سنعالج هذه المرة قطعة جديدة من الآيات من قطاعنا العريض (178-283)، هذا القطاع الذي عرفنا أنه يختصّ
بالمنهج، ببيان تفاصيل المنهج الرباني الذي أنزله الله سبحانه لعباده مشكاة تضيئ لهم درب الحياة، وقد عرفنا أنّ خصوصية سورة البقرة إجمالا هي أنها
سورة المنهج، وعرفنا أنّ الدخول في تفاصيله لم يكن دخولا مباشرا، مفاجئا، يجعل الإنسان يبحث عن حلقات ضائعة، أو حتى عن حلقة واحدة ضائعة...
لقد قدّم الله سبحانه وتعالى لهذا المنهج، قدّم له بالدلالة أولا على مصدر الهدى، (القرآن)، ثم بالتعريف بأصناف البشر، وطريقة تلقي كل صنف للهدى، ثم بدعوتهم جميعا لعبادة الله الواحد الخالق، وإمدادهم بمفتاح العبادة(لا إله إلا الله محمد رسول الله) ثم تأكيد إعجاز هذا الكتاب العظيم، وعجز كل البشر عن الإتيان بأقل شيء من مثله، ثم يعرّفك أن الغاية من وجودك استخلافك في الأرض لتطبيق منهج الله فيها، ولتتعلم يعطيك نموذج الخلافة الفاشل(بنو إسرائيل)، ثم يعطيك نموذج الخلافة الناجح (إبراهيم عليه السلام والصالحون من بنيه)، ثم يبين لك أنّ الدنيا دار للامتحان، وللابتلاء، وأنّ الابتلاء سنّة من الله ماضية في عباده المؤمنين لتصفيتهم، وتهيئتهم لحمل الرسالة الكبرى المناطة بهم، وهي تنوير الأرض قاطبة وعلاجها من أدوائها، وتعريفها بربها، وتطبيق منهجه عليها، ثم يصل بك المولى عزّ وجلّ إلى مرحلة يعرّفك فيها بوحدانيته، بمُنزل المنهج سبحانه، وأن الخالق الواحد هو الآمر المطاع الواحد...
وهكذا تبدأ بعدها مرحلة "تفصيل المنهج"، وهو القطاع الذي بين أيدينا الآن (178-283)، وقد عالجنا منه قطعا متتالية، فبدأنا بتشريع القصاص وفيه حفظ النفس، ثم تشريع الوصية وفيها حفظ المال، ثم أُعقبا بتشريع الصيام، وهو المدرسة التي يُدخَلُها المؤمن لجني ثمار التقوى، ثم يأتي دور مدرسة الحج للذكر، والتثبيت على الدرب المستقيم، على الحنيفية الإبراهيمية، وعرفنا أنّ من دخل مدرسة الحج بزاد التقوى تخرّج منها ذاكرا للآخرة، بائعا نفسه ابتغاء مرضاة الله، وأن من دخلها دنيويا خرج منها مغرقا في الدنيويّة، بل يشهد الله على أنّ قلبه مخلص صادق وهو المخادع المفسد ....
وقد عرفنا أخيرا أنّ هذه الدنيا من شأنها أن تُزيَّن للكافر المستهزئ بالمؤمن، وأن هذا ليس بدعا في الناس، بل هو ديدن الكافرين من الذين خلوا من قبل، ولذلك فإن الجنة ليست سهلة المنال، بل هي الغالية التي يشتريها المؤمن الناجح في الابتلاءات ...
وهكذا أجدُني في كل مرة، أستجمع أطراف الخطوات التي خطوناها في ربوع هذه السورة العظيمة... ومن خطوة لخطوة، أجدني أعيد وأكرر، وربما كان في ذلك تذكرة لي ولكم، وكان فيه سَوق للاحق بالسابق في سلسلة متصلة من المعاني والدروس، والتوجيهات الربانية، لا نجد لها انقطاعا، ولا نجد لخرزاتها المنتظمة فيها تبعثرا ولا تفرّقا...
