المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (الفاتحة + البقرة)  (زيارة 16025 مرات)

0 الأعضاء و 2 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #20 في: 2015-03-05, 15:39:40 »
تابع القسم الثاني يذكر فيه أحوال المعاصرين منهم للبعثة المحمدية.(من 75 إلى 123).

نكمل بإذن الله ما تبقى لنا في هذا القسم من الآيات التي تختصّ بذكر أحوال المعاضرين للبعثة المحمدية من بني إسرائيل .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(104) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(105) مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ(107) أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ(108) وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(109) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(110) وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(114) وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(115) وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ(116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(117) وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ(119) وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ(120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(122) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(123)


8- الآيات من 104 إلى 110: إذا تأملنا جيدا جوّ هذه الآيات لاحظنا أنّ فيها توجّها بالخطاب إلى المؤمنين، من بعد ما وجّهت الآيات السابقة لبني إسرائيل، مازال الأمر يخصّ بني إسرائيل، ولكن هذه المرة يتوجّه المولى عزّ وجل للمؤمنين بالتحذير والتعليم، والحضّ على الابتعاد عن خطوات بني إسرائيل الذين عرّفهم الله بأكاذيبهم التي لطالما زرعوها بينهم قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولطالما كانوا يرونهم أهل الكتاب الذين لهم علم من الكتاب، وكانوا يعدّون أنفسهم الأميّين، فكانوا بالنسبة لهم أهل علم، ولم يكونوا يعرفون أنهم تخرّصوا عليهم بأراجيف وأكاذيب من كل لون، حتى جاء القرآن يكشفهم لهم ويقف عند كل ادعاء منهم بكشف وفضح وتبيين للحقيقة، فهنا سبحانه وتعالى ينهى المؤمنين عن قول "راعِنا" لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كلمة تعوّد الصحابة قولها له بمعنى"تمهّل علينا وراقبنا وانظرنا حتى نفهم كلامك ونحفظه"، فالتقطها اليهود، وجعلوا يلوون بها ألسنتهم، ويقولونها للرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعنون بها شيئا قبيحا، لأنها عندهم للمسابّة، وهي غالبا تعني الرعونة والخفّة، فنُهِي المؤمنون عن قولها وأمروا أن يقولوا بدلها "انظرنا"، ثم يشير الله تعالى في عرض هذا التحذير للمؤمنين أن أهل الكتاب لا يحبون أن ينزل الله من خير على المؤمنين، وأنها مشيئة الله تعالى بتخصيصه من يشاء بفضله، ثم في الآية الموالية(106) يأتي تعليم المؤمنين أمرا بالغ الأهمية من دينهم، ودور اليهود فيه كان بالتشكيك وإلقاء الشبهات، وهو أمر الناسخ والمنسوخ في القرآن، فاليهود جعلوا يشككون المؤمنين بدعوى أنه كيف يجيئ  القرآن بحكم ثم يرفع بعد مدة ويستبدل بغيره، وأنه لو كان حقا لما احتمل هذا التبديل، فكان التوجّه هنا للمؤمنين، لإبطال عمل الشبهة في عقولهم من دسّ اليهود،ويُفهم أن التعليم موجه للمؤمنين من قوله تعالى "ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير"، أي المخاطَب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لما لهذا الموضوع من أهمية، فما ينسخ الله من آية أو ينسها يأتِ بخير منها أو بمثلها، والنسخ هو رفع العمل بحكم آية واستبداله بحكم آية أخرى مع بقاء الآية، والجديدة تسمى الناسخة والأولى تسمى المنسوخة، كما كان النسخ مثلا لقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ" -النساء-، بقوله : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90)" -المائدة-، وذلك لما اقتضته الحكمة الإلهية في التدرّج في التشريع، وأن الأولى كانت ذات فائدة ووقع في التدريج الذي قضى الله به، ثم حان وقت العمل بالأخيرة التي في المائدة ... وغيرها من أمثلة النسخ في القرآن،   ثم تأتي الآية الموالية تؤكد أن لله ما في السماوات وما في الأرض وهو ولي عباده ونصيرهم، وهو الذي يعلم حاجات النفس وعمل الأوامر فيها، والوقت اللازم لكل أمر، وهو سبحانه الذي يقدر مصالحهم ولا أحد غيره يدبرها ... ثم يعقبها الله تعالى بسؤال المؤمنين سؤالا استنكاريا إن كانوا يريدون سؤال نبيهم كما فعل قوم موسى مع موسى عليه السلام، وهم الذين بدّلوا أوامر الله والإيمان بالمعصية والكفر، ثم يعود سبحانه فيذكر المؤمنين بهدف كثير من أهل الكتاب والمتمثل في ردّهم كفارا بعد إيمانهم حسدا من بعد ما تبين لهم أنهم الذين عصوا أنبياءهم وكذبوهم، وأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانواعلى غير حالهم مع أنبيائهم صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، ومازال رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا يؤمر بالصفح والعفو عنهم، حتى يأتيه الإذن بالقتال، -وهنا أيضا ناسخ ومنسوخ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ظل صابرا على أذاهم ما أمره الله بالصفح والعفو عنهم، ثم أعلن الحرب عليهم حينما أذن له بالقتال- ثم يأتي أمر المؤمنين بما ينفعهم ويبعدهم عن طريق بني إسرائيل وخطواتهم المشؤومة، وهو العصمة لهم من أمرهم، إنه أمرهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن الله يخبئ لهم أجر كل ما يقدمونه لأنفسهم من خير في هذه الدنيا .

إذن فهذه الآيات قد جاءت بعد مرحلة من التعريف بموقف بني إسرائيل إزاء الدعوة المحمدية، وبسالفة أفعالهم  مع الأنبياء والمرسلين وما قابلوا به أمر الله في كل مرة من نقض للميثاق وإخلاف للعهود، وادعاءاتهم الباطلة، ولبسهم الحق بالباطل، جاءت تدعو المؤمنين ألا يكنوا على خطاهم، وأن يتجنبوا أفعالهم، وأن يكونوا مع رسولهم مطيعين متّبعين موقّرين لأمر الله، كما علّمهم أن ما يلقيه اليهود حول القرآن من شبهات باطلة داحضة، وأنها مشيئته سبحانه التي لا يُسأل عنها وهو الولي والنصير والرازق والمدبر، الفعال لما يريد، العالم بما يفعل، والحكيم فيما يقضي ويفعل .

9- الآيات من 111 إلى 123 : في الآيات السابقة(104-110) عرفنا تحوّل الخطاب من بني إسرائيل إلى المؤمنين للتعليم والتحذير، وهنا في هذه الآيات الجديدة نلاحظ أنّ الوجه الجامع بينها ظهور فئة جديدة على صفحة الأحداث، وهي النصارى، بل نلاحظ الجمع بين فئات ثلاث اليهود والنصارى والمشركين، تبدأ بذكر ادعاءات اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على طريقتهم، فيدحضها الله تعالى وأن من أسلم وجهه لله وهو محسن هو الفائز عند الله، ثم يذكر ادعاءات اليهود أنهم هم أهل الحق، وادعاءات النصارى من جهتهم أنهم هم أهل الحق، وأنّ المشركين بدورهم يدعون ادعاءهم، وأن هذا الاختلاف سيفصل فيه الله تعالى يوم القيامة، ثم أعقبها الله بذكر كبير ظلم من يمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وتختص بالفئات الثلاث، ثم يعرض الله عزّ وجلّ لافترائهم الكبير على الله تعالى بأنه له الولد تعالى سبحانه عن ذلك علوا كبيرا، إذ نسبت اليهود لله الولد بعزير، ونسبته له النصارى بعيسى، ونسبه له المشركون بالملائكة، بل له ما في السماوات والأرض وكل ما فيهما له عبد، ثم يذكر تجرؤ يهود العهد النبوي بطلب كلام الله لهم وأن تأتيهم منه آية، وأنّ ذلك منهم مطابقة لما كان من أسلافهم، كما عرفنا في ذكر سالفتهم "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة"، ثم بيّن الله تعالى لنبيّه دوره بالبشارة والنذارة، وأنّ هؤلاء عليهم وحدهم وزرهم وما يأتون من المعاصي العظيمة، وتُختم حلقتهم بأن اليهود والنصارى لن يرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم، إذ تلك غايتهم فيه هو نفسه، وكذلك غايتهم في المؤمنين، كانت وما تزال قائمة، وكشأن الله تعالى في كتابه وهو الحق، ويقصّ الحق، ويفصل بالحق، ولا يبخس أحدا حقه، يذكر أمر أهل الكتاب المصدقين الذين يتلون ما أنزل على أنبيائهم بالحق ولا يكتمون الحق، وأنّ أولئك هم الذين يؤمنون برسول الله وما جاء به، ونصل لخاتمة أمر بني إسرائيل في السورة بنداء جديد قديم، إذ هو المبتدأ وهو المنتهى في هذه الآيات التي تعالج كلها موضوع بني إسرائيل وهي قوله تعالى :

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(122) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(123)


وقد كانت في المقدمة(40-48) :
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ(40)
وكانت أيضا :
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(47) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(48)

ونلتقي بإذن الله تعالى، لنأخذ مما عرفنا عنهم زبدة نشكل بها خطوة جديدة على طريقنا.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #21 في: 2015-03-10, 13:30:17 »
إذن نكون بهذا قد أنهينا الآيات من 40 إلى 123، وهو قطاع واسع جدا من آيات سورة البقرة، خصّصه الله تعالى لبني إسرائيل، لذكر أحوالهم، السابقين منهم قوم للسابقين من الأنبياء، واللاحقين منهم المعاصرين للبعثة المحمدية.
عرفنا في هذه الآيات، صفاتهم، وكيف أن صفات السابقين هي صفات اللاحقين، عرفنا أنهم بجبلّة واحدة، وبطبع واحد، فكما كان آباؤهم مكذّبين للأنبياء، كافرين بآيات الله، محرّفين لها، قتلة للأنبياء، كذلك بقوا على حالهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ناقضين للعهود، منكرين لذكر رسول الله في كتبهم، كاتمين للحق الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، مدّعين للإيمان كذبا وزورا ونفاقا، ملبسين الحق بالباطل، مفترين على الله كذبا وعلى أنبيائه، مدّعين أنهم الجنس المختار، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأن خير الآخرة لهم وحدهم دون الناس...

من كل هذا عرفنا تشابُه قلوبهم، وعرفنا وحدة أفعالهم... وهو ما وصلنا به إلى تقرير خطوة جديدة على دربنا الذي نسلكه "بنو إسرائيل النموذج الفاشل للخلافة"

ونعود لنربط ما عرفناه عنهم في هذا القطاع الذي فضحهم، وكشفهم للمسلمين في بدايات عصر النبوة المحمدية، وللمسلمين في كل زمان ومكان،  نربطه بما قررناه في بدايات هذه الخواطر من مَشْينا على هدى مشكاة القرآن بترتيب المصحف التوقيفي(الفاتحة فالبقرة، فآل عمران.....) نريد تعرّف خطواتنا على درب الحياة خطوة إثر خطوة، نعود فنذكّر بما عرفنا حتى الآن:
لقد استهدينا ربنا الصراط المستقيم، فعرّفَنا سبحانه أن هذا الكتاب هو منبع الهدى، ثم عرفنا بأصناف الناس الثلاثة: مؤمنهم، وكافرهم، ومنافقهم، ثم دعاهم جميعا لعبادته، وزوّدهم بمفتاح العبادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ثم عرفْنا أن هذا الكتاب المعجز بأقصر آية فيه يجعل الله فيه بحكمته وعلمه ما يشاء، ويضرب فيه المثل الذي يشاء، فما يزيد المثل فيه المؤمن إلا إيمانا، وما يزيد الكافر إلا ضلالا، ثم عرّفنا سبحانه بتهيئته الأرض وتسخيرها بما فيها للإنسان، الذي عرفنا قصة خلقه، وأنه ما خلق إلا ليُستخلف في الأرض مطبقا لمنهج الله فيها، وعرفنا من قصة الخلق والاستخلاف طريقَيْن لا ثالث لهما، طريق الله عز وجل، وطريق الشيطان، فأما من اتبع هدى الله الذي يتعهد به عباده فلا يخف ولا يحزن، وأما من يعرض فجهنم مثواه خالدا فيها ....

ثم من بعد معرفتنا لدور الإنسان في الأرض (الخلافة)، بدأ الله تعالى في إعطائنا نموذجا للخلافة، ذلك النموذج الذي فشل ولم ينجح، وقرر الله فشله، إنهم بنو إسرائيل نموذج الخلافة الفاشل، عرفنا أوصافهم، وجرائمهم وما جعلهم مضرب المثل في الفشل...

ولنتأمل فإذا نحن على خطر كبير ونحن نقرّ النجاح لمن أقر له الله تعالى الفشل !!


أجل لقد أقر الله وأعلن فشل بني إسرائيل في الخلافة، وأنهم نقضوا العهد، وما أوفوا، وما أطاعوا، وما عملوا بأمر الله، بل اتبعوا أهواءهم، وطريق الشيطان، ولم تكن في قلوبهم رهبة لله، فباؤوا بغضب على غضب، بما كفروا، وبما عصوا، وبما قتلوا الأنبياء، بينما يأتي منّا اليوم آت فيعلن أنهم مُلّاك الدنيا والمتصرفون فيها، وأنهم أصحاب العلم، والتكنولوجيا، والسياسة العالمية المسيطرة والمهيمنة، وأنهم أصحاب السلاح المتقدم، والصواريخ النفاثة، والقنابل العنقودية والبواخر المواخر، وأنه لا ناقة لنا ولا جمل أمام ما لَهم !!

إنها الهزيمة النفسية تعلن عن نفسها بكل قوة، الهزيمة النفسية التي نصبنا بها الفاشلين ناجحين، وأهل النجاح والمؤهلين للخلافة ولحمل الرسالة والمسؤولية ضعافا مقهورين لا أمل لهم في القيام والنهوض، كل هذا شيء مما يبحث عنه أعداؤنا، ولا يعيَون في البحث، وهم واجدوه فينا حينما نذلّ أمامهم، ونرى في أنفسنا القصور عن أن نكون أهل سيادة ومنعة وقوة، ونحن عندنا ما يُعلينا، ولكننا ما قدرناه حق قدره، عندنا الإيمان وعندهم الكفر، عندنا الله وعندهم الشيطان وأهواء أنفسهم، عندنا الإسلام وعندهم التحريف والإضلال والكذب والافتراء على أنبياء الله، عندنا الحق وعندهم الباطل.....ولكنّنا هزمنا أنفسنا وقتلناها يأسا في القيام، وتركنا رسالتنا، وذهبنا نبحث في قمامات العالم عما يجعلنا أهلا للاستهلاك والانبهار والتفرّج من بعيد ...! والتصفيق والتطبيل لأهل الباطل بباطلهم، والتقليل من أهل الحق والتهوين من شأنهم، وعدّهم الذين يضربون الهواء بعصا مكسورة !!

فأول قوتهم وأول ضعفنا نظرتنا لأنفسنا نظرة دونيّة، ترى في علمهم وما عملوه إله يُعبد يقرّ لهم بالنجاح، ويقرّ لنا بالفشل، وغفلتنا عن إعلان الله تعالى فشلهم في الخلافة، فشلهم في حمل الرسالة وتأدية الأمانة ....وأننا أهلها الذين تنتظر الأرض ترياقها ودواءها من أيديهم ...

إذن فبنو إسرائيل النموذج الفاشل في الخلافة  هي خطوتنا الجديدة التي تضاف لما خطونا، وأضع هنا مجمل ما وصلنا إليه على دربنا مضافا إليه الجديد :


فبيّن له الله منبع الهُدى:

وإن الناس أصناف في تلقيهم له:
ولكن الله يدعوهم جميعا(كل الأصناف)
وحتى تحقّق عبادة الله يجب أن تعرف:
ولكن تجنّب المانع من نفاذ هُداه إلى قلبك:
تعرّف على الغاية من وجودك:
ولتتعلم،هذا نموذج من نماذج الاستخلاف
« آخر تحرير: 2015-03-10, 13:42:02 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #22 في: 2015-03-11, 12:30:49 »
أما الآن فسنخوض موضوعا جديدا، ولكنه متصل بما قبله، سنمضي معه كما مضينا مع آيات بني إسرائيل حتى نخلص إلى الخطوة التي سنُلحقها بالخطوات السابقة على درب الحياة متخذين القرآن مشكاة هادية ...

كنا قد عرفنا مع بني إسرائيل قسمَين اثنَيْن: سالفة بني إسرائيل، وأحوال المعاصرين منهم للبعثة المحمدية، وقد خُتمت آيات ذلك القطاع الواسع بقوله تعالى : "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(122) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(123) "

وقد عرفنا أنّ ذلك كان تبيانا للنموذج الذي فشل في الاستخلاف، الآن سنخوض مع قطاع جديد من الآيات الكريمات البيّنات يمتدّ من 124 إلى 153 .

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ(129) وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(134) وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(135) قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(137) صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ(138) قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ(139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(141) سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ(145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ(151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ(152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(153)


وننوّه إلى أنّ هذه الآيات أيضا تنقسم إلى قسمَين اثنَين كما عرفنا مع آيات بني إسرائيل، وذلك في تناسق رائع، وتقابل ملحوظ، إذ كما ربط سبحانه الحديث عن سالفة بني إسرائيل وعن المعاصرين، يربط في هذا القطاع الجديد بين قديم وجديد، بين الأصل والفرع، ولكن هذه المرة مع المسلمين، فهو سبحانه يذكر كلا من :

1- القسم الأول : ذكر قدامى المسلمين من لدن إبراهيم (124-134)
2- القسم الثاني : ذكر حاضر المسلمين وقت البعثة (135-152)


----------------**************-----------------

1- القسم الأول : ذكر قدامى المسلمين من لدن إبراهيم (124-134)


وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ(129) وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(134)

وكما تعودنا، نطرح السؤال: ما وجه الربط بين الآية 124 : "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124)" وبين آخر ما انتهى به قطاع بني إسرائيل : " يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(122) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(123)"

إذا تأملنا كل ما مضى معنا في قطاع بني إسرائيل، مع ما عرفنا من امتداد في الطبع بين القدامى منهم والمعاصرين، من ظلم وكفر، ونقض للعهود، وكتم للحق، وتطاول على الله وعلى أنبيائه، وغيره من جرائمهم، فإذا بأنفسنا تغتمّ من فرط توالي جرائمهم، وكثرتها، ومن معاصيهم وتجرؤاتهم على الله وعلى آياته، ومن ادعاءاتهم وأراجيفهم وأكاذيبهم، فلا نكاد نرى بصيصا من نور ونحن نعيش مع الآيات التي تذكر أحوالهم، والله سبحانه العليم بأنفس عباده، وبما يداويها، وبما يروّح عنها، وبما يبعث الأمل فيها، فلا يتركها في غيابات المعصية والاستكبار والعناد سراديب مظلمة، بل يفتّح لها نافذة من نور، ويروّح عنها بذكر جديد يلقي بالأنوار على النفس التي غشّتها الحال المظلمة من بُعدها عن مصدر النور ومعينه الله سبحانه وتعالى، ينقلنا سبحانه في انتشالة لأنفسنا التي غُمّت إلى موطن الإيمان والنور، يعلّمنا أنّه كما عرفنا النموذج الفاشل العاصي المتمرّد، فإنه آن أوان أن نعرف النموذج المنير المشرق، المؤمن المطيع، وفي كلمات الآية الأولى من هذا القطاع الجديد ما يفهمنا هذا في كلمات قليلة بإجمال وجوامع لا يأتي به إلا الله سبحانه "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ..."
لقد ابتلاه ربّه، ولقد أتمّ، لقد وفّى، لقد أدى ما عليه... بخلاف النموذج الذي عرفناه آنفا ....فما أروح هذا لأنفسنا ونحن نتنفّس به الصعداء ....

1- الآية 124، تتحدث بإجمال معجز عن توفية إبراهيم بالعهد الذي عهد به إليه ربُّه، وأوجز الله العهد في قوله سبحانه "كلمات"، وهي لا تعدو أن تكون أمر الله له سبحانه، فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا التوفية والإتمام، وجاءت الفاء "فأتمهنّ" دلالة على سرعة انصياع إبراهيم عليه السلام لأمر ربه، وأدائه أحسن الأداء وأكمله،  وربما كان تفصيلها وبسطها  في قوله تعالى "قال إني جاعلك للناس إماما"، والإمامة هنا هي أمر الرسالة والنبوة، فهو الرسول والنبي المقتَدى به إماما، فكان جواب إبراهيم سؤالا في حد ذاته، إذ سأل الله أن يجعل من ذريته من يكون أهلا للإمامة مثله، فكان جواب الله تعالى واحدا يشمل معنَيَيْن "قال لا ينال عهدي الظالمين"، وعهد الله تعالى هو النبوة، وهو الذي لا ينال الظالمين من ذريته، ولكنه قد نال الصالحين منهم، من مثل إسحاق ويعقوب وإسماعيل ويوسف عليهم السلام جميعا.

2- الآيات من 125 إلى 129 : يبدأ الله سبحانه بذكر ما عهد به إلى إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام من أمر البيت، وفي كل هذه الآيات نقرأ عن البيت الحرام، وعن حال إبراهيم معه، ودوره فيه وابنه إسماعيل، ونلاحظ معيّة ابنه إسماعيل في أمر البيت، وهو ربط لما سبق من أمنيّته أن يكون من بنيه الأئمة الهادون، وإسماعيل المذكور هنا أولا واحد منهم، كما نلاحظ ذكر أمر البيت، وكما نلاحظ ذكر إبراهيم وإسماعيل ابنه وكلاهما جذور محمد صلى الله عليه وسلم، ومكان البيت مسقط رأسه، وكأنها الإشارة إلى أصول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى قدم العهد، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعا من الرسل، وأنه قد جاء داعيا لما جاء به الرسل من قبله دعاة، وأنه على خطى أبويه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فناسب جدا -كما ذكرنا- ذكر أوليّة الرسالة المحمدية، وجذورها، وأنها سليلة الرسالة الإبراهيمية، فالبيت قد جعله الله مثابة للناس يثوبون إليه من كل مكان، وجعله آمنا، كما أمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، يصلي عنده الحجاج بعد الطواف بالبيت، إحياء لقيام إبراهيم بأمر البيت، ولإتمامه الكلمات التي ابتلاه الله بها، ولتوفيته بعهد الله " وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(37)"، كما عهد الله تعالى لكليهما عليهما السلام بتطهير البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود، وكأنها الإشارة إلى أصل حال البيت الذي لم يعد عليه حاله والمشركون يحيطونه بالأصنام النجسة إشراكا بالله تعالى، فأصل حاله الطهارة والنقاء والطواف من حوله، والركوع والسجود لله وحده. كما دعا إبراهيم عليه السلام أن يجعل الله بلده آمنا، وأن يرزق أهله المؤمنين من الثمرات، فأجابه الله تعالى أن الرزق للمؤمن والكافر على السواء، ولكنه للكافر متاع قليل ثم يؤول إلى النار، وكأن سيدنا إبراهيم عليه السلام لما سأل أن يكون العهد في بنيه، فأجابه الله أنه لا ينال الظالمين منهم، تعلم واستحيا فكان سؤاله هذه المرة للمؤمنين خاصة، ولكن ربه أيضا يعلّمه أن الرزق يؤتى للمؤمن والكافر سواء.
ثم يصور لنا الله تعالى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يرفعان القواعد من بيت الله الحرام،  سائلَيْن الله في خشوع يلامس شغاف القلوب، وهما النبيان الطاهران المطيعان، أن يتقبل منهما، وأن يجعلهما مسلمَيْن له -وكأنهما ليسا كذلك لنتعلم التواضع وسؤال الثبات-، وأن يجعل من ذريته أمة مسلمة له، ونلاحظ بوضوح هنا ابتداء ذكر الإسلام، حتى نجمع في خضم هذه الآيات عدد مرات ذكره ، وأن يريهما الله المناسك، وأن يتوب عليهما، ثم يأتي الدعاء الأتمّ والأكمل والأروع، والأدوم، وسيدنا إبرهيم عليه السلام يطمع أن يبعث الله في الساكنين حول البيت الحرام رسولا منهم يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم. ونجمل الآن هذه الآيات لنفهم أن :
**إبراهيم عليه السلام الذي دعا أن يجعل الله من ذريته أئمة هادين، هذا إسماعيل واحد منهم.
**وهذا وهو يوفيان بعهد الله، فيطهران البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود، يطهرانه بالدعوة لعبادة الله وحده.
** وهما يسألان الله تعالى أن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة .
** وهذا وهو عليهما السلام يسألان الله أن يبعث رسولا في الساكنين حول البيت الحرام (محمد صلى الله عليه وسلم).

