشهوة التي تقود للشهوة ...!

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(14)

حبّ الشهوات يُزيّن لكل الناس سواء بسواء ... ليس في ذلك عيب ولا منقصة ... ذلك حال البشر كلهم، أن الشهوة تُزيّن لهم، والقرآن في هذا يقرّ بشرية الإنسان ولا يجعلها عيبا أو منقصة في ذاتها، بل هي صفة من صفاته الملازمة، مركوزة في فطرته منذ أوجِد. بل لقد جاء الإسلام داعيا إلى تهذيبها وضبطها وطلبها بما يحفظ على الإنسان رقيّه وعبوديته لله وحده لا للشهوة والغريزة.

يعدّد سبحانه من الشهوات أهمها "النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة" القناطير المقنطرة . يودّ الإنسان لو يملك القناطير المقنطرة، لا أن يملك القليل، لا أن القليل يُقنعه ويُشبِعه .
وفي ذلك قال صلى الله عليه وسلم : " لو كان لابنِ آدمَ واديان من مالٍ لابتغَى ثالثًا ، ولا يملأُ جوفَ ابنِ آدمَ إلَّا التُّرابُ ، ويتوبُ اللهُ على من تاب" –صحيح البخاري-
 لا يملأ جوفَ الإنسان إلا التراب الذي يؤول إليه مآله، فيصير مأواه لا محالة... أما غير التراب فلا يشعر منه بالملء والشبع ما حيي . قال تعالى : " إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ(6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ(7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ(8)" -العاديات-

"وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(14)"
الخيل المسوّمة أي الراعية في المروج والمسارح. يقال: سوّم ماشيته إذا أرسلها في المرعى. أو الحسان، من السيما بمعنى الحسن أو المُعلَّمَة ذات الغرة والتحجيل من السمة بمعنى العلامة، والأنعام والحرث. وكلها مظاهر الترف والغِنى، ومثيرات الشهوة التي تتزيّن للإنسان...
وكلها إذا طُلبت لمقاصدها وبطرقها المشروعة وأحبّها الإنسان دون شَرَه ودون أن تستعبده كانت طيّبة ومُحبّبة ...
ولابن كثير كلام حسن في تفسير الآية، أضع منه مقتطفات :

"يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين فبدأ بالنساء لأن الفتنة، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب .
وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا وتارة يكون لتكثير النسل وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن يعبد الله وحده لا شريك له فهذا محمود ممدوح .
وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء والتجبر على الفقراء فهذا مذموم وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات فهذا ممدوح محمود شرعا.
وحب الخيل على ثلاثة أقسام" تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوا عليها فهؤلاء يثابون وتارة تربط فخرا ونِوَاءً لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر وتارة للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس حق الله في رقابها فهذه لصاحبها ستر
"-انتهى-
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وبعد ذكره سبحانه لهذه الملذات والشهوات المُحبّبة للإنسان . يأتي دور تبيان حقيقتها ووزنها قياسا لما عند الله تعالى . بقوله سبحانه : " ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ"

حُسن المآب عند الله تعالى، حسن المرجع والثواب، الجنّة .
وهذا هو الضبط، هذا هو الإخبار من الله تعالى لعباده المؤمنين أنّ كل ما يُبهِر ويسحر ويتزيّن للإنسان زائل لا بقاء له، فإذا كان الإنسان ذاتُه ذائق الموت لا محالة، وذَوقُ الموت يمتثل لكل من يعيش وهو يرى الموت تأخذ مَن حوله في كل حين، فكيف بما هو أدنى من الإنسان، بالذي سُخِّر للإنسان ... زائل ذاهب، وزائلة الدنيا بما فيها، وذاهبة ... فأيّهما أحسن ما كان زائلا ذاهبا فانيا، أم ما يبقى ولا يفنى ولا يزول ؟

هكذا يعلّمنا الله تعالى أن ما عنده من ثواب وجزاء في الآخرة هو الأبقى وهو الخير .
وهكذا يُخاطَب كل مؤمن، يُخاطَب ذلك المنبهر بما عند الكفار من مظاهر الترف والغِنى والعيش الرغيد ... مهما رأيت... ومهما بهرك من مظاهرهم، فالحذر الحذر أن تأخذك الشهوة إلى تلك التُّخوم  الخطيرة التي تُشرف على الهلاك وهي تزيّن وتزيّن وتزيّن حتى تأخذ للشُبهة في الدين، وتشكك في الحق الذي يحمله ضعيف لم يبلغ ما بلغه حامل معتقد باطل من تطويع لأسباب الدنيا ... فينقلب عنده الميزان، ليزن الحق بميزان المادة والغلبة المادية، فيشتبه عليه دينُه من شهواته الطافحة... !

6-   ثم تأتي الآيات الثلاث الموالية(15و16و17) وفيها تفصيل لـ "حسن المآب"  ولأهله الفائزين به: " قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(15) "

هذا الله تعالى يعرّف المؤمن سبيل النجاة من حبائل الشهوة الجامحة ...فيتوجه بالخطاب إلى نبيّه أن يعلّم بما يعلّمه في أسلوب استفهاميّ يجلب السامع، فيزيد فضوله لمعرفة الجواب : " قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ ".يعقبه التقرير من الله تعالى : لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(15)

ذلك  حسن المآب الذي هو عند الله تعالى ... للذين اتقوا عند ربهم :

**جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها.
**أزواج مطهّرة من كل دنس ومن كل خبث مادي ومعنوي.
**رضوان من الله، والرضوان هو الرّضى العظيم من الله تعالى . عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: « إنَّ اللهَ يقول لأهل الجنَّةِ : يا أهلَ الجنَّةِ ، فيقولون : لبَّيكَ وسعْدَيك ، والخيرُ في يدَيْك ، فيقول : هل رضِيتُمْ ؟ فيقولون : وما لنا لا نرْضى يا ربِّ ، وقد أعطَيْتَنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقِك ، فيقول : ألا أُعطِيكم أفضلَ من ذلك ؟ فيقولون : يا ربِّ ، وأيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك ، فيقول : أُحِلُّ عليكم رِضواني ، فلا أسخطُ عليكم بعده أبدًا». –صحيح البخاري-

كل هذا "عند ربهم" هذه العندية التشريفية بنَسْبها لله تعالى، عند ربّهم الذي خلقهم، ورزقهم وهداهم وهو مثبّتهم :" ربَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ". ربّهم الذي برحمته بعدها يُدخلهم الجنّة. الجنّة التي هي "عند ربهم".

لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(15)
سبحانه بصير بعباده، يعلم مسيئهم من مُحسنهم، ويجازي كلا بما عمل، ففي هذا وعد للمتقين ووعيد متضمّن للمسيئين .

7- وكما عرفنا تفصيل "حسن المآب" في الآية (15)، يأتي الآن تفصيل أهله الفائزين به في هاتين الآيتين المواليتين : "الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ(17)"

وهما الآيتان الأخيرتان من قطاعنا (10-17) .إنه تعريف بـالذين اتقوا : " لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ...."

** الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(16).
** الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ(17)


وبهذا نكون قد أنهينا هذا القطاع الممتد من الآية 10 إلى الآية 17 . والذي عرفنا فيه إجمالا قسمَيْن اثنَيْن :

أولا : قسمٌ جاء فيه الحديث عن الذين كفروا (10-13) وأنّ ما هم فيه من رفاه بالمال والأولاد لن يغني عنهم من الله شيئا، ومآلهم إلى النار، في بيان لضعفهم رغم مظاهر قوّتهم، وفي حثّ للمؤمنين على الاعتزاز بهويّتهم ودينهم، وألا يستصغروا أنفسهم أمام مظاهر قوّتهم. (تخليص من الهزيمة النفسية).

ثانيا: قسم جاء فيه تزيّن الشهوات الدنيوية للناس (14-17) وأنها الصفة المركوزة في الفطرة الإنسانية، والتي لا يُنكرها الله تعالى، بل يضبطها وينجّي المؤمنين من ربقتها، ومن الوقوع في حبائلها، حتى لا تأخذ الشهوة للشبهة في الدين، وحتى يثبت المؤمن على الحق، إذ أنّ المأخوذ بالشهوات سهل اختراقُ عقله بالشبهات، فهو تابع، منبهر، مقلّد.

وهكذا ... نجد أنفسنا دوما بين يَدي هذه السورة في تعزيز دائم لقضيّة "الثبات على الهدى"   "الثبات على المنهج"...
ففي بداياتها جاء التلويح بخطورة الزيغ الذي يدفع لاتباع المتشابه الذي يلبّس على المرء الحق، فكانت الاستعانة بالله على الثبات على الهدى، وهو الهادي المثبّت (8-9)، كما جاء الآن ذكر معيقات الثبات، وتخليص الله للمؤمنين من أن يؤخذوا بالشهوة السائقة إلى الشبهة في مزيد تفصيل لطرق التثبيت وسُبُل الثبات.

« آخر تحرير: 2018-11-18, 17:33:12 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
نخرج من هذا القطاع، لنلِج قطاعا جديدا من الآيات، وكالعادة دأبنا هو السير على الدرب بخطوات... خطوات تسوق للخطوات على ضوء من القرآن مشكاةً وهداية ...

وإنّني وأنا أضع مجموع الآيات التي تشكّل القطاع عندي أحتسب في ذلك وِحدة تجمعها وترابطا كائنا بينها، ترابطا داخليّا في القطاع ذاته لا ينفكّ عن ترابط أعلى هو سَوق الآيات السابقة للآيات اللاحقة ... وخلال ما أضع من وحي القطاع سيتبيّن سرّ جمعي لها سويّة في لُحمة واحدة.

قطاعنا الجديد هو :

شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(18) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ(19) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(21) أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ(22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ(23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ(27) لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ(28) قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ(30) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(31) قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(32)

1- ها هو سبحانه يعود بنا إلى منطلقنا من هذه السورة : "اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ(2)" وهو المنطلق الذي يتأسس عليه الحقّ والهُدى الذي يُراد الثبات عليه، أنّ الله سبحانه واحد لا إله إلا هو، دحضا لأكاذيب أهل الكتاب الذين ادعوا له ولدا، ودعوا بالتثليث لا بالتوحيد، ودعوا بأن الله تعالى هو عيسى عليه السلام . هو رأس الهدى الذي هو في هذا الكتاب. وإنّ هذه السورة التي لاحت لنا منها أمارات التثبيت والدعوة للثبات، -وكما أسلفنا- جاءت لدفع الاشتباه في الله تعالى: "ألم(1) اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ(2)" كما جاءت البقرة دفعا للاشتباه في الكتاب : " الم(1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ(2)" .

وهذه سياقاتها المتّسقة تأخذنا الآن إلى : "شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(18) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ(19) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(20)"

إنها شهادة الله تعالى على نفسه بأنه لا إله إلا هو، الشهادة العُظمى منه سبحانه، ومعناها أنه سبحانه بيّن وأعلم خلقه بآياته الكونية وآياته القرآنية أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد، المستحق للإفراد بالعبادة. والملائكة بذلك قد شهدوا، فعبدوه حقّ عبادته : "وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ(19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ(20)"-الأنبياء- وكذلك أولو العلم شهدوا بذلك.

قال الطنطاوي في أولي العلم : "والمراد بأولى العلم هنا جميع العلماء الذين سخروا ما أعطاهم الله من معارف في خدمة عقيدتهم، وفيما ينفعهم وينفع غيرهم، وأخلصوا الله في عبادتهم، وصدقوا في أقوالهم وأفعالهم." –التفسير الوسيط للطنطاوي-

قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:  قائم بالعدل سبحانه، مع تأكيد على الشهادة العظمى بوحدانيته، مقرونة بـ"العزيز الحكيم" العزيز الذي لا يُغلَب، الحكيم الذي خلق ويدبّر الأمر بحكمة تامة في دِقّ الأمور كما في جِلِّها.

إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ(19)

والدّين في الأصل الجزاء، ولكنه جرى مجرى ما يَدين به الناس من عقائد، فيبقى متضمّنا معنى انتظار أهله للجزاء.وقد عرّف العلماء الدين الصحيح بأنّه : «وضعٌ إلهيٌّ سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخيْر باطناً وظاهراً» .

فلنتأمّل...

هذا الإله الواحد الذي لا إله غيرُه حقيق على الخَلق أن يدينوا له بالعبادة ----> الدين عنده الإسلام، ما يجب أن يعتقده خلقه الذين خلقهم هو الإسلام. "مَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" –آل عمران:85-

وفي هذه الآية إشارة واضحة إلى دحض ادعاءات أهل الكتاب، وقد عُقب كلّ من: (أ)الشهادة العظمى على وحدانيته، و(ب)إعلان أنّ الدين عنده الإسلام بـ : " وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ(19)"

وفيها بيان أن الله تعالى ما أقرّ غير الإسلام دينا، وما كان سبحانه ليبعث رسله بغير الإسلام، وأنهم جميعا دعوة واحدة لا اختلاف فيها، ولكنّ الاختلاف كان منهم، إذ حرّفوا وبدّلوا، واختلفوا فيما بينهم، النصارى واليهود فيما بينهم، والفرقة الواحدة منهما اختلفت فيما بينها، كما اختلفوا جميعا مع دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحدثوا الاختلاف من قبل بعثته، ومن بعد بعثته، وكلّه "من بعد ما جاءهم العلم" الذي جاء في كل الرسالات السماوية ومع كل الرسل.

"فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(20)"

وهذه دعوة من الله تعالى لنبيّه عند محاججة أهل الكتاب له فيما يدين به  أن :

** يعلن إسلامه لله تعالى هو ومن اتبعه مصدقا بما جاء به.
** أن يتوجه لأهل الكتاب والمشركين بسؤال واضح : "أأسلمتم؟" أي أتتبعونني على ما جئت به؟ فإن أسلموا فقد حازوا الهدى، وإن تولوا فما على الرسول إلا البلاغ : " مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ  وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ"-المائدة:99-

وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم هو لأمته أيضا بالتعدّي .

إذن وقوفنا عند هذه الآيات السالفات التي ابتدأ بها قطاعنا الجديد (18-20) يعلّمنا في قضية الثبات طريقا ... وإنه لَلسلاح الأوّل الواجب التسلح به في طريق الثبات... /color]

إنها ملامح الثوابت تلوح لنا من هذه الآيات ... من هذه البدايات ...

يبدو أنه قد آن أوان تحديد الثوابت التي ينطلق بها المؤمن على درب الحياة، تلك التي تساعده على الثبات، وعلى مقاومة الأمواج المتلاطمة التي سيهيج بها بحر الدنيا التي يعيشها، تعترض درب إيمانه، تريد أن تبتلعه في لجّ مظلم لا قرار له...!
إننا في مدرسة التثبيت، إن الله يسلّحنا بالثوابت .

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وننتقل من آيات الثابت الأول، إلى آيات أُخَر، فلعلها أن تكون للثابت الثاني ..

2- "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(21) أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ(22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ(23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ(27)" في كلّها جاء الحديث عن طائفة من أهل الكتاب، هم اليهود على وجه الخصوص، ذلك أنّ هذه الصفات الأفعال المذكورة في هذه الآيات إنما هي أفعالهم، وجاء بها لاقرآن في مواضع كثيرة..

أود قبل الخوض في الآيات أن نتبيّن ما يربطها بما قبلها، ذلك أننا بلغنا مما سلف قولَه تعالى : " ...وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(20) "

فهذه الدعوة من الله تعالى لنبيّه أن يكون داعيا لدينه، أن ينشر خير الإسلام، وقد بُعث به رحمة للعالمين : "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" –الأنبياء:107- وجاءت دعوة الله له هنا عن أهل الكتاب بصفة خاصة يهودا ونصارى، وعن الأميين الذين هم المشركون، فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما على الرسول البلاغ، والله بصير بعباده، يعلم من سيقبل الهُدى منهم، ومَن سيعرض عنه... فتلتْها الآيات التي نحن بصددها (21-27)، وفيها الحديث عن أهل الكتاب، عن أفعالهم وصفاتهم، وتحديدا عن حال المتولّين منهم عن دعوة الحق، مما يبيّن أنّها خاصة بيهود عصر النبوة . إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(21) أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ(22)

وجاءت صيغة الأفعال في المضارع لاستحضار أفعال السلف منهم في الأذهان من جهة، ولاستحضار حال المعايشين لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى (أ)"يكفرون بآيات الله" (ب)"يقتلون النبيين بغير حق"، ولو أنّ قتل الأنبياء لم يكن من معاصري الدعوة المحمدية، إلا أنهم أقرّوا ما فعل أسلافهم، واعتقدوا سَداده. (ج)"ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس" مع قتلهم للأنبياء، فهم أعداء للحق حيثما كان ومع أيّ كان. ------> "فبشرهم بعذاب أليم" جاء الوعيد لهم من الله في صيغة التهكّم بـ : "بشّرهم"

أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ(22)

أولئك أصحاب تلك الأفعال الشنيعة، بطلت أعمالهم  فليس لها عند الله من وزن لا في الدنيا ولا في الآخرة، وما من نصير لهم ينصرهم لينجّيهم من عذاب الله ومن مآلهم المحتوم .

وتستمر الآيات في بيان شنائعهم :

"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ(23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(25)"

وهم اليهود الذين "أوتوا نصيبا من الكتاب"، والنصيب هو الحظّ والقسمة من الشيء، فهم قد أوتوا نصيبا من الكتب السماوية متمثلا في التوراة على اعتبار أن "الكتاب"  اسم للجنس أي الكتب. هؤلاء يُدعَون ليحكم بينهم كتاب الله وهو التوراة، فيتولّون معرضين، وقد رُوي فيما اختلفوا فيه حتى دُعوا لحكم التوراة فيهم ما جاء في صحيح البخاري أنّ اليهود قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر رجل وامرأة من أشرافهم زنيا، فسألهم صلى الله عليه وسلم عن فعلهم بمن يزني، فقالوا بتحميم الزانيَيْن وضربهما، فسألهم عن الرجم، فأنكروا وجوده عندهم، فكذّبهم عبد الله بن سلام، ودعاهم أن يأتوا بالتوراة وينظروا فيها، ففعلوا إلا أنّ من جعل يقرأها أخفى بيده حكم الرجم وهو يقرأ، ففطِن له ابن سلام، وأزاح يده، فعُرف أنها آية الرجم.

وهكذا قيل أنّ الآية نزلت في هذه الحادثة، كما يقال أنها نزلت في خلاف آخر بينهم، إلا أن لابن جرير قولا حسنا في ذلك أوردُ ملخصا عنه:
"وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله- تعالى- قد أخبر عن طائفة من اليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم دعوا إلى التوراة للتحاكم إليها في بعض ما تنازعوا فيه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأبوا. ويجوز أن يكون هذا التنازع في أمر نبوته، أو في أمر إبراهيم ودينه، أو في حد من الحدود فإن كل ذلك مما نازعوا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ." -انتهى-

فإذا تأملنا هؤلاء القوم في هذا المقام رأينا العجب العُجاب !! فهم أولاء يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم مدّعين طلب حكمه فيما شجر بينهم، وهذا منهم مدعاة تحيّر وتعجّب ! ثم لمّا سئلوا عن حكم الأمر عندهم قالوا بغيره لا بما هو في كتابهم، وتلك ثانية الأعاجيب ! ثم لمّا دُعوا إلى كتابهم ليحكم بينهم أنكروا وأخفوا ما هو مسطور فيه لا ما هو محذوف منه بفعلهم من قبل، وهذه ثالثة الأعاجيب !

فتأتي الآية الموالية معلّلة لسبب ما هم عليه من صفاقة الوجه، وشناعة الفعل حتى كانوا يُعرضون عن الحق بكل وقاحة :"ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(24) " .... لأنهم استسهلوا أمر الله، وكذبوا على الله وافتروا في دينهم الذي حرّفوه وصيّروه صناعة أيديهم، حتى تجرؤوا وقالوا بأنّ النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، يُخرَجون منها بعدها، فغرّتهم أكاذيبهم تلك حتى كان إعراضهم عن الحق وتولّيهم عنه بكل وجه عجيب !
فهذا زيادة على ما كان منهم من كفر وقتل للأنبياء ولكل آمر بالحق، (د)افتراؤهم الكذب على الله، واغترارهم بما افتروا.

ويُختم هذا القسم عن شنائعهم بقوله تعالى :" فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(25)" وهو استفهام للاستعظام والتهويل، وذكر ما سيؤول إليه حالهم بعد فناء الفانية التي عثوا فيها فسادا وإفسادا، ذلك اليوم الذي سيُفّون فيه خيرهم وشرّهم دون ظلم من الله تعالى الذي حرّم على نفسه الظلم، حالهم يومئذ شديد، ولن يجدوا لأنفسهم من مهرب، وقد نسوا الله فأنساهم أن يغتنموا خيرا لأنفسهم.

ما نزال بعدُ مع القسم الذي فيه عن شنائع اليهود، عددت الآيات شيئا منها، رقَمْناه أعلاه...نأتي الآن إلى ختامه (26-27) لنحاول فهم ما توحي به الآيتان :

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ(27)

هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعليم من الله تعالى لنبيّه ولأمّته من خلاله أن يدعوا بهذا الدعاء مع الإيقان بمعناه : فسبحانه مالك الملك، يؤتي منه من يشاء، كما ينزعه ممن يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، ومشيئته هذه مشيئة عدل وحق وحكمة.
وجاء عقِب الكلام عن اليهود وعن صفاتهم وأفعالهم، وقد عُرفوا بالمُلك والعزة وبعثة الأنبياء الكُثُر فيهم : "وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ" –المائدة:20-

وهو سبحانه الذي فضّلهم، وأنعم عليهم بهذه النعم الكثيرة، وخصّهم بهذه العطايا الوفيرة، هو سبحانه الذي ينزع الملك ممن يشاء، ويذلّ من يشاء بعلمه وحكمته، وقد عرفنا تفصيلا في سورة البقرة فضحا لليهود وما كان منهم، من أسلافهم ومن المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفنا جبلّتهم القاسية، وجرائمهم ذات الضروب والألوان رغم ما خصّهم الله به من نعم وفضل.
فجاءت في آل عمران زيادة بهذه الإشارة إلى أنّ الملك والعزّة التي حباهم الله بها، قد آن أوان نزعها منهم مع بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم...