وحان الآن موعدنا مع قطعة جديدة بعد آخر ما عرفنا، ونحن في عَرض
المنهجإنها الآيات من 215 إلى 222 :
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ(215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(220) وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(222)
لقد كان تشريع القصاص امتحانا للنفوس لتعليمها الانضباط الإنساني، وإبعادها عن التفلّت الحيواني، ولقد كان الصوم امتحانا، ولقد كان الحج بعده امتحانا، فأما الصوم فيعلّم الصبر، وتُجنى منه التقوى، وأما الحج فيؤكد على الذكر والتذكر والاستشعار والقرب، ولإحياء الأصل في النفوس ولزيادة الثبات، زاده التقوى وثمرته الذكر، وأكبر الذكر ذكر الله وذكر لقائه (الآخرة)، ولهذا عرفنا في الآية 214 ختاما وخلاصة يبيّن لنا الله فيها أنّ الجنّة ذاك ثمنها، الصبر في البأساء والضراء، وحين البأس، وأنّ النصر من الله حليف الصابرين الثابتين....
ثم الآن ونحن بين يدي هذه الآيات (215-222)، إذا تأملنا ما يتكرر خلالها، عرفنا أنه السؤال "
يسألونك"، سؤالات متتالية عن أمور مختلفة، وكلّها لبّ الحياة وجوهرها، فلننظر فإذا هي على التوالي :
1- سؤال عن الإنفاق (215)
2- سؤال عن الشهر الحرام قتال فيه(217)
3- سؤال عن الخمر والميسر(219)
4- سؤال جديد عن الإنفاق(219)
5- سؤال عن اليتامى(220)
6- سؤال عن المحيض (222)
وكلها أسئلة من قلب الحياة، كلها أسئلة طرحها الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يبحثون عن جوابها لحياتهم، كانوا يبحثون عن كل حلولهم في الإسلام، في هذا المنهج القويم، كانوا يعلمون أنه المنهج الذي يسيّر الحياة، فهموا هذا فهما عميقا، حتى لم يعودوا يرون في الحياة إلا ترجمة لإرادة الله، ولما يمليه الله على عباده فيها، لم يعودوا يرون في الحياة إلا ساحة لطاعة الله، الآمر الواحد الخالق الواحد الذي تجب له العبادة وتجب له الطاعة، ويجب تحكيم أمره في كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة ...
أما الادعاء اليوم بأن الدين شيء والحياة شيء، فادعاء لم ينزل الله به من سلطان، ادعاء من ابتداعات واختلاقات البشر وهم يبحثون عما يحقق أهواءهم، ويحقق انفلاتهم من حكم الله وأمره إلى حكم أهوائهم وما يرضي أنفسهم لا ما يرضي خالق أنفسهم ....
وهكذا، وكما نلاحظ، فهي كلها مواضيع من لبّ الحياة وقلبها، لا تستقيم الحياة إلا بها...
نتأمل فإذا هي انطلاقة بالسؤال تلو السؤال من بعد معرفة أن الجنّة جزاء المؤمنين الثابتين الصابرين المتّقين. هي انطلاقة بالسؤال لتقنين الحياة وفق قانون الله، لمنهجتها بمنهجه سبحانه .
1-ها هُم وقد حققوا مأكلا ومشربا بالحلال، بما يرضي الله، وبما حدّده الله من حلال فيه ومن حرام، ها هم أولاء يسألون الآن عن أبواب الإنفاق(215)، لقد كانوا ينفقون أموالهم على الميسر والقمار، وعلى الخمر وعلى الغواني والقيان، وسهرات السمر والطرب والنساء والخمر، فلا بدّ أن يتبدّل الأمر بعد شروق شمس الإسلام على ذلك الليل الجاهليّ المظلم ...
أجل لقد تبدّل حقا، تبدّل وقد أصبح مأكلهم حلالا، ومكسبهم حلالا " وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ "، فكذلك أبواب إنفاق هذه الأموال أصبحت أبوابا سليمة، أبوابا نافعة "فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ "... تُصرف للذين يستحقونها، وينتفعون بها، ويرتقون في المجتمع ارتقاءة تؤهلهم لأن يستشعروا المساواة، والعدل والأخوة الحقيقية ... فهي منافع للناس وليست ضررا وإهدارا للمال... منافع للمعطي بالأجر والثواب، ومنافع للمُعطى له ... ولا ننسى ما في الإنفاق من جهاد للنفس، جهادها وهي التي لو تركت لحب المال حبّ الهوس لأصبحت للمال عبدا من دون الله، ففي الإنفاق تحرير للنفس من ربقة المال وسطوته عليها.وفيه جزء كبير من الجهاد الأكبر، جهاد النفس
2- أما الآية (216)، فكما سبق الجهاد بالمال، بذل المال وجهاد حب النفس له ، هذا الجهاد في سبيل الله ببذل النفس، وهنا الأمر بالجهاد، وهو لم يأتِ إلا وقد تهيأت النفس المؤمنة، قد تهيأت تربتها لاستقباله، سواء ذلك إذا أسقطنا على حال الصحابة والقرآن يتنزّل أو على حالنا، فالصحابة لم يكتب عليهم القتال وهم بمكة ثلاث عشرة عاما، بل كتب عليهم وهم في المدينة، في العام الثاني للهجرة، وقد نزل عليهم الأمر وهم قد بُنيت نفوسهم بالعقيدة وتأسست وترسخت قواعدها، حتى إذا ما جاء الأمر بالجهاد وجد الأرض الطيّعة لغراسه، ولم تكن أراضي بورا، بل لقد قُلبت ونقّيت، وغذّيت، وجهّزت لاستقبال الأمر ...
أما إذا أسقطنا الأمر علينا نحن الذين نخطو خطواتنا هذه الواحدة تلو الأخرى، فالأمر كذلك لم يجئ فجأة ولا صدما، بل قد سبقه الكثير من الإعداد، ومن معرفة سنّة الابتلاء، ومن معرفة ما كان عليه الأسبقون في الأمم الخالية، ومن معرفة جزاء الصابرين ....كله يؤهّلنا أيضا لمعرفة أمر من أكبر الأمور التي تُبقي حياة الأمة، وحياة الدين، وحياة الأرض قاطبة، الذود عن حياض الإسلام، الذود عن المسلمين، ومنع الظلم عنهم، وما حال فلسطين والعراق وسوريا عنا ببعيد، ونحن قد هجرنا "الجهاد" في سبيل الله، وما تهجر الأمة الجهاد في سبيله إلا وتذلّ ويستسهل الأعداء وطأها...
إذن فمن وجه الربط، قد انتقلنا من جهاد إلى جهاد، من جهاد النفس ببذل المال إلى الجهاد ببذل النفس، وكله كل مترابط، وكله حال من جوهر حال الأمة، ومن جوهر الحياة، لا يفصل هذا عن ذاك، ففي بذل المال للمحتاجين له حياة، حياة للمجتمع وحدة متلاحمة، حياة لوحدة الأمة، حياة للنفوس متحررة من ربقة المال، ومن سطوته، حياة باختيار ما عند الله على الدنيا وأثرتها، كما أنّ الجهاد في سبيل الله حياة للأمة حياة عزيزة مكرّمة، حياة للأرض، وإعلاء لكملة الله، ومواجهة للصادين عن سبيله.
والقتال في سبيل الله كُره للإنسان في مظهره، ولكنّه ينطوي على خير كثير، إذ أن الموت في سبيله سبحانه حياة، فهو دين الحياة والإحياء، حتى الذين يقتلون في سبيله، ومظهرهم مظهر الموتى هم في حقيقتهم أحياء "وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ(154)"، هم أحياء، وهم قد أحيوا الأرض بالإيمان وللإيمان .
فهنا تتجلى قضية الحياة في الإسلام، في هذا المنهج الحيّ المُحيي الآية 217 : متعلقة بالسابقة "كتب عليكم القتال"، وفيها سؤال من أسئلة الصحابة التي بينّاها أعلاه، وهو سؤال المتثبّتين من أمر الشهر الحرام وقد قتلوا فيه، وذلك ما حصل في سريّة نخلة(سريّة عبد الله بن جحش) التي قتل فيها المسلمون عمرو بن الحضرمي، وأسروا اثنَين من أصحابه عندما اعترضوا قافلتهم، وكان ذلك في شهر رجب، فوقع في الناس بين يهود ومشركين أن المسلمين يقتلون في الشهر الحرام، حتى توجّس المسلمون من ذلك خيفة، فأنزل الله تعالى يطمئنهم إلى سلامة أمرهم، وأنّ فتنة المؤمنين عن دينهم، -وهو ما فعلته قريش وأرادته بكثيرين- أكبر عند الله من القتل، وهو ما يؤكد معنى قضية الحياة في الإسلام، فالحياة بلا إيمان لا تساوي حياة، وإبعاد الناس عن دينهم وإخراجهم منه أكبر عند الله من القتل، فلئن يقتل المؤمن وهو على إيمانه خير من أن يبقى حيا وقد فقد إيمانه، فالأول حيّ، والثاني هو الميت بظاهر من حياة ....والآية 218 بيّن الله فيها بلوغ مغفرته ورحمته للمؤمنين المهاجرين الذين جاهدوا في سبيل الله(الخارجون في سرية نخلة)، فكانت الآيتان طمأنة لقلوب المؤمنين، وهي كذلك تفعل فعلها فينا نحن اليوم...
أما من باب المنافع، وكما عرفنا ما في الإنفاق من منفعة للمؤمنين، المنفِق والمنفَق عليه سواء،
كذلك هنا في الجهاد في سبيل الله كبير منفعة للأرض كلها، بإحيائها والحرص على دوام حياتها بالإيمان، بمجاهدة الصادين عن الإيمان وعن سبيل الله، وعن منهج الله في الأرض .
3- الآية 219 : يأتي السؤال الموالي من أسئلة الحياة، ويبقى الحديث في صميم الحياة، وفي جوهرها وكنهها وحقيقة معناها، إنهم يسألون عن الخمر والميسر...
وهكذا... بعد التقوى، والابتلاء، والدعوة للتسلح بالصبر والصلاة، وبعد التربية على المواجهة وحبّ الدين قبل كل محبوب، والترقي إلى درجة التضحية في سبيل إعلاء كلمة الله... وكلها صفات الخليفة الذي خلق ليكون خليفة ...قد بلغ الصحابة رضوان الله عليهم هذه الدرجات السامقة، والخمر لم ينزل تحريمها بعد، حتى أن منهم من استشهد في "أُحُد(2هـ)" والخمر لم تحرّم بعد، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عنها وعن الميسر... فإذا تأملنا عرفنا أن تحريم الخمر جاء بعد سؤال الصحابة عنها، فكان التدريج الأول في تحريمها، بعد سؤالهم، هنا تحديدا في منزلتنا هذه (البقرة) "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا".
إنّهم قد بلغوا هذه الدرجة من الوعي بخصوصية المنهج الرباني، ونقائه، ورقيّه حتى جعلوا يسألون عن الخمر والميسر، لقد عرفوا من بعد ما أسّسهم المنهج، وقلب نفوسهم، عرفوا أنّ الخمر والميسر لا يليقان بمن كان منهجه القرآن، بمن كان دينه الإسلام، بمن عرف أنّ دينه يهدي للتي هي أقوم، وأنه دين العقل، ودين احترام العقل لا ستره وغمره، وخمْره، دين يُعلي من شأن الإنسان، ومن شأن عقله فلا يسمح ببقائه مخمورا ولو لمدة بسيطة من الوقت، إنه دين الحياة والواقع، لا دين الغياب عن الحياة، لا دين الذهاب عنها إلى عوالم الخيال والهلام ...وهكذا يحرّم الخمر بتدريج تحريمه الأول هذا، بدءا من سؤال الصحابة...
أي حب للخمر كان حبهم ؟ ... إنه لا يُضاهى ...
أي تعلّق بها كان تعلقهم !! من كان يتصوّر أنّه سيأتي على العرب يوم يسألون فيه عن الخمر وهم في سؤالهم، يتوقعون الجواب بسوئه أكثر من توقّعهم الجواب بحُسنه ... يتوقعون منعه أكثر مما يتوقعون إباحته... لقد فهموا ميزة هذا المنهج ... إنه منهج للحياة وللإحياء، للفكر، وللتفكير، للرشاد وللحكمة، وكل هذا يتنافى مع الخمر التي تُذهب العقل فتُحلّ الطيش مكان الرصانة، والهذيان مكان العقل، والسفه مكان الحكمة، دين للنفع لا للضر والإضرار وقوله سبحانه: " وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا" فيه كل الدلالة على إرشاد الناس لما ينفعهم .
إذن ما زلنا في مناحي الحياة، مازلنا نعرف دور المنهج في تحديد تفاصيل الحياة، وهذا الخمر الذي يتبين يوما بعد يوم في عصر العلم الذي نعيشه مضاره ومخاطره على جسم الإنسان، وعلى حياته وعلى علاقاته، وعلى عقله، وعلى نفسيّته، وعلى المجتمع بأسره .
فهل يليق بمن عرف خصوصية المنهج الرباني للأرض، ولمن عرف دوره كخليفة فيها، أن يُذهب عقله لساعة أو لساعات ؟ هل يليق بمن على عاتقه إصلاح الأرض وقوامها، وحياتها أن يكون مخمور العقل ؟ هل يليق بمن عرف منهجا فيه النفع كلّه أن يتقاعس فلا يأخذ بكل أطراف ما حلل وما حرّم، فيعمل بالحلال، وينتهي عن الحرام ؟!
وفي الآية نفسها 219 يأتي دور السؤال الموالي، إنه سؤال عن الإنفاق مرة أخرى !!
وإنه لمدعاة للعجب كل العجب، إذا تأملنا، أن يأتي السؤال مرة أخرى عن الإنفاق ! وقد عرفنا الجواب عن سؤال الصحابة عنه في الآية 215 !!! ما السر في تكرار السؤال يا ترى؟
ولكأني به السؤال من جديد من بعد ما تبيّن باطل إنفاق من أنفقوا، ومن ينفقون حتى يومنا مالهم في الخمر والميسر، وفي كل وجه من أوجه الحرام ...
لنتأمّل قوله تعالى : "..... وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" . وكانوا قد سألوا قبلها عن الإنفاق (215)، وهذه إجابة جديدة لهم، وذلك لتكرارهم السؤال، فبعدما عرفوا أوجه الإنفاق (فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين....)، قد سألوا مجددا عن مقدار ما ينفقون، والله سبحانه وتعالى يجيبهم أنه "العفو" بمعنى الفائض عن حاجتهم الأساسية،
وأورد في هذا المقام تفسيرا لابن عاشور:
"
روى ابن أبي حاتم أن السائل عن هذا معاذ ابن جبل وثعلبة بن غَنَمَة ، وقيل هو رجوع إلى الجواب عن سؤال عمرو بن الجموح الذي قيل إنه المجاب عنه بقوله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين } [ البقرة : 215 ] إلخ ، وعليه فالجواب عن سؤاله موزع على الموضعين ليقع الجواب في كل مكان بما يناسبه .
ولإظهار ما يدفع توقعهم تعطيل نفع المحاويج وصلت هذه الآية بالتي قبلها بواو العطف .
والعفو : مصدر عَفَا يعفو إذا زاد ونَمَى قال تعالى : { ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا } [ الأعراف : 95 ] ، وهو هنا ما زاد على حاجة المرء من المال أي فَضلَ بعد نفقته ونفقة عياله بمعتاد أمثاله ، فالمعنى أن المرء ليس مطالباً بارتكاب المآثم لينفق على المحاويج ، وإنما ينفق عليهم مما استفضله من ماله وهذا أمر بإنفاق لا يشق عليهم وهذا أفضل الإنفاق ، لأن مقصد الشريعة من الإنفاق إقامة مصالح ضعفاء المسلمين ولا يحصل منه مقدار له بال إلا بتعميمه ودوامه لتستمر منه مقادير متماثلة في سائر الأوقات وإنما يحصل التعميم والدوام بالإنفاق من الفاضل عن حاجات المنفقين فحينئذ لا يشق عليهم فلا يتركه واحد منهم ولا يخلون به في وقت من أوقاتهم ، وهذه حكمة بالغة وأصل اقتصادي عمراني ، وفي الحديث : « خيرُ الصدقة ما كان عن ظَهْرِ غنى وابدأ بمن تَعول » فإن البداءة بمن يعول ضرب من الإنفاق ، لأنه إن تركهم في خصاصة احتاجوا إلى الأخذ من أموال الفقراء ، وفي الحديث : « إنك أنْ تَدَع ورثتَك أغنياء خير من أن تَدَعهم عالة يتكففون الناس » أي يمدون أكفهم للسؤال ، فتبين أن المنفق بإنفاقه على من ينفق عليه يخفف عن الفقراء بتقليل عدد الداخلين فيهم ، ولذلك جاء في الحديث : « وإنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك » . ولهذا أمر في هذه الآية بإنفاق العفو ، لأنها لعموم المنفقين ، فلا تنافي أن ينفق أحد من ماله المحتاج هو إليه أو جميع ماله إذا صبَر على ذلك ولم يكن له من تجب عليه هو نفقته ."
4- الآية 220 : وفيها السؤال الموالي : السؤال عن اليتامى، فيأتي الجواب أن الإصلاح لهم خير، الإصلاح ضدّ الإفساد، وفيه كل وجه من وجوه فعل الخير معهم، وأن مخالطتهم مخالطة إخوان، والله رقيب في كل هذا، فيعلم من أصلح ومن أفسد، من أطاع ومن عصى.
فإذا جمعنا مواضيع الأسئلة السابقة،
أ-سؤال عن الإنفاق لتعزيز
الحياة بالتآخي وبالتآزر،
ب-ثم تشريع القتال في سبيل الله للتأكيد على قضية الحياة في هذا المنهج
وأنها الحياة بالإيمان، وإحياء الأرض بالإيمان، ج-ثم سؤال عن الشهر الحرام، وعن أمر القتال فيه، ليُعلم أنّ الحياة إنما هي
حياة القلوب بالإيمان، وأن الموت إنما هو قلب ليس فيه إيمان،
د-ثم سؤال عن الخمر والميسر، لنعلم أنّ الحياة في هذا المنهج
حياة بعقل متفتّح صاح أهل للعمل وللنظر بحق، لا حياة بعقل مغمور مخمور مُذهَب ...
ه-ثم السؤال عن الإنفاق من جديد حتى يكون الخير القليل الدائم الذي لا ينقطع لا الكثير الذي ينقطع،
وليحدث التوازن فلا يُترك المقربون محتاجين ويُعطى للبعداء و-ثم السؤال عن اليتامى ليُعلم أنّ الحال معهم يجب أن يكون حال إصلاح لتسود
حياة الأخوة والمساواة والسلام.5- ثم تأتي هذه الآية (221)، والتي إذا تأملنا عرفنا أنها الآية التي فيها حسن التخلّص للدخول في موضوع ستطول تفاصيله، وحيثيّاته، إنها الفاصلة الواصلة، الفاصلة عن ساحة الأسئلة، الواصلة لساحة "الميثاق الغليظ"، الحياة الزوجية، الأسرة في الإسلام وأسس بنائها، تُخرجنا عن ساحة الأسئلة التي كانت توطئة لتدخلنا موضوعا يخص نواة المجتمع كله، والأمة كلها، والبشرية كلها، "الأسرة"
فيأتي النهي من الله تعالى عن نكاح المؤمنين للمشركات، وإنكاح المؤمنات للمشركين، وأن عبدا مؤمنا وأمة مؤمنة خير من حر مشرك . لأنّ المؤمن داع للجنة، والمشرك داع للنار، ومنهج الله تعالى وهو منهج النفع، لن يرضى ضرا بأن يتصل مؤمن بمشركة لتتأسس قاعدة هشّة قوامها كفر، وإشراك ...
6- ومع الآية 223 يتم الدخول في موضوع "الأسرة"، فيكون الدخول له أيضا بسؤال، لأنه من أهم مواضيع الحياة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق ..."
ويسألونك عن المحيض" ليبدأ منه تحديد التشريع الإلهي، وأسس المنهج الرباني في تكوين الأسرة المسلمة، أسس اللقاء بين المؤمن والمؤمنة، ذلك اللقاء الحميميّ الذي تنتج عنه الذرية ... من هنا من ساحة الزرع هذه يبدأ الحديث عن موضوع النواة الأولى في المجتمع الإسلامي "الأسرة"، وبهذا السؤال الأخير في سلسلة الأسئلة سيكون الدخول في هذا الموضوع .
وإن
لعبد الله دراز كلاما جميلا في النقلة بين (215-222) وما بعدها من آيات موضوع الأسرة أضعه هنا للإفادة:
"
ترى كيف سيكون الانتقال إلى هذه الحلقة الثانية؟ هل يصعد القرآن بنا توًّا إلى تفصيل هذه الشئون المنزلية المشتبكة المتشعبة؟ كلا إن هذا البيان التربوي الحكيم لن يهجم بنا عليها دفعة، ولكنه سيتلطف في الوصول بنا إليها على معراج من الأسئلة والأجوبة، تتصل أوائلها1 بالأحكام الماضية: الإنفاق والجهاد "215- 218" وتتصل أواخرها2 بالأحكام التالية: مخالطة اليتامى، وشرائط المصاهرة، وموانع المباشرة "220- 222" .. وهكذا نصل في رفق ولين، دون اقتضاب ولا ابتسار إلى صميم الحلقة الثانية "223- 237" حيث نتلقى في شأن الحياة الزوجية دستورًا حكيمًا مؤلفًا من شطرين؛ وشطره الأول يعالج شئون الأسرة في أثناء اتصالها "223- 232"، وشطره الأخير يعالج شئونها في حال انحلالها وانفصالها "233- 237".
فخذ هذه الحلقة الجديدة من السورة الكريمة، وتعرف أسباب نزولها، وانظر كيف كانت كل قضية منها فتيا في حادثة معينة منفصلة عن أخواتها؛ ثم عد لتنظر في أسلوبها البياني جملة؛ وحاول أن ترى عليه مسحة انفصال أو انتقال، أو أن تحس فيه أثرًا لصنعة لصق، أو تكلف لحام .. واعلم منذ الآن أنك ستحاول عبثًا؛ فإنك لن تجد أمامك إلا سبيكة واحدة يطرد فيها عرق واحد، ويجري فيها ماء واحد، على رغم أنها جمعت من معادن شتى ..
"