2- الآيات من 130 إلى 134 : ما يجمع هذه الآيات هو ملة إبراهيم التي نقلها لبنيه من بعده موصيَهم بها، ومؤكدا عليها، وهو التأكيد على الإسلام بتكرار لفظه في هذا السياق، فمن ينصرف عن ملة إبراهيم فهو مسفّه لنفسه مهلك لها، فلقد :
**استجاب لربه لما أمره أن يسلم . فأعلن إسلامه لله رب العالمين.
** أوصى بها إبراهيم بنيه، كما أوصى من بعده بها يعقوب بنيه : لا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون .
** يعقوب يلقّن أبناءه ما يعبدون من بعده، فيرددون أنهم يعبدون الله وحده وأنهم له مسلمون

تلك أمة قد خلت ومضت، ولا يُسأل المعاصرون من بني إسرائيل عن عمل من سبقهم، ويخص بالذين خلوا إبراهيم وبنيه عليهم السلام، فأمْرهم إلى الله، يجازيهم على الخير الذي صنعوه وعلى امتثالهم لأمر الله، أما بنو إسرائيل بما عرفنا عنهم فهم يُسألون عن جرائمهم ولا يشفع لهم خير فعله من سبقهم، فكل بما عمل . فإن آصرة الدم ليست هي الحكم عند الله، وإنما هي آصرة العقيدة وتوارث الحق والإسلام، ونسترجع هنا أن إبراهيم عليه السلام علمه الله أن عهده لا ينال الظالمين من أبنائه، إذ أنه لن يغنيهم وهم ظالمون أن أباهم إبراهيم الذي وفّى .

وهنا ينتهي الحديث عن قدامى المسلمين، عن جذور رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ملّته، عن الآصرة التي تربط بينه وبين إبراهيم والصالحين من بنيه، آصرة العقيدة، ورحم العقيدة، ينتهي بتقرير أنّ الرسالة المحمدية سليلة الرسالة الإبراهيمية الحنيفية، أنّ الإسلام هو الآصرة الأولى قبل آصرة الدم، ونتأمل كم ذكر الإسلام من مرة في هذه الآيات ليتقرر أنه الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء به إبراهيم وبنوه من بعده عليهم الصلاة والسلام .

ونكمل لاحقا بإذن الله مع الجزء الثاني من الآيات (المسلمون المعاصرون للدعوة المحمدية)



ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #23 في: 2015-03-15, 10:53:09 »
والآن نكمل مع ما تبقى من آيات القطاع الذي خصص للحديث عن المسلمين، مقابلةً بما عرفنا من الحديث عن بني إسرائيل قدمائهم ومعاصريهم(40-123)، كذلك في هذا القطاع الجديد(124-153)، الحديث عن المسلمين انقسم إلى قسمَين، عن قدمائهم وأوائلهم وعن معاصريهم للبعثة المحمدية.
وقد عرفنا من الآية 124 إلى الآية 134 عن قدمائهم ممثّلين في سيدنا إبراهيم  وبنيه من بعده عليهم الصلاة والسلام، عرفنا أوليّة المسلمين فيهم، وفي عهدهم الذي جعل الواحد منهم يعهد به لمن بعده، ويوصيه به وبالثبات عليه، بالإسلام، عرفنا بتكرار لفظ "الإسلام"  أن الإسلام هو العهد وهو الوفاء، وهو الموصَى به، وهو الرشاد، وهو الأصل، وعرفنا عن البيت الحرام وعلاقته بإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يرفعان القواعد منه، ويدعوان الله أن يجعلهما مسلمَين ومن ذريتهما أمة مسلمة، وأن يبعث فيمن حول البيت الحرام رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وأنه الدعاء برسول الله صلى الله عليه وسلم .
والآن نخوض مع القسم الثاني:

2- القسم الثاني : ذكر حاضر المسلمين وقت البعثة (135-152)

وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(135) قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(137) صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ(138) قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ(139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(141) سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ(145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ(151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ(152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(153)


1-من الآية 135 إلى الآية 138: ويظهر بوضوح تحوّل الخطاب إلى المؤمنين اليوم، إلى المعاصرين للبعثة المحمدية، امتدادا لأولئك في هؤلاء، وتواصلا بين أولئك وهؤلاء، وبقاء على العهد، إذ تعرض لقول اليهود والنصارى للمؤمنين أنّهم إن أرادوا الهداية فما عليهم إلا باليهودية أو النصرانية، كل فرقة تدعي الهداية فيما تتبع مما ابتدعت، ليأمر الله عباده المؤمنين بالرد عليهم ردا مفحما، ثابتا، واحدا بين الأمس وبين اليوم، لا تبديل فيه ولا تحويل: "قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136)" وكلها سلسلة متسقة، منسجمة، متعاقبة على العهد نفسه، على الإسلام ....

وهو ما يقابل بدايات السورة في قوله تعالى : " والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ  "...
فإن هم آمنوا بمثل ما آمن المؤمنون، فقد اهتدوا، وهذا هو الهدى، "هدى للمتقين"، وإن تولوا، فإنما هم في شقاق وتفرّق واختلاف، وتلكم هي صبغة الله، هي الفطرة، هي التي فطر الناس عليها، هذا الهدى الذي لم يجئ الرسول صلى الله عليه وسلم بدعا فيه ولا به، بل قد كان عليه الأنبياء من قبله عليهم الصلاة والسلام من لدن آدم إليه .

2- من الآية 139 إلى الآية 141 تفصيل لما سبق في الآيات(135-138) التي جاء فيها تعليم المؤمنين كيف يردون على ادعاء أهل الكتاب الهدى فيما عندهم، أن يردّوا بأنهم آمنوا بالله، وبما أنزل إليهم وبما أنزل على باقي الأنبياء، يأتي هنا تفصيل ذلك، مبتدئا سبحانه بالإيمان بالله، ومثنّيا بعدها بالحديث عن الرسل والأنبياء الذين ادعوا فيهم ادعاءات باطلة، هنا تعليم من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من خلاله كيفيّة الرد على أهل الكتاب الذين ادعوا الهدى فيما هم عليه من تحريف وباطل، وتصحيح لمعتقدات خاطئة يحاولون زرعها بين المؤمنين، هنا تنوير للمؤمنين بتعليمهم الحق، والإفحام بالحق، والمحاججة بالعقل، كيف تحاجّوننا في الله، وفي دين الله، وتدّعون أنكم على الدين الأصحّ، وأنّ غيره باطل، وأن الهدى فيما عندكم، وكأنّ الأمر حكر عليكم وحدكم، بينما الله ربنا وربكم وليس ربكم وحدكم، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم، فهو سبحانه كونه ربنا وربكم سواء، وكونه يعلم أعمالنا ويعلم أعمالكم، فهو وِفق ربوبيته سبحانه، ووفق علمه بأعمال كل فريق، بحكمته سبحانه يختصّ بفضله من يشاء من عباده الذين يعلم فيهم العمل الحسن، فلا تدّعوا لأنفسكم خصوصية بينما أعمالكم تشهد بفساد حالكم، أما يميّزنا عنكم فهو : "ونحن له مخلصون"، إنه هذا الإخلاص له سبحانه في العبادة، التوجه له وحده، وإفراده وحده بالعبادة، بينما أنتم هؤلاء قد أشركتم به غيره، فادعى اليهود أن عزيرا ابن الله، وادعى النصارى أن عيسى ابن الله، تعالى عن ذلك سبحانه علوا كبيرا، وعلى هذا كيف لكم أن تحاجونا في الله وفي دين الله ؟
ثم يأتي دحض باطلهم الثاني حول الأنبياء والرسل، إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط أنهم كانوا هودا أو نصارى، فتأتي المجابهة والمواجهة بـ: "أأنتم أعلم أم الله؟" أي هل نسمع لقولكم أنتم مع ما عُلم من فساد أعمالكم، أم نسمع لقول الله فيهم، سبحانه  الذي برأهم من ذلك، فعرّفنا أن إبراهيم كان مسلما حنيفا، وأوصى بنيه بالإسلام، ويعقوب كذلك فعل، ودعا إبراهيم وإسماعيل أن يجعلهما الله مسلمَين، وأن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة، أفغير كلام الله نأخذ ونصدّق؟ ومن أعلم؟ الله العليم الحكيم أم هم أهل الباطل والتدليس؟ ومن أظلم ممن كتم هذه الحقيقة؟ حقيقة أن الأنبياء والرسل مسلمون، وهذا ديدنكم وعملكم الذي ليس الله بغافل عنه، بل يفضحكم للمؤمنين ويبين لهم باطلكم . وكذلك هنا تأتي "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" أي أنه لن يشفع لكم نسبكم، وانتسابكم لهؤلاء الصالحين في تحديد مآلكم ومصيركم، فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، فأعمالكم هي محصلتكم وهي التي ستلقون بها الله ولا شيء غير ذلك .

إذن فقد جاء في هذا الجزء(139-141) تفصيل لما جاء في (135-138)، وهو خاص بالمؤمنين المعاصرين للبعثة المحمدية، يبين الله لهم باطل أهل الكتاب، ويكشف لهم زيف ادعاءاتهم، ويزودهم بالعلم الصحيح بشأنهم، وأنّ العقيدة هي الرحم التي خرجوا منها هُم ومن سبقهم من المسلمين سواء...وهذا هو الامتداد بين السلف والخلف من المسلمين.

3- الآيات من 142 إلى 153 من قوله تعالى : "سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(142)" إلى قوله : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(153)".

هذا القطاع فيه أيضا الحديث عن أمر بالغ الأهمية تُوجّه له الفئة المؤمنة المعاصرة للبعثة المحمدية، امتداد المسلمين الأوائل، سلالة الإبراهيمية الحنيفية، وكما عرفنا من البداية، ذُكر البيت الحرام أول ذكر سيدنا إبراهيم ووفائه بعهد الله، ورفعه لقواعده وابنه إسماعيل، وجعل الله له مثابة وأمنا، وجعل مقام إبراهيم فيه مصلّى، كذلك يأتي هنا الحديث عن البيت الحرام، عن أمر الله نبيه أن يصبح هو القبلة بدل المسجد الأقصى الذي صلى له رسول الله صلى الله عليه وسلم زهاء ستة عشر شهرا من يوم حلوله بالمدينة المنورة، ولما حوّل الله القبلة، حصل لبعض الناس من المنافقين و الكفار واليهود ارتياب، فقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟  وقال كفار قريش، تحيّر على محمد دينه، فاستقبل قبلتكم، وعلم أنكم أهدى منه، وقالت اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه، وهو يريد أن يرضي قومه، ولو ثبت على قبلتنا، لرجونا أن يكون هو النبي الذي كنا ننتظر أن يأتي، فأنزل الله تعالى جوابا على كل فرقة منهم، فقال في المنافقين: "سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(142)"-البقرة-، وأنزل في اليهود: " وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ(145)" -البقرة-، فهم يعرفون حقّ المعرفة مما جاءهم في التوراة أن قبلة النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل هي قبَلَ الكعبة، ولكنهم ينكرونه. كما أنزل في كفار قريش: "...لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(150)" -البقرة-
وهكذا جاءت هذه الآيات بيّنات بخصوص أمر القبلة وما كان من أقوال في تحويل المسلمين إليها، وما كان هذا التحويل إلا امتحانا ليُعلم به من يثبت ويتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وجاءت إبطالا لوساوس اليهود وإرجافهم في أوساط المؤمنين يريدون تشكيكهم بأمر دينهم...
وهي القبلة التي عرفنا علاقة إبراهيم عليه السلام بها، كما عرفنا بعدها توجيه المسلمين إليها، مصداقا لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يرفعان القواعد "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ(129)"، فكانت نهاية هذه الآيات قوله تعالى : " كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ  تعْلَمُونَ(151)" وهكذا كانت الربط بين دعاء إبراهيم، واستجابة الله تعالى له ببعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يتلو على المؤمنين الكتاب، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة كما دعا عليه السلام.

ومحمد ثابت على حنيفية إبراهيم، جاء بالحق فيه وفي غيره من الأنبياء الذين ادعى فيهم أهل الكتاب الأباطيل ...

ثم تأتي الآية 153 " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" على نحو ما عرفنا عن حسن التخلّص للربط بين موضوع وموضوع آخر، تأتي همزة وصل بين ما عرفنا عن المسلمين الأوائل منهم والجُدد، وبين قطاع مقبل جديد، فهي هنا دعوة من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يستعينوا بالصبر والصلاة على الثبات على دين الله، الإسلام، وعلى الثبات على ما أمر الله به، من ضرورة السير على الدرب الذي بدأه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكذا الاستعانة بالصبر والصلاة على الثبات رغم ما يحاوله أهل الكتاب والمرجفون لتشكيك المؤمنين بدينهم، وهم في كل زمان ومكان موجودون ساعون سعيهم الخبيث ... وكذا لتكون واصلة لهذا القطاع من الآيات بالآيات المقبلة وهي التي تتحدث عن أمر وجب له الصبر، إنه الابتلاء ...

نكون بهذا إذن قد عرفنا من 124 إلى 153 الحديث عن أوائل المسلمين، وامتداد الإسلام فيمن بعدهم من المعاصرين للبعثة المحمدية . وهم النموذج الناجح في الاستخلاف، المناط به مسؤولية هداية الأرض، وذلك بعدما عرفنا النموذج الفاشل في بني إسرائيل.


ونلتقي لاحقا بإذن الله لنضع الخطوة الجديدة التي خطوناها مع الخطوات السابقة، ولنكمل مع باقي آيات السورة خطوة خطوة ....
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #24 في: 2015-03-19, 11:45:25 »
والآن بعد أن عرفنا كيف كان بنو إسرائيل النموذج الفاشل في الخلافة، جاء دور تعريفنا بالنموذج الناجح فيها، والذي عرفناه في حديثنا الأخير، فنحاول أن نضيف الخطوة الجديدة إلى الخطوات السابقة وهي : "الحنيفية الإبراهيمية أصل الرسالة المحمدية وإبراهيم والمواصلون على الدرب من بعده النموذج الناجح في الخلافة (124-153) "


فبيّن له الله منبع الهُدى:

وإن الناس أصناف في تلقيهم له:
ولكن الله يدعوهم جميعا(كل الأصناف)
وحتى تحقّق عبادة الله يجب أن تعرف:
ولكن تجنّب المانع من نفاذ هُداه إلى قلبك:
تعرّف على الغاية من وجودك:
ولتتعلم،هذا النموذج الفاشل من نماذج الاستخلاف
ولتتعلم، هذا النموذج الناجح من نماذج الاستخلاف
« آخر تحرير: 2015-03-24, 09:58:41 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #25 في: 2015-03-19, 16:18:25 »
والآن بعدما عرفنا قصة الخلق، وعرفنا الغاية من خلقنا وهي الاستخلاف في الأرض لتحقيق أمر الله فيها، وتطبيق منهجه وإعلاء كلمته، لا وفقا لأهواء البشر وما تتواضع عليه عقولهم، بل وِفق المنهج الإلهي الرباني الذي يتعهد الله به عباده عبر أنبيائه المصطَفَين، فمن اتبع هداه لا يخف ولا يحزن، ومن يعرض عنه فمأواه النار خالدا فيها، وبعدها عرّفنا الله تعالى بنموذج الاستخلاف الفاشل ممثلا في بني إسرائيل ناقضي العهود، المكذّبين المستهزئين بأمر الله، ثم عرّفنا بالنموذج الناجح في الاستخلاف، سيدنا إبراهيم وبنيه الصالحين من بعده الثابتين على العهد كما ثبت، الموفّين كما وفّى، ممتدا عهده إلى الرسالة المحمدية والدعوة المحمدية التي أنشأت جيل المؤمنين الوارثين للعهد الإبراهيمي الحنيفي الثابتين على الإسلام دينا...

انتهينا بعد هذا إلى قوله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(153) "  هذه الآية التي بها كان حسن التخلّص انفصالا عن ذكر حال المسلمين القدامى منهم والمعاصرين للبعثة المحمدية، اتصالا بحديث جديد في آيات جديدة، تتمحور حول موضوع جديد يوجَّه إليه المؤمنون ويُعَلّمُونه،  لقد أمرنا الله تعالى بالتسلح بالصبر والصلاة، الصبر على ما يلحق المؤمنين من أذى أهل الكتاب، ومن تشكيكاتهم التي لا ينفكون يبثونها في نفوس المؤمنين، -وعرفنا من ذلك تشكيكهم بأمر القبلة- الصبر في سبيل هذه الدعوة النقيّة الصفيّة، في سبيل هذا الهدى وهذا الرَّشَد الذي أراده ربنا بعباده، وليكون أيضا الدعوة للصبر على موضوع ما هو آت من آيات: الابتلاء

سنعالج بإذن الله تعالى آيات جديدة، موجهة للفئة المؤمنة، تعليما جديدا لهم، وذلك في قطاع من الآيات يمتد من 154 إلى 163.

وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ(154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ(156) أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ(158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ(159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(161) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ(162) وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ(163)

لقد ناسب أيما مناسبة مجيئ دعوته سبحانه وتعالى للاستعانة بالصبر والصلاة قبل هذه الآية الأولى،  التي فيها الحديث عن الموت في سبيل الله، وأنّ الميت في سبيل الله حيّ على خلاف ما يعتقد الناس من ظاهر الأمر، حيّ عند ربه يرزق، إنها أول الحديث عن الموت في سبيل الله في القرآن كله، أول آية تقابلك، فيها الحديث عن هذا الأمر منذ بدأت مع الفاتحة انتقالا إلى البقرة، إنه الموت في سبيل الله ، الجود بالنفس في سبيله، أقصى ما يقدمه المؤمن في سبيل دينه، كان أقصى ما يستطيع تقديمه هو الأول ذكرا في سلسلة الابتلاءات التي يأتي الحديث عنها في الآية الموالية، يأتي بعدها الحديث عن الابتلاء، "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155)"...

هذا هو التعليم الجديد لك أيها المؤمن، من بعد ما عرفت نموذج الاستخلاف الفاشل في بني إسرائيل، ومن بعد ما عرفت نموذج الاستخلاف الناجح في إبراهيم عليه السلام ومَن بعده من الثابتين على دربه من بنيه، وممن جاء بعدهم يدعو بدعوة الحق، بالإسلام...
جاء الحديث الآن عن الابتلاء، إنك ستُبتلى أيها المؤمن، إنك لن تعيش في هذه الدنيا سالما من الابتلاء، وإنما قد جعلت الدنيا أصلا دار ابتلاء "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)"-العنكبوت-

بمَ يذكرنا الحديث عن الابتلاء، وقد عرفْنا قريبا عن سيدنا إبراهيم ؟

إنه يذكرنا بقوله تعالى في أول آية ابتدأنا بها قطاع الحديث عن قدامى المسلمين: "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ"...

نعم لقد ابتلاه ربه بكلمات، بأمره وبنهيه، امتحنه سبحانه بأوامره، فوجد عبده إبراهيم عليه السلام مطيعا، مسْلما له، موفّيا، متمّا، هكذا مع عهدنا القريب بإبراهيم عليه السلام الذي ما نجح في الاستخلاف وما كان المثال في الاستخلاف الناجح إلا لأنه وفّى، ونجح في الامتحان، واقتحم العقبة، وانصاع لأمر ربه مهما كان ثقيلا...

أيها المؤمن، إنك لم تسمع عن إبراهيم الذي وفّى لمجرد السماع، والاستمتاع، وإنما لتقتدي، لتجعله قدوة وقد عرفت أنك الإنسان الذي خلق ليُستخلَف....
فها أنتَ تُعلّم أنّك مُبتلى، بشيء من الخوف، والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات...
وها أنت تسمع البشرى مباشرة بعد هذه الكلمات "وبشر الصابرين"...
وها أنت قد هيّأك ربك ودعاك لتستعين على الابتلاء بالصبر وبالصلاة.
وها أنت تُدعى لتتعلم من القَصَص، ولتعلم أنها لا تُقصّ عليك للتاريخ والتثقيف والاستمتاع، أو للتأثر المؤقت الآنيّ، وإنما لتطبّق ولتتسلّح ولتتهيّأ ...

فأما قول الصابرين حقا فهو : "إنا لله وإنا إليه راجعون"، فأولئك يثني عليهم الله تعالى في ملأ عنده، وأولئك هم المفلحون ...

ولكن !!!!

ما سر قوله تعالى بعد هذا : "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ(158)" ؟  ما علاقتها بالابتلاء ؟ ما علاقتها بهذا السياق الذي نحن فيه ؟

لقد أحببت كثيرا الخوض في علاقة هذه الآية بسابقاتها ولاحقاتها، ولقد أطلت المكوث عندها أبحث عن سر وجودها في هذا السياق، وبحثت، وجعلت أتأمل، فهناك ما منّ به الله عليّ من تأملي، وهناك ما عرفته من قراءتي لما قاله فيها المفسرون والمتأملون ...وهناك ما لم يُشفِ غليلي في حديث كثير منهم

لذلك سأحاول أن أوثّق أكثر ما وقع من قلبي موقع الاقتناع والرسوخ:

هذه الآية تذكّرنا بهاجر وإسماعيل ابنها عليه السلام، إنها تذكرنا بصبر هاجر، وبثبات هاجر، وبالابتلاء الذي ابتُليَتْه، تذكرّنا بالابتلاء الذي ابتُليَه إبراهيم عليه السلام في أهله، تذكرنا بالكلمات التي أمره الله بهنّ فأتمهنّ في أقرب المقربين إليه، وهو الذي لم يرَ الولد إلا وقد بعدت به عنه الشقّة، من بعد ما صار شيخا كبيرا... إنه الولد الأول الذي يُرزَقُه ... إن الله يأمره أن يرحل بزوجه وابنه إلى واد غير ذي زرع...!! أليس هذا من أعظم الابتلاء ؟

ألم تُبتلَ  هاجر وقد تركها ورضيعها وحيدَيْن في واد غير ذي زرع، لا قطرة ماء فيه وذهب عنهما ؟
ألم يأتمر إبراهيم بأمر الله وأخذهما إلى حيث أُمِر ؟ ألم ترضَ هاجر لمّا علمت أن الله هو الذي أمر إبراهيم أن يتركها ورضيعها ويرحل عنها ولا أنيس لها ولا رفيق ولا أكل ولا شراب ؟ بلى لقد رضيت

إذن كيف لنا أن نستغرب موضع هذه الآية العظيمة؟ كيف لنا أن نراها غريبة عن السياق ؟ كيف لنا أن نستصعب تذكّر موقعها عند حفظ الآيات إذ لا يبقى في أذهاننا ما يساعدنا على استحضارها وهي منقطعة عن السياق ؟!

إنها ليست المنقطعة والمنبتّة عن السياق، بل إنها لَمِن أكثر الآيات مواءمة لمكانها من الآيات ....
هذا ما تذكّرته واستحضرته بصورة الصفا والمروة، فوجدت العلاقة عظيمة بين الآيات وما سبقها، إضافة إلى ما سمعت أحدهم يلقيه في محاضرة جاء فيها على موقع "إن الصفا والمروة من شعائر الله..." فجعل يعدّد أنّ هاجر ورضيعها عانيا الجوع، وعانيا نقص الثمرات، وعانيا الخوف، وعانيا نقصا من الأنفس في رحيل إبراهيم عنهما، ولكنها لما كانت من الصابرين، سقاها الله ورضيعها بزمزم، وأرسل لها الله الرفقة من جرهم تعيش معها على تلك الأرض ويترعرع بينهم ابنها، ويكبر، وتعمر مكة بالناس، ويرزقها الله من الثمرات ....

كذلك لا أحب أن أنسى السبب الذي يروى في الصحيح أنه لنزول الآية، وهو وما نتأمل لا يتعارضان، إذ ذاك سبب النزول، والقرآن بوسعه وزَخره بالمعاني والمرامي وجوامع الكلم لا يَؤُدُه أن يحملها كلها، ذلك مما يروى عن عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري أن ابن أختها عروة بن الزبير رضي الله عنه سألها عن الآية فأخبرته أنها أُنْزِلَتْ في الأنصارِ ، كانواْ قبلَ أن يُسلمُواْ ، يُهِلُّونَ لمَنَاةَ الطاغيةَ ، التي كانواْ يعبدونها عندَ المشلَلِ ، فكان من أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أن يطوفَ بالصَّفا والمروةِ ، فلمَّا أسلموا، سألوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن ذلكَ ، قالوا : يا رسولَ اللهِ ، إنَّا كُنَّا نتحرَّجُ أن نطوفَ بينَ الصَّفا والمروةِ ، فأنزَلَ اللهُ تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ }، ثم ما أضافه له أبو بكر بن عبد الرحمن أنَّ الناسَ ، إلَّا من ذَكَرَتْ عائشةُ ممَّن كان يُهِلُّ بمناةَ ، كانوا يطوفونَ كلُّهم بالصَّفا والمروةِ ، فلمَّا ذكرَ اللهُ تعالى الطوافَ بالبيتِ ، ولم يذكُرْ الصَّفا والمروةَ في القرآنِ ، قالواْ : يا رسولَ اللهِ ، كُنَّا نطوفُ بالصَّفا والمروةِ ، وإنَّ اللهَ أنزَلَ الطوافَ بالبيتِ فلم يذكُرْ الصَّفا ، فهل علينا من حَرَجٍ أن نطوفَ بالصَّفا والمروةِ ، فأنزلَ اللهُ تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ }...
وأن الآية نزلت في الفريقَيْن ...

فكان مع هذا السبب الثابت في الصحيح، هذا الموقع المميز الرائع للآية إعجازا من إعجاز القرآن الكريم في الملاءمة والمواءمة، والمناسبة أتمّ المناسبة ....

ثم لا أحبّ أن أفوّت توثيق ما قرأته للفخر الرازي في هذه الآية، والذي أعجبت به أيما إعجاب :


المسألة الأولى : اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجوه :

أحدها : أن الله تعالى بين أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة ليتم إنعامه على محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته بإحياء شرائع إبراهيم ودينه على ما قال : ( ولأتم نعمتي عليكم ) وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم على ما ذكر في قصة بناء الكعبة وسعي هاجر بين الجبلين ، فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية .

وثانيها : أنه تعالى لما قال : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ) إلى قوله : ( وبشر الصابرين ) قال : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) وإنما جعلهما كذلك ؛ لأنهما من آثار هاجر وإسماعيل مما جرى عليهما من البلوى ، واستدلوا بذلك على أن من صبر على البلوى لا بد وأن يصل إلى أعظم الدرجات وأعلى المقامات .

وثالثها : أن أقسام تكليف الله تعالى ثلاثة :

أحدها : ما يحكم العقل بحسنه في أول الأمر فذكر هذا القسم أولا وهو قوله : ( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ) [ البقرة : 152 ] فإن كل عاقل يعلم أن ذكر المنعم بالمدح والثناء والمواظبة على شكره أمر مستحسن في العقول .

وثانيها : ما يحكم العقل بقبحه في أول الأمر إلا أنه بسبب ورود الشرع به يسلم حسنه ، وذلك مثل إنزال الآلام والفقر والمحن ، فإن ذلك كالمستقبح في العقول ؛ لأن الله تعالى لا ينتفع به ويتألم العبد منه ، فكان ذلك كالمستقبح إلا أن الشرع لما ورد به وبين الحكمة فيه ، وهي الابتلاء والامتحان على ما قال : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ) فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصوابا .

وثالثها : الأمر الذي لا يهتدى لا إلى حسنه ولا إلى قبحه ، بل يراه كالعبث الخالي عن [ ص: 143 ] المنفعة والمضرة وهو مثل أفعال الحج من السعي بين الصفا والمروة ، فذكر الله تعالى هذا القسم عقيب القسمين الأولين ليكون قد نبه على جميع أقسام تكاليفه وذاكرا لكلها على سبيل الاستيفاء والاستقصاء ، والله أعلم .


أما غير هذه الأقوال في هذه الآية من المفسرين، فهو أنها جاءت مناسبة لذكر الصبر والابتلاء، وأن الحج وأعماله مما فيه مشقّة وعناء، يستدعيان الصبر والمجاهدة، وهذا أيضا له موقع، حتى نرى في هذه الآية مثالا لحمل أوجه كثيرة، وكلها مستساغ، ويصبّ في السياق، ولكنّ أقواها -والله أعلم- التذكير بالابتلاء الذي ابتُليه إبراهيم وزوجه هاجر .

يأتي بعدها قوله تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ(159)"

إن بني إسرائيل عُرفوا بكتمهم للبينات والهدى، إنّ هذه الآية ذات علاقة بما قبلها، بكتم بني إسرائيل لكون إبراهيم عليه السلام حنيفا مسلما، بنو إسرائيل حرفوا وبدلوا الكثير، فهم مثلا لا يعترفون بنبوّة إسماعيل عليه السلام، وهم لا يذكرون هذه القصة لإسماعيل مع أمه هاجر، بل إن ما يوجد في توراتهم المحرّفة هو أنه كبر في بيت أبيه، ثم لما بلغ الرابعة عشر أو السادسة عشر أغضب سارة، فأمرت إبراهيم بطرده وأمه، فانصاع إبراهيم لأمر سارة فيهما وطردهما، ولا يوجد ذكر لقصة أخذ إبراهيم لهما لواد غير ذي زرع بأمر من الله، ولا يوجد ذكر لقصة الصفا والمروة وسعيها بينهما لأجله، فيوافق أن يختصّ بذكر كتمهم للبينات هذا الأمر تحديدا، أو أنه واحد من الكثير الذي كتموه . ولا تخفى علاقة إسماعيل تحديدا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم إذ ينكرون نبوته فهو لإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فيبين الله تعالى لعن الله لهؤلاء الكاتمين للحق ولعن اللاعنين لهم، مستثنيا التائبين منهم والمبيّنين لما كتموا، أما من مات كافرا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وكتم الحق كفر، وإنكار نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر... 

**ويناسب ويتعلق كل التعلق، ويرتبط كل الارتباط أن يأتي ذكر وحدانية الله تعالى بعد ذكر عاقبة من يموت على الكفر "وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ(163)"

كما أن هذه الآية تعد مفصليّة، إذ هي تأتي متعلقة بما سبقها، بتبيان وحدانية الله تعالى، من بعد ذكر كفر الكافرين، كما أنها تكون مقدمة لما هو آت من آيات .

وبهذا نضع خطوة جديدة وهي: الابتلاء سنّة في المؤمنين والصبر عليه مفتاح الترقية الربانية

« آخر تحرير: 2015-03-19, 16:38:58 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #26 في: 2015-03-20, 04:16:39 »
أما الآن فإلى قطاع جديد من الآيات، ومقصد جديد فيه، وكنا قد انتهينا إلى قوله تعالى : "وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ(163)" وهي الآية التي قلنا أنها تفصل وتصل، تفصل بين ما سبق وعرفنا عن الابتلاء الذي يعترض طريق المؤمن، وأن الصبر مفتاحه لترقية الله سبحانه له في سلم الإيمان والقرب، ولقد جاءت "الرحمن الرحيم" تلقي بظلال الرحمة العظيمة من المولى عز وجل على المبتلين، ثم ننتقل بها إلى آيات جديدة من 164 إلى 177

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(164) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ(166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ(167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ(170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ(171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(174) أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ(175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(176) لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(177)

1-بدأت بقوله تعالى : "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(164)" وفيها تفصيل للآية السابقة لها، هذه من أفعال الإله الواحد الرحمن الرحيم، ولننظر فإذا كل أفعاله هذه رحمة في رحمة، فناسبت ظلال الصفتَين ما لحق كما ناسبت ما سبق ...

ولعبد الله دراز قول جميل جدا في موقع هاتين الآيتين من الآيات في سياق ما سبق وما لحق، يقول:

لقد جاءت هذه الخطوة في أشد أوقات الحاجة إليها بين سابقها ولاحقها، فإن ما مضى من تعظيم أمر الكعبة والمقام والصفا المروة كان من شأنه أن يلقي في روع الحديث العهد بالإسلام معنى من معاني الوثنية الأولى في تعظيم الأحجار والمواد،
ولا سيما وهذه الأماكن المقدسة كانت يومئذ مباءة للأصنام والأنصاب من حولها ومن فوقها؛ فوجب ألا يترك هذا التعظيم دون تحديد وتقييد، وألا نترك هذه الخلجات النفسية دون دفع وإبعاد، حتى لا يبقى شك في أن قيام المصلين عند مقام إبراهيم وتوجيه وجوههم نحو الكعبة، وتمسح الطائفتين بأركانها، وطواف الحجاج والمعتمرين بين الصفا والمروة، كل أولئك لا يقصد به الإسلام توجيه القلوب إلى هذه الأحجار والآثار؛ تزلفًا بعبادتها أو رجاء لرحمتها أو طلبًا لشفاعتها، وإنما يقصد تعظيم الإله الحق وامتثال أمره بعبادته في مواطن رحمته ومظان بركته التي تنزلت فيها على عباده الصالحين من قبل، ثم تجديد ذكرى أولئك الصالحين في النفوس، وتمكين محبتهم في القلوب، باقتفاء آثارهم، والتأسي بحركاتهم وسكناتهم، حتى يتصل حاضر الأمة بماضيها، وحتى تنتظم منها أمة واحدة تدور حول محور واحد، وتتجه إلى مقصد واحد هو أعلى المقاصد وأسماها {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أتدرون من هو ...؟ إنه ليس الكعبة وليس الصفا والمروة، ليس إبراهيم ولا مقام إبراهيم، ولكنه {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} الذي وسع كل شيء رحمة ونعمة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ........... لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} والذي بيده القوة كلها والبأس كله: لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} . هذا من جانب المقصد الذي وقع الفراغ منه.
وأما من جانب المقصد الذي أقبلنا عليه فإن هذه الخطوة كانت أساسًا وتقدمة لا بد منها قبل الشروع في تفصيل الأحكام العملية، لتكون توجيهًا للأنظار إلى الناحية التي ينبغي أن يتلقى منها الخطاب في شأن تلك الأحكام. ذلك أن المرء إذا عرف له سيدًا واحدًا وأسلم وجهه إليه وجب ألا يصدر إلا عن أمره ولا يأخذ التشريع إلا من يده. ومن كانت له أرباب متفرقون، وتنازعت فيه شركاء متشاكسون تقاضاه كل واحد منهم نصيبه من طاعته، وكثرت عليه مصادر الأمر المطاع. فأمر للآباء والعشيرة، وأمر للعرف والعوائد الموروثة والمستحدثة، وأمر للسادة والكبراء، وأمر للشياطين والأهواء .. ولذلك عززها بالخطوة الثانية.



وبهذا تكون هاتان الآيتان تقريرا لوحدة الخالق سبحانه، وإنهما ذاتا شبه كبير جدا بآيتين عرفناهما من سورة البقرة، هما من أولى الآيات فيها، وهما قوله تعالى : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(22)"

فهذه دعوة لعبادة الخالق سبحانه، والتي نحن بصددها أيضا دعوة لعبادته ولكن بشكل أكثر تفصيلا، نعرفه في الآيات الأخرى من قطاعنا هذا، ولنتأمل حتى نهاية هاتين الآيتين اللتان كانتا من أوائل البقرة "فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون"، لنرى تشابهها مع ما سيبدأ من تفصيل في باقي آيات هذا القطاع وهو الذي بدأ بقوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(165)"

2- من الآية 165 "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(165)" يبدأ تفصيل متعلق كل التعلق بالآية السابقة، وهو عن اتخاذ الأنداد من دون الله، وعن اتباع أوامر الأنداد من دون الله، فإذا تأملنا في سياق الآيات رأينا تكرر فعل "اتبع" ستّ مرات،

**فحديث عن اتباع تابع لمتبوع، وخسار كل منهما يوم القيامة وهم ذُهول من أمر الله، متبرئ كل واحد من الآخر.(166-167)
** ثم يعقبها سبحانه بأمر كل الناس بالأكل من الحلال الطيب وألا يتبعوا خطوات الشيطان الذي يأمر بالفحشاء والمنكر وبقول ما لا يعلمون في الله تعالى حينما يجعلهم لا يقدّرونه حق قدره.(168-169)
** ثم حديث عمّن تعلل في عدم اتباعه لما أنزل الله بأنه متبع لآبائه، وإن كان آباؤه بما اتبعوا لا عاقلين ولا مهتدين(170)، ويأتي نفي العقل هنا مع نفي الهداية في إشارة رائعة أن العقل السليم يهتدي لله تعالى، والذي يحجب عقله لا يهتدي.

وهنا أحب أن أتأمل أمره سبحانه كل عباده بالأكل من الحلال الطيب، وهو هنا أمر لكل الناس، سبحانه كما بين لنا في الآيتين (20،21) أنه يأمر كل عباده بعبادته، ويهديهم جميعا لعبادته، كذلك هنا يأمر كل الناس بالأكل من الحلال الطيب الذي بينه الله لهم، وجاء هنا تخصيص الأمر بالأكل دون غيره من وجوه، أولها أن الله سبحانه وتعالى إذ وضع في الإنسان غريزة الجوع هذاه بها إلى مصلحة من أهم مصالحه وهي الأكل، وهنا موقع هدى المصلحة الذي أمد الله به كل عباده مؤمنهم وكافرهم، وهو أول الهدى الذي أودعه في كل نفس بشرية، ولذلك جاء هو الأمر الأول دون غيره، لأنها الحاجة الأولى لكل البشر، وجاءت فيها الدعوة لأكل الحلال الطيب، لأن الشيطان يترصد من هذه البدايات لتحريف الإنسان عن الصراط المستقيم إلى الهوى والضلال.

ثم يأتي ضرب مثل بالذين كفروا، الذين عدلوا عن أمر الله إلى أمر الأنداد، بالذي ينعق بما لا يسمع، أي أنه الذي لا يسمع هدى، ثم بين أوصافهم بأنهم الصم البكم العمي الذين لا يعقلون، فما من منفذ للهدى يبلغهم....

وهنا ينتهي السياق الذي فيه تكرار الاتباع، اتباع الأنداد، واتباع الشيطان، واتباع الآباء والذي يتقرر معه وبتفصيله وجوب اتباع أمر الله تعالى، فتتقرر وحدة الآمر بعدما تقررت وحدة الخالق سبحانه

2- ابتداء من هذه الآية:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(172)" يتوجّه بالأمر للمؤمنين، من بعد ما عرّفهم الله تعالى أنه الإله الواحد والخالق الواحد الذي يصدر عنه الأمر وتجب لأمره الطاعة، ويجب لما أنزل الاتباع، وأن ما عداه لا تجب لهم طاعة ولا اتباع، هذا الله الواحد الآمر سبحانه يتوجه للمؤمنين خاصة بأمر الأكل من طيبات ما رزقهم من بعد ما توجه بالأمر ذاته للناس عامة وهو الأمر الذي يشترك في تحصيله بهدى المصلحة المؤمن والكافر سواء، فنعرف في هذا التوجه الخاص للمؤمنين بالأمر بالأكل إردافا خاصا بهم، وهو قوله تعالى "وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ"، فالكافر لا يشكر الرزاق سبحانه على ما يرزقه من طعام، بينما المؤمن يمتاز عنه بالشكر لأنه العابد الموحد المؤمن...

وللننظر ونحن مع خطواتنا على درب الحياة والقرآن مشكاتنا بترتيب المصحف بدءا من الفاتحة إلى ما بلغنا حتى الآن، فإننا أنا وأنت أيها الإنسان من بعد ما عرفنا قصة خلقنا، والغاية من خلقنا، وعرّفنا الله بالنموذج الفاشل في الخلافة، ثم عرفنا بالنموذج الناجح فيها، ثم علّمنا أن الابتلاء سنة من سنن سبحانه في المؤمنين وأن الصبر عليه مفتاح لارتقائنا في درجات الإيمان والقرب، هذا سبحانه وقد علمّنا بعدها أنه الإله الواحد الآمر المطاع يوجهنا لأول أمر يحتاجه الإنسان في هذه الدنيا، ليقيم به صلبه، والذي يحتاجه الإنسان عامة مؤمنا كان أو كافرا، يجعل هذه الخطوة، إشباع غريزة الجوع خطوة مضبوطة بحدود هي الأخرى، نعم نلبي هذه الحاجة الطبيعية الملحة فينا، ولكن بطاعة وامتثال لأمر الله، فلا نأكل إلا ما أحل لنا، نأكل بطاعة، فلا نأكل إلا حلالا، ثم نتبع طاعتنا بشكر، وهكذا هو حال المؤمن، طاعة وشكر، وهكذا تبدأ خصوصية المؤمن المسلم من أول حاجة طبيعية له، من إشباعه لأهم غريزة فيه، يُمتحن بالأمر فيها، وهي التي تقيم صلبه ليمارس باقي مناحي حياته .

ثم تأتي الآية الموالية ليحصر فيها الله سبحانه وتعالى محرمات معدودات من الأكل، محرمات قليلة جدا قياسا إلى كل ما عداها، وكله حلال، بل إنّ المضطر الذي يشارف على الموت لمسموح له أن يأكل مما حرّم حفظا لنفسه، تكرّما من الله الغفور الرحيم، ولذلك كان "لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، وهذا وقعها في الرُّخَص التي تلقي بظلال الرحمة الإلهية العظيمة وارفةً في كل موقع.

ثم لنتأمل ما بعدها (174-177)، بدءا بتبيينه سبحانه أن من كتم ما أنزل الله من الكتاب لقاء أكل عرض من الدنيا قليل إنما يأكل في بطنه نارا، فإذا المقابلة بين الحديث عن الأكل بأكل النارفي البطون  بهذا السحت الحرام الذي يبيعون به الحق لقاء الباطل،"إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ " إنهم قد كتموا هذا الذي أمر الله تعالى أن يُطاع، ما أنزل سبحانه، إنهم يكتمون أمر الله ويضعون أمر أهوائهم ليتبعهم الناس من دون الله، ليتخذهم الناس أندادا من دون الله كما عرفنا، فلا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، وإن الله سبحانه قد نزّل كتبه بالحق، ولكن الباطل من شقاق اختلاف المنزَلة عليهم كتبه، من شقاق أهل الكتاب، وبعدهم عن جادة الحق إلى باطل أهوائهم وطريق الشيطان الرجيم.

ثم تأتي الآية الخاتمة لهذا القطاع وهي ذاتها الفاتحة لقطاع جديد بحسن التخلص الذي عرفناه، إنها الآية 177، آية البر:  "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(177)"

فإذا تأملنا عرفنا أن مستهلّها فيه إشارة إلى القبلة التي كان عنها الحديث المسهب في آيات سابقة، وأنّ البر بمعنى مجامع الخير لا يقتصر على توجيه الوجه قبل مشرق أو مغرب، بل البر أوسع من ذلك، ليس الدين حركات وتوجيه وجوه، وإنما هو اعتقاد في القلب وأفعال تجملها هذه الآية، وهي تبدأ بذكر أركان الإيمان، متبوعة بأفعال بالغة الأهمية وسامقة المكانة في التزكية والتطهير، منها ما هو فرض مفروض كالصلاة والزكاة، ومنها ما هو زكاةللنفوس وتحرير لها من ربقة الدنيا، الإنفاق، والوفاء بالعهد، والصبر في وجوه ثلاثة في البأساء أي الفقر، والضراء أي عند المصيبة، وعند البأس أي عند لقاء العدو، ومن كان هذا بره كان من الصادقين، وكان من المتقين...
فإذا كل هذا أيها الإنسان الماشي على درب الحياة المستهدي بنور القرآن، حمل لك على الترقي في درجات الإيمان، ولمعرفة الغاية من وجودك في هذه الدنيا، وجودا ببر، بخير، لأجل الخير، بل لأجل مجامع الخير كلها، وبالخير ... هكذا هو وجود المسلم وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المؤمن كالغيث أينما وقع نفع"

وللدراز كلام جميل في هذه الآية، أورده :

1- انظر إلى حسن التخلص في ربطه بين المقصد القديم، والمقصد الجديد على وجه؛ به يتصلان لفظًا، وبه ينفصلان حكمًا .. فهو في جمعها لفظًا كأنه يضع إحدى قدميك عند آخر الماضي، وثانيتهما عند أول المستقبل. ولكنه في تفريقها حكمًا بأداتي النفي والاستدراك كأنما يحول قدميك جميعًا إلى الأمام: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ ....} .
يقول: إن مسألة تعيين الأماكن والجهات في مظاهر العبادات -تلك المسألة التي أشغلت بال المخالفين والمؤالفين نقدًا وردًّا- ليست هي كل ما يطلب الاشتغال به من أمر البر، بل هي شعبة واحدة من جملة الشعب التي تشتمل عليها خصلة واحدة من جملة خصاله، وإنما البر كلمة جامعة لخصال الخير كلها؛ نظرية وعملية، في معاملة المخلوق، وعبادة الخالق، وتزكية الأخلاق، فبتلك الخصال جميعها فليشغل المؤمنون المصادقون.
2- ثم انظر إليه حين أقدم على تفصيل تلك الخصال كيف أنه لم يقبل عليها دفعة واحدة، بل يتدرج إليها في رفق ولين، فتقدم بكلمة فوق الإجمال ودون التفصيل هي بمثابة فهرس لقواعد الإيمان ولشرائع الإسلام {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} .
3- وانظر إلى سرد قواعد الإيمان هنا كيف عدل بها عن ترتيبها المطبوع الذي راعاه في صدر السورة غير مرة، فتراه هنا يجمع بين الطرفين "الإيمان بالله واليوم الآخر" وختم بالواسطة "الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين"؛ ذلك لأن من هذه الوسائط تعرف الأحكام الشرعية، وعن يدها تؤخذ، فأخرها لتتصل بها تلك الأحكام؛ حتى لا يحول بين الأصل وفرعه حائل؛ ولذلك راعى ترتيب أركان هذه الواسطة فيما بينها. فصدر بالملائكة وهم حملة الوحي، وثنى بالكتاب وهو الوحي المحمول، وثلث بالنبيين وهم مهبط الوحي. ومن هنا اتصل ببيان تلك الشرائع التي وصلت إلينا عن طريق النبوة.

« آخر تحرير: 2015-03-24, 09:28:35 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل ماما هادية

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 15901
  • الجنس: أنثى
  • احفظ الله يحفظك
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #27 في: 2015-03-23, 12:12:39 »
جزاك الله خيرا يا اسماء على هذا الجهد الكبير والمتميز
فكرة البطاقات الملخصة للافكار المحورية فكرة رائعة ومتميزة
لم يتح لي الوقت الكافي لقراءة كل ماتكتبين ولكني تابعت البطاقات وأعجبت بها وعرفت اين وصلت
جزاك الله خيرا وفتح عليك فتوح العارفين واجرى الخير على يديك
*رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ*

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #28 في: 2015-03-24, 09:21:25 »
جزاك الله كل خير يا هادية، وبارك فيك، ولك بالمثل، وإنّ قرآننا العظيم لبحر زاخر لا تنفد مياهه، ولا كنوزه، ولا خباياه النفيسة، وكلما قال قائل أنه استخرج منه لآلئ عرف بعد حين أنّه ما نال منه إلا النزر اليسير اليسير .فنسأل الله أن يرزقنا تدبّره وفهمه، ويلقي على قلوبنا وعقولنا من أنواره ما أحيانا .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #29 في: 2015-03-24, 09:58:46 »
والآن نحاول مجددا، وكعادتنا وضع تجميع خطواتنا الت سلكنا على بركة الله وصولا إلى آخر خطوة أنهيناها :


فبيّن له الله منبع الهُدى:

وإن الناس أصناف في تلقيهم له:
ولكن الله يدعوهم جميعا(كل الأصناف)
وحتى تحقّق عبادة الله يجب أن تعرف:
ولكن تجنّب المانع من نفاذ هُداه إلى قلبك:
تعرّف على الغاية من وجودك:
ولتتعلم،هذا النموذج الفاشل من نماذج الاستخلاف
ولتتعلم، هذا النموذج الناجح من نماذج الاستخلاف
وإن لله سنّة في المؤمنين:
تعرّف إلى منزل المنهج قبل المنهج:
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #30 في: 2015-03-24, 10:46:48 »
والآن... إننا بفضل الله تعالى وعونه، قد بلغنا مبلغا من سورة البقرة، وإني أحب أن أذكر نفسي وإياكم بصفة رأينا أنّها الصفة الأليق بهذه السورة، بهذه المنزلة من منازل القرآن، ومن منازلنا على طريق الحياة، لقد قلنا آنفا أنها سورة المنهج ...

**والمنهج هو : "فإما يأتينّكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"
**والمنهج هو : "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين".

**المنهج هو : "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"...
إنه عمود الاستخلاف، إنه الهدى، إنه المشكاة المنيرة في درب الحياة، إنه القانون السماوي الذي يسيّر البشر، ولا مجال لأي قانون غيره أن يحلّ محله، فهو من صنع خالق البشر، مستخلفهم في الأرض، العالم بنوازع الخير والشر في أنفسهم...

ولكن قبل أن نعرف المنهج، عرفنا أمورا هيأتنا لتقّبل الأمر من الآمر، عرفنا مقدمات تسبق التلقّي، عرفنا من نكون، عرفنا أصلنا، عرفنا الغاية من إيجادنا، عرفنا هادينا كما عرفنا عدونا، عرفنا من فشل في الاستخلاف لنأخذ من فشلهم الدروس التي تجعلنا نتقي الفشل، وعرفنا الناجحين لنأخذ الدروس التي تأخذنا في درب النجاح والفلاح، وبعد ذلك كله، عرفنا مصدر الأمر فينا، ومن علينا اتباعه مع كثرة المريدين للأمر والنهي وأن يتبعهم الناس، عرفنا أن إلهنا واحد، هو هو خالقنا، هو هو آمرنا الذي تجب له الطاعة، ولا اتباع لغير أمره...

عرفنا أنه ابتدأنا بأول أمر في أول ما يقيم لنا الحياة، في مطعمنا، حتى لايشتدّ لنا عود يخوّلنا للائتمار والانتهاء وهو الذي أقيم من أمر آمر آخر، فكأنه سبحانه يعلّمنا أن المبتدأ منه والمنتهى إليه، وهو كذلك... فلا يستقيم أن نَطعَم طعاما ونشرب شرابا تسوّغه لنا الأهواء، أو تسوّغه لنا المواريث المغلوطة، أو يسوّغه لنا الشيطان، ثم نحب أن تكون باقي حياتنا تبعا لأمر الله، فوجب أن يكون المطعم أولا من أمر الله، وبما أحل الله، مطعما حلالا طيبا، يفتح الباب لكل حلال طيب...

ثمّ كان في الآية 177 "ليس البرّ....." تبيين عام، وإشارة شاملة إلى معنى ما هو آت، إلى معنى المنهج الذي سيقيم الخلافة في الأرض، منهج الله تعالى، أمره في عباده المؤمنين، وأمره سبحانه هو الذي يحقق البرّ، والبرّ جوامع الخير، منهجه سبحانه وأمره لا يحقق في الأرض إلا خيرا، وليس البرّ تولية وجه قبل المشرق أو المغرب-من مثل ما أثار أهل الكتاب في مسألة تحويل القبلة-، ليس البرّ هذا، ليس طقوسا مجردة عن العمل في الأرض، بل هو حياة متكاملة، متسقة الجوانب، فيها إيمان القلب والاعتقاد، وفيها العمل على السواء، فلا يقوم عمل صالح بغير اعتقاد سليم، ولا يقوم الاعتقاد وحده بغير أثر على الأرض...

هكذا في هذه الآية العظيمة الدقيقة التي تنقلنا نقلا إلى منهج الله، إلى تشريعاته، إنها تنقلنا من العقيدة إلى الشريعة ... إلى تشريعات الله لعباده المؤمنين، لقد انتهينا من سخافات بني إسرائيل، انتهينا من محاولاتهم البائسة في تشكيك المؤمنين بدينهم، إننا بهذه النقلة نعرف قوة هذا الدين، وأنه الذي لا يهزّه هازّ يعتقد مخطئا، مغرقا في الخطأ أنه بعصاه الهوائية المكسورة سيقارع منهج الخالق رب الخلق، الله الواحد الرحمن الرحيم ...

إنه سبحانه ينتقل بنا إلى ما لا تطفئه أفواه الحاقدين على هذا الدين، إلى ما أقر الله تعالى أنه متمّه من نور، إلى تشريعات الحياة ....

فجاءت الآية 177، آية البرّ، تحمل الإشارات التي سنرى تفاصيلها فيما هو آت من آيات ...

إنها النقلة من العقيدة، وتصحيح الاعتقاد، والتعريف بالمصدر الآمر الناهي، إلى الشريعة، إلى التشريع، إلى الأمر.... من الآمر إلى أمره ...

سنبدأ مع قطاع جديد، سيستغرق كل ما تقى من السورة تقريبا، وهو قطاع طويل يحتمل الوصف الذي وصفنا به السورة : "سورة المنهج"  سيمتدّ بإذن الله من الآية 178 إلى الآية 283، سنعرف فيه الأمر المباشر، والحكم الواضح،  وسنعرف فيه القَصص للعبرة، وسنعرف فيه الترغيب والترهيب، وسنعرف فيه الانتقال من موضوع في الحياة إلى موضوع آخر، ستتضح فيه المعالم، وسنعرف به كيف يتحقق الاستخلاف في الأرض، وكيف تكون العبادة منهج حياة ... إنها مجمل هذه الآيات التي سنأتي عليها بإيجاد الرابط، وبمعرفة مراميها خطوة إثر خطوة ونحن على درب الحياة....

تشريع حياة المؤمنين (المنهج)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ(180) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(181) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183) أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(187) وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(188) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(189) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ(190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ(191) فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ(193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(194) وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(195) وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ(197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ(198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(199) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ(200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(201) أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(202) وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(203) وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ(204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ(205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ(206) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ(207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(208) فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(209) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ(210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ(214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ(215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(220) وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(222) نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(223) وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(224) لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(225) لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(226) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ(228) الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(234) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ(235) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ(236) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(237) حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ(238) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ(239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ(241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ(243) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(244) مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(247) وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249) وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(251) تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ(252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ(253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ(254) اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(255) لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256) اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(257) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(260) مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(261) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(262) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ(263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(268) يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ(269) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ(270) إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(271) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ(272) لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ(273) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(275) يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ(279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(280) وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(281) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(282) وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(283)


نبدأ مع هذه الآيات في المداخلة اللاحقة بإذن الله .
« آخر تحرير: 2015-09-13, 13:47:09 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #31 في: 2015-03-24, 12:25:47 »
نأخذ هذا القطاع الخاص بتفاصيل المنهج قطعة قطعة، وإن الآية 177، آية البر" لها كبير علاقة بهذا القطاع المفصّل لما جاء فيها، وكما يقول عبد الله درّاز، فإنّ نشر هذا المُجمل في آية البر جاء في الآيات الموالية نشرا عكسيا للترتيب الذي جاء فيها، أي أنه بُدئ بتفصيل آخر ما جاء فيها، صعودا إلى ما قبله، فما قبله، إلى أول الآية ... فهذه الآيات الأولى مثلا -كما يقول- جاءت تتحدث عن الصبر حين البأس وهو آخر ما ذُكر في آية البر:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ(180) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(181) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(182)

فيقول دراز:


لا تحسبنه هنا صبرًا على الجروح والقروح في الحرب، فذلك معنى سلبي استسلامي؛ ولا تحسبنه صبرًا في البطش والفتك بالأعداء. فذلك جهد عملي إيجابي حقًّا. ولكن مرده إلى قوة العضل والعصب. لا إلى قوة الخلق والأدب "ليس الشديد بالصرعة، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب"1 .. هكذا سيختار الله لنا من مثل الصبر أمثلها، ومن موازينه أوزنها في معايير القيم، ذلك هو ضبط النفس حين البأس، كفًّا لها عن الاندفاع وراء باعثة الانتقام، وردعًا لها عن الإسراف في القتل. ووقوفًا بها عند حد التماثل والتكافؤ العادل "القصاص 178- 179": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
وإذ كان تداعي المعاني يسوقنا من الحديث عن القتلى إلى الحديث عمن هم بشرف الموت، ناسب تتميم الكلام ببيان ما يجب على المحتضر من الوصية لأقاربه برًّا بهم "الوصية 180- 182" {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .


وفيما قاله لطيفة جميلة جدا...
1-وأضيف عليها أنه سبحانه وتعالى عُني في هذه الآيات الأولى من التشريع(178-179)، بالقصاص لردع القاتل عن استسهال الدماء، وحتى يخاف من تسوّل له نفسه سفك الدماء لأتفه الأسباب، وكما عبر عنها المولى عز وجل: "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب"، من قوله هذا سبحانه، نستنتج أن هذا المنهج منهج يحافظ على الأرواح، يحفظ النفس البشرية من أن تصبح هدفا لكل مستهتر، مستسهل لإزهاق الأرواح، وهكذا تتجلى لنا في هذه الآيات الأولى من التشريع أولى وأهم مقاصد الشريعة "حفظ النفس"...

لقد حفظها الله سبحانه أولا في أول أمر منه عرفناه "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم"، فهو سبحانه الرازق الذي كما أطعم كل البشر من جوع، يطعم المؤمنين من جوع، وهو هنا يثنّيها سبحانه بحفظ حياته، وهو يؤمّنه من خوف، الخوف على نفسه، الخوف من ضياع نفسه، وإنه لا يقدّر رُزء هذا الحال أحد بقدر ما يقدّره من عاش في وسط كالوسط الجاهلي تقوم فيه الحروب لأتفه الأسباب، وتُسفك الدماء، وتزهق الأرواح لأجل أسباب واهية ليس لها أدنى قيمة أو معنى ...

إذن فهو سبحانه الذي يطعم من جوع ويؤمّن من خوف، هو سبحانه الذي يعلّمنا أن أولى مقاصد هذا المنهج، هذه الشريعة أن تُحفظ الأنفس.

2-ثم في ما تلاها من آيات (180-182) أمر بالوصيّة، أن يوصي الميت لمن بعده، وفي ذلك حفظ للمال، ولحق أصحاب الحق، والميراث مع الوصية زيادة في حفظ حق كل ذي حق، ولكننا هنا نقتصر على الوصية، فإذا هي بعد حفظ النفس، حفظ للمال، وهو ثاني مقصد من مقاصد الشريعة .

والإنسان مجبول على الخوف على ذهاب نفسه، وذهاب ماله، فهو سبحانه في هذه البدايات من المنهج الذي أنزله لك، يعلّمك أنه يحفظ نفسك، ويحفظ مالك، وقد سبق وذكر مقوما من مقومات حفظ النفس(المطعم)، ثم أعقبه بحكم القصاص للحفاظ على النفس أيضا وللتأمين من الخوف، ثم أعقبه بالتأمين من خوف ضياع المال.

فنستحضر مع مجمل هذه الآيات الأولى من التشريع (172 و178 و180) قوله تعالى : " فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ(3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ(4)"-قريش-

إنه سبحانه لم يبدأ بالتكليف والأمر والنهي، إلا وقد حفظ النفس، وحفظ المال، إنه سبحانه بحكمته العظيمة، لن يبدأك بالأمر، ومنهجه لم يوفر لك المطعم، ولم يؤمنك من الخوف على نفسك وعلى مالك، بل لقد حفظ لك نفسك بمنهجه، وحفظ لك به مالك ثم يليق بعدها أن يأمرك وينهاك .

فيا سالك الطريق، إنك قُبالة منهج لا تسبق فيه خطوة أخرى، لا يقفز بك على الطريق، بل يسير بك خطوة خطوة، بثبات، وباحترام للخطوات بديع، لا يكون إلا من خالقك، وخالق الأرض وما فيها لك .

دون أن ننسى قضية النشر والتفصيل العكسي لما أجمل في آية البر(177) التي أشار إليها عبد الله دراز.


ولنا بإذن الله تكملة




« آخر تحرير: 2015-04-05, 10:08:31 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #32 في: 2015-03-26, 11:57:29 »
والآن بإذن الله نكمل، وسأقوم بتصميم البطاقات المناسبة بعد قطع شوط جيد مع قطاعنا الجديد العريض (178-283)، والذي يستغرق جزءا كبيرا من السورة، بل هو الذي يعطي موضوع السورة المركزيّ الذي كان ما قبله مقدّمة لا بدّ منها قبل الخوض فيه، إنه جزء "المنهج"، بعدما عرفنا أن الخالق الواحد سبحانه، هو الآمر الواحد المطاع، جاء دور معرفة أمر الآمر، انتقلنا من العقيدة إلى الشريعة ...
وقد انتهينا من أولى خطوات التشريع، تشريعان لهما كبير دور في حفظ النفس وحفظ المال، وهما من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية (178-182)

نأتي الآن على قطعة جديدة من قطاعنا :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183) أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(187)

هذا تشريع جديد، خطوة جديدة على درب المنهج الرباني المنزَل للبشر، نريد أن نتأمله كما تأملنا سابقَه، إنه تشريع الصيام، فرض الصيام، وقد كان ذلك في العام الثاني للهجرة، وتحديدا في شهر شعبان من العام الثاني للهجرة، أي قبل حلول أول رمضان يصومه المسلمون بشهر واحد، رمضان الذي كانت فيه غزوة بدر، وفرض مكابدة الحر الشديد والظروف القاسية ولأول مرة لمدة شهر كامل، ... وقد عرف شعبان 2هـ، بمجموعة من الفرائض المتوالية التي كانت امتحانا كبيرا للمؤمنين، لاختبار صدق اتباعهم، وطاعتهم، فقد فرض القتال في شعبان 2هـ، وفرض الصيام في الشهر نفسه، كما حوّلت القبلة بين رجب وشعبان 2هـ، والتي كانت اختبارا كبيرا لصدق المؤمنين، وفرضت الزكاة فيما يرجّح العلماء في شعبان 2هـ، كلها كانت فرائض متوالية على المسلمين، في العام الثاني من هجرتهم، في الشهر نفسه، وهم بعد في مرحلة الإعداد للاستقرار ولتكوين الدولة المسلمة، ولتكوين الأمة المسلمة المساسة إسلاميا...

هذا ما يخصّ المؤمنين المعاصرين لنزول القرآن الكريم، وكما تعودنا في موضوعنا هذا، نحب استكشاف وجه الإسقاط علينا وعلى حالنا مع كل آيات الكتاب العظيم، ما وجه التسلسل، ما وجه مجيئ أمر قبل أمر، كل هذا نحاول أن نعرض له ونحن نخطو خطوة خطوة على درب الحياة مسترشدين بالقرآن مشكاة(ترتيب المصحف)

أول ما أستحضره مما عرفنا في خطواتنا السابقة، خطوة بالغة الأهمية، خطوة هي سنّة في المؤمنين في هذه الحياة، إنها: الابـــــــــتلاء
وقد عرفناها في قوله تعالى : " وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155)"

**فأما الخوف، فيُبتلى به المؤمن بالقدر الذي يكون له امتحانا، بمعنى أن التشريع وقد حفظ له نفسه، فذلك من وجه الظلم والاعتداء على سلطان الله تعالى في الأرض المحيي المميت وحده، ومن وجه صدّ الاعتداء على الأنفس، وتحريم ذلك، وتجريمه، أما الخوف من باب الابتلاء من الله فهو خوف لا بدّ أن يمر به المؤمن، كخوفه من عدو معتد، أو من ظلم حاكم جائر مثلا.

** وأما الجوع من وجه الابتلاء الإلهي، فإن إطعام الله عباده من باب الرزق والعطاء مفروغ منه، وحاصل لكل البشر، وكما عرفنا للمؤمنين بخصوصية التحليل لمأكل والتحريم لآخر، أما الابتلاء بالجوع، فإن من أوجهه الفقر والحاجة مثلا، وهذا يكون ابتلاء للفقير المحتاج كما يكون ابتلاء للغني الموسر، حتى يقع التكافل الاجتماعي المطلوب والمأمور به، والذي هو جزء من أجزاء المنظومة التشريعية المتكاملة التي تقضي بحياة المؤمنين وحدة واحدة مؤلفة غير متفرقة، وكذلك من أوجه الابتلاء بالجوع ما نحن الآن بصدده، إنه اختبار الصيام

ففرض الصيام في حد ذاته مدرسة لتعليم الصبر عظيمة، يدخلها المؤمن فيخرج منها متعودا متخلّقا بخلق الصبر، محصّلا به لكمالات القوة الإيمانية فيه، مرتقيا به في سلم الإيمان ليبلغ التقوى، وهي ثمرة الصيام ...
وهكذا يأتي الصيام ونحن على دربنا خطوة إثر خطوة، في الدرجة المناسبة، والترتيب المناسب تمام المناسبة، هذا المؤمن الذي قدّم الله له بخاصيّة الابتلاء للامتحان والاختبار ولرفع درجته، ولتقوية إيمانه، ولترقيته في سلم الإيمان والقرب، هذا المؤمن يبدأ بتعلّم الصبر، فلا يكون فرض كفاية، بل فرضا على كل مسلم، تعليم الصبر لكل مسلم، لأن من كان في عداد المؤمنين، عرف من الآية 155 أنه مختصّ بالابتلاء، وعلى هذا كان الصيام مدرسة لتعليمه الصبر .

فيا مَن عرفت قصة خلقك، والغاية من وجودك، ثم عرفت من فشل في اختبار الاستخلاف، ومن نجح، وعرفت وراثة الأمة المسلمة لتعاليم المدرسة الإبراهيمية الحنيفية الموحّدة، وعرفتَ بعدها خصوصية الابتلاء للمؤمنين، وذُكِّرت بواحدة من أعظم قصص الصبر البشري في إشارة إلى قصة إبراهيم عليه السلام وزوجه الصابرة المصابرة هاجر، وابنه إسماعيل عليه السلام، وقد ابتلوا  بالجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ...

يا مَن عرفت الآمر الواحد وهو الخالق البارئ الواحد، وعرفت وجوب طاعتك لأمره، واتباعك لما أنزل لك تشريعا، فعرّفك أنه التشريع الذي يحفظ نفسك، والذي يحفظ مالك، ثم يكلّفك، فيبتليك ليرفع درجاتك وليضاعف حسناتك، وليقوّيك على درب الحياة، وليثبّتك، وحتى لا يهزّك من نوازع الدنيا هازّ...

كالشجرة السامقة المضهية لقمم الجبال الشمّاء،الضاربة بجذورها في أعماق الأرض، التي تستمدّ غذاءها من جذورها الضاربة، كما تستمدّه من الشمس والهواء، فلا هي المقطوعة الأصل ولا هي التي تعيش في كوكب آخر بعيدا عن مؤثرات الحياة ... وهي التي تتعرض للرياح الهوجاء، وللعواصف القواصم،  ولوابل الأمطار، ولشتى تقلبات الطبيعة، ولكنّها تصمد وتصمد وتصمد، ولا تتزعزع، ولا تنكسر، ولا تنقلع جذورها، بل هي الباقية...
هكذا هو المؤمن وهو يُبتلى، يشتدّ في الإيمان عوده، وينتصب قوامه في مواجهة كل التيارات القويّة التي تظنّ أنها الجارفة أو المغرقة أو المُهلكة ... فيبقى مؤمنا، ويثبت مؤمنا، بل يواجه بإيمانه كل تقلبات الدنيا وتقلبات المتقلبين معها ....

1-إذن فالصيام ابتلاء بالجوع، للصبر على الحلال لوقت معلوم، للصبر على الطاعةالصوم مدرسة الصبر التي تؤهل المؤمن لأن يكون مؤمنا حقا، تؤهّله لقطف ثمرات الصيام "التقوى" "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)"
فهو مرقاة على درب الإيمان، وهو امتحان للتأهيل .

2- الآيتان 184و185 :الصوم بما فيه من الابتلاء فيه من الرحمة، رحمة الإله الواحد الرحمن الرحيم، ولنتأمل في كل تشريع لنرى رحمة الإله الواحد سبحانه تلقي بظلالها في كل تشريع، فهو أيام معدودات يُستثنى منها من كان مريضا أو على سفر، فيشرّع له القضاء ومن يؤديه بمشقة عظيمة يشرع له الفداء."...يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" هذا يسر الله تعالى في كل تشريعاته، هذه رحمته المظللة لها، ولإكمال العدّة، ولتكبير الله على ما هدى، التكبير لله الواحد الرحمن الرحيم الذي شرع الصيام لتعليم الصبر ابتلاء منه للمؤمن، وجزاء له بأعظم الجزاء حتى أنه سبحانه أخفى أجر الصيام عنده من عظمته ليُفاجأ به المؤمن يوم القيامة، ولشكر الله تعالى على نعمة الابتلاء للارتقاء

3- الآية 186: القريب المجيب لدعوة الداعي، يدعو للاستجابة لأمره، سبحانه المنعم ابتداء، والمنعم وسطا، والمنعم انتهاء، وكل نعمة منه، وكل خير منه، وكل شر من أنفسنا ومن الشيطان، سبحانه الذي يهدينا للصيام لتحصيل الأجر والثواب وللارتقاء والاقتراب، وللشكر على النعمة والابتلاء سواء بسواء، ها هو سبحانه بعد كل هذا يجيب دعوتك، وسؤالك، فهلا استجبتَ لأمره ؟! وما استجاب لأمره مستجيب إلا رشد، أليس حقيقا بهذا الإله المعطي المنّان، الهادي الحنّان، الرحيم الرحمان أن يُستجاب له، وما الاستجابة له سبحانه إلا مزيد خير للمؤمن لا له سبحانه العلي المتعال، الغني عن كل عباده . وقد ناسب مجيئ هذه الآية مباشرة بعد الانتهاء من تعريف غايات الصيام . وهي دعوة للاستجابة للإله الرحيم الرحمان الذي يبتلي ليعلّم ويجزي ويرقّي .

4- ثم يأتي تفصيل عن الصيام في آخر آية من تشريعه، لتعليم المؤمنين حدود الله تعالى، ومنها تحديد إتيان الرجال لنسائهم ليلة الصيام لا نهاره، وقد كان ذلك من المؤمنين قبلا، وعفا الله عنهم، ثم يبين حرمة إتيانهنّ وهم معتكفون في المساجد، ثم يبين مجال الصيام، مبتدأه ومنتهاه.... والغاية دائما هي "لعلكم تتقون"، إنها جني الثمار الطيبة "التقوى"، للترقي على درب الإيمان والقرب، وهذا كله لنعرف دور صيام رمضان في تعليم الصبر .

إذن فإنّ تشريع الصيام كأول تشريع تقريبا بعد تشريع المأكل الحلال، وتشريع حفظ النفس وحفظ المال، لهو طريق لتهيئة المؤمن على درب العيش بالله ولله .... تهيئته لمواجهة نوازل الحياة، وصروف الدهر، بإيمان وبثبات ...

وهنا أيضا لا يفوتني أن أضيف إشارة عبد الله دراز رحمه الله، فيما بيّنه من أنّ التشريعات بدءا من القصاص جاءت مفصلة لما جاء في الآية 177، آية البر، وأن التفصيل والنشر جاء معاكسا لترتيب الإجمال فيها، فكما بيّن أن القصاص في القتلى نشر وتفصيل لآخر ما جاء في آية البر "وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ"، فبدئ بالصبر حين البأس، من باب أن القصاص لردع المستسهل لسفك الدماء يعتبر من أقوى أوجه الصبر حين البأس، وهو ردع النفس وضبطها ومنعها من القتل في غير حاجة، بل في ظلم ...

يأتي على الصيام في الدرجة الثانية، ليضعه في خانة الصبر على الضرّاء كما يلي:
"وكذلك سيختار الله لنا من أبواب الصبر في الضراء أعلاها: ليس الصبر على الأمراض والآلام بإطلاق. ولكنه الصبر على الظمأ والمخمصة في طاعة الله "الصوم 183- 187 "

وهكذا يكون تشريع الصيام ضمن منظومة المنهج الرباني المنزَل للمؤمن المستخلَف في الأرض، هو التشريع الذي يقوّيه ويثبته، ويعدّه لمواجهة نوائب الحياة ضمن دائرة الابتلاء.




فلمَ تُراها تؤهل صاحبَها مدرسةُ الصيام ؟
« آخر تحرير: 2015-04-05, 10:10:38 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #33 في: 2015-03-26, 12:41:47 »
فلمَ تُراها تؤهل صاحبَها مدرسةُ الصيام ؟


عند هذا السؤال توقفنا بعد انتهائنا من تشريع الصيام ضمن دائرة التشريعات (178-283)، كنا قد أنهينا قبلها تشريع القصاص لحفظ النفس، وتشريع الوصية لحفظ المال وحق كل ذي حق بالعدل، ثم بدأ التكليف والاختبار والابتلاء بالأمر بصيام رمضان لتعليم الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، ولترقية المؤمن وتصليب عود إيمانه، ولتقويته على ابتلاءت الحياة، ورزاياها وتقلباتها، وكله لجني ثمار التقوى ....

الآن ما تُراه التشريع بمعنى الأمر أو النهي الذي يعقب الصيام ؟

إننا بصدد قوله تعالى :  "وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(188)"

إنهي نهي، نهي عن أكل، فأي أكل هو؟ ومن أي نوع؟

إنها مقابلة بديعة لمشاكلة ما كنا بصدده من أمر الصيام، الصيام عن الأكل والشرب، فكذلك هذا نهي عن الأكل، ولكنه نهي دائم وليس موقوتا بوقت ينتهي فيه، إنه النهي عن أكل المال الحرام...

إن المؤمن المتخرّج من مدرسة رمضان، مؤمن متقٍّ، تلكم هي نتيجة الصيام، وتلكم هي ثمرته، إنه مؤمن تعود الصبر على الطاعة، فقد صام عن حلال لوقت محدد، صام عن أكل حلال وشرب حلال، وعن مضاجعة حلال، إلى حين... إنه مؤمن يرتقي به الله إلى مصاف الملائكة التي لا تأكل ولا تشرب ولا تتزوج، ولكن ربما كان الأرقى منها، لأنه المخيّر ... لأنه المبتلى... لأنه متروك لما يختار،إما الطاعة وإما العصيان، بينما الملائكة مخلوقات فطرت على الطاعة الدائمة، ولا تعرف للمعصية مكانا فيها.... فمن تُرك له الاختيار أحرى بأن يكون أعلى وهو الذي يجاهد، ويتربّى، ويترقى، ويقاوم لأن يثبت على درب الفلاح، على درب التقى فيما تعترضه أعاصير الهوى والمعصية من كل صوب ....

إذن فما وجه مجيئ هذه الآية مباشرة بعد إتمام تشريع صيام رمضان ؟


قد يهيّأ للقارئ المسطّح لقراءته، المتسرّع فيها، الذي أكبر ما يبتغيه منها إتمام عدد من الصفحات، غايته الكبرى آخر المصحف... قد يهيّأ لهذا القارئ أنها تشريعات مستقلة بعضها عن بعض، وأنها أوامر مرقومة، بأرقام، لا صلة بين الواحدة منها والأخرى ...

ولكن المدقق، المتأمل، المتدبر، المسترشد بالمشكاة القرآنية نورا وهدى، سيعرف بفضل من الله تعالى -لا من نفسه- أنّ موقع هذه الآية هو الموقع المناسب تماما، وأن ترتيبها بعد الصيام ترتيب بديع دقيق...
فالمؤمن الذي جنى التقوى من رمضان، فتعلم الصبر على الطاعة والصبر على الحلال، حقيق بأن يصبر عن المعصية، ويبتعد عنها، وينفر من أكل ما ليس له فيه حق، من امتنع عن أكل حلال أجدر أن يمتنع بعده عن أكل حرام ...

ولك أن تتأمل بديع المنهجيّة، والتدرج في الانتقال لتعلم أنك وأنت على هذه الطريق، قد عُلّمت الصبر على الحلال فلا تقربه، فكيف لا تتعود ولا تتعلم الصبر عن الحرام، فلا تقربه، بل تفزع منه وتهرب وتفرّ .....

إن الذي خرج من رمضان جانيا لثماره (التقوى)، سيقاوم أهواء نفسه الأمارة بالسوء، المزيّنة للخطأ وللزلل وللمعصية، المحبّة للمال الذي قد يكون مناله سهلا بجرّة قلم مزوّر، أو بختم مسروق، أو بدفع رشوة لأهل الحكم والفصل، سيقاوم وساوس الشيطان الذي لا يفوّت فرصة عبد واقع في فخّ الهوى ليزيد قربه من الهوّة فيأخذ بيده خطوة إليها.... فهو الذي خرج من رمضان مؤتمرا بأمر الله الواحد الرحمن الرحيم، خرج منه متبعا لأمره وحده، وكل ما سواه ليس لن يكون له تبعا .

وفي قوله تعالى تتمة الآية : "وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ"، يقول الطنطاوي في الوسيط:
"لا يأخذ بعضكم أموال بعض - أيها المسلمون - ولا يستولي عليها بغير حق ، ولا تدلوا بها الحكام ، أي ولا تلقوا أمرها والتحاكم فيها إلى القضاة ، لا من أجل الوصول إلى الحق ، وإنما من أجل أن تأخذوا عن طريق التحاكم قطعة من أموال غيركم متلبسين بالإِثم الذي يؤدي إلى عقابكم ، حال كونكم تعلمون أنكم على باطل ، ولا شك أن إتيان الباطل مع العلم بأنه باطل أدعى إلى التوبيخ من إتيانه على جهالة به."

فيا مَن علمك رمضان الصبر على حلال، وعلمك الصبر على أكل حلال، فخرجت وقد جنيت ثمار التقوى، إنك الآن مهيّأ لأن تصدّ عنك الحرام، وألا تأكل من حرام، وألا تدفع بالمال دفعا بين أيدي من بأيديهم الحكم ليكون لك ما هو ليس لك بحق، فتكون قد أُغرِيتَ به، وقد أغريتَ به غيرك ليحكم بغير الحق .


« آخر تحرير: 2015-04-05, 10:11:25 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #34 في: 2015-03-26, 15:25:59 »
أما الآن فبعد تشريع الصيام، والنهي عن أكل المال الحرام، وعن أخذه بغير وجه حق، يأتي دور تشريع جديد نعرض له في هذه القطعة من قطاعنا العريض، قطاع المنهج (178-283)، إنها الآيات التالية :

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(189) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ(190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ(191) فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ(193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(194) وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(195) وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ(197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ(198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(199) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ(200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(201) أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(202) وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(203)

1- إن التشريعات جاءت في طرقها على ضروب وألوان، *فمنها ما جاء أمرا بالنداء (يأ أيها الذين آمنوا).
* ومنها ما جاء نهيا (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل...).
*ومنها ما جاء على ما جاء عليه هذا التشريع، تشريع الحج، على شكل سؤال موجّه من الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم...

ولنتأمل حال الصحابة، وهم اليوم بالمدينة(سورة البقرة مدنية النزول)، وهُم يسألون ويسألون ويسألون، كل أمرهم أصبح تبعا للإسلام، ضجوا بحياة الجاهلية، فلم تعد لهم من ثقة بأي حال من أحوالها، وأصبحوا يرون الاستقامة في الإسلام، وأن ما كانوا عليه كله محل شبهة حتى يستوثقوا من سلامته، أو يُوجَّهوا لغيره من حال، إنّ فعل أمر الله فيهم فعل ذو أثر عميق في النفس، إنه فعل المحراث الذي يقلّب الأرض، ليخلّيها من كل ضار، وليهيئها لزرع جديد طيّب، يؤتي أكله في كل حين...

فهم السائلون، وكذلك يجب أن يكون حالنا مع هذا المنهج العظيم، أن تفرّ إليه أنفسنا، وتستروح في ظلاله، وتثق فيه وحده، وتخاف من كل حال تكون فيها، فلا تهدأ إلا إذا أمّنها القرآن، وأمّنها التشريع الإلهي وطمأنها للسلامة، وإلا قلبت ما هي عليه، وهجرتْه، وتخلّت عنه، لتتحلى بأمر الله فيها.

2- الآية 189: يبدأ الدخول في موضوع الحج بسؤال الصحابة عن الأهلة، وعن دورها، فيُعلّم الرسولَ ربُّه أنما هي مواقيت للناس والحج، هي مواقيت لمعرفة مواسمهم، فبطلوعه يطلع الشهر، وبطلوع الشهر يُعرف الحساب، فيُحسب شهر الصيام، وتُعرف أشهر الحج، وتُعرف مواسم الحرث والزرع والحصاد والزكاة، وغيرها من أنظمة الفلاحة وتنظيم أقوات الناس، وعدّة النساء، ومُدد حملهنّ ومدة الرضاع، وغيرها، فكانت الأهلة هي المدخل، ثم يكون أول الدخول بتخلية وتحلية، تخلية من اعتقاد جاهلي قديم لا أصل له إلا من تقوّل الجاهليين وخرافاتهم، ذلك أنهم كانوا يحجون البيت، فإذا عادوا لبيوتهم لم يدخلوها من أبوابها بل من ظهورها، ثم التوجيه الإلهي إلى أن البرّ ليس هذه الخرافات، والحركات المجرّدة عن الأصل الفاعل في الأرض بالخير وبالنفع، وإنما هو جوامع الخير-كما عرفنا من 177-...

وهذه الآية هنا:"وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى"، هي مشابهة لأختها في قوله تعالى "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله...."، ونهايتها هي الأخرى إلى التقوى، وهذا تأكيد على أنّ البر هو الخير كله الذي أساسه الإسلام لله، والإيمان بما أنزله لعباده منهجا، وليس هذه الخرافات المختَلَقة المبتدعة التي ليس لها معنى ولا هدف ولا وجود فاعل في الأرض ...

3-ثم يعقب هذه التخلية والتحلية الأمر بالتقوى، ولنتأمل ولنعرف أن التقوى هي زاد المؤمن وزوّاده، وهي نجاته، فهي التي تكون نتاج أفعال البر المذكورة في آية البر(177)، وهي التي هنا أيضا تحلية لنفس المؤمن، من بعد أن خُلّيت من الخرافة والجهل، وهي التي تتبع في كل حال بعد الآن، وفي كل أمر ...

4- الآيات(190-195) كلها فيها الأمر للمؤمنين بقتال الذين يقاتلونهم، وقد عرفنا أنّ أول أمر اعترضنا منذ فتحنا المصحف عن القتال، هو إشارة إلى حقيقة الموتى في سبيل الله في قوله تعالى : " وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ(154) "، وهي قد ألصقت بآية الابتلاء بعدها باعتبارها من أعظم الابتلاءات، فجاء بعدها : "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155)"

أما هذه الآيات (190-195) فما نلاحظه أنها تتوسط، وتتخلل الحديث عن الحج، بمعنى أنه ابتُدئ بجواب السؤال عن دور الأهلة، وأن من أهم أدوارها تحديد موعد الحج، ثم تأتي هذه الآيات عن القتال، ثم يعود الحديث عن الحج وتفاصيله مرة أخرى(من196إلى203)، وليس هذا التواجد المتخلل للآيات وجودا بلا معنى، أو وجودا أقصى ما نحصّل منه هو المعنى من هذه، والمعنى من تلك، وكفى، بل إنه وجود مميز وله معنى، ومتعمّد، وإنّ أجمل ما وقعت عليه في انقطاع الحديث عن الحج ثم العودة إليه بعد الآية 195، هو ما ذكره عبد الله دراز، فلنتأمله جيدا:

"الصبر في البأساء:
وعلى هذا النمط نفسه، سنرى الصبر في البأساء هنا ليس هو ذلك الصبر الاضطراري على الفقر والأزمات المالية والجوائح السماوية، ولكنه الصبر الاختياري على التضحية بالأموال؟ إنفاقًا لها في سبيل الله. والمثال الذي يختاره التنزيل الحكيم هنا مثال مزدوج1، ينتظم الصبر في البأساء والضراء جميعًا؛ إذ يجمع بين الجهاد بالنفس والجهاد بالمال "الحج إلى بيت الله 189- 203"

ولنقف بك ها هنا وقفة يسيرة، نشير فيها إلى شأن عجيب من شئون النسق القرآني في هذا الموضع:
ذلك أن حين بدئ بذكر الحج، لم تتصل به أحكامه ولاء، بل فصل بين الشرع في الحديث عنه وحكمه بست آيات في أحكام الجهاد بالنفس والمال في قتال الأعداء "190- 195" ... فاصلة يحسبها الجاهل رقعة غريبة في ثوب المعنى الجديد .. ولكن الذي يعرف تاريخ الإسلام وأسباب نزول القرآن، يعرف ما لهذه الفاصلة من شرف الموقع وإصابة المحز، لا لمجرد الاقتران الزماني بين تشريع الحج وبين غزوة الحديبية في السنة السادسة من الهجرة؛ ولكن لأن أداء المناسك في ذلك العام كان عزمًا لم ينفذ، وأملًا لم يتحقق، إذ أحصر المسلمون يومئذ عن البيت، وهموا أن يبطشوا بأعدائهم الذين صدوهم عنه؛ ولولا أن الله نهاهم عن البدء بالعدوان وأمرهم ألا يقاتلوا في المسجد الحرام إلا من قاتلهم فيه، فانصرفوا راجعين، مستسلمين لأمر الله، منتظرين تحقيق وعد الله .. فكذلك فلينصرف القارئ أو المستمع ها هنا وهو متعطش لإتمام حديث الحج على أن يعود إليه بعد فاصل، كما انصرف المسلمون إذ ذاك عن مكة وهم إليها متعطشون، على أن يعودوا إليها من عام قابل .. هكذا كانت هذه الآيات الفاصلة تذكارًا خالدًا لتلك الأحداث الأولى ... وهكذا كان القرآن الحكيم مرآة صافية نطالع فيها صور الحقائق من كل لون نقتبسها طورًا من تصريح تعبيره، وطورًا من نهجه وأسلوبه في تعجيل البيان أو تأخيره. ثم كانت هذه الآيات الفاصلة في الوقت نفسه درسًا عمليًّا في صبر المتعلم على أستاذه، لا يعجله بالسؤال عن أمر في أثناء حديثه؛ ولكن يتلبث قليلًا حتى يحدث له منه ذكرًا في ساعته الموقوتة .. وهكذا لن يطول بنا الانتظار حتى نرى أحكام الحج والعمرة تجيء في إثر ذلك على شوق وظمأ، فتشبع وتروي بالبيان الشافي الوافي "196- 203"، وبتمام هذا البيان تتم الحلقة الأولى من الأحكام؛ أعني فريضة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس.
"

إذن فقد بسطها في إطار نشر "الصبر في البأساء والضراء"، ولا أجمل من هذا الانقطاع ثم العودة لأمر الحج، في ظل ما عُرف من كيد الكفار بالمؤمنين، ومنعهم من أداء العمرة، وتشوّق المؤمنين بعدها وإتمام الله تعالى وعده لصفيّه صلى الله عليه وسلم وعودته وأصحابه فاتحين .

5- لك الحق أن تتساءل عن إسقاطات ما سبق من آيات القتال -المتخللة للحديث عن الحج- علينا، كما اتفقنا منذ بداية موضوعنا، فلتعلم ولأعلم معك، أنّ هذا التاريخ المذكور، وهذه الأحداث المفصليّة في تاريخ الأمة ممتدة الأثر وليست منبتّة الصلة عنا، فهذا الذي كان هو تحرير لبيت الله تعالى من أيدي الكفرة، وفتح عظيم لقبلة المسلمين، وقداسة قديمة جديدة ممتدة امتداد الزمان لهذه البقاع المطهّرة، وهي التي يؤمها المسلمون من كل حدب وصوب، وتهفو لها قلوب المشتاقين المحبّين، فلا ترتوي إلا بالنظر إليها والتملّي بحسنها، والعبّ من أنوارها، ولتعلم أنّ هذا التحرير هو ما جعل هذا المكان مثابة للناس من جديد وأمنا، من بعد ما سيطر عليه الوثنيون زمنا ليس بالقصير، فأحيط البيت الحرام بالأصنام والأوثان، وكانت صلاة الناس حوله مكاء وتصدية، وكان الناس يطوفون حوله عراة، .... فهذا التخلّص من هذه الحالة السوداوية يمتدّ أثره إلى يوم الدين، وهذا التحرير الذي جاء على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح من الله، وعلى أيدي أصحابه امتدّ خيره لكل المسلمين في كل زمان من بعدُ ...امتدّ لي ولك، ولغيرك،  فهذا النسق في الآيات، وهذا التقطّع يعلّمك تاريخ تحرير البقاع المقدّسة، لتُحْيَ الحنيفية الإبراهيمية من جديد على الوجه السليم لا على الوجه السقيم الذي جعله الوثنيون حولها ....

6- أما إذا سألت عن وجه الصلة بين الصوم، والنهي عن أكل المال الحرام بعده، والحج الآن، فإنك إذ دخلت مدرسة الصيام خرجت بثمار التقوى، فصرت أهلا للبعد عن الحرام، ولحب الحلال الطيب، فأهليّتك هذه تحتاج إلى تثبيت، تحتاج إلى تذكير، تحتاج إلى رحلة واقعية تكون عبر جغرافية المكان، كما تكون عبر جغرافية الزمان، رحلة إلى هناك من المكان، وإلى هنالك من الزمان، إلى زمان الإبراهيمية، لتُحيَ في كل عام مرة من جمهرة من المسلمين يؤمون البيت من كل مكان في الأرض، يؤكدون العهد على الثبات على الحنيفية، وعلى الإسلام ...فتأتي الآيات الموالية تؤكد هذا المعنى .

7- الآيات (196-199) :يعود الآن الحديث عن الحج وتفاصيله، وكيفية أدائه، وأورد هنا عن الآية الأولى من هذه التفاصيل، الآية 196 تفسير الشعراوي، لنأخذ صورة ولو بسيطة عن المعنى إجمالا، لأننا كما اتفقنا نبحث عن إجمال الآيات وربط مواضيعها بعضها ببعض، وليس هنا مقام تفصيل التفسير الموضعيّ، بل هو مقام التفسير الموضوعي، وإن كنت لا أحب المرور على المعاني مرورا مخلا ، فأورد ها هنا تفسير الشعراوي:
{ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي} .
وأحصرتم تعني مُنعْتُم.
وهناك «حصر» وهي للقدريات، وهناك «أحصر» وتكون بفعل فاعل مثل تدخل العدو كما حوصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عام الحديبية، وقيل له لا تدخل مكة هذا العام، لذلك فالحق سبحانه وتعالى يخفف عنا وكأنه يقول لنا: أنا لا أهدر تهيؤ العباد، ولا نيتهم ولا استعدادهم ولا إحرامهم؛ فإن أُحصِروا { فَمَا استيسر مِنَ الهدي} والهدى هو ما يتم ذبحه تقربا إلى الله، وكفارة عما حَدث.
ثم يقول بعد ذلك: { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} أي إلى أن يبلغ المكان المخصص لذلك، هذا إن كنت سائق الهدى، أما إن لم تكن سائق الهدى فليس ضروريا أن تذبحه، ويكفي أن تكلف أحداً يذبحه لك، وقوله الحق: { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي} تعني أنه يصح أن يذبح الإنسان الهدي قبل عرفة، ويصح أن نؤخره ليوم النحر، ويصح أن يذبحه بعد ذلك كله.
{ فَمَا استيسر مِنَ الهدي} تعني أيضا إن كان الحصول على الهدى سهلاً، سواء لسهولة دفع ثمنه، أو لسهولة شرائه، فقد توجد الأثمان ولا يوجد المُثمَّن.
«والهدي» هو ما يُهدى للحرم، أو ما يهدي الإنسان إلى طريق الرشاد، والمعنى مأخوذ من الهُدى، وهو الغاية الموصلة للمطلوب.
وقوله تعالى: { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} فالمريض الذي لا يستطيع أن يذبح الهدي وعنده أذى من رأسه «كالصحابي الذي كان في رأسه قمل، وكان يسبب له ألماً، فقال له رسول الله:» احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو أنسك بشاة «.
إنها تشريعات متعاقبة وكل تشريع له مناسبة، فكما شرع لمن أحصر ما استيسر منالهدى، كذلك شرع لمن حلق رأسه لمرض أن كان به أذى من رأسه، شرع له ثلاثة أشياء: صيام أو صدقة أو نسك.


وفي الآية 197 يبين الله سبحانه شروط الحج، وهي ألا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه، كما يبين أن خير الزاد فيه التقوى، وهنا أحب أن أقف وقفة، ذلك أن الكثيرين جدا ممن يأتون ما يأتون من المعاصي بألوانها، يستسهلون كلمة الحج والعمرة قائلين أنهم سيحجون أو سيعتمرون ليغسلوا أنفسهم من ذنوبها، وليُذهبوا عنهم رجس أعمالهم، فأتساءل : أين زادهم هنا؟ ما زادهم؟ أين التقوى التي تكون زاد الحاج، حتى لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل، وقد علمنا الله أن خير زاد الحاج التقوى ....
ولننظر للتقوى وهي ترد في كل موقع، من بعد تحصيلها من مدرسة الصيام


والآية 198 تبين إباحة طلب الرزق بالتجارة في موسم الحج على ألا ينسي ذلك الحاج مناسك حجه ويشغله عنها، ثم يأمر الله بذكره في المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات، والإفاضة على شكل الناس المتكاثرين الخارجين من عرفة المتوجهين نحو المزدلفة، والمزدلفة سميت كذلك لانحدار الناس إليها يقضون بها ليلتهم مقتربين من منى، ثم يعاد الأمر بالذكر "وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ"

والآية 199 تبين ضرورة الإفاضة من عرفة، لا كما كانت قريش من قبل تزعم أنها خير من غيرها، فكانت تفيض وحدها من المزدلفة، وفيها الأمر بالاستغفار،

-8 من الآية 200 إلى 203: فيها بيان ما يفعله الحاج بعد انتهائه من مناسك الحج، وفيها تكرار الأمر بذكر الله، وأن خير الدعاء الدعاء بالحسنة في الدنيا وفي الآخرة، ثم يأمر مرة أخرى بذكر الله في أيام التشريق الثلاثة، وأن من تعجل في يومين أو من تأخر لثلاثة أيام كلاهما على سلامة من الأمر....

ثم تُختم آيات الحج بقوله سبحانه:"وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ" لنعلم كم أن التقوى زاد أساسي في هذه الرحلة التي الغاية منها إحياء الحنيفية الإبراهيمية على أرضها الأولى، إحياء شعائر الحج، التي ابتدأها إبراهيم عليه السلام، لكي يعيش المؤمن اللحظات الإبراهيمية في مكانها وسفرا إلى زمانها، مستشعرا حياة الإسلام، وديمومة حياته في نفسه وفي قلبه، وفي الأرض كلها، وأن تلك البقاع هي مصدر الإشعاع للأرض، ففيها دعا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام بمبعث نبي فينا، ومنها انطلق النبي المبعوث المصطفى صلى الله عليه وسلم هاديا ورحمة للعالمين، كما أن "واعلموا أنكم إليه تحشرون" مناسبة جدا لمقام الحج، لما فيه من اجتماع الناس من كل أقطار الأرض اجتماعا يشبه يوم الحشر الذي يُحشر فيه البشر أجمعون لرب العالمين .

فمن مدرسة الصيام التي أثمرت التقوى في القلوب، فكانت أهليّة المؤمن للعبور إلى مدرسة الحجّ من بعدها، إلى مدرسة الحج التي تثبّت على طريق التقوى، وتذكّر وتأمر بذكر الله تعالى في كل حين، وفي كل مكان وأن الفضل كله منه سبحانه، منزِل هذا الدين رحمة للعالمين ، وباعث نبيه رحمة للعالمين، ومنزل منهجه رحمة للعالمين .ولا يفوتنا دور الذكر والتذكر في الثبات، فكما أثمر الصيام التقوى، هذا الحج يثمر الذكر


« آخر تحرير: 2015-04-05, 10:12:02 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #35 في: 2015-03-28, 11:30:50 »
والآن، بعدما عرفنا ثمرة مدرسة الصيام (التقوى)، والتي كانت الشهادة المؤهلة لدخول المؤمن مدرسة الحج، والذي كانت ثمرته (الذكر)، نتطرق إلى قطعة جديدة من قطاعنا العريض (178-283) :

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ(204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ(205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ(206) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ(207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(208) فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(209) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ(210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ(214)

1- لو عدنا قليلا إلى الوراء(إلى آخر آيات الحج200و201و202) لعرفنا وجه الصلة والارتباط بين مجموع آيات الحج وهذه المجموعة الجديدة التي بين أيدينا، إنه سبحانه أمر بذكره في أيام الحج بعد انقضاء المناسك، وكما عرفنا أن الأمر بالذكر في الحج جاء مرات في خلال تلك الآيات، ثم بين أن من الناس من إذا دعا سأل الله أن يؤتيه في الدنيا، ولم يتذكر حظ الآخرة، ومنهم من يسأل الله حسنة الدنيا والآخرة معا، وهذا هو الذي تذكّر الآخرة وسأل النجاة فيها... ولنتذكر أن المقام هنا مقام الحجيج، بما معناه، أن منهم من يتذكر الآخرة وهو هناك فيسأل الحسنة فيها، ومنهم من يغفل عنها ولا يسأل إلى حسنة الدنيا وهو هناك في ذلك المقام السنيّ .

وإذا عدنا قليلا إلى الوراء عرفنا أن هذا مرده أن منهم من يتزود بالتقوى فيذهب وهو يبتغي الآخرة دون أن ينسى حظ الدنيا، ومنهم من لم يكن له من التقوى زاد، فينسى الآخرة ولا يتذكر إلا الدنيا...

نعود إلى ما بين أيدينا (الآيات من 204إلى 207) : "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ(204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ(205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ(206) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ(207)"...

فنفهم مدى الترابط الموجود بين المجموعتَيْن (200-202) و(204-207)، إذ يذكر الله تعالى هذين الصنفين من الناس من جديد هنا، يذكرهما على سبيل التفصيل، وكأنك بهذين الصنفَين وقد عادا للدنيا، ولممارسات الحياة، من بعد إنهاء تلك المناسك، فمن كان دعاؤه حسنة الدنيا، عاد إلى الحياة وهو في لجّها لا يخرج منه، وحاله حال الغارق فيها، الذي يخيّل لسامع حديثه أنه التقي الورِع، كوصف الناس لأحدهم بوصف "الحاج"، وهو يستحسن ذلك الوصف الجديد الذي يلقي عليه صفتي التقوى والورع، ليتستّر بهما -عياذا بالله- فيظهر الخير من لسانه، وهو يبطن الشر والفساد، وهي من صفات المنافقين، فهذا الذي عاد من الحج بهذه الأوصاف الخبيثة التي تهيئ للناس الخير من قول اللسان، بل ومن إشهاد الله على ما في قلبه للزيادة في الخداع، وفي الوقيعة، وفي إيهام الناس بخير كثير، بينما حقيقتها الانطواء على شر كبير، وفساد في الأرض وإهلاك لكل ما من شأنه قوام حياة المؤمنين، ذلك أن هذا الحاج الذي لم يأخذ من الحج إلا اسمه:
أ- قد ذهب إلى هناك غير متزوّد بخير زاد الحاج(التقوى).
ب-ثم وهو هناك إذ دعا لم يدعُ إلا بحسنة الدنيا، فعاد غارقا في لجّها لا يخرج منها... بل عاد يهيّأ للناس أنه صاحب الخير من قول لسانه وهو المنطوي على فساد كبير، على عكس الذي ذهب حاجا وقد تزوّد بالتقوى، ثم كان ذكره لله تثبيتا له على خطوات الحنيفية الإبراهيمية السمحة النقيّة، ثم كان دعاؤه مسك ختام رحلته، دعاء الحسنة في الدنيا والآخرة، فهذا يعود للحياة ولممارسات الحياة، وهو مؤمن قد زاده الله على الهدى هدى، وزاده على التقى تقى، فإذا هو بائع نفسه ابتغاء مرضاة الله، لا يخدع الناس بمعسول الكلام، بل سريرته هي النقيّة الطيبة التي تثمر عطاء غير محدود، وتثمر خيرا كبيرا في الأرض .

2- الآيات من 208إلى 210: وعلى هذا فإن الله تعالى يدعو عباده المؤمنين (الآية208) إلى الدخول في السلم كافة، إلى الدخول في الإسلام جملة وتفصيلا، بقبوله كله، بالعيش به حياة، لا أن يكون عند المؤمنين مجرد شعائر جامدة مجردة عن الفعل في الحياة، فتكون الصلاة ولا تكون ثمرتها في المعاملات، ويكون الحج ولا تكون ثمرته في التثبيت على درب الله، وفي ذكره في كل حين، وفي استشعار معيّته سبحانه، ورقابته في الصغيرة والكبيرة من مناحي الحياة، وتكون الزكاة رآء الناس، لإيهامهم أنّ التجارة طيبة سليمة وهي التجارة المحرمة الخبيثة.
إذن فهو الأمر للمؤمنين بالدخول السليم في الإسلام، بفهمه حياةً على الأرض، وحركة تقدّر عين الرقيب سبحانه، ولا تسعى إلا لإرضائه وإعلاء كلمته، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، فلا يرضى المؤمن بالشعيرة مجردة عن روحها، وما روحها إلا الحياة بالإسلام، بهذا المنهج الذي جعله الله حياة للنفوس وحياة للأرض قاطبة، وبعثا لها بعد موات .

أما من ارتضى غير ذلك فهو متبع لخطوات الشيطان الذي لا يأخذ المؤمن أخذا يُشعره أنه البعيد عن دينه، فتحتمل عودته السريعة، بل يأخذه أخذ التسلل والغيلة، يأخذه عن الحياة بدينه، عن ممارسته في مناحي حياته، يأخذه أخذ الفصل بين الدين والحياة، فيوهمه أنه المؤمن المصلي، المؤدي لشعائره، بينما يدفعه للتخلي عن تحكيم الإسلام في حياته، بدعوى أنها الحياة منفصلة عن الدين، وأن الدين شيء، وهي شيء غيره.

ويُعقِب الله تعالى هذا بالتحذير من قرب ساعة الحساب، والمثول بين يدي رب العباد، وأن العودة إلى الله والفرار إليه لا يقتضيان الانتظار والتمهّل والتريث، بل هو سباق مع الموت التي لا تُعلَم ساعته، فيكون سباقا لحظيا، ومسارعة لاجتثاث النفس من هوة الخسار إلى قرار مكين من الربح والفوز والفلاح، إلى نجاة من عذاب الله، إلى حسنة في الآخرة يستبشر بها وجه المؤمن التقي الصادق في يوم عظيم لا مفرّ منه ولا محيد عنه.

فهل رأينا وجه الصلة والارتباط ؟، بل هل استشعرنا مقدار الصلة بين الآيات والآيات ؟ هل لنا بعد التأمل والعيش العميق أن نرى هذه المجموعة منفصلة عن سابقتها ؟ هل لنا أن نرى الحديث عن الحج في واد، والحديث عن الصنف المبتغي لمرضاة الله والصنف الغارق في الدنيا المخادع بمعسول الكلام، في واد آخر، فنفهم هذا منفصلا عن ذاك ؟

 
بل لعَمْري، إنه للنسق البديع، والتناسق الحسن الجميل، الذي يجعلك تنتقل من أمر إلى نهي، إلى تحذير إلى جوامع من حيثيات الأمر، إلى حال مع الشعائر تعرف بعد أدائها انعكاسها على الحياة سلبا أو إيجابا، فتعلم علم اليقين أنه الدين العظيم الذي جُعل للحياة، لكل مناحي الحياة، الذي جُعل ليصلح الإنسان في نسكه وحياته ومماته، جاء ليُحيي الأرض بعد موتها... ليبعثها من جديد للحياة، كلما تكالبت عليها أيدي المفسدين ....

3- الآيات من 211 إلى 214 : ما سبق ال]آة 211، هو حال من يتبع خطوات الشيطان فهو على ظاهر من أمر الله، وعلى باطن من أمر الشيطان -عياذا بالله-
، وهو الذي يرى في الإسلام قطعا مقطّعة، وأجزاء مجزأة، فهو لا يراه لعمق الحياة، بل يراه للظاهر، لا يراه للجوهر، بل يراه للمظهر، لا يراه للتحكيم بل يرى رأيه ورأي بشر مثله للتحكيم ولممارسة الحياة .... فهو يأخذ ببعضه ويترك بعضه، ولا يأخذه كلا متكاملا، لا يدخل فيه كافة، وعلى هذا فإن هذه سمة من أهم سمات بني إسرائيل الذين عرفنا عنهم الكثير في معرض هذه السورة، عرفناهم النموذج الفاشل في الاستخلاف، عرفنا إعراضهم عن أمر الله، ونقضهم للعهد، وعرفنا اتخاذهم المظهر وتعمّدهم ترك الجوهر، عرفنا كتمهم للحق، وإظهارهم للباطل والكذب والافتراء على الله وعلى رسله، وقد مر بنا قوله تعالى فيهم:"أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(44)" 
كما مر بنا قوله تعالى فيهم : " وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ(84) ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(85)"

كما عرفنا قوله تعالى فيهم: "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ(61)"

فهم أكثر من عُرف بهذه الصفة القبيحة الشنيعة، هم الذين عرفنا فشلهم في الاستخلاف، وبوأَهم بغضب من الله، هم الذين بدّلوا نعمة الله تعالى التي أنعمها عليهم، فحرّفوا الكتب، وبدّلوا، وعصوا، واستهزؤوا، وهم الذين انقلبت النعمة وبالا عليهم، وفي ذلك يقول ابن عاشور رحمه الله :
 
"والتبديل على الوجه الأول تبديل الوصف بأن أعرضوا عن تلك الآيات فتبدل المقصود منها ، إذ صارت بالإعراض سببَ شقاوتهم في الدنيا والآخرة ، لأنها لو لم تؤت لهم لكان خيراً لهم في الدنيا؛ إذ يكونون على سذاجة هم بها أقرب إلى فعل الخير منهم بعد قصد المكابرة والإعراض؛ لأنهما يزيدانهم تعمداً لارتكاب الشرور ، وفي الآخرة أيضاً لأن العقاب على الكفر يتوقف على الدعوة وظهورِ المعجزة ، وقد أشبههم في هذا التبديل المشركون بإعراضهم عن القرآن والتدبر في هديه أو التبديل بأن استعملوا تلك الآيات في غير المراد منها بأن جعلوها أسباب غرور فإن الله ما آتى رسولهم تلك الآيات إلاّ لتفضيل أمته فتوكأوا على ذلك وتهاونوا على الدين فقالوا { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] .والتبديل جعل شيء بدلاً عن آخر ، أي تعويضه به فيكون تعويض ذات بذات وتعويض وصف بوصف"

وعلى هذا ناسب أيما مناسبة أن يستحضر المؤمن القارئ للآيات السابقة أول ما يستحضر في فعل عدم الدخول في السلم كافة، وأخذ البعض وترك البعض بني إسرائيل وقد عرف عنهم ما عرّفه الله به في سابق الآيات .... فيأتي قوله "سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة......." في المكان المناسب تماما .

ثم في الآية الموالية 212 يأتي أهم ما يفعله هؤلاء المبدّلون لنعمة الله، هؤلاء الذين حذّرنا الله أن نكون على خطاهم، هؤلاء الذين يأخذون من الدين بعضه ويعرضون عن بعض، أهم ما يفعلونه هو حبهم للدنيا حبا يجعلهم يسخرون من المؤمنين بالله، وهذا فعل بني إسرائيل وهم يسخرون من المؤمنين-كما عرفنا-....

كما أنه إذا أسقطنا على حالنا اليوم فعل كل من يتشدّق بالحرية ليبتعد عن تعاليم الدين، ويرسم لحياته معالمها الضبابيّة الهلاميّة الهشة من صنع قشّ أهوائه، فها هم المؤمنون المتديّنون، المحكّمون لأمر الله في مأكل حلال، وفي طريق حلال، وفي عمل حلال، وفي ملبس حلال أهم أوصافه الستر، وفي زواج طيّب بشريك طيّب يعرف للدين قدره، وبُغيته إعلاء بنيان أسريّ على تقوى من الله، وفي صدق، وفي عفّة، وفي بعد عن كل حرام، وفي بُعد عن مال السحت، ومال الرشوة، ومال السعي الحرام، يرون في هذا متأخّرا لم يلحق بركب المتقدّمين، غبيا لم يسبق كما سبق الأذكياء الفطِنون .....

وكذلك بإسقاط آخر وبالتزام حرفي بصفة الكفر التي تميّز سخريّة هؤلاء الساخرين، هذه أيضا سمة الكفار من بلاد الغرب وهم يرون في المؤمنين جماعة من المتخلّفين الذين حقّ لهم استغلالهم واستعبادهم، ونهب خيراتهم، كما أن حال اليهود اليوم ونظرتهم للمؤمنين، وهي النظرة القديمة الجديدة....

ثم يبين الله تعالى :"وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ"، فإذا تأملنا عرفنا في هذا الجزء صفة التقوى، "الذين اتقوا"، بخلاف وصفهم أولا "الذين آمنوا"، وهذا إذا تأملنا أمر دقيق جدا، هو العظيم وحده سبحانه الذي تكون منه الكلمة الدقيقة في مكانها المحدد، فالمؤمنون جملةً جماعة المؤمنين، ولكنّ الذين يبوؤون بالدرجة العليا وبالفوقية على الساخرين هم فئة المتقين منهم، إذ الإيمان صفة عامة لكل من آمن، ولكن التقوى صفة الثابتين، المتقين، الذي استحقوا بثباتهم وصبرهم على الابتلاءات بأنواعها مقاما عليّا عند العليّ العظيم...

ونعود من هذا إلى حال الحجيج، إذ هم المؤمنون، ولكن إطلاق صفة الإيمان عليهم لم تخوّل لهم جميعا أن يدعوا بحسنة الآخرة، بل كانوا على نوعَين، فكان من تزوّد بالتقوى قد سأل حسنة الآخرة، ومن لم يتزوّد بها دعا بالدنيا وحدها، وعلى هذا يتبيّن لنا أنّ تمكّن التقوى من القلوب هو المنجاة .

أما مع الآيتين 213 و214، فإننا ما نزال في صلة واتصال دائمَين، إذ أن حال هؤلاء من السخرية من أهل الإيمان، ليست حالا جديدة، بل هي حال قديمة في الناس، لما كانوا على الحق، فاختلفوا، فبعث الله فيهم النبيين مبشرين ومنذرين، وما كان سبب الاختلاف إلا البغي والظلم، والتحاسد بين فئة وفئة من بعد ما جاءتهم البينات، ولكنّ الله هدى الذين آمنوا إلى صراط مستقيم....
وهكذا، فإن دخول الجنة لا يتأتى هكذا بلا تعب وبلا عناء، وبلا ابتلاء، وبلا تمحيص، بل إن إدخال الله المؤمنين الجنة، يكون بعد الابتلاء، ومعرفة الصابرين الثابتين....

ولنتأمل فإذا ذكر "مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ "، لتكون المقابلة لما عرفنا، من تفصيل حال الصبر على البأساء والضراء وحين البأس التي عرفناها مجملة في آية البر، وعرفنا أن تفاصيلها جاءت في تشريع الصيام ابتلاء للمؤمنين، وفي تشريع الأكل الحلال والامتناع عن الأكل الحرام، وفي النهي عن المال الحرام، وفي مناسك الحج الشاقة، وفي تعليمه للذكر للتثبيت على الدرب الصحيح، على الصراط المستقيم، وفي الأمر بالقتال في سبيل الله، كل هذا من الابتلاء، ليُعرف المؤمن من غيره، ليُعرف من يستحق الجنة من غيره...

دون أن ننسى  "ألا إن نصر الله قريب"، والتي يتبيّن منها أنّ نصر الله تعالى يتنزّل على الصابرين الثابتين الذين تصهرهم الابتلاءات، وتفتنهم كفتن النار للذهب، وفصلها لأصيله عن خبيثه، عندها، عندما يُزلزل المؤمنون، ويُعرف الصبر والثبات من  نفوسهم، وبقاء الإيمان في قلوبهم، يتنزّل نصر الله تعالى ويقرب... ولذلك تجد "الذين آمنوا" ما يزال وصفهم اللصيق واللازم لهم رغم ما بلغوه من أعلى درجات الزلزلة والابتلاء ... وهكذا هي سنّة الله التي يعلّمُناها سبحانه

وهكذا يعلّمنا الله أن هذه الابتلاءات قديمة في الناس، وفي بعث الرسل بالحق من عنده، وأنّ المؤمن اليوم يستمد من الصابرين الثابتين الأوائل طاقة ومددا من القوة على الثبات كما ثبتوا ....

« آخر تحرير: 2015-04-06, 08:41:30 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #36 في: 2015-04-02, 15:20:27 »
سنعالج هذه المرة قطعة جديدة من الآيات من قطاعنا العريض (178-283)، هذا القطاع الذي عرفنا أنه يختصّ بالمنهج، ببيان تفاصيل المنهج الرباني الذي أنزله الله سبحانه لعباده مشكاة تضيئ لهم درب الحياة، وقد عرفنا أنّ خصوصية سورة البقرة إجمالا هي أنها سورة المنهج، وعرفنا أنّ الدخول في تفاصيله لم يكن دخولا مباشرا، مفاجئا، يجعل الإنسان يبحث عن حلقات ضائعة، أو حتى عن حلقة واحدة ضائعة...
لقد قدّم الله سبحانه وتعالى لهذا المنهج، قدّم له بالدلالة أولا على مصدر الهدى، (القرآن)، ثم بالتعريف بأصناف البشر، وطريقة تلقي كل صنف للهدى، ثم بدعوتهم جميعا لعبادة الله الواحد الخالق، وإمدادهم بمفتاح العبادة(لا إله إلا الله محمد رسول الله) ثم تأكيد إعجاز هذا الكتاب العظيم، وعجز كل البشر عن الإتيان بأقل شيء من مثله، ثم يعرّفك أن الغاية من وجودك استخلافك في الأرض لتطبيق منهج الله فيها، ولتتعلم يعطيك نموذج الخلافة الفاشل(بنو إسرائيل)، ثم يعطيك نموذج الخلافة الناجح (إبراهيم عليه السلام والصالحون من بنيه)، ثم يبين لك أنّ الدنيا دار للامتحان، وللابتلاء، وأنّ الابتلاء سنّة من الله ماضية في عباده المؤمنين لتصفيتهم، وتهيئتهم لحمل الرسالة الكبرى المناطة بهم، وهي تنوير الأرض قاطبة وعلاجها من أدوائها، وتعريفها بربها، وتطبيق منهجه عليها، ثم يصل بك المولى عزّ وجلّ إلى مرحلة يعرّفك فيها بوحدانيته، بمُنزل المنهج سبحانه، وأن الخالق الواحد هو الآمر المطاع الواحد...

وهكذا تبدأ بعدها مرحلة "تفصيل المنهج"، وهو القطاع الذي بين أيدينا الآن (178-283)، وقد عالجنا منه قطعا متتالية، فبدأنا بتشريع القصاص وفيه حفظ النفس، ثم تشريع الوصية وفيها حفظ المال، ثم أُعقبا بتشريع الصيام، وهو المدرسة التي يُدخَلُها المؤمن لجني ثمار التقوى، ثم يأتي دور مدرسة الحج للذكر، والتثبيت على الدرب المستقيم، على الحنيفية الإبراهيمية، وعرفنا أنّ من دخل مدرسة الحج بزاد التقوى تخرّج منها ذاكرا للآخرة، بائعا نفسه ابتغاء مرضاة الله، وأن من دخلها دنيويا خرج منها مغرقا في الدنيويّة، بل يشهد الله على أنّ قلبه مخلص صادق وهو المخادع المفسد ....

وقد عرفنا أخيرا أنّ هذه الدنيا من شأنها أن تُزيَّن للكافر المستهزئ بالمؤمن، وأن هذا ليس بدعا في الناس، بل هو ديدن الكافرين من الذين خلوا من قبل، ولذلك فإن الجنة ليست سهلة المنال، بل هي الغالية التي يشتريها المؤمن الناجح في الابتلاءات ...

وهكذا أجدُني في كل مرة، أستجمع أطراف الخطوات التي خطوناها في ربوع هذه السورة العظيمة... ومن خطوة لخطوة، أجدني أعيد وأكرر، وربما كان في ذلك تذكرة لي ولكم، وكان فيه سَوق للاحق بالسابق في سلسلة متصلة من المعاني والدروس، والتوجيهات الربانية، لا نجد لها انقطاعا، ولا نجد لخرزاتها المنتظمة فيها تبعثرا ولا تفرّقا...

وحان الآن موعدنا مع قطعة جديدة بعد آخر ما عرفنا، ونحن في عَرض المنهج

إنها الآيات من 215 إلى 222 :

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ(215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(220) وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(222)


لقد كان تشريع القصاص امتحانا للنفوس لتعليمها الانضباط الإنساني، وإبعادها عن التفلّت الحيواني، ولقد كان الصوم امتحانا، ولقد كان الحج بعده امتحانا، فأما الصوم فيعلّم الصبر، وتُجنى منه التقوى، وأما الحج فيؤكد على الذكر والتذكر والاستشعار والقرب، ولإحياء الأصل في النفوس ولزيادة الثبات، زاده التقوى وثمرته الذكر، وأكبر الذكر ذكر الله وذكر لقائه (الآخرة)، ولهذا عرفنا في الآية 214 ختاما وخلاصة يبيّن لنا الله فيها أنّ الجنّة ذاك ثمنها، الصبر في البأساء والضراء، وحين البأس، وأنّ النصر من الله حليف الصابرين الثابتين....

ثم الآن ونحن بين يدي هذه الآيات (215-222)، إذا تأملنا ما يتكرر خلالها، عرفنا أنه السؤال "يسألونك"، سؤالات متتالية عن أمور مختلفة، وكلّها لبّ الحياة وجوهرها، فلننظر فإذا هي على التوالي :

1- سؤال عن الإنفاق (215)
2- سؤال عن الشهر الحرام قتال فيه(217)
3- سؤال عن الخمر والميسر(219)
4- سؤال جديد عن الإنفاق(219)
5- سؤال عن اليتامى(220)
6- سؤال عن المحيض (222)

وكلها أسئلة من قلب الحياة، كلها أسئلة طرحها الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يبحثون عن جوابها لحياتهم، كانوا يبحثون عن كل حلولهم في الإسلام، في هذا المنهج القويم، كانوا يعلمون أنه المنهج الذي يسيّر الحياة، فهموا هذا فهما عميقا، حتى لم يعودوا يرون في الحياة إلا ترجمة لإرادة الله، ولما يمليه الله على عباده فيها، لم يعودوا يرون في الحياة إلا ساحة لطاعة الله، الآمر الواحد الخالق الواحد الذي تجب له العبادة وتجب له الطاعة، ويجب تحكيم أمره في كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة ...

أما الادعاء اليوم بأن الدين شيء والحياة شيء، فادعاء لم ينزل الله به من سلطان، ادعاء من ابتداعات واختلاقات البشر وهم يبحثون عما يحقق أهواءهم، ويحقق انفلاتهم من حكم الله وأمره إلى حكم أهوائهم وما يرضي أنفسهم لا ما يرضي خالق أنفسهم ....

وهكذا، وكما نلاحظ، فهي كلها مواضيع من لبّ الحياة وقلبها، لا تستقيم الحياة إلا بها...
نتأمل فإذا هي انطلاقة بالسؤال تلو السؤال من بعد معرفة أن الجنّة جزاء المؤمنين الثابتين الصابرين المتّقين. هي انطلاقة بالسؤال لتقنين الحياة وفق قانون الله، لمنهجتها بمنهجه سبحانه .

1-ها هُم وقد حققوا مأكلا ومشربا بالحلال، بما يرضي الله، وبما حدّده الله من حلال فيه ومن حرام، ها هم أولاء يسألون الآن عن أبواب الإنفاق(215)، لقد كانوا ينفقون أموالهم على الميسر والقمار، وعلى الخمر وعلى الغواني والقيان، وسهرات السمر والطرب والنساء والخمر، فلا بدّ أن يتبدّل الأمر بعد شروق شمس الإسلام على ذلك الليل الجاهليّ المظلم ...

أجل لقد تبدّل حقا، تبدّل وقد أصبح مأكلهم حلالا، ومكسبهم حلالا " وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ "، فكذلك أبواب إنفاق هذه الأموال أصبحت أبوابا سليمة، أبوابا نافعة "فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ "... تُصرف للذين يستحقونها، وينتفعون بها، ويرتقون في المجتمع ارتقاءة تؤهلهم لأن يستشعروا المساواة، والعدل والأخوة الحقيقية ... فهي منافع للناس وليست ضررا وإهدارا للمال... منافع للمعطي بالأجر والثواب، ومنافع للمُعطى له ... ولا ننسى ما في الإنفاق من جهاد للنفس، جهادها وهي التي لو تركت لحب المال حبّ الهوس لأصبحت للمال عبدا من دون الله، ففي الإنفاق تحرير للنفس من ربقة المال وسطوته عليها.وفيه جزء كبير من الجهاد الأكبر، جهاد النفس

2- أما الآية (216)، فكما سبق الجهاد بالمال، بذل المال وجهاد حب النفس له ، هذا الجهاد في سبيل الله ببذل النفس، وهنا الأمر بالجهاد، وهو لم يأتِ إلا وقد تهيأت النفس المؤمنة، قد تهيأت تربتها لاستقباله، سواء ذلك إذا أسقطنا على حال الصحابة والقرآن يتنزّل أو على حالنا، فالصحابة لم يكتب عليهم القتال وهم بمكة ثلاث عشرة عاما، بل كتب عليهم وهم في المدينة، في العام الثاني للهجرة، وقد نزل عليهم الأمر وهم قد بُنيت نفوسهم بالعقيدة وتأسست وترسخت قواعدها، حتى إذا ما جاء الأمر بالجهاد وجد الأرض الطيّعة لغراسه، ولم تكن أراضي بورا، بل لقد قُلبت ونقّيت، وغذّيت، وجهّزت لاستقبال الأمر ...

أما إذا أسقطنا الأمر علينا نحن الذين نخطو خطواتنا هذه الواحدة تلو الأخرى، فالأمر كذلك لم يجئ فجأة ولا صدما، بل قد سبقه الكثير من الإعداد، ومن معرفة سنّة الابتلاء، ومن معرفة ما كان عليه الأسبقون في الأمم الخالية، ومن معرفة جزاء الصابرين ....كله يؤهّلنا أيضا لمعرفة أمر من أكبر الأمور التي تُبقي حياة الأمة، وحياة الدين، وحياة الأرض قاطبة، الذود عن حياض الإسلام، الذود عن المسلمين، ومنع الظلم عنهم، وما حال فلسطين والعراق وسوريا عنا ببعيد، ونحن قد هجرنا "الجهاد" في سبيل الله، وما تهجر الأمة الجهاد في سبيله إلا وتذلّ ويستسهل الأعداء وطأها...

إذن فمن وجه الربط، قد انتقلنا من جهاد إلى جهاد، من جهاد النفس ببذل المال إلى الجهاد ببذل النفس، وكله كل مترابط، وكله حال من جوهر حال الأمة، ومن جوهر الحياة، لا يفصل هذا عن ذاك، ففي بذل المال للمحتاجين له حياة، حياة للمجتمع وحدة متلاحمة، حياة لوحدة الأمة، حياة للنفوس متحررة من ربقة المال، ومن سطوته، حياة باختيار ما عند الله على الدنيا وأثرتها، كما أنّ الجهاد في سبيل الله حياة للأمة حياة عزيزة مكرّمة، حياة للأرض، وإعلاء لكملة الله، ومواجهة للصادين عن سبيله.

والقتال في سبيل الله كُره للإنسان في مظهره، ولكنّه ينطوي على خير كثير، إذ أن الموت في سبيله سبحانه حياة، فهو دين الحياة والإحياء، حتى الذين يقتلون في سبيله، ومظهرهم مظهر الموتى هم في حقيقتهم أحياء "وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ(154)"، هم أحياء، وهم قد أحيوا الأرض بالإيمان وللإيمان . فهنا تتجلى قضية الحياة في الإسلام، في هذا المنهج الحيّ المُحيي

الآية 217 : متعلقة بالسابقة "كتب عليكم القتال"، وفيها سؤال من أسئلة الصحابة التي بينّاها أعلاه، وهو سؤال المتثبّتين من أمر الشهر الحرام وقد قتلوا فيه، وذلك ما حصل في سريّة نخلة(سريّة عبد الله بن جحش) التي قتل فيها المسلمون عمرو بن الحضرمي، وأسروا اثنَين من أصحابه عندما اعترضوا قافلتهم، وكان ذلك في شهر رجب، فوقع في الناس بين يهود ومشركين أن المسلمين يقتلون في الشهر الحرام، حتى توجّس المسلمون من ذلك خيفة، فأنزل الله تعالى يطمئنهم إلى سلامة أمرهم، وأنّ فتنة المؤمنين عن دينهم، -وهو ما فعلته قريش وأرادته بكثيرين- أكبر عند الله من القتل، وهو ما يؤكد معنى قضية الحياة في الإسلام، فالحياة بلا إيمان لا تساوي حياة، وإبعاد الناس عن دينهم وإخراجهم منه أكبر عند الله من القتل، فلئن يقتل المؤمن وهو على إيمانه خير من أن يبقى حيا وقد فقد إيمانه، فالأول حيّ، والثاني هو الميت بظاهر من حياة ....والآية 218 بيّن الله فيها بلوغ مغفرته ورحمته للمؤمنين المهاجرين الذين جاهدوا في سبيل الله(الخارجون في سرية نخلة)، فكانت الآيتان طمأنة لقلوب المؤمنين، وهي كذلك تفعل فعلها فينا نحن اليوم...

أما من باب المنافع، وكما عرفنا ما في الإنفاق من منفعة للمؤمنين، المنفِق والمنفَق عليه سواء، كذلك هنا في الجهاد في سبيل الله كبير منفعة للأرض كلها، بإحيائها والحرص على دوام حياتها بالإيمان، بمجاهدة الصادين عن الإيمان وعن سبيل الله، وعن منهج الله في الأرض .

3- الآية 219 : يأتي السؤال الموالي من أسئلة الحياة، ويبقى الحديث في صميم الحياة، وفي جوهرها وكنهها وحقيقة معناها، إنهم يسألون عن الخمر والميسر...
وهكذا... بعد التقوى، والابتلاء، والدعوة للتسلح بالصبر والصلاة، وبعد التربية على المواجهة وحبّ الدين قبل كل محبوب، والترقي إلى درجة التضحية في سبيل إعلاء كلمة الله... وكلها صفات الخليفة الذي خلق ليكون خليفة ...قد بلغ الصحابة رضوان الله عليهم هذه الدرجات السامقة، والخمر لم ينزل تحريمها بعد، حتى أن منهم من استشهد في "أُحُد(2هـ)" والخمر لم تحرّم بعد، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عنها وعن الميسر... فإذا تأملنا عرفنا أن تحريم الخمر جاء بعد سؤال الصحابة عنها، فكان التدريج الأول في تحريمها، بعد سؤالهم، هنا تحديدا في منزلتنا هذه (البقرة) "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا".

إنّهم قد بلغوا هذه الدرجة من الوعي بخصوصية المنهج الرباني، ونقائه، ورقيّه حتى جعلوا يسألون عن الخمر والميسر، لقد عرفوا من بعد ما أسّسهم المنهج، وقلب نفوسهم، عرفوا أنّ الخمر والميسر لا يليقان بمن كان منهجه القرآن، بمن كان دينه الإسلام، بمن عرف أنّ دينه يهدي للتي هي أقوم، وأنه دين العقل، ودين احترام العقل لا ستره وغمره، وخمْره، دين يُعلي من شأن الإنسان، ومن شأن عقله فلا يسمح ببقائه مخمورا ولو لمدة بسيطة من الوقت، إنه دين الحياة والواقع، لا دين الغياب عن الحياة، لا دين الذهاب عنها إلى عوالم الخيال والهلام ...وهكذا يحرّم الخمر بتدريج تحريمه الأول هذا، بدءا من سؤال الصحابة...
أي حب للخمر كان حبهم ؟ ... إنه لا يُضاهى ...
أي تعلّق بها كان تعلقهم !! من كان يتصوّر أنّه سيأتي على العرب يوم يسألون فيه عن الخمر وهم في سؤالهم، يتوقعون الجواب بسوئه أكثر من توقّعهم الجواب بحُسنه ... يتوقعون منعه أكثر مما يتوقعون إباحته... لقد فهموا ميزة هذا المنهج ... إنه منهج للحياة وللإحياء، للفكر، وللتفكير، للرشاد وللحكمة، وكل هذا يتنافى مع الخمر التي تُذهب العقل فتُحلّ الطيش مكان الرصانة، والهذيان مكان العقل، والسفه مكان الحكمة، دين للنفع لا للضر والإضرار وقوله سبحانه: " وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا" فيه كل الدلالة على إرشاد الناس لما ينفعهم .

إذن ما زلنا في مناحي الحياة، مازلنا نعرف دور المنهج في تحديد تفاصيل الحياة، وهذا الخمر الذي يتبين يوما بعد يوم في عصر العلم الذي نعيشه مضاره ومخاطره على جسم الإنسان، وعلى حياته وعلى علاقاته، وعلى عقله، وعلى نفسيّته، وعلى المجتمع بأسره .

فهل يليق بمن عرف خصوصية المنهج الرباني للأرض، ولمن عرف دوره كخليفة فيها، أن يُذهب عقله لساعة أو لساعات ؟ هل يليق بمن على عاتقه إصلاح الأرض وقوامها، وحياتها أن يكون مخمور العقل ؟ هل يليق بمن عرف منهجا فيه النفع كلّه أن يتقاعس فلا يأخذ بكل أطراف ما حلل وما حرّم، فيعمل بالحلال، وينتهي عن الحرام ؟!

وفي الآية نفسها 219 يأتي دور السؤال الموالي، إنه سؤال عن الإنفاق مرة أخرى !!

وإنه لمدعاة للعجب كل العجب، إذا تأملنا، أن يأتي السؤال مرة أخرى عن الإنفاق ! وقد عرفنا الجواب عن سؤال الصحابة عنه في الآية 215 !!! ما السر في تكرار السؤال يا ترى؟
ولكأني به السؤال من جديد من بعد ما تبيّن باطل إنفاق من أنفقوا، ومن ينفقون حتى يومنا مالهم في الخمر والميسر، وفي كل وجه من أوجه الحرام ...

لنتأمّل قوله تعالى : "..... وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" . وكانوا قد سألوا قبلها عن الإنفاق (215)، وهذه إجابة جديدة لهم، وذلك لتكرارهم السؤال، فبعدما عرفوا أوجه الإنفاق (فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين....)، قد سألوا مجددا عن مقدار ما ينفقون، والله سبحانه وتعالى يجيبهم أنه "العفو" بمعنى الفائض عن حاجتهم الأساسية،

وأورد في هذا المقام تفسيرا لابن عاشور:

"روى ابن أبي حاتم أن السائل عن هذا معاذ ابن جبل وثعلبة بن غَنَمَة ، وقيل هو رجوع إلى الجواب عن سؤال عمرو بن الجموح الذي قيل إنه المجاب عنه بقوله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين } [ البقرة : 215 ] إلخ ، وعليه فالجواب عن سؤاله موزع على الموضعين ليقع الجواب في كل مكان بما يناسبه .

ولإظهار ما يدفع توقعهم تعطيل نفع المحاويج وصلت هذه الآية بالتي قبلها بواو العطف .

والعفو : مصدر عَفَا يعفو إذا زاد ونَمَى قال تعالى : { ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا } [ الأعراف : 95 ] ، وهو هنا ما زاد على حاجة المرء من المال أي فَضلَ بعد نفقته ونفقة عياله بمعتاد أمثاله ، فالمعنى أن المرء ليس مطالباً بارتكاب المآثم لينفق على المحاويج ، وإنما ينفق عليهم مما استفضله من ماله وهذا أمر بإنفاق لا يشق عليهم وهذا أفضل الإنفاق ، لأن مقصد الشريعة من الإنفاق إقامة مصالح ضعفاء المسلمين ولا يحصل منه مقدار له بال إلا بتعميمه ودوامه لتستمر منه مقادير متماثلة في سائر الأوقات وإنما يحصل التعميم والدوام بالإنفاق من الفاضل عن حاجات المنفقين فحينئذ لا يشق عليهم فلا يتركه واحد منهم ولا يخلون به في وقت من أوقاتهم ، وهذه حكمة بالغة وأصل اقتصادي عمراني ، وفي الحديث : « خيرُ الصدقة ما كان عن ظَهْرِ غنى وابدأ بمن تَعول » فإن البداءة بمن يعول ضرب من الإنفاق ، لأنه إن تركهم في خصاصة احتاجوا إلى الأخذ من أموال الفقراء ، وفي الحديث : « إنك أنْ تَدَع ورثتَك أغنياء خير من أن تَدَعهم عالة يتكففون الناس » أي يمدون أكفهم للسؤال ، فتبين أن المنفق بإنفاقه على من ينفق عليه يخفف عن الفقراء بتقليل عدد الداخلين فيهم ، ولذلك جاء في الحديث : « وإنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك » . ولهذا أمر في هذه الآية بإنفاق العفو ، لأنها لعموم المنفقين ، فلا تنافي أن ينفق أحد من ماله المحتاج هو إليه أو جميع ماله إذا صبَر على ذلك ولم يكن له من تجب عليه هو نفقته .
"


4- الآية 220 : وفيها السؤال الموالي : السؤال عن اليتامى، فيأتي الجواب أن الإصلاح لهم خير، الإصلاح ضدّ الإفساد، وفيه كل وجه من وجوه فعل الخير معهم، وأن مخالطتهم مخالطة إخوان، والله رقيب في كل هذا، فيعلم من أصلح ومن أفسد، من أطاع ومن عصى.

فإذا جمعنا مواضيع الأسئلة السابقة، أ-سؤال عن الإنفاق لتعزيز الحياة بالتآخي وبالتآزر، ب-ثم تشريع القتال في سبيل الله للتأكيد على قضية الحياة في هذا المنهج وأنها الحياة بالإيمان، وإحياء الأرض بالإيمان، ج-ثم سؤال عن الشهر الحرام، وعن أمر القتال فيه، ليُعلم أنّ الحياة إنما هي حياة القلوب بالإيمان، وأن الموت إنما هو قلب ليس فيه إيمان، د-ثم سؤال عن الخمر والميسر، لنعلم أنّ الحياة في هذا المنهج حياة بعقل متفتّح صاح أهل للعمل وللنظر بحق، لا حياة بعقل مغمور مخمور مُذهَب ... ه-ثم السؤال عن الإنفاق من جديد حتى يكون الخير القليل الدائم الذي لا ينقطع لا الكثير الذي ينقطع، وليحدث التوازن فلا يُترك المقربون محتاجين ويُعطى للبعداء و-ثم السؤال عن اليتامى ليُعلم أنّ الحال معهم يجب أن يكون حال إصلاح لتسود حياة الأخوة والمساواة والسلام.

5- ثم تأتي هذه الآية (221)، والتي إذا تأملنا عرفنا أنها الآية التي فيها حسن التخلّص للدخول في موضوع ستطول تفاصيله، وحيثيّاته، إنها الفاصلة الواصلة، الفاصلة عن ساحة الأسئلة، الواصلة لساحة "الميثاق الغليظ"، الحياة الزوجية، الأسرة في الإسلام وأسس بنائها، تُخرجنا عن ساحة الأسئلة التي كانت توطئة لتدخلنا موضوعا يخص نواة المجتمع كله، والأمة كلها، والبشرية كلها، "الأسرة"

فيأتي النهي من الله تعالى عن نكاح المؤمنين للمشركات، وإنكاح المؤمنات للمشركين، وأن عبدا مؤمنا وأمة مؤمنة خير من حر مشرك . لأنّ المؤمن داع للجنة، والمشرك داع للنار، ومنهج الله تعالى وهو منهج النفع، لن يرضى ضرا بأن يتصل مؤمن بمشركة لتتأسس قاعدة هشّة قوامها كفر، وإشراك ...

6- ومع الآية 223 يتم الدخول في موضوع "الأسرة"، فيكون الدخول له أيضا بسؤال، لأنه من أهم مواضيع الحياة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق ..."ويسألونك عن المحيض" ليبدأ منه تحديد التشريع الإلهي، وأسس المنهج الرباني في تكوين الأسرة المسلمة، أسس اللقاء بين المؤمن والمؤمنة، ذلك اللقاء الحميميّ الذي تنتج عنه الذرية ... من هنا من ساحة الزرع هذه يبدأ الحديث عن موضوع النواة الأولى في المجتمع الإسلامي "الأسرة"، وبهذا السؤال الأخير في سلسلة الأسئلة سيكون الدخول في هذا الموضوع .

وإن لعبد الله دراز كلاما جميلا في النقلة بين (215-222) وما بعدها من آيات موضوع الأسرة أضعه هنا للإفادة:

"ترى كيف سيكون الانتقال إلى هذه الحلقة الثانية؟ هل يصعد القرآن بنا توًّا إلى تفصيل هذه الشئون المنزلية المشتبكة المتشعبة؟ كلا إن هذا البيان التربوي الحكيم لن يهجم بنا عليها دفعة، ولكنه سيتلطف في الوصول بنا إليها على معراج من الأسئلة والأجوبة، تتصل أوائلها1 بالأحكام الماضية: الإنفاق والجهاد "215- 218" وتتصل أواخرها2 بالأحكام التالية: مخالطة اليتامى، وشرائط المصاهرة، وموانع المباشرة "220- 222" .. وهكذا نصل في رفق ولين، دون اقتضاب ولا ابتسار إلى صميم الحلقة الثانية "223- 237" حيث نتلقى في شأن الحياة الزوجية دستورًا حكيمًا مؤلفًا من شطرين؛ وشطره الأول يعالج شئون الأسرة في أثناء اتصالها "223- 232"، وشطره الأخير يعالج شئونها في حال انحلالها وانفصالها "233- 237".
فخذ هذه الحلقة الجديدة من السورة الكريمة، وتعرف أسباب نزولها، وانظر كيف كانت كل قضية منها فتيا في حادثة معينة منفصلة عن أخواتها؛ ثم عد لتنظر في أسلوبها البياني جملة؛ وحاول أن ترى عليه مسحة انفصال أو انتقال، أو أن تحس فيه أثرًا لصنعة لصق، أو تكلف لحام .. واعلم منذ الآن أنك ستحاول عبثًا؛ فإنك لن تجد أمامك إلا سبيكة واحدة يطرد فيها عرق واحد، ويجري فيها ماء واحد، على رغم أنها جمعت من معادن شتى ..
"

« آخر تحرير: 2015-04-06, 09:25:30 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #37 في: 2015-04-05, 09:42:31 »
أضع هنا ملخص الخطوات منذ بدأنا إىل آخر ما بلغنا :


فبيّن له الله منبع الهُدى:

وإن الناس أصناف في تلقيهم له:
ولكن الله يدعوهم جميعا(كل الأصناف)
وحتى تحقّق عبادة الله يجب أن تعرف:
ولكن تجنّب المانع من نفاذ هُداه إلى قلبك:
تعرّف على الغاية من وجودك:
ولتتعلم،هذا النموذج الفاشل من نماذج الاستخلاف
ولتتعلم، هذا النموذج الناجح من نماذج الاستخلاف
وإن لله سنّة في المؤمنين:
تعرّف إلى منزل المنهج قبل المنهج:
والآن تعرّف إلى المنهج:
« آخر تحرير: 2015-09-13, 13:46:07 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #38 في: 2015-04-08, 17:27:49 »
وهكذا قد أنهينا مضمار الأسئلة التي توالت تستسقي منهج الله تعالى للحياة، وكانت كلها عن جوهر الحياة، فبدأت بالسؤال عن أوجه الإنفاق، ثم بالسؤال عن حكم القتال في الشهر الحرام، ثم بالسؤال عن الخمر والميسر، ثم بسؤال جديد عن القيمة التي تُنفَق، ثم تلاه سؤال عن اليتامى، منتهيا بسؤال عن المحيض، وهكذا كلّ متكامل يشعرك أن منهج الله يُصلح كل هذا، هذا الكل المتكامل، يأخذ بأطراف الحياة كلها، فيدخل فيها كلها، ويعالجها كلها، ويقيمها كلها ...

فكان موقع السؤال الأخير (الآية 222) هو المبتدأ لموضوعنا الجديد الذي سيفصّل فيه الله تعالى لعباده، وهو موضوع بالغ الأهمية والحساسية، إنه عن النواة الأولى لتكوين المجتمع المسلم، والأمة المسلمة "الأسرة"، وتتبدّى لنا أهميّته من خصوصية الجواب على هذا السؤال بالذات دون ما سبقه من أسئلة، فكل ما سبق جاء الجواب عنه مقتضبا مؤدّيا الغرض، أما هذا السؤال فقد ساق منظومة متكاملة من البيانات والأوامر والإرشادات، كما سيأتي .

من هذه الآية سننطلق مع قطاع جديد يمتد منها أي من 222 إلى الآية 242

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(222)نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(223) وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(224) لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(225) لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(226) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ(228) الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(234) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ(235) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ(236) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(237) حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ(238) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ(239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ(241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(242)

سأحاول هنا بسط الروابط  بين آيات هذا القطاع، ولو أنّ جلّها جليّ ارتباط بعضه ببعض، ولكن نصل إلى موقع حيث نستغرب الربط ... وفي ذلك أحاول -مستعينة بالله تعالى- أن أبسط .

1- الأساسات السليمة للبناء(222-227)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(222)نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(223) وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(224) لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(225) لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(226) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(227)
في هذه الآيات بيان من الله تعالى للأساس الذي يُقام عليه بنيان الأسرة، وما مادة هذا الأساس ولبنته الطبيعية الفطريّة إلا رجل وامرأة، رجل وامرأة يجتمعان بإرادة الله تعالى وبمقاديره التي يقدّرها، فيكون للمؤمن والمؤمنة حظّ من هذا المنهج الرباني عظيم، منهج يقيم بنيان لقائهما من أساسه، ويبدأ بالبيان والتبيين من الأساس، من المنطلق، من ساعة اللقاء الأولى، بل إننا إذا أنصفنا عرفنا أنّ الإسلام يبدأ بالبيان من قبل يوم اللقاء، من يوم التفكير بالبناء، من قبل أن تنقلب الفكرة حقيقة، بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين الشروط الموجبة لشريك تنجح معه علاقة الزواج...

وقبل البدأ مع الآيات، أحبّ أن أستذكر قول عبد الله دراز في هذا القطاع من الآيات حول الأسرة، أنه يعتبر نشرا لما ذكر مجملا في آية البر(177) "وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ"، على أنّ النشر-كما سبق وبينّا- جاء نشرا معاكسا لترتيب ما جاء في الآية، إذ عرفنا "الصبر في البأساء والضراء وحين البأس"، ثم نأتي الآن على "الوفاء بالعهد"، وأن عقد الزواج واحد من أعظم العهود وأهمها على الإطلاق.

1-أ)   (222)يأتي السؤال عن المحيض، ليعلّم الله المؤمنين أنّ المرأة إذا حاضت لا تكون معاملتها كمعاملة الجاهليّين لنسائهم، إذ كان الرجل يهجرها هجرا كليا وهي في فترة الحيض، وكأنها المصابة بداء يُخشى أن ينتقل إلى من يخالطها، فجاء المنهج الرباني العادل يبين أن الحيض أذى لا يجوز مع وجوده أن يباشر الرجل زوجه، وأن الاعتزال يكون اعتزال المباشرة لا اعتزال المخالطة والمجالسة والأكل والشرب، ويأتي اللفظ "أذى" ليُعلم أنه مع بقاء الاتصال بها في باقي مناحي الحياة، إلا أنّ الحيض أذى لا يجوز بأي حال حدوث المباشرة مع وجوده، فتستشعر لزوم الطهر والنقاء للمؤمن في كل حالاته، للمرأة وللرجل على السواء، سبحانه وتعالى يجيز اللقاء مع طهارة، ويمنعه ويحرّمه عند المحيض، يحافظ على سلامة الرجل وعلى سلامة المرأة، وعلى سلامة الذريّة التي تنتج عن هذا اللقاء. "وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ".
مجال للطهارة والتوبة، قطعة من قطع الحياة، وطرف من أطرافها هذا اللقاء الحميميّ وفيه تذكر الطهارة، وفيه تذكر التوبة، وفيه نستشعر مدى نقاء هذا المنهج...

1-ب)   (223) النساء حرث لأزواجهم، يأتي هذا بعد الحديث عن المانع(الحيض) لتحل من سمع المؤمن محلّ البشرى، وأنّ هذا المنهج لا يضيّق العلاقة، وإنما يجعلها واسعة، متروكة لصاحبها في الطريقة التي يأتيها، وقد سبّق له ب"من حيث أمركم الله" حتى لا يُتعدّى إلى غيرها من طريقة غير سليمة ولا فطرية، بل يكون من محلّ الحرث، وقد شبّهت المرأة بالأرض لأنها محلّ الزرع، ومحلّ البذر... ثم يأتي الأمر بالتقديم للنفس"وقدّموا لأنفسكم"، وهو هنا يعنى به التقديم للعلاقة ذاتها بمقدّمات، كما يُعنى به التقديم بالبر والتقوى للحياة كلها، والعلاقة الحميمية أصلا مقدّمة لبناء أسرة تقوم على التقوى والطاعة والبر. ثم يثنّي سبحانه بالتقوى "واتقوا الله"، فإذا هذه العلاقة الحميمية (الحرث) مزرعة من مزارع الدنيا التي يبذر فيها المؤمن، ويزرع، فيُعلّم أن يكون زرعه مباركا فيه، طيّبا ناميا ..."واعلموا أنكم ملاقوه"، تذكير بلقاء الله تعالى، .

ولنتأمل فإذا هذه القطعة من قطع الحياة قد حوت أمورا كلها من روح الطاعة، والاتصال بالله تعالى، لا انقطاع فيها عنه سبحانه، فمن شأنها إذا حفّت بطاعة العبد لما أمِر به فيها أن تؤتي خير ثمرة، وأن تكون الأساس المتين القوي الذي عليه يقوم البنيان المتكامل القويّ .


1-ج)   (-225224) أمر من الله تعالى وتربية ربانية ألا يتخذ المؤمن الله عرضة لأيمانه في كل صغيرة وكبيرة، فيستسهل ذلك، فيقسم بالله على ألا يأتي شرا، كما يقسم على ألا يأتي خيرا، وحاشا لله تعالى أن يرضى لعباده الامتناع عن فعل الخير والبر، ولهذا جاء هذا التعليم، وهذا النهي الإلهي عن استسهال اللسان للقسم بالله على كل أمر حتى يصل بالمؤمن أن يقسم بالله ألا يفعل فعل خير، أو ألا يبر، أوألا يصلح بين الناس...

وهنا يأتي السؤال: ما وجه العلاقة بين هذا الموضوع، وبين موضوع الزواج والعلاقة الحميمية بين الرجل وزوجه؟

إن هاتين الآيتين  "وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(224)لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(225) "
جاءتا تسبقة ومقدّمة لما هو آت من أمر الإيلاء، والإيلاء هو حلف الرجل ألا يقرب زوجته، وإذا تأملنا الآية 223 عرفنا أنّ البر والتقوى والإصلاح بين الناس، كله جاء الأمر به فيها، وكأنّ هذا الإيلاء هو منع يضعه الرجل لنفسه ما أنزل الله به من سلطان، يحول بينه وبين برّ يأتيه مع زوجه، ومع أبنائه، ومع كل من حوله لانعكاس طيب العلاقة بينه وبين زوجه على علاقته بكل من حوله، يحول بينه وبين أن يتقي الله وهو يأتي زوجته ويباشرها، فيأتمر في ذلك بأمر الله تعالى، وينتهي عما نهاه الله، يحول بينه وبين أن يكون الأمر بينه وبينها صلح وسلام وأمان ... فمن تربّى بتربية الله تعالى على ألا يجعل الله عرضة لأيمانه سيستعظم الإيلاء، وسيكون أبعد حالا عنه .

1-د)   (226)  هنا يأتي الحديث عن الإيلاء بعد التقديم له، وهو أن يقسم الرجل على ألا يأتي زوجته، فجعل الله للعمل بموجب القسم مدة حددها سبحانه بأربعة أشهر لا يتعداها الزوج، فإذا تعداها صار وهي إلى أمر آخر سيأتي تفصيله في الآيات المقبلة(الطلاق)، وقد يسّر الله تعالى، وهو من أبغض الأمور إليه أن يفسد ما بين الزوج وزوجه، وهو الذي سبحانه في كل هذه الآيات المتوالية نقرأ ونعرف الحرص على دوام هذا البناء، ودوام سلامته، ومتانته،فييسّر على الذي يفيئ، أي الذي يريد الرجوع لزوجته، وللاتصال بها وقد حلف، فيبشره بمغفرة من الله وأنّ فيأه إليها محبّب ومرغوب .
كما تجدر الإشارة إلى أنّ الانتقال من الحديث عن أساسات الزواج إلى الطلاق جاء عبر التقدمة بآيتي اليمين، ثم تأتي هذه الآية (226) ليكون الحديث فيها عن الإيلاء الذي قدّم بدوره للطلاق.

1-هـ) (227) أما الآن، أي بعد انقضاء مهلة الإيلاء(04أشهر) فإن الأمر صائر إلى حال أخرى، وهي الطلاق، لأن من لم يفئ بعد أربعة أشهر فحاله تشي بتفضيل الافتراق على التواصل، تعطي ملمحا كبيرا من ملامح السأم من الزيجة، ومن التفكير بقطع حبلها .... عندها يتبدّى العزم على الطلاق .وحتى إن لم يلتزم الرجل بهذا، فتمر المدة ولا يعلن عزمه الطلاق، فإن القضاء الإسلامي هنا هو الذي يتدخّل في الأمر، لأنّ حدود الله لا تُتعدى وهو سبحانه الذي حدد الانقطاع عن العلاقة الحميمية بأربعة أشهر لا يُزاد عليها .

إذن فنحن من 222 إلى 227 في دائرة الزواج، من حيث البناء، ومن حيث أساساته، ومن حيث مستلزمات العلاقة الحميمية بين الزوجين، ومن حيث أهمية هذه العلاقة في أن تكون صلة بين العبد وربه، محفوفة بأمر الله، لتكون منها الثمار الطيبة المباركة، وليقوم على أساساتها القوية البناء القوي المتين، وصولا إلى ما قد يطرأ عليها من أمور تؤدي إلى بوادر الافتراق، وقد تصل إلى العزم على الافتراق .... إذن فنحن في هذا المجال (222-227) في حدود الزواج ومستلزمات العلاقة، وما قد يطرأ عليها . نحاول تلخيصها في :


أساس البناء = تحريم المباشرة الزوجية في حال الحيض----> الطهارة شرط للقاء الحميمي السليم----> ترغيب في التطهر والتوبة في عزّ إتيان المؤمن شهوته---->التقديم للنفس بالامتثال لأمر الله في عزّ العلاقة الحميمية----> التقوى أساس من الأساسات التي تبنى عليها العلاقة الحميمية ومن ثمة الأسرة -----> التذكير بلقاء الله للعمل بأمره والانتهاء بنهيه.

الحفاظ على البناء= عدم استسهال القسم بالله للامتناع عن بر وتقوى وإصلاح كلها من أساسات الحياة الزوجية---->التربّص أربعة أشهر في حال الإيلاء----> مرحلة العزم على الطلاق تأتي بعد تربّص كاف.
« آخر تحرير: 2015-04-11, 08:11:30 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #39 في: 2015-04-09, 09:10:45 »
ما نزال مع قطاع آيات الأسرة وتكوين أساساتها، والحفاظ على كيانها، بحكم جوهريّة دورها في تكوين المجتمع المسلم، ومن ثمة الأمة المسلمة .

وقد عرفنا (222-227) محور البناء، والآن نكمل مع باقي الآيات فنأخذ من القطاع الكلي (222-242) الجزء (228-232)

2-الطلاق ودعوات الحفاظ على البناء

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ(228) الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(232)

2-هذه الآيات كلها (228-232) تعالج موضوع الطلاق كما هو واضح، وكلها تشترك في الحث على الرجوع ما أمكن:

**فليس عزم الطلاق يعني النهاية المحتومة التي لا رجعة فيها.
** كما أنّ إمضاء الطلاق ذاته ليس النهاية المحتومة الوحيدة.
**والطلقة الواحدة ليست النهاية المحتومة للعلاقة.
**كذلك ليست الطلقة الثانية هي النهاية المحتومة للعلاقة
** بل إنّ الطلقة الثالثة(طلقة البينونة الكبرى) قد لا تكون النهاية الأبدية للعلاقة، إذ يمكن الرجوع ولكن هذه المرة بدرس قاس جدا، يكون قبالة عين المؤمن، حتى لا يستسهل الطلقة الواحدة بله الثانية والثالثة.

2-أ)فيأتي الأمر للمطلّقات بالتربص ثلاثة قروء(228)، وهي إما ثلاث حيضات أو ثلاث طهرات تمر بها المطلقة، بعدها يجوز لها الزواج من رجل آخر، وهي فرصة للمرأة والرجل سواء، فرصة للزوج الذي بإمكانه إرجاع مطلّقته قبل نهاية العدة، وفرصة للزوجة لتعيد أيضا حساباتها، وتراجع نفسها، وتنبت في فكرها إمكانية الرجوع، وأيضا هي تبرئة للرحم درءا لاختلاط الأنساب، ولينسب الولد لوالده . فهي فرصة متعددة الأوجه، فيها النفع في كل حال، فإن لم يكن للرجوع، فلحفظ النسب. دون أن ننسى ما لحركة جنين في أحشاء المرأة من دور في تقريب البعيد، وفي إصلاح الأمور، وفي تحسيس الطرفين بضرورة التفكير الأبوي لا التفكير الأناني، ومن ظهور استحباب نشوئه بين أبوين متصلين، مما يهوّن في العين العظيم، ويصغّر الكبير كُرمى لحياة طيبة يرجوها كل من الأب والأم لوليدهما القادم .لذلك جاء بيان تحريم كتمانها أمر حملها إن كانت حاملا، وربط هذا النهي بالإيمان بالله واليوم الآخر حتى تعرف المرأة مدى تعلّق الأمر بإيمانها، وبعلاقتها بربها، وبمصيرها الأخرويّ مع الدنيويّ، وأنّ أزواجهنّ في ذلك أحقّ بردهنّ، كما يُحدث الله عزّ وجلّ التوازن، فيتوجه للرجل في الآية ذاتها بأنّ ما عليهنّ يقابله أيضا ما لهنّ ليقوم الزوج بما عليه نحوها، ويؤدي لها ما لها من حقوق، فلا يظنّ أنها وحدها المعنيّة بالحرص على عودة العلاقة، بل هو كذلك بسلوكه وتعاملاته، وتقواه ...وللرجال عليهنّ درجة، وأحب أن أورد في هذا المقام كلاما للشيخ الطنطاوي رحمه الله :
"قال بعض العلماء: وإذا كانت الأسرة لا تتكون إلا من ازدواج هذين العنصرين- الرجل والمرأة- فلا بد أن يشرف على تهذيب الأسرة ويقوم على تربية ناشئتها وتوزيع الحقوق والواجبات فيها أحد العنصرين. وقد نظر الإسلام إلى هذا الأمر نظرة عادلة، فوجد أن الرجل أملك لزمام نفسه، وأقدر على ضبط حسه، ووجده الذي أقام البيت بماله وأن انهياره خراب عليه فجعل له الرياسة، ولذا قال- سبحانه-: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ....هذه هي الدرجة التي جعلها الإسلام للرجل، وهي درجة تجعل له حقوقا وتجعل عليه واجبات أكثر، فهي موائمة كل المواءمة لصدر الآية، فإذا كان للرجل فضل درجة فعليه فضل واجب" .

إذن:

التربّص ثلاثة قروء : فرصة كافية لمراجعة الحساب للرجل والمرأة، وفرصة لحدوث تفكير إيجابي بحكم عاطفة الأبوة والأمومة تقفز على النظرة الأنانية لنظرة أوسع وأبعد لحياة إنسان آخر ناتج عن الاثنين، فما قد يحدث في المدة، مع ضرورة التصريح بالحمل في حال وجوده مدعاة للرجوع .

2-ب) يأتي في الآية 229 تحديد عدد الطلقات المسموح بها، وهي التشريع الذي جاء في منهج الله تعالى ليضع حدا لما كان سائدا في الجاهلية من لعب ولهو بالمرأة واعتبارها شيئا من الأشياء التي يفعل بها الرجل ما يشاء فلا شخصية لها ولا كيان، ولا قيمة ولا وزن، فيطلقها مئة مرة ويراجعها مئة مرة إن أحب، مغرقا في الأنانية وفي حب التملّك والتصرف بإنسان مثله كما يتصرف بشيء مملوك يلهو به ذات اليمين وذات الشمال، أو ككرة يقذفها متى شاء ويسترجعها متى شاء، جاء هذا التحديد مناسبا كل المناسبة للنفس البشرية، فمَن لا يستطيع معرفة مدى احتياجه للطرف الآخر ومدى عدم قدرته على الاستغناء عنه من المرة الأولى، يستطيع أن يعرف ذلك في المرة الثانية، وهو يضع نصب عينيه أن الثالثة خطيرة، ومفرّقة تفريقا يكاد يكون أبديا، فتكون له الدرس الأخير الذي لا يستسهل بعده الطلاق...ولننظر فإذا هو شيء من اثنين فإما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، المعروف والإحسان، لا ضرر ولا ضرار، كله في إطار المعروف والإحسان، فليس إمساكا للإضرار، وليس تسريحا بنشر العيوب، وبالسبّة تلاحق المطلّقة حيثما كانت . كما أنّ هناك من الحالات ما يبيح معها الله تعالى تخليص المرأة نفسها بدفع شيء مما لها لطليقها، وهو الخلع، وهنا يتبيّن أن الطلاق في أحيان كثيرة هو الخلاص، ولا يكون بغضه بغضا بحيث يُقضى على المرأة أن تعيش عذابا لا حياة زوجية وأسرية هانئة . والردع والتخويف بعدم تعدّي حدود الله التي حدّدها ذلك أنّ دفع المرأة لشيء من أشيائها لطليقها لا يكون إلا إذا خيف ألا تقام حدود الله، وإذا خيف تعدّيها .
 
إذن :

الطلاق : مرتان، يجوز فيهما الإرجاع  بالمعروف، أو إذا كان التسريح فيكون بإحسان، وللمرأة أن تفادي نفسها من زوجها إذا عرفا أنّ حدود الله لن تقام، وأنها ستُتعدّى، أو إذا عرف الأهل أنّ حدود الله لن تُقام بالإبقاء على هذه العلاقة، وأن الزوج لا يرتضي طلاقا بلا مقابل، فتبقى المرأة حبيسة حياة مريرة .

2-ج) الآية 230، تأتي إتماما لما بعد الطلقتين، أي في حال طلقة ثالثة، فهذه طلقة البينونة الكبرى، بحيث لا يحل للرجل أن يراجع فيها امرأته لا قبل انتهاء العدة، ولا بعد انتهائها بعقد جديد، إذ هي الآن محرمة عليه إلا إذا تزوجت من رجل آخر، ودخل بها، ورأى هذا الأخير -بمحض إرادته واختياره يوما ما قريبا كان من عهد زواجه بها أو بعيدا- أن يطلقها، فعندها يمكن للرجل الأول أن يراجعها، ولننظر ما لهذا الحكم من صعوبة على نفس الرجل والمرأة على السواء، ولننظر لما فيه من ردع عن التلاعب بالمرأة وبتطليقها، ليكون نصب عيني كل زوج مؤمن أنّه لا لعب بكلمات الطلاق، وأنّ عدّاد الطلقات لا يحوي الكثير. كما يجب أن يلازم هذا الإرجاع إقامة لحدود الله، وأوبة وتوبة، لأنه ليس فوق هذا الردع ردع، أن تكون زوجة الرجل لغيره، فهذا من أصعب ما يوقع بالرجل من عقاب، ومن أبغض الأمور لنفس الرجل أن تصير زوجته لغيره .

إذن:

الطلقة الثالثة: بينونة كبرى، وفيها الردع القاسي للزوج الذي تحرّم عليه زوجته تحريما كليا، خاصة إن لم تتزوج بعده، ولا يمكن أن يرجعها لعصمته إلا إذا تزوجت زواجا ثانيا، وحصل بعده طلاق بمحض إرادة الزوج الثاني.

2-د) الآيتان 231 و232 فيهما شرح وتبيين لمن ما يزال في حدود طلقة أو اثنتين، ولم يتعدَّ للطلقة الثالثة، أي في حدود إمكانية الإرجاع، فيبين سبحانه أن الأمر عند مقاربة انتهاء العدة، في يد الرجل فإن شاء أرجع فبمعروف، وإن شاء سرح فبإحسان، وألا يكون الإمساك بقصد الإضرار والاعتداء، بل بنيّة طيبة وللمّ الشمل، والحفاظ على كيان أسريّ قويم، ومن لم تكن كذلك نيّته فهو مستهزئ بآيات الله التي بينها لعباده في الآيات السابقة، وفي ذلك دعوة لتذكر نعمة الله بإنزال الكتاب والحكمة للموعظة والإرشاد والتربية للارتداع عن الاستهزاء بأمر الله،  وأما الأمر الثاني فمتعلق بولي المرأة، وإليه يوجّه الأمر بإرجاع الزوجة لزوجها بعد انقضاء العدة، إن جاءها خاطبا مع من يخطب، فهو الأولى بها، وفيه دفع لحميّة أبوية تقضي بمعاقبة الزوج لتطليقه ابنته.

وفي كلٍّ يتجلّى لنا الحرص الشديد على الحفاظ على هذا الكيان الأسريّ، والحديث حديث طلاق، ففيه الأمل في الرجوع باق ودائم، مع الموازنة، بالردع بتحديد عدد الطلقات حتى يدرك الرجل أنّ زواجه ليس لعبة، وأنّه الميثاق الغليظ، والعهد الوثيق الذي عليه الحفاظ عليه وعدم مسّه بكلمات الطلاق لا من باب الجدّ ولا من باب الهزل، وفيه الدعوة للحفاظ على كيان قد تكون بذرته وجدت لها مغرسا، فبدأت تعلن عن وجودها، وأنه من دواعي الرجوع والعدول عن الفراق، وفيه الدعوة المستمرة للالتزام بأمر الله، والتقوى، ولتذكر اليوم الآخر، وعدم الاستهزاء بآيات الله، ولربط الأمر كله بالله، لتكون حياة بمنهج الله، لا حياة هوائية لا أساس لها، ولا رِكز... فرغم أنّ الموضوع عن الطلاق، إلا أنّ الحث على الرجوع والعدول في كل موضع حفاظا على الكيان، وعلى سلامة نفوس جديدة هي نتاج هذه الزيجات.

وبهذا ينتهي جزء "الطلاق" من ميثاق الأسرة في هذا المنهج القويم، منهج الحياة، حياة الأمان والسلامة النفسية، حياة القوة التي تصنع المجتمع القويّ، وتصنع الأمة القوية، حياة قوامها زواج سليم، زواج يشرّع له خالق الأنفس سبحانه العالم بما يناسبها ويلائمها، وبما يردعها وبما ينظّم حياتها، والعالم بما يفسد عليها الحياة، ويدخلها في دائرة الحيوانيّة.


« آخر تحرير: 2015-04-09, 09:32:40 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب