والآن ... فلنستمع لما يخبرنا به الله :
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ(34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(39)
قد سبقها سؤال استنكاري من الله تعالى على من يكفر به سبحانه وهو الذي أحيانا بعدما كنا أمواتا، ولم نكُ شيّا، وهو الذي يميتنا، ثم يحيينا ثم إليه نُرجَع، كيف للعبد أن يكفر بعبادة إله أغدق عليه بوجوده، ثم يغدق عليه بوجود مرة أخرى بعد أن يفنى ؟!!
كيف يكفر بمن سخّر كل ما في الأرض للإنسان، ثم استوى إلى السماء التي تظلّه فسواهنّ سبع سماوات ؟!
كيف يكفر الإنسان بمَن خلقه كما سنعرف من هذه التفاصيل ....
استمع أيها الإنسان، استمع يا سالك هذه الطريق... لعلّك لا تنفكّ متسائلا: ما أصلي؟ كيف أنا على هذه الأرض؟ ما قصة وجودي الأول؟ لمَ خُلقتُ؟ لمَ أنا موجود ؟ تريد أن تعرف أصلك، تريد أن تعرف قصتك ...تريد أن تعرف الهدف من وجودك، تريد أن تعرف دورك ...
استمع، فالله تعالى وأنت في مبتدأ الطريق، سيخبرك بمبتدأ وجودك، سيخبرك بقصة خلقك...
لقد تأملتَ الآيات السابقة، حيث دعاك ربك لعبادته،
فكان أول ما عرّفك به ربا أنه الذي خلقك والذين من قبلك، ثم لم تمكث طويلا حتى سمعت الحديث عن الخلق من جديد في استنكاره سبحانه كفر الكافر وهو الذي أحياه من بعد موت، وهو الذي يحييه مرة أخرى بعد إماتة...
ربما تجدكَ بعد هذه اللمحات، والشذرات تتساءل عن أصل إنسانيّتك، عن قصة خلقك ...
فأبشر فالحيرة لن تطول بك وأنت في عَرض كلام الخالق البارئ المصوّر ...
إنّي جاعل في الأرض خليفة...
ذلك كان قول الله عزّ وجلّ لملائكته، وهو سبحانه يخبرهم بأمر الإنسان، وما أراد به ...عن أمر الإنسان الأول على هذه الأرض ...
فلندقّق في كلمات القصّة:
1- جاءت "ربك" ولم تجئ "إلهك"، إذ الرب بمعنى الخلق والرزق والتربية وغيرها، فكانت "ربك" هنا وهو سبحانه يقصّ قصة الخلق أولى وأدقّ.
2- "إنّي جاعل" ولم تكن "إني خالق"، فما الفرق بين الخلق والجعل؟
الجعل غالبا يأتي بعد الخلق، والخلق يسبقه، "ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً
ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً" فهل خلقه حطاما ؟! لا بل جعله حطاما، أي أنه حال يجريه الله على الشيء المخلوق. وهو بمعنى صيّره حطاما، "
وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ"، أي صيّرهم قردة وخنازير من بعد ما خلقهم بشرا، ففي الغالب معناها "صيّر". أي حال ينسب للشيء المخلوق مسبقا.
فما وجه البيان في هذا مع قصة آدم عليه السلام ؟!
ذلك
أنّ الله تعالى لا يستشير فيما يريد، بل هو سبحانه يخبر بما أراد، وفرق شاسع بين الاثنَين، فإخباره الملائكة بأمر آدم عليه السلام، ليس عن استشارة، بل لقد أخبرهم وأعلمهم بما كان منه وانتهى...
لقد خلقه، ثم هو جاعلُه خليفة، فهل هو مستشير في أمر خلقه سبحانه ؟ حاشاه... فهل هو مستشير في أمر جعله خليفة؟ حاشاه، بل هو مخبر بما قد أراد وانتهى.
3- "خليفة"، قد أدار الناس هذه الكلمة مدارات عدّة، فما الخليفة؟
** "خليفة" بمعنى أنه خلف خلقا سبقوه، نعم تجوز، لأنه يجوز أن يجعل الله في الأرض خليفة للجنّ الذين خلقهم قبل الإنس.
** "خليفة" بمعنى أن الإنسان خلقه الله تعالى ليجعل نسله يخلف بعضه بعضا في الأرض. تجوز
** و"خليفة" التي معناها "
خليفة لمظهرية كُنْ للخادم لذلك المخدوم"
هذا التعريف من كلام الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى وأجزل له الثواب، فلندقّق :
"خليفة لمظهرية كُنْ للخادم لذلك المخدوم"
لقد أخضع الله للإنسان الأرض وما فيها، سخّر له كل ما فيها، وقد أخبرنا بذلك قبل بدئنا مع هذه الآية في قوله:"هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً"، أخضع له الكون فأصبح له خليفة، فظنّ الخليفة أنه باستجابة الأسباب له قد صار أصيلا فطغى !!! لما استجابت له الأسباب رأى نفسه أصيلا في الأرض، وإنما هو الخليفة فيها ...
إنه الحوار بين الله جلّ في عُلاه وبين ملائكته الذين لا يعصونه سبحانه ما أمرهم... فلقد بدأ الله تعالى بالقول، وها هم الملائكة أيضا يردون فيقولون: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ؟"
4-ترى ما الذي جعل الملائكة تردّ هذا الردّ؟
إنهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم، إنهم الذين يسبّحون بحمد الله ويقدّسون له، فحريّ بمن عرف قدر الله تعالى وخلق على الطاعة ألا يرضى بمن يفسد في أرضه التي خلقها، ويسفك الدماء فيها، مما يلقي في أفهامنا أنّ الملائكة تعلم أن الإفساد وسفك الدماء ليس من أمر الله تعالى وأنه مما لا يحبّه الله تعالى، ولا يرضاه، وإنما لا يقع إلا إذا طغى الإنسان ونسي ربّه الذي إليه الرُّجعى فيجازي كلا بما عمل .
وقد قيل في هذا الاستفهام من الملائكة، ونسبة الإفساد والسفك للإنسان أنها قد تكون اطلعت على شيء مما في اللوح المحفوظ، فعلمت بإذن من الله تعالى أن سيكون من الإنسان إفساد وسفك للدماء، وقد يكون لأنها علمت ذلك من سلوك المخلوقات السابقة للإنسان وهي الجنّ.
5-ويستمرّ الحوار، ويقول الله تعالى قوله الفصل "
إني أعلم ما لا تعلمون". قول فصل من ربّ عليم حكيم، أحاط علمه بكل ما كان وما هو كائن، وما سيكون، و له حكمة في كل ما يفعل سبحانه... وهو الذي يعلم ما لا يعلمون.
فهم قد حكموا على مدى علمهم، وهو سبحانه قد خلق على موجب علمه، ولا اعتراض لعلم مخلوق على علم الخالق.
6- ها هو سبحانه يعلّم آدم الأسماء كلها، نعم إنها الأسماء كلها التي كانت، والتي هي اليوم في عصرنا، والتي هي غدا في عصور بعدنا إلى يوم الساعة، أوليست هي الخميرة التي منها انبثقت كل الأسماء ؟! أوليست هي الأصل الذي منه تعلم كل بنو آدم، من بعد ما سمعوا من آدم ومن حواء، ومن ذريتهما، وممن بعدهم، فوضعوا المسمّيات الجديدة، وكانت اللغات في الأرض، وكان التخاطب بين بني البشر، وكان التفاهم... أوليس هو سماع الكلمات ثم محاكاتها باللسان قولا؟ فإذا كان بعضنا قد سمعها من بعض فشبّ عليها وكبر، فمن ذا الذي أسمع آدم عليه السلام ليحاكيها بلسانه ؟ إنه الله جلّ في عُلاه الذي علمه الأسماء كلها، فلما تعلّم نطقها بلسانه .
7- "ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ"، لقد سألهم سبحانه عن هذه الأسماء، إن كانوا صادقين في زعمهم أنّ الخليفة الذي جاعله الله في الأرض إنما هو مفسد سافك للدماء. عرضها عليهم وسألهم أن ينبئوه بها، فلم يفعلوا، لأنّ علمهم ممّا علّمهم الله سبحانه، ولا علم ذاتيّ لهم، بل إنّ الله الذي علّمهم ما يعلمون، فلا علم لهم إلا ما علّمهم سبحانه.
ولننظر فإذا هم يقرّون الآن -قبل أن يسمعوا آدم يسمي تلك الأسماء التي ما عرفوها- أنّ الله سبحانه هو العليم وهو الحكيم... وربما كان المقام أن يشهدوا لله بالعلم الكامل بقولهم "العليم"، ولكن لم يقولوها وحدها، بل أعقبوها ب"الحكيم" وكأن عدم معرفتهم بتلك الأسماء، من قبل أن يسميها آدم أمامهم، قد كفتْهم أيضا ليعلموا أنّه لحكمة منه تعالى قد يعلّم غيرهم ما لم يجدوا له عندهم من جواب.فيقدّم في أنفسهم لانتفاء ظنّهم أنهم الأعلم، وهذا الغير قد يكون آدم الذي استفهموا حول جعله خليفة، ولهذا لا نجد لهم قولا بعد قولهم هذا، حتى عندما يسمي آدم الأسماء أمامهم .
8- ويستمر الحوار، فيأمر الله آدم أن ينبئهم بأسمائهم، فيفعل عليه السلام، وهو الذي علّمه ربه، فتعلّم، هنا قال الله تعالى لملائكته "ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"
فهو سبحانه يعلم غيب السماوات والأرض، ويعلم ما أبدوا بقولهم "أتجعل فيها من يفسد فيها...." ويعلم ما كانوا يكتمون.
ويقول الدكتور فاضل السامرائي، في "وما كنتم تكتمون" أنّ الملائكة تكون قد تحدثت بأنّ الله لن يخلق خلقا أكرم منهم ولا أعلم، وهذا ما كتموه، فخلق الله آدم وعلمه ما لم يعلموا، فهو أعلم، وأسجدهم له، فهو أكرم .
ونكمل في المداخلة التالية بإذن الله.