حلّت النبوة في غيرهم، ونُزعت منهم، ونجح الإسلام في بسط نفوذه على البلدان والأمصار شرقا وغربا، وفُتحت مغاليق العالم على أيدي المسلمين الناصرين المنصورين، وشهدت العصور الأولى للدعوة الإسلامية ازدهارا ونشرا للحق والعدل والسلام في ربوع الأرض.. الأرض التي كانت تتعطش للعدل وإشراقة الحق عليها، فما عرفت عدلا وإحقاقا للحق وإبطالا للباطل كالذي عرفته على أيدي الفاتحين المسلمين...
« آخر تحرير: 2018-10-30, 20:53:11 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ولسائل أن يسأل، ولناظر أن ينظر ويفكّر، فيقول : هذا عن ماضٍ كان وولّى، وإنكم أيها المسلمون لا تنفكّون بُكاة على أطلال تكاد تندثر، تمطّون شفاهكم بحديث الماضي، وتتمطّون مزدهين بحكايات وروايات وتاريخ ... منهم يكون السؤال والنظر، من أصحاب الجاه والعلوّ اليوم في الأرض، كما قد يكون من أبناء المسلمين الذين ملّوا الانتشاء بالماضي وهم يعايشون حاضرا ضنكا ...
فأيّ عزّ هو للمسلمين اليوم، وأي ملك ؟!!   

أقول ... أما هذا الذي بين أيدينا في القرآن، فهو الحق والتقرير الإلهي الحكيم لأمره في الأرض، لأمره في عباده الذين خلقهم ليكونوا خليفته في أرضه، لعباده الذين عرفنا في "البقرة" قصة استخلافهم من آدم عليه السلام " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..." –البقرة: من الآية30-
 
استخلفه الله تعالى ليطبق منهجه في الأرض، ليحقق الغاية من وجوده، عبادة الله، وإعلاء كلمته، وقد تجسّدت هذه الآية حقيقة ملموسة، حينما تمكّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانقلب حال المسلمين من المستضعفين المطرودين إلى الأسياد الحاكمين، أصبح رئيسا حاكما بالمدينة، وهزم المشركين في أول لقاء للقلة المؤمنة بالكثرة المشركة، ثم توالت انتصاراتهم، وحتى الهزيمة في "أُحُد" كان فيها الخير الكثير من تعليم للمؤمنين لعوامل النصر والقوة، وخاض المسلمون الحروب وانتصروا فيها، وخُضّدت شوكة المشركين، وتعزّزت قوة المسلمين، وانتشر الإسلام واتسعت رقعته، وغلبوا اليهود بدل المرة مرات، وتصدوا للمنافقين ومؤامراتهم مع اليهود ولتأليبهم المشركين على المسلمين مبتغين استئصال شأفتهم... وباءت محاولاتهم المستميتة للقضاء عليهم بالفشل والخسران المبين .

وفُتحت خيبر أقوى معاقل اليهود ... وزال عزّهم وتهاوى ملكهم، فأجلِي منهم مَن أجلي على أيدي المسلمين، وقُتل منهم من قُتل، وحيز منهم الأسرى، وغُنمت أموالهم ...
 
نعم ... آتاهم الله الملك، واصطفاهم بالأنبياء أجيالا بعد أجيال، وآتاهم من فضله العظيم، ولكنّه نزع الملك منهم بعد أن تبيّن فشلهم في الاستخلاف، وآتى الملك للمسلمين يوم أن كانوا على خطى المنهج الرباني، أعلوا رايات الدين حينما سادوا بالعدل والحق والعلم والعمل ... وظلّ على خطى النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من جاء بعدهم، في عهود الخلافة الأربعة، واستمرت الدولة الإسلامية في بسط نفوذها دهرا من الزمن، وتنفّست الأرض الصعداء، وشهدت انتشاء من حضارة كافأت بين العقل والروح، وتخلّصت من بطش الشّرِهين المستوحشين، ومن ظلم الجبابرة الطاغين.

نعم... هو الماضي، ولكنه كان الحقيقة ولم يكن الخيال، هو الماضي ولكنه الذي عدّل الموازين، وفيه تحقّقت معاني الآيات التي بين أيدينا، فنزع الله فيه الملك ممن شاء وآتاه من شاء، وأعزّ من شاء، وأذلّ من شاء ...

وهكذا ... هو ذا الحال اليوم غير ما عرفنا من التاريخ، هو خلاف ما عرفنا، ولكنّ الآيات ستبقى قاعدة تتحقق، فيُعَزّ مَن يُعَزّ بمشيئة الله، ويُذَلّ من يُذَلّ بمشيئته، وستبقى مشيئته مشيئة عدل وعلم وحكمة ... ومتى عاد المسلمون لرحاب الفهم السليم لدينهم سيعود العزّ، وسيعود الملك والسؤدد لا لغاية الملك في ذاته، بل لخير الأرض، ولإصلاحها، ولتخليصها من أدوائها ...

وسيبقى معنى الآية أنّ رسالة الخير والإصلاح على عاتق المؤمن لا على عاتق غيره، ذاك الذي يعلم عبء الرسالة، ويعلم الغاية من وجوده، ويقوم بدوره في نشر الحق الذي بين يديه، وبث الخير الذي يحمل...  لن تُجدي الشعارات والوعود البراقة والمدّ الإيجابي على غرار نغمات خرافة "الطاقة الإيجابية" والهالات الإيجابية، بل إنّ القضية قضية عمل وحركة على الأرض تحقّق الموعود، قضية استخلاف لن يكون برفع يد مبتهلة مع قدم قعيدة ! بل بيد عاملة وقدم متحركة تترجم اليقين بأنّ الحركة على الأرض والأخذ بأسبابها عبادة، وأنّ السعي لبقاء الأنفة والعزّة بالصناعة والتجارة والحرث والعلم والكدّ والجدّ عبادة ... وليس معنى هذا الوقوع في الفخّ الذي  وقع فيه أهل الصدمة من فهم للدين غليٍّ أنّ الدنيا للكافرين وأن للمسلمين الآخرة، ذلك الفخّ هو الغلوّ أيضا من الطرف المناقض بأن جعلوا الدنيا والعلوّ فيها كبرى الغايات، حتى جُرّدت الحياة عن الغاية من إقامة منهج الله فيها، وإعلاء توحيده وعبادته على الأرض.

إنها تلك الموازنة بين العقل والروح التي لا يحققها إلا الإسلام، لا يحققها غير منهج الله تعالى لعباده وهو خالق الأنفس، والعارف بها وبأحوالها واحتياجاتها، وما يحقق لها التوازن الوجودي...

نعم ... إننا اليوم بإزاء حضارة صنّعت كل شيء، وطورت كل متطور، ولم تكتفِ بقدر، بل هي في لهث مسعور خلف الأحسن فالأحسن، والأسهل فالأسهل، والأجمل فالأجمل ... ولكنها حضارة نسيت إنسانية الإنسان وحاجات الإنسان، حضارة لم تستطع فهم الإنسان،  فافتقرت في قاموسها لمعنى الروح وفي مصنوعاتها وزراعاتها لغذاء الروح لأنها تعطي للبشرية من يد  بشرية، ولا تعترف باليد الربانية الحارسة التي مهّدت الطريق الآمن لمن خلقت ...

وتبقى هذه الآيات هي الحقيقة، والقاعدة السليمة ...

أما مَن عساه يكون أهلا لحمل هذه الرسالة، فهذا ما لا نعلمه، والحياة قد تدبّ من قلب الموت، فقد يكون من أبناء الأمة، كما قد يُخرَج من صلب كافر مَن يحملها حقّ الحمل ويؤديها حقّ التأدية، وإنّ المرء ليُشدَه فاهُ وهو يرى ممن يعتنقون الإسلام رجالا ونساء من قلب تلك الحضارة المادية خاوية الروح، ومن فورهم يغدون دعاة لدين الله في ربوع تلك البلاد بكل سبيل، بل إنّ رؤيتهم ورؤية دأبهم وسعيهم لنشر الدين وتعريف الناس بربّهم لآية من آيات الله تعالى في إخراج الحيّ من الميت ... ! إن نصرة هذا الدين متعلقة بمَن صدق في التوجه لله تعالى وفي حمل رسالته، لا بمَن سبق أصله فكان الدين عنده وراثة من الوراثة ...!

إن القيادة العادلة والآمنة لن تكون إلا بأيدي المؤمنين الذين يتخذون من القرآن مشكاة على درب الحياة... يتخذون من المنهج الرباني قانونا يؤطّر المسير، يعلمون أن الخلافة في الأرض تكليف إلهي لتعميم الخير على الأرض ولتعليق أهل الأرض برب السماوات والأرض ...

وهكذا... نعود إلى هذا القسم(21-27) من قطاعنا الكليّ (21-32)

قد عرفنا الثابت الأول على طريق الثبات على الهُدى (18-20) (إعلان التوحيد+ الدعوة للإسلام) .ومع هذا القسم الجديد (21-27) ها نحن بين يدي الآية الأخيرة منه :

"...بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ(27)"

"...بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" بيده الخير سبحانه، ولذلك كان منهجُه للأرض وللإنسان هو خير الأرض، ومن طبّق منهجه وأدى رسالة استخلافه في الأرض هو مبلّغ هذا الخير للبشرية.

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ(27)

سبحانه يدخل طائفة من الليل في النهار، وطائفة من النهار في الليل، فيقصر النهار أو يطول، كما يقصر الليل أو يطول، كما يجعل في اليوم حلول الليل تدريجيا بعد النهار، وحلول النهار تدريجيا بعد الليل، فلا ليل يدوم ولا نهار يدوم. كما يخرج الحيّ من الميت، ويخرج الميت من الحي، بإخراجه الثمرة من النوى، وبإخراجه النوى من الثمرة، وبإخراجه الكافر من المؤمن، وبإخراجه المؤمن من صلب الكافر. سبحانه صاحب الأمر في أمره...

وإننا لو أسقطنا الليل والنهار والحيّ والميت على ما عرفنا لوجدنا رابطا :

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ----> إشارة إلى  إعزاز الله من يشاء وإيتائه الملك من يشاء في دورة لا يدوم فيها ليل كما لا يدوم فيها نهار.

وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ-----> كما هو حال من يحملون الحق اليوم وهم لا يتحلّون بأهليّة حمله، وكما قد تُخرَج الحياة من الحال الرُّزء التي هم عليها . وكما قد تخرج حياة هذا الدين من أصلاب كافرة .

وعلى هذا تبيّن لنا أن رسالة الإصلاح في الأرض هي على عاتق المؤمنين بعد فشل مَن قبلَهم

إذن فهو السلاح الثاني في انطلاقتنا على الدرب للثبات على الحق والهُدى، حامل الحق والهُدى هو الذي عليه نشر الحق والهُدى... ولقد استُبِق بيان حمل الرسالة وتأديتها بما جاء في الثابت الأول من دعوة إلى مقابلة المحاججين بدعوتهم إلى الإسلام في قوله تعالى : "فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(20)"

« آخر تحرير: 2018-11-03, 08:27:47 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
نكمل مع ما بقي من آيات قطاعنا (21-32)، لعلنا نقع على ثابت آخر من ثوابت الانطلاق على الدرب، والتي تخوّل لنا الثبات عليه...

3- "لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ(28) قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ(30) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(31) قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(32)"

عرفنا حتى الآن :

الثابت الأول: الشهادة وإعلان الإسلام والدعوة له.(18-20)
الثابت الثاني: الرسالة اليوم على عاتق المؤمنين بعد فشل مَن قبلهم(21-27)
وهكذا وجب أن يتسلح المؤمنون الحاملون للرسالة  بصفات تميّزهم عن أهل الكفر، تميّزهم عن أولئك الذين عرفنا شيئا من صفاتهم وأفعالهم(21-25) التي أخرجتْهم عن أهليّة حمل رسالة الخلافة في الأرض، صفات تؤهّل للثبات رغم كل المعوقات من شهوات وشُبهات .

فلنتأمل ....

لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ(28) قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ(30)

"الوِلاية" بكسر الواو لغةً هي النصرة، و"الوَلاية" بفتح الواو تولي الأمر .

3-أ) ونفهم القرآن بالقرآن حينما نستحضر قوله تعالى : "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ..." –الممتحنة: من الآية 1- 
إذ أنّه لا يجوز إلقاء المودّة إلى من  كفروا بالحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فالدين هو أول ما يغضب له المؤمن، وهو ما يحب لأجله وما يكره لأجله، فمَن لا يرتضي في أقرب المقربين إلى قلبه كلاما أو مناصبة عداء، أولى به ألا يرتضي في دينه ذلك، فيحب من والاه ويكره من عاداه. ويقول سبحانه : "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " –المائدة:51-  ولأن بعضهم أولياء بعض، فإن الأولى بالمؤمنين أن يوالي بعضهم بعضا لا أن يوالوا مَن لا يوالونهم. وعلى هذا فإن : " وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ "، لأن من كفر بالله فهو لله سبحانه عدوّ، فكيف يكون من الله في شيء مَن والى عدوّه ؟! ولكن وكعادة القرآن في كماله وإحاطته بكل الأحوال بما فيها من ظروف محيطة وعوامل مؤثرة، يستثني : "إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً"، التقيّة والمُداراة التي يُضطر لها من أحيط بمَن يخشى أذاهم وسطوتهم، فيكون من وسائل حفاظ المؤمن على عرضه ونفسه أن يُداري فيُلين لهم الكلام ويبشّ في وجوههم دفعا لشرّهم.

يقول الطنطاوي في تفسير الوسيط :
"والموالاة الممنوعة هي التي يكون فيها خذلان للدين أو إيذاء لأهله أو إضافة لمصالحهم، وأما ما عدا ذلك كالتجارة وغيرها من ضروب المعاملات الدنيوية فلا تدخل في ذلك النهي، لأنها ليست معاملة فيها أذى للإسلام والمسلمين"

وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ (28)

"وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ" سبحانه يحذّر من هذه الموالاة، كما يحذّر من التمادي في التقيّة حتى يتجاوز صاحبها الحدود باسمها، فيضرّ بالدين باسمها وبدعوى حفاظه على نفسه، أو يَمرُد على النفاق من كثرة ما يجاري ويداري.

3-ب) قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(29)ثم يتوجه سبحانه لنبيّه أن يخبر عن ربه إحاطة علمه بما يسرّ الإنسان وبما يُعلن، ذلك أنّ موالاة الكفار قد تكون ممّن يعلن موالاته ويُشهرها، كما قد تكون ممّن يظهر بوجهين، وجه يوالي به المؤمنين، ووجه آخر يوالي به الكافرين، فيلتبس أمره على المؤمنين ويحسبونه منهم وما هو منهم، فيبيّن الله سبحانه أنه يعلم بحال من أسرّ ومَن أعلن سواء بسواء، ولا يخفى عليه شيء في السماوات ولا في الأرض، وهو سبحانه على كل شيء قدير لذلك حذّرهم نفسَه.

3-ج) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ(30)
هو يوم نصير فيه إلى الله تعالى، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وشرّ، فتودّ لو أن بينها وبين حسابها على سوئها أمدا بعيدا، ويكرر الله سبحانه التحذير تأكيدا على إنذاره عباده عذابه وغضبه، ولكنه هذه المرة يُعقَب بـ: " وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ " سبحانه الذي كتب على نفسه الرحمة : "وإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ  كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ  أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" –الأنعام:54-

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  "إنَّ اللهَ خلق الرَّحمةَ يومَ خلقها مائةَ رحمةٍ ، فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمةً ، وأرسل في خلقِه كلِّهم رحمةً واحدةً ، فلو يعلمُ الكافرُ بكلِّ الَّذي عند اللهِ من الرَّحمةِ لم ييْئسْ من الجنَّةِ ، ولو يعلمُ المؤمنُ بكلِّ الَّذي عند اللهِ من العذابِ لم يأمَنْ من النَّار" –صحيح البخاري-

وهكذا من 3-أ و3-ب و علّم الله عباده المؤمنين ألا يتخذوا الكافرين أولياء، وذكّرهم بيوم الحساب الذي يُجزى فيه كل إنسان بما عمل.
وعلى هذا نقول أنّ الثابت الثالث بين أيدينا على طريق الثبات على الهدى والحق هو : البراء من أهل الكفر (28-30)


« آخر تحرير: 2018-11-03, 08:25:26 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
4-نكمل الآن مع آخر ما تبقى من القطاع الكلّي (21-32) وهما الآيتان 31و32، ولا أحسبهما إلا الثابت الرابع ..

فلنـــــــــــرَ ...

ها قد علّم الله ما يجب أن يكون عليه المؤمنون -من بعد ما بيّن صفات الكافرين الذين لم تعد لهم أهليّة إصلاح الأرض وحمل رسالة الخير إليها- بتحذيرهم من موالاة الكافرين، خاصة ونحن إن نظرنا بعين عصرنا وما يموج به عرفنا قوة في الكافرين وضعفا في المؤمنين، سيطرة مُحكَمة من الكافرين على أهل الإيمان واستضعافا لهم. وضع يُتوقّع معه أن يكون المؤمن ذليلا ضعيفا بإزاء الكافر القويّ ذي السطوة والسلطة، إلا أن يستمسك بعُروة الله الوُثقى، وألا تغرّه الشهوات المطوِّحات بالإنسان ذات اليمين وذات الشمال. فلاقَ كل اللَّياق أن يُذكَّر المؤمن بهذا التحذير الإلهي...

وهكذا نجدنا في كل مرة مع قضيّة الثبات، نتعلّم أنّه لا يكفي أن يؤمن المرء ويعلن إيمانه، وبعدها يَسلَمُ جانبُه. إنما هذه الدنيا امتحان واختبار، وأَولى الشؤون بالاختبار في العبد إيمانُه . يقول تعالى : "أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"-العنكبوت: 02-

وصدق المتنبّي حين قال :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ** حتى يراق على جوانبه الدمُ.

ثم يأتي الآن تعليم جديد للمؤمنين... لصفة من أهمّ الصفات التي يجب أن يتحلّوا بها. بها ينأون عن مزالق الكافرين الذين ذمّهم الله تعالى وأشار إلى إخراجهم من فضله الذي خصّهم به دهرا من الزمان حينما تجرّدوا منها .

قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(31)

جاء أمرا من الله تعالى لنبيّه وصفيّه صلى الله عليه وسلم أن يقول بهذا التعليم الرباني، أنّ علامة حبّ العبد لربه سبحانه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالمقابل فإنّ اتّباع المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم موجب لحبّ الله إياه. اتباع سنّته صلى الله عليه وسلم، فيما كان توجيها منه وتربية وإرشادا وهداية وتعليما وحكما، بلسانه أو بأفعاله.

4-أ) حبّ العبد المؤمن لله تعالى موجب لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم .
4-ب) اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم موجب لحب الله للعبد ومغفرته لذنوبه

قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(32)

ويُتلى الأمر الأول من الله تعالى لنبيّه بأمر ثان، أن يعلّم المؤمنين وجوب طاعة الله ورسوله، فيزيد بيان أهمية طاعته صلى الله عليه وسلم بعد أن قرنت بطاعة الله بقوله تعالى : " فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ " أي أنّ المتولّي عن طاعة رسول الله في عِداد الكافرين.

** اتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم ----> علامة حب العبد لربه، وموجب لحبّ الله تعالى لعبده
** طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مع طاعة الله ----> علامة الإيمان بالله
** عدم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مع طاعة الله ----> علامة الكفر بالله.

وإن في القلب لحُرقة وفي الحلق لغصّة من كمّ صيحات التشكيك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سنّته التي جاء القرآن مبيّنا وجوب اتباعها، والتأسي بتوجيهاتها والأخذ من تربياتها، والاسترشاد بهَديها، في هذا الموضع الذي بين أيدينا كما في مواضع أخرى غيره : "...ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا  وَاتَّقُوا اللَّهَ  إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" –الحشر: من الآية 7 –
فإما تشكيك كلي في السنة والدعوة للاحتجاج بالقرآن وحده، أو تشكيك جزئي بها، والقول بأن منها ما يُؤخذ به ومنها ما لا يؤخذ به، أو طعن في الصحابة للتشكيك بنقلها، أو تشكيك بالجهد الذي بذله العلماء لتنقيتها وتخليصها من المكذوب والموضوع وبيان سقيمها من سليمها ... ضروب من التشكيك وألوان !

وإنه لم يَفُتْ هؤلاء (الذين يسمون أنفسهم قرآنيين)أن يجعلوا من الآيات القرآنية الدالة على حجيّة السنة ووجوب اتباعها(من مثل هاتين الآيتين) ذات دلالة أخرى، دلالة أنّ طاعة الرسول تكون بطاعة ما جاء به من أمر القرآن، ولا يعدو أن يكون أمرا من رسول الله لا وجود له في القرآن...

فإن كان الأمر كذلك، فلمَ لم يقتصر الأمر الإلهي بالطاعة على "الله" وحده دون أن تُقرن به طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، مادام من الجليّ الذي لا يُجَلّى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم هو المبعوث بالقرآن من الله ؟! وإن كان الأمر كذلك، فما بال هؤلاء يصلّون خمسة أوقات في اليوم والليلة، وما جاء بها القرآن، بل جاء بحركاتها فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبأقوالها لسانه ؟!   

ثم للذين يشككون في صدق وعدالة ناقلي الحديث النبوي، فيقولون عن الصلاة مثلا أنها منقولة بالتواتر لفعلها من جميع الصحابة  لا من طائفة منهم دون أخرى ولذلك هم يقبلون نقلها إلينا، أكان قانونا لا يُشقّ ونظاما لا يُختَرق أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل المؤمنين في كل ما قال وفي كل ما فعل ؟! فلا يكون له مجلس مع العدد القليل ولا مجالس خاصة مغلقة مع زوجاته ولا مع أهله والمقرّبين إليه ؟!  فيُمنع الأخذ بكل لقطات حياته تلك التي كانت دائرتها غير دائرة المؤمنين كافة ؟!

وإنني وأنا أتأمل هاتين الآيتين :"قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(31) قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(32)"

لا أرى الله تعالى يخصّص من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء في القرآن وحده دون غيره، بل جاء الاتباع هنا غير مقيّد بقيد، اتباع مطلق : "فاتّبعوني"، كما جاء الأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم أيضا مطلقا غير مقيّد بأمر القرآن وحده: "أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ" . فمن أين لمَن فسّر بهواه أن يقيّد على هواه ما أطلقه الله تعالى ؟!

كثير كثير هو هذا النعق من كثير وكثير من الذين ينفثون سموم الشكوك، وأيضا ممّن يسهل ازدراد عقولهم لتلك السموم ...!

وعلى هذا نكون مع الثابت الرابع : طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه من طاعة الله تعالى.

« آخر تحرير: 2018-11-03, 08:38:57 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وعلى هذا نكون قد أنهينا قطاعنا الثالث من هذه السورة (18-32)، ألحِقُه في التخطيط أدناه بالخطوتَيْن الأولَيَيْن :

يعرّفنا سبحانه أسباب الاهتزاز
ويعلّمنا عوامل الثبات
يعلّم المؤمنين ثوابتهم على درب الحياة
رأينا مع القطاع الأخير (18-32) كيف تُعطي المجموعة من الآيات تلك اللُّحمة وذلك الرابط الذي يجعلها قطاعا متّحد الغاية، إذ قد اجتمعت فيه عوامل الثبات التي على المؤمن التسلّح بها على درب الحياة . على هذ النّسق أتأمّل من السورة مجموع الآيات التي تعطي عنوانا موحّدا ...

وأحبّ بين الحين والحين أن أعرب عن مدى سعادتي بالأوقات التي أقضيها في ظلال القرآن الكريم، نقضي ساعات من السعادة والانتشاء ونحن نتدبّر آياته اليانعات المُزهِرات المُثمرات، وتعتصرنا حسرة وندم على ساعات ننأى فيها عن هذه الحياة... حياة يحفّ جوانبَها استشعار معيّة الله تعالى... استشعار حكمته وعظمته، وتدبير أمره، وهُدى كتابه وإرشاداته القويمة ... فتحدث الذِّكرى، ويحدث الاتعاظ ويتجدَّد الإيمان،  وتحلو الحياة والمؤمن في معيّة الله تعالى...

نَمضي سويا على درب الحياة والقرآن لنا مشكاة ... نمضي ونحن نتحرّى أن نعيش بالقرآن حياة لا أن نكتفي بالقراءة الحرفية أو بالتدبّر الذي غاية غاياته الشعور بنشوة الإبداع في الفهم والحفر خلف المعاني وما بين المعاني، نشوة قد تكون فخّا خطيرا يوقع صاحبه وهو يظنّ نفسه الواقف على قدمَيْن، فيطير بالحزر والفهم والفهم الجديد وينسى العمل.. نعوذ بالله من هذا ونسأله سبحانه أن يرزقنا تفطنا لحِيل النّفس وأحابيل الشيطان .

نتقدم مع الآيات، وهذه المرة مع قطاع جديد منها ...يبدو هذه المرة أطول من سابقيه ...
وكدأبي مع القطاعات السابقة، رأيت فيه الوحدة والترابط... ولمتأمّل أن يتتبّع الخُطى ويرى إن كان فيه من ذلك التجانس والتناغم :

إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء(38) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ(39) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ(40) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ(41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ(42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ(43) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ(44) إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ(46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ(48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(49) وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ(50) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ(51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(53) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(54) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ(56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ(58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ(59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ(60) فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ(61) إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63)

في خلال هذه الآيات، وعند قراءة عامة لها، نلاحظ أنّها قَصص، مبتدئة بقصة ميلاد مريم، ومنتهية بقصة عيسى عليه السلام. وأواخرها :  " إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ..."

تُرى ما الغاية من هذا القَصص، وما علاقة قضية الثبات والتثبيت بهذا القَصص ؟ هذا ما سنعرفه، ونحن نقصّ أثر الآيات ...

1- إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(37)

1-أ) "إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(34)" خصّ الله تعالى بالذكر كلا من آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران. هم الذين أعلن سبحانه اصطفاءهم على العالمين، على كل مَن كان في زمانهم. والاصطفاء معناه الاختيار والتفضيل. وإذا تأملنا عرفنا أنّهم صفوة الله من عباده الذين خلق أجمعين، من الأولين والآخرين، ذلك أن أنبياء الله تعالى هم خيرة خلقه والأعلَون بينهم، وهؤلاء المُسَمَّون منهم خاصة هم أصل كل الأنبياء على الأرض .

** فآدم عليه السلام ---->  أبو البشر ومنه كل البشر، فمنه كل الأنبياء.
** نوح عليه السلام ----> أول رسول للناس، جاء بعد أن وقع الشرك فعبد الناس آلهة من دون الله.
** آل إبراهيم----> إبراهيم عليه السلام وذريّته، وهو أبو الأنبياء. وآخر نبوة في ذريته هي آخر نبوة ورسالة على الأرض، تلك التي اختُصّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
** آل عِمران----> هو عِمران أبو مريم أم عيسى عليه السلام.

وبهذا يكون تخصيص هذه الأسماء الشريفة بالذكر إنما هو إجمال لذكر كل الأنبياء عليهم السلام في هؤلاء، هي تلك السلسلة اللؤلئية التي تنتظم فيها حبّات خيار خلق الله تعالى، هُداة البشر لرب البشر. وإنّ في هذا التسلسل بيانا لما يلي :

** الله واحد ودينه واحد، وبَعْثُ أنبيائه كلهم كان بدعوة واحدة، لدفع كل التباس وتلبيس على هذه الحقائق، وهو ما جاءت هذه السورة تحديدا لدفعه ودحضه وبيان باطله، كما عرفنا من أوّلها إحقاق الحق ليكون المؤمنون على بيّنة منه، وإبطال أباطيل أصحاب الشبهات والاستمساك بالمتشابهات.

** رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من هذه السلسلة التي لا تنفكّ، ولا يتبدّل جوهرُها ولا تختلف غايتُها.
** تأتي الآية 34 لتبيّن بما لا يدع مجالا للشك أنّ هؤلاء ذرية بعضها من بعض :" ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(34)" وأنا أرى أنّ "بعضها من بعض" هنا لا تعني البعضيّة النَّسَبيّة وحدها، بأن يكون أحدهم من صلب الذي قبله، بل هي أيضا البعضيّة العقديّة، إذ تجمعهم رَحِم العقيدة الواحدة والدعوة الواحدة. يقول تعالى : "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ  بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ..." -آل عمران: من الآية195-

والعرب تقول : هو منّي وأنا منه ، وفي عكسه يقولون كما قال النابغة :" فإنّي لستُ مِنْكَ ولستَ مِنِّي "

وهذا الاصطفاء والتفضيل من الله تعالى كان لآدم أول ما كان... فيقفز التساؤل حول ماهيّة اصطفائه، كيف يكون آدم مُصطفى بمعنى مختارا من بين غيره وهو أول البشر؟!  وهذا ما دعا عددا من التطوّريين (المؤمنين بنظرية التطور.الموجّه) إلى الاستشهاد بهذه الآية على أنّ هناك سلالة من البشر غير عاقلة كانت قبل آدم عليه السلام.

وردا على زعمهم أقول أنه لا يجب أن نَركَن إلى فهم الاصطفاء على أنه اختيار وتفضيل أحدهم بخاصيّة ما من بين أهل زمانه وحسب، ليس بالضرورة ذلك ...فقد يكون اصطفاء آدم من بين البشر الذين قدّر الله خلقَهم من قبل أن يوجِدهم، والذين كانوا في عالم الذرّ، هذا من ناحية ... كما قد يكون سبب الاصطفاء عند الواحد من المذكورين غير سبب اصطفاء الآخر.
« آخر تحرير: 2018-11-18, 17:32:16 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
/*/فنرى أنّ اصطفاء الله لآدم عليه السلام من بين البشر كلهم كان بإسجاد ملائكته له، وبتعليمه أسماء كل شيء، وبإدخاله الجنّة، ولم يُسجد ملائكته لغيره من خَلقه، ولم يعلّم الأسماء كلها غيرَه... فهذا وجه اصطفائه سبحانه له.

/*/أما سيدنا نوح عليه السلام فوِفقا للتفسير الذي يرى أنّ الطوفان عمّ الأرضَ كلها، فأهلك كل مَن عليها عدا مَن نجا في السفينة فقد اصطفاه سبحانه بأن جعله أبا البشر الثاني، ولن يكون كذلك بالتفسير الذي يرى أنّ الطوفان إنما خصّ أرض قوم نوح دون بقع الأرض الأخرى، وقد فضّله  سبحانه واصطفاه أيضا بأن جعله أول الرسل من بعد أن أشرك الناس وألّهوا غير الله ما بين زمان آدم إلى زمانه عليهما السلام، ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، فيما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من حال المؤمنين يوم القيامة وهم يأتون الأنبياء يستشفعونهم أن يريحهم الله من طول الانتظار، فيحيلهم آدم عليه السلام إلى نوح  بقوله : "لستُ هُنَاكُمْ ، ويذكرُ لهم خطيئتَه التي أصاب ، ولكن ائتُوا نوحًا ، فإنَّهُ أولُ رسولٍ بعثَه اللهُ إلى أهلِ الأرضِ"

/*/ولقد فضّل الله سيدنا إبراهيم عليه السلام بأن أخرج من صلبه الأنبياء من زمانه إلى الأزمنة التالية نبيّا عن نبي، فكان منه إسحاق وإسماعيل عليهما السلام، ومن إسحاق كان يعقوب ومن يعقوب كان بنو إسرائيل الذين توالتْ فيهم الأنبياء، داود وسليمان، وموسى وزكريا وعيسى وغيرهم، ومن إسماعيل كان حبيب الله وصفيّه خاتم الأنبياء وإمام المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم : "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ  فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا" –النساء:54-

/*/كما فضّل الله آل عِمران بأن جعل فيهم معجزة خلق عيسى عليه السلام من غير أب، ولقد اصطفى قبله مريم ابنة عمران لتكون أمّه : " وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ"-آل عمران:42-  وإذا دققنا فإن اصطفاء مريم على نساء العالمين هو من اصطفاء آل عمران على العالمين.

ولا يفوتُني هنا أن أشير إلى أنّ " ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ " تعني بالإضافة إلى ما سلف أعلاه، بعضيّة أمر الله فيهم، مستحضرين مثلا وهْب الله إبراهيم الذريّة على كبر منه ومن زوجه، كالذي كان في زكريا وزوجه :" قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا  إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ"-هود:72- ، وخلقه سبحانه لعيسى بغير أب كأمره في آدم وقد خلقه من غير أب ولا أم : " إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ "-آل عمران:59-

نأتي الآن إلى سؤال هو لازمة من لوازم ما نحن بصدده من تحرّي الخطوات ومراقبة الخَطو ... ما علاقة هاتين الآيتَين الأولَيَيْن من قطاعنا الجديد بما سبق من آيات ؟
العلاقة نستشفّها مما ذكرنا من تفصيل حول الاصطفاء والتفضيل...

من (1)  : "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(31) قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(32)" -----> إلى (2) : "إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(34)"

من (1): بيان وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته إلى (2):  الحديث عن أصله صلى الله عليه وسلم  وسلسلته الممتدة من بدء خلق الإنسان وصولا إليه، ووحدة دعوتها ورسالتها. وأن الحق الذي جاؤوا به واحد .

« آخر تحرير: 2018-11-13, 20:43:52 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
2-أما الآن فمع الآيات المواليات للتي جاء فيها ذكر تفضيل واصطفاء الله تعالى لكلّ من آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران . وكلها حكاية عن امرأة عمران وما كان منها(35-37) وهي مناسبة كل المناسبة لما قبلها وقد جاء فيه ذكر التفضّل على آل عمران من بين العالمين.

القسم الأول : قصة امرأة عمران ومجيئ مريم(35-37)

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(37)

2-أ) إنها امرأة حُبلى، طائعة، خاشعة لربها، ومن حبها له سبحانه ها نحن نسمعها وهي تنذر ما في بطنها لله محرّرا، والنذر التزام التقرب إلى الله بأمر من جنس العبادات التي شرعها  لعباده بزيادة فوق ما افتُرض عليهم، من مثل نذر بصلاة فوق صلاة الفرض أو بصيام فوق صيام الفرض.. فهي ذي تنذر ولدها المُقبل محرّرا لله تعالى. وكما يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير عن المحرر : " أي عتيقا مخلصا للعبادة متفرغا من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس . يقال : حررت العبد إذا خلصته من الرق وحررت الكتاب إذا أصلحته ولم يبق فيه شيء من وجوه الخطأ ، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه سلطان ."

وإني أتأمّل : "محرّرا لله" لأجد لها وقعا خاصا، وأهل الدنيا وعبيدها اليوم يرون البُعد عن الله تعالى وعن تكاليفه تحرّرا، ويرون في الدين وفي التزام تكاليفه تقييدا للإنسان وحَولا دون انطلاقه بالغرائز الحيوانية فيه ليعوث في الأرض فسادا وإفسادا، وليخلط حلالا بحرام، و ليخلط فطريّا سليما بشاذ سقيم، وليغدو الإنسان والحيوان نِدّان، ليس للإنسان ما يردعه ولا ما يهذّبه، ولا ما يضبط شهوانياته المسعورة ... كلّه في ميزان "الحرية" عندهم صُنوان ... ! بل قانون وعنوان ...!

أما امرأة عمران، فهي ذي ترى في خُلوص ولدها لعبادة الله تعالى قمّة التحرّر، وهي تجعله له بعيدا عن لوثات الدنيا وعن شواغلها وما تأخذ به. بل وغاية أمنياتها أن يتقبّل الله تعالى منها النذر، لا ترى فيه عملا تتعاظم به وإن على سبيل العبادة ..وتلك سِمات العبد المخلص الصادق.
كما أرى في قولها: " إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " ما يبيّن مدى تقديرها لربها الذي تعلم أنه الذي يسمعها، وليس يسمعها وحسب، بل يعلم حقيقة ما تُبطن زيادة على ما تُظهر وتُعلن بلسانها.

2-ب) ثم نجدنا مع ساعة وضعها لما نذرته لله تعالى... في اختصار قرآنيّ بديع، ينقلنا من الحدث إلى الحدث، من الزمان إلى الزمان في تصوير يأخذ العقل البشريّ إلى كل مقام بما يناسبه، فنَعِي في لمحة بين آية وآية هي الفارقة بين زمان وزمان أنّ امرأة عمران لم تغادر مُناها، وأنه لم يكن مجرّد قول منها يمرّ عليه الزمان فيبلى، بل هي الثابتة عليه ...
نلمس ثباتها في مُناجاتها ربها من جديد وهي التي وضعت، كما ناجته وهي حُبلى : " رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى ".. هكذا نستشعر نبرة التحسّر على وضعها أنثى، ليس لأنها أنثى بميزان الجاهليين الذين كانوا يرون تميّز الذكر عنها في كل شيء، بل لأنّ الأنثى لا تصلح لنذرها الذي نذرت، لا تصلح لأن تكون خادمة لبيت الله تعالى لا تبرحه، وهي التي تحيض وتعجز عن التكاليف الكثيرة والثقيلة ..."والله أعلم بما وضعتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى"، علمها عن عين اليقين بعد أن رأتْها، ولكنّ الله علمه بها من قبل أن تكون، وليس الذكر كالأنثى ... ليس الذكر الذي تمنّت كالأنثى التي رُزِقَتْها، نستشف أنّ الأنثى هنا هي الفاضل، والذكر هو المفضول، هذه الأنثى وما سيجعل الله منها من خير، ما ستُفضَّل به من أمر الله تعالى، وما ستُخصّ به من دون نساء العالمين هي خير بكثير من الذكر الذي تمنّته امرأة عمران... "وليس الذكر كالأنثى" ... وأيّ أنثى هي ؟!! 

وتكمل مناجاتها : " وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ "، فأما هذا الجزء الثاني من مناجاتها، فهو الرضى منها بما أعطى الله تعالى. سمّتها "مريم" وهو عندهم بمعنى "العابدة"، وزادت فأعاذتها بالله تعالى وذريتها من الشيطان الرجيم... أي أنها استجارت بالله وألجأتها بحصنه المكين من شرور الشيطان الرجيم .

وفي إعاذتها لها وذريتها بالله من الشيطان إشارة إلى عبادة وطاعة تختصّ بهما امرأة عمران أم مريم، فنراها المرأة التي لا تكتفي بإلجاء مولودتها إلى حصن الله تعالى وحِرزه، بل هي تطمع في أن ينجّي الله تعالى ذريتها من الشيطان، فتكون ذرية صالحة، وربما هذا مطمع من مطامع امرأة عمران العابدة، الطائعة لربها، يجعلها لا تيأس من أن يكون في عقِبها خادم لله تعالى محرّر له، كما تمنّت ، فإن لم يكن في مريم ففي ذريتها من بعدها ... وذلك حقا ما كان ... وإن كان يحقّ لي التأسي بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف نفسه  : "وسأخبرُكم بأوَّلِ أمري : دَعوةُ إبراهيمَ ...." إلى آخر الحديث.  فسأقول أنّ سيدنا عيسى عليه السلام دعوة جدّته أم عمران ...
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما مِن مَولودٍ يولَدُ إلَّا والشَّيطانُ يَمَسُّه حين يُولَدُ، فيَستهِلُّ صارِخًا مِن مَسِّ الشَّيطانِ إيَّاه، إلَّا مَريمَ وابنَها، ثمَّ يقولُ أبو هريرةَ: واقرَؤوا إن شِئتُم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]. " –صحيح البخاري-

2-ج) ومع مرحلة جديدة من مراحل مريم بنت عمران: " فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(37)"

فها هو الله سبحانه وتعالى يعلن تقبّله لمريم بقبول حسن، وإنباتها نباتا حسنا، فأما القبول فهو تقبّله لها محرّرة لخدمة المسجد، كما نذرت أمها، ولم يكن ذلك للنساء قبلها، بل لقد تخاصم في كفالتها أحبار المسجد الأقصى، قال تعالى : " ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ  وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ" –آل عمران:44- وأنبتها نباتا حسنا، أي أنشأها تنشئة حسنة، جعلتها مريم العابدة الطائعة القانتة لربها، وقد كان لكفالة زكريا عليه السلام لها -يُروى أنه كان زوج خالتها- أثر في هذه التنشئة على أفضل الأخلاق وأقوم السلوك وأكمل الصفات. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كمُلَ منَ الرِّجالِ كثيرٌ ، ولم يَكمُلْ منَ النِّساءِ : إلَّا مريمُ بنتُ عمرانَ ، وآسيةُ امرأَةُ فرعونَ ، وفضلُ عائشةَ على النِّساءِ كفَضلِ الثَّريدِ على سائرِ الطَّعامِ" –صحيح البخاري-

وهذا القرآن كعادته بين آية وآية يختصر لنا الزمن ليُعطينا لُبابه وخُلاصته الخالصة، فهي ذي مريم بمحرابها، وهذا ذكر المحراب وذكر مريم فيه أكبر دلالة على أهم صفات مريم، العابدة التي تتخذ محراب الصلاة والعبادة مكانا لها، تُعرف فيه، وتُعرف به... أكبر دلالة على تقبلها بقبول حسن، وإنباتها النبات الحسن ..." كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(37)"
كلما دخل عليها زكريا المحرابَ ليتفقدها، مما يوحي بأنه مكان مريم الذي تأوي إليه وجد عندها رزقا، رزقا خاصا لا يُعرف مصدره، يُروى أنه كان من فاكهة في غير موسمها، يسألها عنه  لتجيب إجابة العبد الموقن بطلاقة قدرة ربه العظيم، وبمشيئته الواسعة : " هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ". وهذا مما يزيد في بيان قوة إيمان مريم ويقينها بربها...

« آخر تحرير: 2018-11-05, 10:43:09 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
3-أنهينا مع الآيات السالفات من قطاعنا الكلّي (34-63) قصة امرأة عمران ومولد مريم، وننتقل منها إلى قصة جديدة، ذات صلة بمريم، وهي قصة مولد يحي عليه السلام.

القسم الثاني: قصة مولد يحي عليه السلام

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء(38) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ(39) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ(40) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ(41)

هذه القصة سيكون عَلَمها زكريا عليه السلام، الذي عرفناه كافلا لمريم بمشيئة من الله تعالى، وبهذا لا تنبتّ تلك الصلة، وقد عرفنا أنّه زوج خالة مريم، كما ألمحتْ لنا الآيات السابقة أنه كان كثيرا ما يدخل على مريم المحراب، إذ قد كان كافلها الذي يتفقّدها ويرعى شؤونها، ولم تكن مرة تلك التي سألها فيها عما كان يجده عندها من رزق، بل كان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا، مرات كثيرة ... وكانت في كل مرة تردّ ردّ التقيّ الموقن بربه : "هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ".

3-أ)عملت كل تلك المرات، وكل تلك المشاهدات منه لما كانت تُختصّ به مريم من رزق إلهيّ خارق للعادة عملها في نفس زكريا النبي عليه السلام، وأيقظت فيه أمنية كانت تسكنه، لم يكن يرى عجبا ولا كبيرا على الله أن يحققها له وهو النبي المقرّب من ربه، ولكنّه كان النبيّ الراضي بقسمته منه، المسلّم لأمره فيه وفي زوجه التي كانت عاقرا ...
دفعه جواب مريم لأن يسأل ما لم يكن يسأله، ولأن يدعو بما لم يكن يدعو به... " هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ " هنا اسم إشارة للقريب، وتدخل اللام والكاف فيصبح للبعيد مكانا أو زمانا .. في ذلك المكان، هنالك ...في ذلك المحراب الذي كان يدخله على مريم، في ذلك الزمان الذي تشرّب فيه زكريا معنى أن يسأل الرزاق الذي يرزق من يشاء بغير حساب، لا لمبلغ من الكِبر في زكريا عتيّ، ولا لعقر في زوجه...
لم يستنكف زكريا عليه السلام وهو النبيّ وهو الكافل أن يتعلم من مريم، لم يستنكف أن يتعلم من مكفولته وهي تجيبه ذلك الجواب الإيمانيّ الصادع القويّ ...
هنالك دعا ربّه : "قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء "

و"من لدنك" أي من قدرة الله تعالى التي لا تحدّها الأسباب، بل هو وَهب من وراء الأسباب. واليقين بقدرة الله تعالى في نفسه لا تجعله يكتفي بطلب الذرية بل ويزيد بـ : "طيّبة".

3-ب) وفور دعائه ربّه أجابه سبحانه، بفاء التعقيب التي تفيد سرعة الإجابة: "فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ" إضافة إلى ما بيّن أنّه ما يزال بعد في المحراب مريم:"وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ" هنالك في ذلك المكان، وفي ذلك الزمان ... "أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ(39)" بتلك السرعة تأتي هذه الاستجابة التي فيها تفاصيل هبة الله تعالى له :

**فهذا الاسم : "يحي".
**وهذه أولى صفاته " مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ " مصدّقا بعيسى عليه السلام، بأنه كلمة الله تعالى إلى مريم وأنه رسوله : "... إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ... " –النساء: من الآية 171-، كلمة الله التي كان بها عيسى عليه السلام "كُن".  "إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ  خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ".
**وثانيتها أنه سيد، وهو الذي يفوق غيره في الشرف والتقوى وعفّة النفس، والحكمة، مما يؤهّله أن يكون قائدا لقومه إلى خيرَي الدنيا والآخرة.
** ورابعتها أنه حصور، وهو الذي لا يأتي النساء، ليس عن ضعف فيه ولكن عن قوة تمثلت في مقاومة الشهوات. وفيه أضع  ما رأيته أكثر بيانا لهذا المعنى : " ...أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد، وذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها كالأكول الذي يكثر منه الأكل وكذا الشروب، والظلوم، والغشوم، والمنع إنما يحصل أن لو كان المقتضي قائما، فلولا أن القدرة والداعية كانتا موجودتين، وإلا لما كان حاصرا لنفسه فضلا عن أن يكون حصورا، لأن الحاجة إلى تكثير الحصر والدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة والداعية والقدرة، وعلى هذا الحصور بمعنى الحاصر فعول بمعنى فاعل." –مفاتيح الغيب للرازي-

** وخاتمة الصفات وهي أكملها : " وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ " . وقد يتبادر إلى الذهن سؤال عن سرّ زيادة صفة الصلاح على النبوة، وفيه وقعتُ على قول لأبي حيّان أعجبني: "فإن قيل: لما كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح فلما وصفه بالنبوة فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بالصلاح؟ قلنا: أليس أن سليمان عليه السلام بعد حصول النبوة قال: {وأدخلنى برحمتك في عبادك الصالحين} (النمل: 19) وتحقيق القول فيه: أن للأنبياء قدرا من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة، فذلك القدر بالنسبة إليهم يجري مجرى حفظ الواجبات بالنسبة إلينا، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر، وكل من كان أكثر نصيبا منه كان أعلى قدرا والله أعلم." –البحر المحيط لأبي حيّان-

وأي استجابة فوريّة هي لدعاء زكريا عليه السلام بالذريّة الطيبة !!

3-ج) أما زكريا فها نحن الآن نسمع كلاما منه يعقب استجابة ربّه لدعائه، كلاما نتعلّم منه أدب الحوار، وأي حوار ! إنه بين النبيّ وربه، الله الذي يعلمنا في مواضع كثيرة من القرآن كيف يحاور، وكيف يسمع لمحاورة عبد له ضعيف لا حول له ولا قوة، فلا ينهره، ولا يردّه، ولا يرى في محاورته ولا في سؤاله تجرؤا وتعدّيا لحدود العبودية، وفي ذلك تعليم رباني لتقبل السؤال، وتقبل الرأي، وتقدير العقل البشري الذي يفكّر فينضح سؤالا : "قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ(40) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ(41)"

لقد سأله زكريا عليه السلام، وهو يعلم انقطاع الأسباب الدنيوية الموجبة لتحقيق ما يتمناه، وقد جاء تقديمه لحالته البعيدة ظاهرا كل البعد عن نوال مُناه مفصلا في قوله تعالى : "قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً(4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً(5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً(6)"-مريم-

ولكنه دعا، وحينما دعا استجيب له، فلما استجيب له لم يمنعه يقينه من قدرة الله تعالى ومن إجابته للدعاء من الاستفهام والتعجّب : "قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ..."  تعليما منه أنّ احترام الأسباب وتقدير دورها من تقدير العقل البشريّ الذي لا يجب أن يكون نَهْبا للقول بالخوارق من أيّ كان، ولا في أيّ زمن كان، وكأن كل الأزمنة أزمنة نبوّة، وكأنّ كل متحدّث بها نبيّ حقيق بالمعجزات . أما إجابة الله تعالى فكانت أنه سبحانه يفعل ما يشاء .

ومازال زكريا يحاور ربه، فيسأله الثانية أن يجعل له علامة من عنده يستدلّ بها على حمل زوجه بالولد، فيجيبه ربه أن ذلك سيلمسه في عدم مقدرته على الكلام ثلاثة أيام تجعله يستخدم الإشارة في كلامه مع الناس، بينما يأمره أن يكثر من ذكر ربه بكرة وعشيا، وقد يكون الذكر والتسبيح المأمور بهما بالقلب لا بالضرورة أن يكون باللسان. سيلمس زكريا عليه السلام في نفسه هذا العجز عن الكلام والقدرة على الذكر في آن . وإنما أراد من ربه علامة ليكون شاكرا لا يشغله شاغل عن شكره .

وبهذا نكون قد أنهينا قصة استجابة الله تعالى لدعاء زكريا بالذرية الطيبة، فكانت معجزة خرق الله بها الأسباب بإرادته ومشيئته: " ...قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ "،في رجل قد بلغ من الكبر عتيّا وله امرأة عاقر، فكانت التقدمة للمعجزة الكبرى في خلق عيسى عليه السلام بلا أب، كان يحي عليه السلام هو الدعوة المستجابة لزكريا ليخرج للدنيا مصدقا بعيسى عليه السلام كلمة الله تعالى التي ألقاها إلى مريم.

لقد كان فعل الله تعالى بمشيئته المطلقة لتصديق خلق الله تعالى بمشيئته المطلقة

« آخر تحرير: 2018-11-07, 13:30:18 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وننتقل إلى القصة الثالثة من قَصص هذا القطاع وهي الأكثر تفصيلا من القصتَيْن الأولَيَيْن...

ولا يجب ونحن نعيش هذا القَصص الفريد الماتع الرائع، والذي فيه من فعل الله تعالى وخلقه ومشيئته الواسعة، وقدرته العظيمة أن ننسى الرابط بين ما عرفنا من السورة سابقا، وما جاء في هذا القطاع من "علم" يعلّمنا إياه الله تعالى حقا جليّا لا مرية فيه ولا لُبس ولا مجال لملبّس أن يجعله صنعة يديه ومضغة أسنانه لو أنه سبحانه أخفاه عنا... سننظر في ذلك الرابط بعد أن ننهي آخر قصة بين أيدينا :

القسم الثالث: قصة مولد عيسى عليه السلام وشأنه بعدها(42-63)

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ(42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ(43) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ(44) إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ(46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ(48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(49) وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ(50) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ(51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(53) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(54) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ(56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ(58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ(59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ(60) فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ(61) إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63)

وهذا القسم بدوره قسمان، الأول عن مولد عيسى عليه السلام (42-48) والثاني عن نبوّته و شأنه في بني إسرائيل(49-63).

ترابط القَــــــصص

كنا أخيرا مع الآية التي جعلها الله تعالى لزكريا عليه السلام دليلا على حمل زوجه بيحيى، ونجدنا الآن مع مخاطبة الملائكة لمريم، وقد عرفنا قصة مولدها وما كان من أمها الطائعة المنيبة التي وهبت ما في بطنها محرّرا لله، فكانت مريم محرّرة لله، ثم عرفنا قصة زكريا كافلها وكيف كانت بتقواها وبيقينها بالله وبجوابها الإيمانيّ العميق دافعا لدعاء منه كانت بعده البُشرى بيحيى الذي وصفه الله أول ما وصفه بأنه المصدّق بعيسى كلمةً من الله... وعلى هذا نرى ترابط القَصَص وكيف أن أصل الفضل كله فيه من تفضّل الله تعالى على آل عمران .


ها هي الآيات التي بين أيدينا الآن تعيدنا إلى مريم مرة أخرى، تعيدنا إليها و قد غدت مريم المرأة، لأنّ القصص معها لم ينتهِ بعدُ، والفضل الذي اختُصّ به آل عمران لم ينتهِ بعد، بل بقي منه الفضل الأكبر، والحظ الأوفر، والمعجزة الفريدة :

القسم الثالث:(أولا): قصة مولد عيسى عليه السلام (42-48)

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ(42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ(43) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ(44) إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ(46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ(48)

4- هذه مخاطبة الملائكة لمريم... وهي من جبريل عليه السلام جاءت في صيغة الجمع، كما جاءت في نداء زكريا وتبشيره بيحيى، ويؤيد أنه جبريل قوله تعالى : " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً(16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً(17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً(18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً(19)"-مريم-

مخاطبة الملائكة لمريم، الغالب أنها مخاطبة المشافهة، ولا أحب هنا أن  أفوّت قضية قال فيها العلماء بقولَيْن، أكانت تلك المخاطبة من الملائكة علامة على النبوة في مريم أم أنها لا تُعدّ كذلك. وقد أعجبني كلام للألوسي في هذا أنقله : " استدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم : لأن تكليم الملائكة يقتضيها ومنعها اللقانى وغيره من العلماء ، لأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبي إجماعا ، فقد جاء في الحديث الشريف أنهم كلموا رجلا خرج لزيارة أخ له في الله ، وأخبروه بأن الله يحبه كما أحب هو أخاه ، ولم يقل أحد بنبوته - فكلام الملائكة لمريم لا يقتضي نبوتها وهو الصحيح " .
والاصطفاء هو الاختيار والاجتباء، وهو مأخوذ من الصفو أو الصافي، أي الشيء الخالص من الكدر : " إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ "

فها هنا اصطفاءان بدل الواحد:

أ-) فأما الأول فيبدو أنه الاصطفاء بالهداية والقرب من الله، والطاعة الخالصة وبرفاعة الخُلُق وقوام السلوك، ومن ذلك قول الله سبحانه فيما عرفنا: " فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا "، فتحريرها لخدمة بيت الله وحصول ذلك لها وهي الأنثى على غير العادة التي كانت تقتضي تحرير الذكور لخدمته دون الإناث، وتنشئتها التنشئة الحسنة، كلّ هذا من اصطفائها وتخصيصها بالفضل منه سبحانه، على شاكلة تفضيله عددا من عباده المقرّبين وعلى رأسهم الأنبياء. كما ستأتي الآيتان المواليتان بتفصيل لهذا الاصطفاء وبيان لمعناه هو البيان اللاحق، من بعد البيان السابق الذي تمثّل في: " فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ ..."

ب-) وأما الاصطفاء الثاني فإنّه قد جاء مقترنا بـ "على" مما بين أنه اصطفاء على النساء وحدهنّ، وذلك بجعل الولد منها دون أب. وسيأتي تفصيل هذا الاصطفاء في الآيات المواليات بقصة مولد عيسى عليه السلام. عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سمعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ : ( خيرُ نسائها مريمُ ابنةُ عمرانٍ ، وخيرُ نسائها خديجةُ )" –صحيح البخاري-

وبهذا تكون مريم قد اختُصّت باصطفاءين من الله تعالى، أحدهما جعلها به سبحانه واحدة من المصطفَين من خلقه، وثانيهما جعلها به المصطفاة على نساء العالمين.

5- يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ(43) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ(44)
كما أسلفتُ، فإن الآيتين (43و44) جاءتا تزيدان في بيان معنى الاصطفاء الأول، ففي الآية 43 أمرُ الله تعالى لأمته العابدة الطائعة التي اصطفاها بالهداية والرشاد :" اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ". أراه أمرا يؤكّد أهليّة مريم لهذه الصفات وهي المصطفاة لها، وقد عرفناها :" كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ..." فكانت تُعرف بالمحراب، وتُعرف فيه، كما كانت تجيب عن تخصيص الله لها بالرزق: " ...هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ". فلا أرى في أمرها بالقنوت(وهو لزوم طاعة الله والخضوع له) والسجود والركوع إلا زيادة هدى من الله على الهدى الذي هداها، وفي ذلك يقول سبحانه : "... إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى "-الكهف: من الآية13-

أما قوله سبحانه: " وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ " ففيه أولا زيادة دلالة على أن مريم مُصطفاة من ربها مع من اصطفاه بالهُدى والتُقى، فهي في زُمرتهم، كما أنّ فيها ثانيا التدليل على كونها -وقد اختُصّت بخدمة البيت مع خَدَمَتِه من الرجال- مأمورة أن تركع معهم بمزيّة خاصة كانت لها وهي المحرّرة لله. كما أرى ثالثا أنّها في زُمرة أصحاب الهُدى الذين هدى الله، وليست لاختصاصها بأمر الله فيها ذات هُدى من نوع آخر، بل هو الهُدى الواحد من الله الواحد.

ويزداد الاصطفاء الأول بيانا من الآية التالية:" ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ(44) "

فيه التفات لمخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تجديد انتباه القارئ والسامع أنّه يتلقى هذا الحق، وهذا النبأ من الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من هذا الكتاب الذي لا ريب فيه، من هذا الكتاب الذي فيه هُدى الله الواحد الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء به مَن قبله، هؤلاء الذين ينقل الله تعالى نبأهم وقَصصهم إلينا عبر صفيّه صلى الله عليه وسلم.

فأين أنت يا محمد من هذا الغيب الذي لم تعاصره ولم ترَه عينك لولا هذا الإنباء من الله تعالى لك عبر الوحي ؟  فما كنت لديهم وهم يقترعون على كفالة مريم، وما كنت لديهم  وهم يختصمون في كفالتها ؟   لم ترَ تخاصمهم، كما لم ترَ اصطلاحهم على التسليم بنتيجة الاقتراع الذي اعتمدوه بإلقائهم الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة، فالقلم الذي طفا على سطح الماء منها كان لصاحبه الحظ في كفالة مريم . وفي هذا لو تأملنا بيان لقدر مريم التي  تخاصم خدمة البيت المقدّس في كفالتها، كلّ منهم كان يتمنّاها حظّه ... أفليس هذا من فضل الله عليها ومن أمارات اصطفائه سبحانه لها ؟
« آخر تحرير: 2018-11-09, 21:14:41 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ثم ها نحن نُقبل على معنى جديد، على نبأ جديد من أنباء الغيب الذي ينقله الله لنا عبر هذا الكتاب الموحَى به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد كانت الآيات (42-44) مقدّمة عرّفتنا قيمة مريم وقدرها عند الله تعالى، وتنزُّهَهَا عن كل خبث ودنس يقول به المتقوّلون عليها، والطاعنون في عفّتها وشرفها كما فعل قومُها، وقد كانت المقدّمة لمريم أيضا لإيناسها بما يثبّتها وهي المقرّبة من ربها من قبل أن تسمع ما يشقّ عليها من الأمر العظيم الذي أراده الله فيها... وها نحن بين يدَي أمر الله تعالى في مريم :

إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ(46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ(48)

6- ها هي مريم تُخاطَبُ من الملائكة بكلام غير الكلام الأول، تُخاطَب هذه المرة بالأمر العظيم الذي اصطفاها الله تعالى له دون نساء العالمين، وها هنا تفصيل وبيان هذا الاصطفاء الثاني الذي خُصّت به(عرفناه في الحديث عن الاصطفاءَيْن) :"إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45)"

يبشرها سبحانه بكلمة منه، أي كلمة هي هذه التي يبشرها بها سبحانه ؟ أي كلمة هي هذه التي اختُصّت بها مريم من الله تعالى ؟
إن الملائكة لا تلبث إلا نزرا قليلا حتى تُبِينَ لمريم عن كُنْه هذه الكلمة ... إنها البشرى !

وهذا الله الذي اصطفاك يا مريم مرتين، الذي طهّرك ونزّهك بشهادة منه سبحانه، ومَن أعلى ومَن أحق من الله شهادة ؟! هذا الله الذي تقبّلك بقبول حسن، فأعلى مقامكِ حتى كان الأحبار يتخاصمون أيهم يكفلكِ صغيرة ...هذا الله الذي أنبتك نباتا حسنا، وكفّلكِ زكريا النبي ... هذا الله الذي خصّك وأنت الأنثى دون الإناث بخدمة بيته، وبتحريرك له كما تمنّت أمك الطائعة الخاشعة... هذا الله الذي أمركِ أن تقنتي له وتسجدي وتركعي ... هو الله سبحانه الذي يبشرك الآن  ...

هي البشرى يا مريم ... هي والله البشرى، إنكِ بين يدَي ربكِ الرحمان، إنكِ بين يدَي أمره فيكِ ... وأنت القانتة العابدة الساجدة، صاحبة المحراب، والقائلة عن يقين أنه الذي يرزق مَن يشاء بغير حساب ...

إنكِ من علّم زكريا أن يتوجه لربه على كِبر، وعلى وَهن العظم منه، وعلى عقر زوجه سائلا الذرية الطيبة ...

6-أ) بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ... بكلمة منه يبشرك، اسمه المسيح عيسى ابن مريم...
فأما الكلمة فهي التي كوّن الله تعالى بها عيسى في رحم مريم بلا واسطة أب، وهي قوله سبحانه لأمر إذا قضاه : "كُنْ" فيكون  :

** "...قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ  إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ"-آل عمران: من الآية47-   
** "إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" –آل عمران :59-  . 
** " ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ(34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(35)"-مريم-
** "أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ(81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82)"-يس-

ترى ما سرّ تذكير الضمير في: "اسمه" بدل تأنيثه  وهي "كلمة" ؟.. الشأن أنّ هذه الكلمة ليست هي عيسى ابن مريم في ذاتها، كما يتقوّل أهل الكتاب على الله بهتانا وكذبا من أنها تعني اتِّحادَ الإلهيّة بعيسى في بطن مريم فجعلوا عيسى ابناً لله ومريم صاحبة لله. تعالى سبحانه عن ذلك علوّا كبيرا..فجاء في تذكير الضمير مزيد حِياد عن التأويل بأن الكلمة هي ذات الله .

كما نستحضر من القرآن الكريم ما يؤيّد هذا المعنى لـ"كلمة" في قوله تعالى: " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ  إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ  إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ  سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ  لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ  وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا "

وعن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من شهدَ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه ، وأن عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه ، وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه ، والجنةُ حقٌّ ، والنارُ حقٌّ ، أدخله اللهُ الجنةَ على ما كان من العملِ ."-صحيح البخاري-

إن اسمه هو : المسيح عيسى ابن مريم.

وفي أقسام اسمه الثلاثة تفصيل أورده بالمخطط أدناه :


6-ب) وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ... وذو الوجاهة هو صاحب الشرف الرفيع، والكرامة بين القوم، والذي لا يُردّ له طلب. وهذا الوصف لعيسى عليه السلام من تمام البشارة التي بشرت الملائكة بها مريم، فهي تبلّغها أنباء عن صفات هذا الولد الذي ستُرزَقُه، فأما وجاهته في الدنيا فاختصاصه بالرسالة من الله تعالى، وجعله من أنبيائه ورسله، وهو قد جاء بالإنجيل مصدقا لما بين يديه من التوراة، وليحِلّ لبني إسرائيل  بعض الذي حُرّم عليهم بنسخه لشرائع قديمة، وإقامته لشرائع جديدة، زيادة على ما اختُصّ به من معجزات ستأتي مفصلة في الآيات القريبة المقبلة. وأما وجاهته في الآخرة فهي ما يكون من تمام صدقه وكمال إيمانه يوم القيامة عند محاورة الله تعالى له : "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ  قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ  إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ  تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ  إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" –المائدة: 116-   فيجيبه ربه بشهادته العظيمة فيه على الملأ في يومٍ مجموع له الناس: " قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ  لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا  رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ  ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ "-المائدة:119-

ومريم وقد سمعت ما كتب الله أن يكون من أمرها، سمعت كلام رسول ربها إليها بالبشرى، فوَعَتْ بهذه الكلمات الأمر كله، وَعَتْ أنه ولد منها من غير زوج، وعتْ أنه أمر الله العظيم الذي تقدّر عظمته وتعلم قدرته على كل شيء، وتوقن أنه الذي يرزق من يشاء بغير حساب..
سمعت اسمه، وصفته وأنه بها يُكنّى : "ابن مريم"، ثم سمعت وجاهته التي اختصّه بها الله في الدنيا والآخرة وأنه من مقرّبيه سبحانه ... وما تزال بعدُ تسمع :

6-ج) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ :
** سيكلّمهم مرة وهو في المهد معجزةً من الله تعالى، ينافح بكلامه  عن أمه الطاهرة ويُؤكّد لقومها إيجاده بمشيئة الله المطلقة وبكلمته التكوينية، وقد عرفنا تفصيل كلامه في المهد في قوله تعالى من سورة مريم : "قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً(30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً(31) وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً(32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً(33)" .

وكان لا بدّ أن يُحفظ كلام خاصّ ومعجز كهذا الذي نطق به عيسى عليه السلام وهو في المهد صبيّ، ويُنقل رجلا عن رجل، وامرأة عن امرأة، وجيلا عن جيل، ولكنّ الذين حرّفوا وبدّلوا لم يكونوا ليحرّفوا ولا ليبدّلوا لو أنّهم كانوا أمناء عليه ... بل إنّ ذلك كان من أهمّ ما طُمِس وأُخفِيَ... كيف كانوا ليقولوا بالتثليث أو بأنّ الله هو عيسى لو أنهم نقلوا وكانوا الأمناء ... ؟!

** وسيكلّم الناس كهلا، والكهولة هي السنّ التي يخرج بها صاحبها من فترة الشباب، وفيها تكتمل القوة وينضج العقل، عندها سيكلّم عيسى عليه السلام الناس بكلام الله تعالى ووَحْيه، برسالته إليهم، بشرائع الله يبلّغهموها ويعلمهموها . وذلك كلام النبوة والدعوة والإرشاد.
ويقرن الله تعالى وصف عيسى عليه السلام بكلام الناس في المهد وكهلا بصفة أخرى، هي الصلاح: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ، وإنّ لي مع هذه الصفة المُردفة لمعجزة كلامه وقفة ...

كلام الناس الذي ذكره الله تعالى، هو كلام النبي المبعوث المأمور بالدعوة، بالإصلاح ، ولن يكون المصلح أهلا للإصلاح حتى يكون في نفسه صالحا، وربما قال قائل: وهل تحتاج صفة النبوة في نبي إلى مزيد بيان بغيرها، وهي في ذاتها بيان عن قمّة الصلاح ؟
أقول  أن الأنبياء عليهم السلام، من أهم سماتهم التواضع لله تعالى، وقد عرفنا منهم ذلك في مواقع عديدة من القرآن الكريم...

فهذا نبي الله شعيب عليه السلام يعلن لقومه إرادته الإصلاح، وأنه وهو يريد إصلاحا، سيكون أول من يتّبع ويأتمر بما يأمرهم به، ولن يكون ممن يخالفون من أنفسهم ويأمرون غيرهم بما لا يلتزمون به هم أولا، وفي ذلك بيان لصلاحه :"قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا  وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ ما أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ  وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ  عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ "-هود:88-

كما عرفنا في دعاء سليمان عليه السلام : "...وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ"-النمل: من الآية19-   فهو ذا لا يستنكف وهو النبي أن يسأل الله أن يوفقه لعمل صالح يرضاه، وأن يدخله في عباده الصالحين برحمة منه وفضل، فلا يدّعي لنفسه صلاحا من نفسه وهو النبي، بل ينسب الفضل في عَدِّه من الصالحين لله تعالى، لا.. بل يسأل الله أن يتفضّل عليه ويجعله منهم برحمته!

و في دعاء يوسف عليه السلام : "ربِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ  فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ  تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ"-يوسف:101-
وكأنّ الصلاح هو الخُلّة العُليا التي يجب أن يتحلّى بها من يريد إصلاحا، إذ يكون بها أهلا لدعوة غيره وهو الذي يقول ما يفعل، ويُلزم نفسه بما يأمر به غيره ويتخذه دعوة إصلاح، والأنبياء هم أوّل الناس تخلّقا بهذا الخُلُق الذي يكون مؤهّلهم لنشر دعوتهم بين الناس.

ولذلك جاءت : "ومن الصالحين" لبيان صلاحهم في ذواتهم، والتزامهم بما يحملون على عواتقهم من أوامر الدعوة والرسالة قبل أن يأمروا الناس بها. وقد جاءت مقترنة بـ "يكلم الناس"  تحديدا ولم تقترن بغيرها لشدة ارتباط صلاح المُصلحين برسالة إصلاح الناس.
« آخر تحرير: 2018-11-10, 04:18:49 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب