المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (الفاتحة + البقرة)  (زيارة 16026 مرات)

0 الأعضاء و 3 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
بسم الله الرحمن الرحيم

ترتيب النزول وترتيب المصحف، كلاهما ترتيب يختلف عن الآخر، لم يأتِ المصحف مبتدئا بأول ما نزل من القرآن "اقرأ باسم ربك الذي خلق..." بل جاء مبتدئا بسور مدنيّة النزول، وترتيب النزول من عند الله تعالى كما أنّ ترتيب المصحف من عنده توقيفي كذلك ...

وقع في نفسي يوما وقعٌ أطال المكوثَ أنّ الله تعالى لا يكون منه أمر إلا بقدر وبحكمة، فتملّيت وتساءلت عن شأن عصور متقدّمة تعرف القرآن بترتيب المصحف، وعن شأن غير المسلمين وهم يتصفحون الكتاب من أوله ويبحثون عن كُنْهِهِ بترتيبه الذي هو عليه، كل هذا أراه -والله أعلم- شيئا من حكمة الله تعالى في توقيفه لترتيب المصحف على غير ترتيب النزول...

موضوعنا هذا أريد أن أبدأ فيه خطوة خطوة مع القرآن مشكاةً تنير لنا درب الحياة حسب ترتيب المصحف، أسأل الله تعالى أن يعينني على معرفة حدودي مع القرآن العظيم، وأن يعينني على تجنّب النظر فيه بالهوى .
وكنت قد كتبت شيئا عن هذا الخاطر الذي ألمّ بنفسي أورده ها هنا :
----------------------

عندما نتحدث عن ترتيب النزول وترتيب المصحف، فهما ليسا الشيء نفسَه... ترتيب النزول شيء، وترتيب المصحف الكريم شيء غيره... للمؤمن أن يتساءل ما سرّ اختلاف الترتيبَيْن؟ وقد يترتّب عن تساؤله ثمرة أو ربما ثمرات ...
لماذا لا نحاول قراءة القرآن الكريم بترتيب المصحف، على أنه الطريق الذي يسلكه سالك، فيبدأ من مبتدأ وينتهي إلى منتهى .... هذا السالك هو أنا وأنت وهو وهي ... ربما كان مؤمنا، وربما لم يكن، هذا الكتاب فيه هدى للناس كل الناس، هذا الكتاب يدلّ المؤمن، كما يدلّ غير المؤمن الذي يريد أن يعرف، ويبحث ....
لماذا لا نحاول فتح هذا الكتاب من جديد، بفكرة جديدة، بطريقة جديدة، بروح جديدة....
أريد أن أعرف وأنا أبدأ الطريق، ما التسلسل الذي جاء في هذا الكتاب، بهذا الترتيب الذي أراده ربّ العزة، الذي رسم خطوطه ربّ العزة، فإذا كانت السورة بمعنى"المنزلة" فكيف أراني وأنا أنتقل من منزلة إلى منزلة ؟ وأنا أشق هذا الدرب إلى الله تعالى من مبتدأ الطريق(الكتاب) ....
عندما أبدأ الطريق(فتح دفّتي المصحف) ماذا يقابلني؟ ما أول حاجتي؟ ما أول ما يجب أن أعرف، وما أول ما يجب أن أفعل؟ ما أول ما يجب ألا أفعل ؟
لماذا لا نحاول قراءة القرآن العظيم بهذه الطريقة ؟ لا بترتيب النزول كما نزل على قوم أميّين، كانوا ضالين فهداهم، بل بترتيب المصحف الذي حدده الله تعالى، الذي وضعه الله تعالى لحكمة عظيمة...ربما تتبيّن في عصور ما بعد النزول وما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من تبيّنها في عهد النزول...ربما توائم ناس هذه العصور، ولا تلائم ناس عصر النزول...
لماذا لا نحاول تدبّر الآيات، وتدبّر المنازل(السور)، وتدبّر الانتقال من آية إلى آية، ومن سورة إلى سورة ؟ لماذا لا نحاول ان نبصر النور لا بشيء بل بنور القرآن....
لماذا لا نحاول الربط بين آية تبدو لنا بعيدة عن موضوع آيات كنا بصددها ؟ كأن نقرأ في آيات عن القتال ونقرأ ونقرأ، ثم وفي الطريق نفسه، نقرأ واحدة عن الربا، ثم نعود لنقرأ عن القتال؟ !
نقرأ عن النظام الأسري في الإسلام، ونقرأ ونقرأ ثم نقرأ على نفس الطريق آية الحفاظ على الصلوات والصلاة الوسطى ونعود بعدها لنقرأ عن النظام الأسري من جديد ؟!
لماذا لا نبحث؟ لماذا لا نتأمل؟ لماذا لا نطيل المكوث في الآية ؟ وفي السورة؟ لماذا يكون همنا آخر السورة أو آخر الكتاب لنكون قد أتممنا ختمة ! وبعد....... ؟!
لنحاول.... لنقرأ... لنبحث...لنربط...لنتأمل...لنتدبّر... لنقرأ قراءة شخصية دون استعانة بتفسير إلا في القليل الذي لا نفهم... وسنجد...سنكتشف... سنعرف، وكأننا لم نقرأ من قبل شيّا !!
لنفتح دفتّي المصحف .... لنبدأ الطريق.... لنتخذه طريقا ومشكاة في آن ....لنبحث في أنفسنا بعد كل منزلة(سورة) عما رسخ بأنفسنا، عما استنارت به عقولنا، عما أضاء لنا لنكمل الدرب منزلة إثر منزلة ...


« آخر تحرير: 2018-12-14, 10:05:37 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #1 في: 2015-02-17, 09:42:06 »
بإذن الله نتوكل على الله تعالى ونبدأ رحلتنا هذه، رحلة إنسان خلق في هذه الدنيا، يريد أن يعرف عن نفسه، عن الكون المحيط به، عن الأرض التي هو عليها، وعن السماء التي تظلّه...
يريد أن يعرف كيف يكون المسير، طريقه مظلمة لا يجد فيها هدى، فما عسى تكون مشكاته عليها ؟!

يريد أن يفهم لمَ خُلق، لمَ هو هنا؟ لمَ جاء لهذه الدنيا ؟ يريد أن يعرف أصله، ودوره، وغايته...
إنه الإنسان ....إنه أنا وأنت وأنتِ وهو وهي ... إنه كلنا ....
أما أنا وأنت فقد خُلقنا لأبوين مؤمِنين مسلمَيْن، عرّفانا إلى إلهنا الواحد وإلى كتابنا، وإلى نبيّنا..
شببنا على هذا كلّه، كبرنا نعرفه...

وفجأة اكتشفتُ أنّ كتابنا العظيم هذا يقرأ على نحو أحسن، بطريقة أنجع..
اكتشفتُ أن قراءة حروفه وتركيب آياته منها ليس هو كل شيء، بل هو جزء من الكل ....
ليس هو الأساس، بل الأساس أكبر، وأوسع وأنفع ... وهو أقرب الطرق لفهمه، وأبيَنُها للعيش به، ولمعرفة قدْره، ولاستشعار وتحسّس المعجزة التي فيه حيّة تتحرك، تولد في كل مرة ميلادا جديدا فما عرفتَه منها سابقا هو وجه من أوجهها، وليس كل أوجهها...

عندما نقرأ القرآن بهذه الروح، وبهذا المعنى نبصر ما لم نكن نبصره، ونفهم ما لم نكن نفهمه، وتتبيّن لنا معجزة القرآن الدائمة التي لا تنقطع ....
ذلك عندما نتخذه مشكاة تنير لنا دربنا في هذه الحياة ....
تماما كهذه الصورة التي ترى .... هذا أنا وأنتَ ... وذلك الدرب المظلم هو حياتي وحياتك ... فكيف السبيل إلى نور يحدّد لنا معالم الطريق؟


قد رُبينا على أنّ القرآن هو الهدى، قد ورثنا القول بذلك .... ولقد تأمّلنا سحر آياته، ولقد استشعرنا نورَه المبين ... ولكن أريد أن أبدأ كما يبدأ هذا السائر على الطريق، أريد أن أستشعر الهُدى والنور يجلّي لي الخطوات، فلا تسبق خطوة مني أخرى، ولا أجدُني أتنكّب عن الحق، ولا أجدني أشطط... أريد أن أعرف الحق، وأريد أن أجد ما يقيمني إذا ما تعثّرت خطواتي..
طريقي مظلم مظلم .... لا أتبيّن البداية من النهاية ... ولا أعرف سبيلا إلى شيء...

فإذا بكلمتَيْن تترددان على مسمعي ... إذا بصداهما يشقّ الظلمة، ويخترق الحُجُب فتقع من قلبي موقع النبض يُحييه، وتقع من روحي موقع الأنيس يلوّح بالقرب، وتقع من عقلي موقع السؤال الذي لا يبرح حتى يشفى بالجواب ....

لمحتُ الكلمتين في لباس من نور انعكس على بصري فأبصرتُ ... emo (13):

الحمد لله


وإذا بنور يشعّ على طريقي المظلم...

« آخر تحرير: 2018-12-14, 10:23:41 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #2 في: 2015-02-17, 12:50:13 »
الحمد لله ... وجدتُهما أولى كلمَتَين تتداعيان على لساني وأنا المؤمنة التي تفتح ذلك الكتاب....

كما أنهما أولى كلمَتَين تقابلان غير المؤمن إذ يفتح الكتاب...

أنا ذلك الواقف على تلك الطريق...طريق أضاء لي بالقرآن الذي اتخذته مشكاتي، فكان أول النور كلمتان جاءتا على لساني... "الحمد لله".

ومَن غيره يستحق الحمد على كل نعمة وهو المنعِم، مَن غيره يستحق الحمد على كل حال...
مَن غيره سبحانه يستحق  أن أحمد ؟!
هكذا استهللت طريقي ... هكذا يدلّني ربي، ويهديني لأقرّ الحمد ...
الحمد لله ... ولا أنتظر كثيرا حتى أعرف صفة الإله الذي أحمده ...
"ربّ العالمين" ... يااااه ما أعظم هذا ! الله ربّ العالمين، ربّ العوالم كلها، بإنسها وجنّها، بحيوانها ونباتها، بحجرها ومَدَرها، بجبالها، ووديانها، بالكون وما فيه .... إنه ربّ كل ما حولي، ربّ كل هذا ....
يالهيبة الكلمات مجتمعة في النفس .... "الحمد لله ربّ العالمين "... !!
ولا أمكث طويلا حتى أعرف أن ربّ العالمين هو "الرحمن الرحيم" .... فيُسرّى عن نفسي التي ملئت هيبة وخشية، وتهدأ روحي التي هابت عظمة الله ربّ العالمين .... إنه الرحمن الرحيم
إنه الله ...إنه رب العالمين ... إنه الرحمن الرحيم .... فكيف لا أحمده ؟!

لقد اخترت أن أقف على هذه الطريق... دون كل الطرق، على طريق ليس غير القرآن فيها مشكاتي ... لقد اخترت أن أكون لله عبدا .... وكيف أكون عبدا لسوى ربّ العالمين الرحمن الرحيم ؟!

نعم إنه الرحمن الرحيم... ولكنّه ليس ذاك الذي تبسط برحمته من نفسك كل البسط فتتواكل، وتظنّ أنّ برحمته لا تثريب عليك ولا مَلام، ولا حساب، ولا عقاب، ولا جزاء، ولا شيء من هذا كلّه... إنه ليس الذي يكِلك وما تهوى لما تهوى دون أن يجمعك ويجمع أشتاتك ليوم عظيم، يجزى فيه كلٌّ بما عمل
بل إنه "مالك يوم الدين"... مالك يوم الجزاء، يوم الحساب، يوم حصيلة أعمالك في هذه الدنيا، فمن عمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن عمل مثقال ذرة شرا يره ....

مَن سواه وهو في هذه الكلمات القليلة البسيطة أعرف أنه الذي فوق كل شيء والمسيّر لكل شيء، والمقدّر لكل شيء، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، مالك يوم الجزاء والحساب، فهو العَدل الذي لا يضيع عنده عمل عامل...

فإذا قراري قد صدر... وإذا إقراري قد بلغ ... "إياك نعبد وإياك نستعين "

أنا الواقف في بداية الطريق... اخترت أن أكون لله عبدا، لرب العالمين عبدا، للرحمن الرحيم عبدا، فصدعتُ بعبوديتي، وتوجهتُ له سبحانه وحده بها "إياك نعبد وإياك نستعين"

هكذا بصيغة الجمع علمني ربي نطقها .... ولا بدّ أن لهذه الصيغة من حكمة، ومن سبب، ومن داعٍ
لقد قررت أن أكون لله عبدا لا لسواه .... لقد عرفتُ أن ربّ العالمين وحده ليس كمثله شيء، فكيف أطلب العون من غيره ؟!

ها أنا ذي أطلب... ها أنا ذي أتوجه لإلهي ولربي، الرحمن الرحيم، أسأله أول ما يسأل واقف على الطريق .... ينشد أن يعرف طريقه، أن يعرف كيف تكون خطواته، كيف يسلك دربه :
 "اهدِنا الصراط المستقيم"... إنه دعائي، إنه طلبي، إنه سؤالي لأعرف الطريق، لأعرف مدارجي عليه، لأكون السالك المهتدي ... ومَن سواه يهديني؟ يهديني الصراط المستقيم، يهديني للحق، يهديني لما هو خير، الصراط الذي لا عوج فيه...

إنه أنا وأنت ذلك الواقف في بداية الطريق، على رأسها، يلمح نورا يُنطقه بالدعاء، يعلّمه أنه يسأل الهادي، يسأل الرحمن الرحيم، يسأل ربّ العالمين... يعلّمه أن يكون أول سؤاله الصراط المستقيم ....

هكذا يستفتح السائر طريقه، هكذا يستهلّها، يسأل الهُدى عليها .... يسأل النور الذي يهديه ليعرف دربه، وليكمل مسيره ...
فأي صراط مستقيم هو الذي تريد؟ أي صراط مستقيم هو الذي أريد ؟

إنه الصراط المستقيم الذي سيعرَّف قريبا جدا بين الكلمات، "صراط الذين أنعمتَ عليهم"
إذن فهو نعمة على منعَم عليهم من قبلك ومن قبلي ...

ولكنّ المنعَم عليهم كُثُر!! بل إنّ المنعم عليهم هم كل مَن خلقت يا ربي! ... المنعَم عليهم هم الناس جميعا ...
فأيّهم كان صراطهم مستقيما، وظلّ مستقيما ؟! ولم ينحرف، ولم يتبدّل ولم يصبح معوجا، بل دام مستقيما .... إنهم "غير المغضوب عليهم ولا الضالين"... إنهم أولئك الذين قدّروا النعمة، وعرفوا للمنعِم حق قدره، فجازاهم الله بما عرفوا، وبما ثبتوا، وبما قدّروا أن دامت صراطهم مستقيما، وثبتهم عليها، بل أن أصبحت بُغية كل مستهدٍ، كل مستفتح طريقه ....

إنهم عباد الرحمن المنعَم عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالون، إنهم الذين رضي الله عنهم، إنهم الذين عرفوا الحق فاستمسكوا به فما ضلّوا....

تلك هي الصراط التي أدعوك أن تهدينيها يا رب العالمين، يا رحمن يا رحيم، يا مالك يوم الدين، تلك هي التي أرجو أن تكون صراطي وأنا الواقف في مبتدأ الطريق .... وذلك هو الدعاء الذي علمتَنيه يا ربّ العالمين....
ّ
ففي بداية طريقي هذه قد عرفتُ إلهي الذي هو ربي ورب العالمين، قد عرفت أنه الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، قد عرفت أنه لا أحد سواه يليق أن أوجه له وجهي، فأعبده وأقر له بالعبودية، وأستعين به على أمري كلّه...
فيا ربي أنا عبدك المستعين بك المستهدي بك،سائلك الصراط المستقيم، سائلك الرضى، سائلك الهُدى
لقد افتتحتُ طريقي (الفاتحة)، لقد أقررت بألوهيّة ربّ العالمين، لقد استعنتُ به، لقد سألته الهُدى على هذه الطريق.... لقد سألتُه نعمة من لم ينسَ المنعِم "الصراط المستقيم"

فماذا بعد الاستفتاح،والاستعانة والاستهداء  ؟
« آخر تحرير: 2015-02-17, 13:01:17 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #3 في: 2015-02-19, 10:20:25 »
لقد افتتحنا طريقنا...فلاحت لنا بوارق النور من "الفاتحة"، فكنتُ وكنتَ فيها :

1- حامدا 2- عابدا 3- مستعينا 4- مستهديا الصراط المستقيم. -------> لله وبالله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين.

ولا أحبّ أن أفوّت بعض الجماليات في هذا الافتتاح، أضعها من وحي نظرة في بيان السورة للأستاذ الدكتور فاضل السامرائي في لقاء إذاعي :

1- جاء الحمد ولم يجئ الشكر، لأن الحمد أعمّ، فالشكر يكون لمن يسدي لك خدمة، ويغدق عليك، بينما الحمد يكون على كل حال، ولم يجئ المدح بدل الحمد لأنّ المدح يكون للعقلاء ولغير العقلاء، كأن تمدح لؤلؤة، بينما الحمد خاص بالعقلاء .

2- جاءت صيغة الحمد بجملة اسميّة لا فعليّة، إذ أنّ الجملة الاسمية مجرّدة عن الفاعل وعن الزمان، فلم تكن "أحمد الله" التي قد يفعلها فاعل في زمن معيّن، بل جاءت مطلقة من الفاعل ومن الزمان، فالحمد قبل حمد الحامدين وبعد حمد الحامدين، ولا يستطيع فاعل أن يقوم بالحمد كله "أحمد الله"، فترك مطلقا، وقد يدخله التكذيب، فيقول "أحمد"، وهو كاذب، أما المصدر "الحمد" فمطلق عن هذا أيضا. لأنه سبحانه يستحق الحمد في كل حين، ومن كل مَن خلق.

3- لم تكن "الحمد للخالق" أو "الحمد للرازق" فتُفهَم وكأنه سبحانه يحمد على الرزق ولا يحمد على غيره، وكأنه يحمد على الخلق ولا يُحمد على غيره، بل هو سبحانه يُحمد على كل شيء، فجاء لفظ الجلالة الجامع "الله".

4- "رب العالمين" فهو الرب المربي الراعي، المرشد، الهادي، الرازق، كما احتوت "رب العالمين" على ملكه سبحانه للدنيا ضمنيا، من قبل بلوغ "مالك يوم الدين".

5- "الرحمان الرحيم"، جاءت كلتاهما، وكل منهما لها دور، أما "الرحمن" فهي على وزن "فَعْلان"، وهي لغويا الصفة المشبهة ومن ميزاتها أنها للأمور الحادثة والطارئة، هي للخلوّ والامتلاء، بينما "رحيم" على وزن فعِيل من ميزاتها الثبوت، كأن نقول في فعلان غضبان، جوعان فهي صفة متجددة، تحدث وتزول، وتدل على الخلو والامتلاء، أي الامتلاء بالجوع، وهكذا "رحمن" تدل على الامتلاء بالرحمة، وهي تتجدد، تضاف إليها "رحيم" لتدل على الثبوت، فهو سبحانه رحمن رحيم ليتكاملا،  .فصفته العامة هي الرحمة والمتجددة هي الرحمة.فلا تغادره الرحمة

6- "إياك نعبد" جاءت "إياك" سابقة للفعل، كما لم تجئ"نعبدك" للتخصيص، أي لا نعبد سواك. نخصّك وحدك بالعبادة.

7- تحولت الصيغة من الغائب إلى الحاضر أي من "الحمد لله رب العالمين" بدل الحمد لك يا رب العالمين"  إلى خطاب الحاضر "إياك نعبد وإياك نستعين"، وهي تسمى بصيغة الالتفات، وهو سبحانه لا يكون ربا راعيا مربيا من غير حضور، ولا يكون مالكا ليوم الدين والمحاسبة والجزاء من غير حضور سبحانه، ولنتأمل كم مرة نتوجه له سبحانه في اليوم بدعائنا وسؤالنا "إياك نعبد وإياك نستعين"، نفتتح كل يوم من أيامنا بإقرار العبودية له، وبسؤال الصراط المستقيم...

8- "الصراط المستقيم"، جاءت الصراط ولم تجئ غيرها، من مثل السبيل، لأن الصراط هو الطريق الواسع، الشامل، وهو مصبّ السبل المتفرّعة، وهو المستقيم أي الطريق الأقرب والأصوب لبلوغ الغاية المحددة.

يبقى السؤال المطروح ...
بعدما افتتحت، ودعوت، وسألت أول ما سألت الصراط المستقيم، وأنا العابد الحامد، الموحد لله رب العالمين، ماذا بعد السؤال ؟؟ !! أين ترانا نجد الجواب ؟
« آخر تحرير: 2015-02-25, 14:52:09 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #4 في: 2015-02-19, 10:56:15 »
يبقى السؤال المطروح ...
بعدما افتتحت، ودعوت، وسألت أول ما سألت الصراط المستقيم، وأنا العابد الحامد، الموحد لله رب العالمين، ماذا بعد السؤال ؟؟ !! أين ترانا نجد الجواب ؟


تذكّر دوما أنك على الطريق... تذكّر أنك على درب الحياة والقرآن مشكاتك... تذكّر أنك الواقف عليه تسترشد بنور القرآن الكريم ....
ولقد برقتْ لك منه بارقة، علمتْك كيف تبتدئ بالدعاء، متوجها به لرب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، سبحانه الذي أقررت بعبوديتك له وحده...

انظر كم أنّها الأمنية الأغلى والمطلب الأعزّ، "الصراط المستقيم"...

أراك تتشوّف لجواب سؤالك، تتشوّف لإجابة دعائك ... أراك وقد سألت ربك الهدى إلى الصراط المستقيم، تريد أن تسمع الجواب ....

لا تقلق .... ليس بعيدا جوابك ... ليس مؤجّلا ولا مُبعَدا إلى حين ....
بل هو قريب قريب قريب... إنه هنا قريبا جدا وقد أنهيت آخر كلمة من افتتاحك الطريق "....ولا الضالين"...

"الم(1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ(2) "

إنه "ذلك الكتاب" لا ريب فيه، هدى للمتقين....
إن الهدى في "ذلك الكتاب" الذي لا ريب فيه، لا شكّ فيه، بل هو الحق والصدق ...
إذن فقد أجيبت دعوتك، فدلّك ربك على مصدر الهدى الذي سألتَه... ألم تقل قبل قليل "اهدِنا الصراط المستقيم" ؟
ها هو ربك يجيبك، ويرشدك ويهديك إلى أن الهدى في "ذلك الكتاب" ... إنه هذا الكتاب، إنه المشكاة التي تسترشد بنورها على طريقك...
إنه عليّ المقام فهو "ذلك"، فانظر فيه تجدِ الهدى، استرشد به تجد الهدى...كن من المتقين تجد الهدى
ألم تستهدِ قبل قليل، ألم يهدِك الله لأن تستهدي ؟ ألم يعلّمك هو سبحانه كيف تستهدي؟ فالحمد لله الذي هدانا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا ....بل لم نكن لنستهدي لولا أن هدانا ...

فها هو سبحانه بعدما علمك الاستهداء-------> يعرّفك على مصدر الهُدى .(ذلك الكتاب)

لقد تقدّمتَ على طريقك خطوة ... لقد عرفتَ منبع الهُدى الذي سألته، والأحرى بمَن عرف المنبع أن ينهل منه ....ولا ينهل منه إلا المتقون

إذن فقد :

1- افتتحتَ طريقك بسؤالك الهدى إلى الصراط المستقيم.
2- ها هو الجواب يعرّفك بمنبع الهدى (ذلك الكتاب).
3- لقد تقدّمت على طريقك خطوة، انتقلت من منزلة إلى منزلة أخرى (وذلك واحد من معاني كلمة "سورة"، فأنت الآن في المنزلة الثانية من منازل الطريق "البقرة")
4- صفة المنتفع بهذا الهدى "التقوى".

سنكمل الدرب سويا، نريد أن نتقدّم عليه مهتدين بمشكاة القرآن (ترتيب المصحف التوقيفي)...
ترى ماذا سيعلّمنا ربنا بعدها ؟ ونحن الواقفون ببداية الطريق ؟





« آخر تحرير: 2015-02-25, 14:54:08 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #5 في: 2015-02-19, 13:21:04 »
إذن فقد :

1- افتتحتَ طريقك بسؤالك الهدى إلى الصراط المستقيم.
2- ها هو الجواب يعرّفك بمنبع الهدى (ذلك الكتاب).
3- لقد تقدّمت على طريقك خطوة، انتقلت من منزلة إلى منزلة أخرى (وذلك واحد من معاني كلمة "سورة"، فأنت الآن في المنزلة الثانية من منازل الطريق "البقرة")
4- صفة المنتفع بهذا الهدى لآيةيي"التقوى".

سنكمل الدرب سويا، نريد أن نتقدّم عليه مهتدين بمشكاة القرآن (ترتيب المصحف التوقيفي)...
ترى ماذا سيعلّمنا ربنا بعدها ؟ ونحن الواقفون ببداية الطريق ؟

حاول أن تسمع كلمات الله تعالى مجملة غير مفصّلة آية آية لتخرج بموضوع مجموع آيات ومِحورها، ولنحاول في هذه الرحلة التي تأخذنا سويا على هذا الدرب أن نتدبّر الآيات في سياقها المترابط جملةً لا تفصيلا...
لن نغفل جماليات فيها منفصلة الواحدة فيها عن الأخرى، ولكنّ أكبر تركيزنا سيكون على مجموع الآيات تصبّ في موضوع، سنركّز على مقاصدها مجتمعة، نريد أن نستشعر الانتقال من معنى إلى معنى، من موضوع إلى آخر، من خطوة إلى خطوة فلا تبدو لنا السورة شتاتا لا يلتحم بعضه مع البعض الآخر، لا تبدو لنا السورة جامعة لمواعظ وأوامر ونواهي، وأحكام بتفرّق، فنتعلّم من متفرّقها، ونغض الطرف عن مجتمِعِها، نغض الطرف عن مقاصدها، وعن لحمة فيها تجعل السورة بكل آياتها تصبّ في موضوع بعينه، وفي مقصد بعينه .

ولقد وصف محمد بن عبد الله دراز رحمه الله مثل من ينظر في الآيات منفصلة قبل النظر الإجمالي للسورة أحسن وصف فقال :

 "وهل يكون مثله في ذلك إلا كمثل امرئ عرضت عليه حلة موشية دقيقة الوشي ليتأمل نقوشها فجعل ينظر فيها خيطًا خيطًا ورقعة رقعة، لا يجاوزه ببصره موضع كفه، فلما رآها يتجاور فيها الخيط الأبيض والخيط الأسود وخيوط آخر مختلف ألوانها اختلافًا قريبًا أو بعيدًا لم يجد فيها من حسن الجوار بين اللون واللون ما يروقه ويونقه. ولكنه لو مد بصره أبعد من ذلك إلى طرائف من نقوشها لرأى من حسن التشاكل بين الجملة والجملة، ما لم يره بين الواحد والواحد، ولتبين له من موقع كل لون في مجموعته بإزاء كل لون في المجموعة الأخرى ما لم يتبين له من قبل. حتى إذا ألقى على الحلة كلها نظرة جامعة تنتظم أطرافها وأوساطها بدا له من تناسق أشكالها ودقة صنعتها ما هو أبهى وأبهر. فكذلك ينبغي أن يصنع الناظر في تدبره لنظم السورة من سور القرآن.
"

أول قطاع من الآيات سيبدو لك جليّا تكوّنه هو تلك المسافة من الآية 3 إلى الآية 20

من الآية 3 إلى الآية 20

انظر ماذا ترى في هذا القطاع...
ماذا تسمع الله يعلّمك فيه ؟ لقد عرّفك أن الهدى في هذا الكتاب الذي تتصفحه، هذا الذي قرّرت أن يكون مشكاتك على درب الحياة... أنت الإنسان، أنت العبد الذي عرف منبع الهدى الذي سأله من رب العالمين...

تأمّل هذه الصورة :


فمن 3 إلى 5 أوصاف المؤمنين، ومن 6 إلى 7 أوصاف الكافرين، ومن 8 إلى 20 أوصاف المنافقين.
وأنت في بداية الطريق، الله سبحانه يعرّفك أصناف الناس، وهي ثلاث لا رابع لها، مؤمن وكافر ومنافق أما المؤمنون فهم المفلحون، وأما الكافرون فلهم عذاب عظيم، وأما المنافقون ففي قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا، ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون.

ولقد اخترتَ من بداية الطريق مَن تكون، لقد حمدت الله، ولقد أقررت بالعبودية له، فماذا ترى بعد هذا التفصيل في أوصاف الناس ؟! أيها تؤكّد أن يكون اختيارك ؟

ولنا بإذن الله تتمة....
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #6 في: 2015-02-22, 10:39:18 »
لا تنسَ أيها السالك معي هذا الطريق أنّا على درب الحياة نتخذ القرآن العظيم مشكاة  emo (30):
فمن 3 إلى 5 أوصاف المؤمنين، ومن 6 إلى 7 أوصاف الكافرين، ومن 8 إلى 20 أوصاف المنافقين.
وإننا على مدارج المنزلة الثانية من منازل طريقنا "البقرة" .


قد عرّفك الله سبحانه أصناف الناس، وهي ثلاث لا رابع لها، مؤمن وكافر ومنافق أما المؤمنون فهم المفلحون، وأما الكافرون فلهم عذاب عظيم، وأما المنافقون ففي قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا، ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون.

ولقد اخترتَ من بداية الطريق مَن تكون، لقد حمدت الله، ولقد أقررت بالعبودية له، فماذا ترى بعد هذا التفصيل في أوصاف الناس ؟! أيها تؤكّد أن يكون اختيارك ؟

لا أراك ولا أراني إلا عاضَّيْن على "الإيمان" بالنواجذ ...

فماذا بعد هذا ؟


إنني أسمع الآن نداء ربي .... إنه يدعونا ...

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)"

لقد عرفتُ أصناف الناس على الأرض، فهم مؤمن وكافر ومنافق، وعرفت أوصاف كل صنف، فما أخزى حال الكافر والمنافق وما أبشع مآلهما !، وما أبهى حال المؤمن وما أشهى مآله ! ولكنّ رب العالمين الرحمن الرحيم يدعو كل الناس، ولا يبخل على كافر ولا منافق، سبحانه يدعوهم جميعا لعبادته ...

إنّ أول ما يجب أن نعرفه على طريق الحياة أننا مكلّفون من ربّ العالمين، خلقنا وكلّفنا وكان أول أمره لنا أن نعبده سبحانه، ولن يبخل عليك وعليّ بأن نعرف أقرب الأوصاف لفهمنا ونحن نبتدئ الطريق، إنه الذي خلقنا وكلّ من قبلنا، إنه الذي جعل لنا الأرض فراشا، والسماء بناء، وهو الذي أنزل من السماء ماء، فأخرج به من الثمرات ما هو لنا رزق... إنه خالقنا وخالق السماوات والأرض، ورازقنا ....

فهل أقرب من هذه الأوصاف لفهمنا، وفهم كل إنسان ليتعرّف على ربّه الذي يدعو كل من خلق ليعبدوه ؟!

وهل لنا أن نجعل له من أنداد سبحانه ؟! وهل لنا أن نحجب عقولنا عن الشمس في رابعة السماء ؟! فنلغي أفهامنا، ونلغي أبصارنا، ونلغي عقولنا ؟!

فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(22)

فما معنى ألا تجعل لله أندادا ؟ أليس أن ينطق لسانك طواعية وأن تزرع عليه كلمات التوحيد زرعا، فينطق بها نطقا، فإذا أنت تصدع وتقول: "لا إله إلا الله " ؟

إنه مفتاح العبادة التي دعانا لها سبحانه ....!

لا بل إنّ المفتاح لتكتمل أسنانه بالآية الموالية اكتمالا، فتأمّل ...

وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(23)
فتجد الكلمات مقبلة على لسانك، مسرعة لتكمّل الشطر الأول من المفتاح، مفتاح العبادة ...قائلا : "محمد رسول الله"

وإنّ محمدا صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه "الكتاب" ... هذا الكتاب الذي هو مشكاتك ... ذلك الذي لا ريب فيه ...ذلك الذي هو هدى للمتقين ...

وإنك، وإني وإنّ كل من خلق الله لن نقدر على الإتيان بسورة من مثله، وإننا لم نفعل، ولن نفعل...
وعلى هذا حريّ بنا أن نتقي النار التي أعدت للكافرين بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نتشوف ونعمل للجنة التي أعدت للذين آمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ...


فتأمّل يا صاحب الطريق....  emo (30): تأمل  emo (30):

أليس هذا(من20إلى25) تفصيلا لما جاء في مستهلّ هذه المنزلة (البقرة) ؟

"الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ"-----> الله الخالق
"الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ"-----> النار جزاء الكافرين.
"الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ"-----> الجنة جزاء المؤمنين العاملين للصالحات.

"والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ "-----> "مما نزّلنا على عبدنا"(الكتاب،القرآن)
"والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ"------> "على عبدنا" الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.

"وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ"  -----------> النار التي أعدت للكافرين، والجنة التي أعدت للمؤمنين.

إذن....

فيا أيها الماشي على درب الحياة بالقرآن مشكاة، يا حامدا، يا عابدا، يا مستهديا الصراط المستقيم، يا من علمك ربك الاستهداء، ها هو سبحانه قد أجابك وهو الرحمن الرحيم، فعلّمك أن منبع الهدى هو هذا الكتاب مشكاتك...

ثم علّمك أن الناس أقسام ثلاثة، مؤمن وكافر، ومنافق.

ثم سمعته يدعو كل الناس بأقسامهم الثلاثة إلى عبادته، بل ويمدّهم بمفتاح العبادة "لا إله إلا الله محمد رسول الله".


« آخر تحرير: 2015-02-25, 19:54:40 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #7 في: 2015-02-22, 16:20:22 »
أنا وأنت على هذا الطريق... إننا في بداياته...
عرفنا ما كلفنا به ربنا في هذه الدنيا، "العبادة"، وعرفنا مفتاحها "لا إله إلا الله محمد رسول الله"

ومشكاتنا على الطريق هذا الكتاب ...(راجع الخطوات السابقة لتفهم ما وصلنا إليه emo (30): )

هذا الكتاب الذي نستهدي به ونسترشد، هو كلام الله تعالى، هو أمر الله بطلاقة حكمته ومشيئته...
هو الكتاب الذي لا يعرف ما فيه من لم يتملَّ معانيه ومراميه، كتاب الخالق الرازق الربّ المربّي سبحانه، فما شاء بحكمته وتمام علمه كان فيه...
هذا الكتاب الذي تحدّى الله بسورة منه أن يأتي أحد من عباده من مثله، وقرّر ألا أحد  سيفعل...
في هذا الكتاب لا يستحيي الله سبحانه أن يأتي فيه بما يشاء، أن يضرب المثال الذي يشاء، فلننظر ماذا نسمع الآن من كلام الله بعدما عرفنا :

إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ(26) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(27)

فما وجه الربط يا ترى بين ما عرفنا وبين هذا الجديد في خطوات متتاليات نخطوها على طريقنا ؟

ذلك أنّ من شاء أن يحصّل الحكمة والعلم والهداية من هذا الكتاب، فليس له أن ينتقد ورود ضرب الله المثال فيه بحيوان، بل بحشرات، ببعوضة، وبذباب، وبعنكبوت... تلك مشيئة الله تعالى، وهو سبحانه الخالق، وفي كل خلقه شؤون وشؤون وأسرار وعظمة تدبير وأمر وتسيير ...
فأما من أراد الهُدى فليس له أن ينتقد بعقله القاصر -وهو من خلق الله - كلام الله الخالق الهادي كما جاء ...

ولابن عاشور في هذه الآيات مقام ربط جميل إذ قال:

"قد يبدو في بادىء النظر عدم التناسب بين مساق الآيات السالفة ومساق هاته الآية ، فبينما كانت الآية السابقة ثناء على هذا الكتاب المبين ، ووصف حالي المهتدين بهديه والناكبين عن صراطه وبيان إعجازه والتحدي به مع ما تخلل وأعقب ذلك من المواعظ والزواجر النافعة والبيانات البالغة والتمثيلات الرائعة ، إذا بالكلام قد جاء يخبر بأن الله تعالى لا يعبأ أن يضرب مثلاً بشيء حقير أو غير حقير ، فحقيق بالناظر عند التأمل أن تظهر له المناسبة لهذا الانتقال ، ذلك أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي البلغاء بأن يأتوا بسورة مثل القرآن ، فلما عجزوا عن معارضة النظم سلكوا في المعارضة طريقة الطعن في المعاني فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزه عنه كلام الله ليصلوا بذلك إلى إبطال أن يكون القرآن من عند الله بإلقاء الشك في نفوس المؤمنين وبذر الخصيب في تنفير المشركين والمنافقين.
"

وإنما جعله الله تعالى ليضل به فريقا ويهدي به آخر، فأما الذين يضلون به فهم أهل النفاق والكفر، المشكّكون، المضطربون، والمعاندون والمكابرون وهُم هُم "الفاسقون" وهُم هُم الذين ينقضون عهد الله، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، وهُم هُم الخاسرون ...

فأما المفسدون في الأرض فمنهم أولئك الذين يطعنون في كتاب الله تعالى، فينسبون إليه النقص من ضربه الأمثلة بالحشرات...وأنه لا يليق بالله العظيم أن يكون منه هذا ...
ولكنّ الله في جلال قدره لا يستحيي من أحد، ولا يهتمّ لكلام أحد من خلقه ....

فأما أنا وأنتَ،ونحن نريد أن نهتدي، أو ذاك الذي يريد أن يعرف عن الكتاب وليس من أهله، وهو في بدايات الطريق، وهو يبحث عن الحقيقة... فإنّه ستبادره هذه الكبرياء لله جلّ في عُلاه، ستبادره هذه الإرادة التي لا تأبه لكلام ولا تخشى من ملام ... ستبادره هذه الحكمة الإلهية العظيمة وهو سبحانه يعلّمه أنّ من يريد الحكمة لا يجوز أن يحقّر أمرا، ولا يجوز أن يحكم على ظاهر من الأمر...

فتزيد هذه البدايات هذا المبتدئ المستكشف، الباحث عن الحقيقة حبا في معرفة المزيد من كلام إله خالق مربّ حكيم عليم، لا يُسأل عما يفعل وعما يقول ...

والآن ونحن في سياق الربط والسير الهُوينى على ضوء القرآن العظيم، فهل ترى الكلام مُنْبتّا بعضه عن بعض ؟ هل ترى العرض الإلهي الحكيم في كتابه سبحانه شتاتا لا يمتّ بعضه بصلة لبعض ؟!
بل إنه ليهيّئ القارئ الجديد، الباحث، المنقّب ليعلم أنه بين يدَي كلام الحكيم العليم العظيم الذي يعلم ما يجب أن يكون في كتابه مما لا يجب أن يكون...

وإنّه ليسكب بكلماته هذه في قلب المؤمن ثقة في أنّ ما يكون من عند الحق فهو حق كله .فيستحضر قوله تعالى : "وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ(125)"-التوبة-
فيا مَن كان أول سؤالك الهدى إلى الصراط المستقيم، باعد بين نفسك وبين الفسوق، بينها وبين نقض عهد الله، بينها وبين قطع ما أمر به الله أن يوصل، بينها وبين الإفساد في الأرض إن كنتَ تريد الهُدى حقا.


ولنا بإذن الله تتمّة  emo (30):
« آخر تحرير: 2015-02-25, 14:56:31 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #8 في: 2015-02-23, 11:31:56 »
إن أحببنا أن نُجمل خطواتنا القليلة من بدايات مصحفنا الحبيب إلى مبلغنا من الطريق، قلنا :

أنا العبد، الحامد، المستعين بالله، المقرّ بعبوديتي له وحده، استهديتُه سبحانه الصراط المستقيم، فلم يطل بي المقام حتى سمعت رب العزة يخبرني أنّ منبع الهُدى الذي أبحث عنه هو هذا الكتاب، وأنّ صفة من يهتدي بهُداه هي "التقوى"، فعرفتُ أنّ الناس أصناف ثلاثة مؤمن وكافر ومنافق، ثم سمعت ربّ العزّة لا يبخل عى أحد من خلقه، بل يدعو الناس جميعا لعبادته...

وهنا تجدر الإشارة إلى التفريق بين هُدى وهُدى.


فأما هُدى الدلالة فهو الذي لم يُحرم منه أحد من الناس، وهو الذي عرفناه في "يايَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)" وأما هدى المعونة او هدى التوفيق فهو الذي عرفناه في "هدى للمتقين"، فمن صدّق بعد هدى الدلالة، وآمن بالله ربا، يهديه الله بالقرآن هدى التوفيق أو هدى المعونة، وأما من لم يصدّق ولم يؤمن بالله ربا من هدى الدلالة، فكيف السبيل لأن يهتدي هُدى المعونة.

وعلى هذا ننظر في قوله تعالى "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(6)"، وقد يسأل سائل كيف لا يهتدي الكافر، والله بعدها يدعو جميع الناس لعبادته ؟! وكأيّن من كافر انقلب مؤمنا.
أما إذا تأملنا ودققنا عرفنا أنّ الذي عنتْ الآية إنما هو الإنذار "أأنذرتهم أم لم تنذرهم". ولم تكن "أدعوتَهم أو لم تدعُهُم" . إذن توجّب التدقيق في المعاني الصحيحة التي يريدها الله سبحانه من الكلمات التي يختارها تحديدا دون غيرها قبل الخوض في مقارنة عقيمة قد توحي بالتناقض .
 فهل ينفع الإنذار من سوء العاقبة ومن غضب الله من لا يؤمن بالله ربا ؟ إذن فوجب أن ينبني الاهتداء، والسماع للإنذار وخوف عقاب الله على الإيمان بالله ربا أولا وإلا فلا وقع للإنذار في قلوب منكرة لله تعالى . أما إذا آمن الكافر وانقلب من الكفر إلى الإيمان بالله أولا أساسا وقاعدة لما يلي من إيمان فسيكون للإنذار وقع في نفسه .

إذن بعدها دعا الله الناس جميعا لعبادته، لنستشفّ من الآيتين التاليتين مفتاح العبادة، "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ثم بعدما تحدى الله تعالى أن يأتي أحد بشيء من مثل القرآن، يعلن أنه لا يُنقص من إعجاز كتابه سبحانه أن يضرب مثلا ببعوضة أو بما دون البعوضة ...

كل هذا قد عرفناه متسلسلا في سياق من الخطوات المتتالية التي أحببنا أن نسترشد بالقرآن لنخطوها، حسب ترتيب المصحف التوقيفي من الله تعالى .(التفاصيل في المداخلات أعلاه)

ثم يقول سبحانه :
 "
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(29)
"

وفي هذا يقول الدكتور محمد الدراز رحمه الله :

وكما أن بيان أوصافهم هناك قد جلاهم أمام السامع في صورة تحرك داعيته لسماع ندائهم بالنصح والتعليم، كذلك بيان أوصافهم هنا قد استفز النفوس إلى سماع مخاطبتهم بالتعجيب والإنكار .. {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ...} الآيات.
2- عود الكلام إلى المقصد الأول بأركانه الثلاثة، ولكن في ثوب جديد:
"أما في الركن الأول" فقد سمعته هناك يأمر بعبادة الله، وتسمعه هنا ينهى عن الكفر بالله.


فهو سبحانه ينكر الكفر على من كفر، ويجيئ السؤال استنكاريا من حيث نعمة الخلق والإيجاد من عدم التي هي من يد الله تعالى وحده، فإنما نحن البشر الذين لم نكن  شيئا مذكورا، فأوجدنا الله من عدم، وهو سبحانه كما أحيانا من عدم، يميتنا، ثم يحيينا مرة أخرى وإليه الرُّجعى وإليه المصير ...

وهو سبحانه الذي خلق كل ما في الأرض وسخّره للإنسان، ثم استوى إلى السماء وهو خالقها فسواهنّ سبع سماوات....

وإن في هذه تقدمة من الله عزّ وجلّ ليعرّفنا بتفصيل هو آت في الطريق، ونحن إليه ماضون على طريقنا .... إنها مقدّمة تأخذنا لما هو أكثر تفصيلا، لنبأ عظيم سيحيطنا الله به خُبرا...

فلنستمع .....



ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #9 في: 2015-02-24, 14:16:17 »
والآن ... فلنستمع لما يخبرنا به الله :

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ(34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(39)

قد سبقها سؤال استنكاري من الله تعالى على من يكفر به سبحانه وهو الذي أحيانا بعدما كنا أمواتا، ولم نكُ شيّا، وهو الذي يميتنا، ثم يحيينا ثم إليه نُرجَع، كيف للعبد أن يكفر بعبادة إله أغدق عليه بوجوده، ثم يغدق عليه بوجود مرة أخرى بعد أن يفنى ؟!!

كيف يكفر بمن سخّر كل ما في الأرض للإنسان، ثم استوى إلى السماء التي تظلّه فسواهنّ سبع سماوات ؟!

كيف يكفر الإنسان بمَن خلقه كما سنعرف من هذه التفاصيل ....

استمع أيها الإنسان، استمع يا سالك هذه الطريق... لعلّك لا تنفكّ متسائلا: ما أصلي؟ كيف أنا على هذه الأرض؟ ما قصة وجودي الأول؟ لمَ خُلقتُ؟ لمَ أنا موجود ؟ تريد أن تعرف أصلك، تريد أن تعرف قصتك ...تريد أن تعرف الهدف من وجودك، تريد أن تعرف دورك ...

استمع، فالله تعالى وأنت في مبتدأ الطريق، سيخبرك بمبتدأ وجودك، سيخبرك بقصة خلقك...
لقد تأملتَ الآيات السابقة، حيث دعاك ربك لعبادته، فكان أول ما عرّفك به ربا أنه الذي خلقك والذين من قبلك، ثم لم تمكث طويلا حتى سمعت الحديث عن الخلق من جديد في استنكاره سبحانه كفر الكافر وهو الذي أحياه من بعد موت، وهو الذي يحييه مرة أخرى بعد إماتة...
ربما تجدكَ بعد هذه اللمحات، والشذرات تتساءل عن أصل إنسانيّتك، عن قصة خلقك ...
فأبشر فالحيرة لن تطول بك وأنت في عَرض كلام الخالق البارئ المصوّر ... emo (30):

إنّي جاعل في الأرض خليفة...


ذلك كان قول الله عزّ وجلّ لملائكته، وهو سبحانه يخبرهم بأمر الإنسان، وما أراد به ...عن أمر الإنسان الأول على هذه الأرض ...

فلندقّق في كلمات القصّة:

1- جاءت "ربك" ولم تجئ "إلهك"، إذ الرب بمعنى الخلق والرزق والتربية وغيرها، فكانت "ربك" هنا وهو سبحانه يقصّ قصة الخلق أولى وأدقّ.

2- "إنّي جاعل" ولم تكن "إني خالق"، فما الفرق بين الخلق والجعل؟
الجعل غالبا يأتي بعد الخلق، والخلق يسبقه،  "ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً" فهل خلقه حطاما  ؟! لا بل جعله حطاما، أي أنه حال يجريه الله على الشيء المخلوق. وهو بمعنى صيّره حطاما، "وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ"، أي صيّرهم قردة وخنازير من بعد ما خلقهم بشرا، ففي الغالب معناها "صيّر". أي حال ينسب للشيء المخلوق مسبقا.

فما وجه البيان في هذا مع قصة آدم عليه السلام ؟!
ذلك أنّ الله تعالى لا يستشير فيما يريد، بل هو سبحانه يخبر بما أراد، وفرق شاسع بين الاثنَين، فإخباره الملائكة بأمر آدم عليه السلام، ليس عن استشارة، بل لقد أخبرهم وأعلمهم بما كان منه وانتهى...
لقد خلقه، ثم هو جاعلُه خليفة، فهل هو مستشير في أمر خلقه سبحانه ؟ حاشاه... فهل هو مستشير في أمر جعله خليفة؟ حاشاه، بل هو مخبر بما قد أراد وانتهى.

3- "خليفة"، قد أدار الناس هذه الكلمة مدارات عدّة، فما الخليفة؟
** "خليفة" بمعنى أنه خلف خلقا سبقوه، نعم تجوز، لأنه يجوز أن يجعل الله في الأرض خليفة للجنّ الذين خلقهم قبل الإنس.
** "خليفة" بمعنى أن الإنسان خلقه الله تعالى ليجعل نسله يخلف بعضه بعضا في الأرض. تجوز

** و"خليفة" التي معناها "خليفة لمظهرية كُنْ للخادم لذلك المخدوم"

هذا التعريف من كلام الشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى وأجزل له الثواب، فلندقّق :

"خليفة لمظهرية كُنْ للخادم لذلك المخدوم"

لقد أخضع الله للإنسان الأرض وما فيها، سخّر له كل ما فيها، وقد أخبرنا بذلك قبل بدئنا مع هذه الآية في قوله:"هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً"، أخضع له الكون فأصبح له خليفة، فظنّ الخليفة أنه باستجابة الأسباب له قد صار أصيلا فطغى !!!  لما استجابت له الأسباب رأى نفسه أصيلا في الأرض، وإنما هو الخليفة فيها ...

إنه الحوار بين الله جلّ في عُلاه وبين ملائكته الذين لا يعصونه سبحانه ما أمرهم... فلقد بدأ الله تعالى بالقول، وها هم الملائكة أيضا يردون فيقولون: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ؟"

4-ترى ما الذي جعل الملائكة تردّ هذا الردّ؟
إنهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم، إنهم الذين يسبّحون بحمد الله ويقدّسون له، فحريّ بمن عرف قدر الله تعالى وخلق على الطاعة ألا يرضى بمن يفسد في أرضه التي خلقها، ويسفك الدماء فيها، مما يلقي في أفهامنا أنّ الملائكة تعلم أن الإفساد وسفك الدماء ليس من أمر الله تعالى وأنه مما لا يحبّه الله تعالى، ولا يرضاه، وإنما لا يقع إلا إذا طغى الإنسان ونسي ربّه الذي إليه الرُّجعى فيجازي كلا بما عمل .

وقد قيل في هذا الاستفهام من الملائكة، ونسبة الإفساد والسفك للإنسان أنها قد تكون اطلعت على شيء مما في اللوح المحفوظ، فعلمت بإذن من الله تعالى أن سيكون من الإنسان إفساد وسفك للدماء، وقد يكون لأنها علمت ذلك من سلوك المخلوقات السابقة للإنسان وهي الجنّ.

5-ويستمرّ الحوار، ويقول الله تعالى قوله الفصل "إني أعلم ما لا تعلمون". قول فصل من ربّ عليم حكيم، أحاط علمه بكل ما كان وما هو كائن، وما سيكون، و له حكمة في كل ما يفعل سبحانه... وهو الذي يعلم ما لا يعلمون.

فهم قد حكموا على مدى علمهم، وهو سبحانه قد خلق على موجب علمه، ولا اعتراض لعلم مخلوق على علم الخالق.

6- ها هو سبحانه يعلّم آدم الأسماء كلها، نعم إنها الأسماء كلها التي كانت، والتي هي اليوم في عصرنا، والتي هي غدا في عصور بعدنا إلى يوم الساعة، أوليست هي الخميرة التي منها انبثقت كل الأسماء ؟! أوليست هي الأصل الذي منه تعلم كل بنو آدم،  من بعد ما سمعوا من آدم ومن حواء، ومن ذريتهما، وممن بعدهم، فوضعوا المسمّيات الجديدة، وكانت اللغات في الأرض، وكان التخاطب بين بني البشر، وكان التفاهم... أوليس هو سماع الكلمات ثم محاكاتها باللسان قولا؟ فإذا كان بعضنا قد سمعها من بعض فشبّ عليها وكبر، فمن ذا الذي أسمع آدم عليه السلام ليحاكيها بلسانه ؟ إنه الله جلّ في عُلاه الذي علمه الأسماء كلها، فلما تعلّم نطقها بلسانه .

7- "ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ"، لقد سألهم سبحانه عن هذه الأسماء، إن كانوا صادقين في زعمهم أنّ الخليفة الذي جاعله الله في الأرض إنما هو مفسد سافك للدماء. عرضها عليهم وسألهم أن ينبئوه بها، فلم يفعلوا، لأنّ علمهم ممّا علّمهم الله سبحانه، ولا علم ذاتيّ لهم، بل إنّ الله الذي علّمهم ما يعلمون، فلا علم لهم إلا ما علّمهم سبحانه.

ولننظر فإذا هم يقرّون الآن -قبل أن يسمعوا آدم يسمي تلك الأسماء التي ما عرفوها- أنّ الله سبحانه هو العليم وهو الحكيم... وربما كان المقام أن يشهدوا لله بالعلم الكامل بقولهم "العليم"، ولكن لم يقولوها وحدها، بل أعقبوها ب"الحكيم" وكأن عدم معرفتهم بتلك الأسماء، من قبل أن يسميها آدم أمامهم، قد كفتْهم أيضا ليعلموا أنّه لحكمة منه تعالى قد يعلّم غيرهم ما لم يجدوا له عندهم من جواب.فيقدّم في أنفسهم لانتفاء ظنّهم أنهم الأعلم، وهذا الغير قد يكون آدم الذي استفهموا حول جعله خليفة، ولهذا لا نجد لهم قولا بعد قولهم هذا، حتى عندما يسمي آدم الأسماء أمامهم .

8- ويستمر الحوار، فيأمر الله آدم أن ينبئهم بأسمائهم، فيفعل عليه السلام، وهو الذي علّمه ربه، فتعلّم، هنا قال الله تعالى لملائكته "ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"

فهو سبحانه يعلم غيب السماوات والأرض، ويعلم ما أبدوا بقولهم "أتجعل فيها من يفسد فيها...." ويعلم ما كانوا يكتمون.
ويقول الدكتور فاضل السامرائي، في "وما كنتم تكتمون" أنّ الملائكة تكون قد تحدثت بأنّ الله لن يخلق خلقا أكرم منهم ولا أعلم، وهذا ما كتموه، فخلق الله آدم وعلمه ما لم يعلموا،  فهو أعلم، وأسجدهم له، فهو أكرم .

ونكمل  في المداخلة التالية بإذن الله.


« آخر تحرير: 2015-02-24, 14:28:50 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #10 في: 2015-02-25, 11:03:59 »
 9- "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ(34)"

أحب أن أقف مع هذه الآية وقفة، لأنها قد تكون عرضة لطعن الطاعنين من المتخرّصين على القرآن الكريم، والقرآن الكريم بلغة العرب التي يجب أن تُعرف قواعدها، وأن يُبحث عما لا يُعرف منها قبل الخوض العقيم، وإلقاء الشبهات يمنة ويُسرة...
قد يسأل سائل -سواء كان سؤاله عن حسن نيّة، أو يُخفي وراء الأكمة ما يُخفي- فيقول فهِمْنا أن الملائكة قد أُمروا من الله بالسجود لآدم، فكيف يُستثنى الشيطان من الملائكة وهو ليس منهم، إلا إذا كان منهم !

فلندقّق، ولنبحث قبل أن يقفز إلى عقولنا أنّ القرآن به شيء من خلل-معاذ الله- أو يحوي تناقضا، بل الأحرى أن نعزو الخلل والضعف إلى أفهامنا نحن لا إلى هذا الكتاب العظيم ...

وكم يحزن وينذر بالخطر الضعف الذي آل إليه مستوى شباب الأمة في معرفتهم باللغة العربية، لغة القرآن، وكم يخطئ الأولياء وهم يسارعون لتعليم أبنائهم منذ نعومة أظافرهم اللغات الأجنبية تباهيا وتفاخرا وتواصيا فيما بينهم أنّها لغات الحضارة والتقدم العلمي والتكنولوجي، ويسعدهم أيما إسعاد أن يستبدل أبناؤهم لسانهم العربي بلسان أعجمي وإن كانت حروفهم لم تعتدل مخارجها بعد وهُم أغرار لم تتقوّ أحلاقهم على إخراج الحرف من مخرجه الصحيح ! ويغفل الواحد منهم عن تلقين ابنه لغة القرآن، حتى تشبّ أجيال لا تفهم قرآنها، ولا تفهم دينها، وتستصعب اللغة العربية وتراها لغزا من الألغاز الصعبة الحل، ويولونها أدبارهم لا يلوون على معنى لقيام الأمة بقرآنها سرّ نهضتها واعتدالها من كبوتها ...

نعود لقوله تعالى " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ".
أما موقع "إلا" هنا فهو الاستثناء نعم، ولكنه ليس الاستثناء المتصل بل هو الاستثناء المنقطع.
الاستثناء المتصل هو ما كان فيه ما بعد "إلا" من جنس ما قبلها، كقولك "حضر التلاميذ إلا تلميذ واحد"،  فهنا ما بعدها مجانس لما قبلها، أو  "أكلت طعامي إلا المرق"...

أما الاستثناء المنقطع فكقوله سبحانه : " لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً "، ف"سلاما سلاما" هنا ليست من جنس اللغو ولا التأثيم و كقوله تعالى : " مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً " وليس الظنّ من جنس العلم، وهكذا...
أ-إذن فإبليس ليس من جنس الملائكة، وقد جاء الاستثناء هنا منقطعا .

ب-قد يسأل سائل، إذن فإبليس قد أمِرَ بالسجود ؟  نقول نعم وبالتأكيد قد أمِر بذلك، أمرا مستقلا عن أمر الملائكة. تأمل قوله تعالى : "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ... "

ج- عامل إضافي لتأكيد معنى الاستثناء المنقطع هو قوله تعالى : " فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ"، فلم تأتِ "كلهم" وحدها، ولم تأتِ "أجمعون" وحدها، بل جاءا سوية زيادة في التأكيد على أنّ كل الملائكة قد سجدوا، ولو كان إبليس واحدا منهم، لكان بديهيا في الفهم أنه هو الآخر قد سجد، بينما هو بالتأكيد لم يفعل .

وجزى الله خيرا الدكتور فاضل السامرائي، الذي عرفتُ منه مفهوم الاستثناء المنقطع من بعد ما خطر لي التساؤل عن معنى الاستثناء في هذا المقام .

وإنكم لترون مني تفصيلا في قصة آدم عليه السلام، لأنني لا أرى أنه يليق معها الإجمال وهي التي فيها ما فيها من أسرار ومن لمسات بيانيّة، غاية في الدقة والجمال، وفيها ما فيها من معاني الوجود الإنسانيّ وغايته على هذه الأرض .

10- "أبى واستكبر وكان من الكافرين"، فنجمع لإبليس عليه لعائن الله الإباء، والاستكبار، وكونه من الكافرين.
وللطاهر ابن عاشور  رحمه الله قول جميل في "كان من الكافرين"

والذي أراه أحسن الوجوه في معنى { وكان من الكافرين } أن مقتضى الظاهر أن يقول وكفر كما قال : { أبى واستكبر } فعدل عن مقتضى الظاهر إلى { وكان من الكافرين } لدلالة ( كان ) في مثل هذا الاستعمال على رسوخ معنى الخبر في اسمها ، والمعنى أبى واستكبر وكفر كفراً عميقاً في نفسه وهذا كقوله تعالى : { فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين } [ الأعراف : 83 ] ، وكقوله تعالى : { ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون } [ النمل : 41 ] دون أن يقول أم لا تهتدي لأنها إذا رأت آية تنكير عرشها ولم تهتد كانت راسخة في الاتصاف بعدم الاهتداء ، وأما الإتيان بخبر { كان من الكافرين } دون أن يقول وكان كافراً فلأن إثبات الوصف لموصوف بعنوان كون الموصوف واحداً من جماعة تثبت لهم ذلك الوصف أدل على شدة تمكن الوصف منه مما لو أثبت له الوصف وحده بناء على أن الواحد يزداد تمسكاً بفعله إذا كان قد شاركه فيه جماعة لأنه بمقدار ما يرى من كثرة المتلبسين بمثل فعله تبعد نفسه عن التردد في سداد عملها وعليه جاء قوله تعالى : { أصدقت أم كنت من الكاذبين } [ النمل : 27 ] وقوله الذي ذكرناه آنفاً { أم تكون من الذين لا يهتدون } وهو دليل كنائي واستعمال بلاغي جرى عليه نظم الآية وإن لم يكن يومئذ جمع من الكافرين بل كان إبليس وحيداً في الكفر.


إذن لقد كرّم الله آدم بإسجاد ملائكته له، ولقد علّمه من قبل ما لم يعلّم ملائكته، وهنا ينتفي ظنّ الملائكة أن الله لن يخلق خلقا أكرم منهم ولا أعلم .

ولقد انتهى الحوار، الذي فيه عرّف الله ملائكته بقدر هذا الإنسان، وبدوره، وبأنه الذي كرّمه بالعقل وبإسجاد ملائكته له، ولقد أصاب الشيطانَ حسدٌ شديد أدى به إلى معصية أمر الله تعالى لما أكرم الله به آدم، فلم يسجد ...وينتقل القرآن بنا إلى مرحلة أخرى من التكريم الذي خصّ به المولى عزّ وجلّ آدم عليه السلام .

11- "وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36) "

وهنا جاء ذكر زوج آدم عليه السلام(حواء) التي أكرمت هي الأخرى مع آدم بإدخال رب العزة إياهما الجنة، وإذا تأملنا جاء أمر الله لهما ب"اسكن" والسكن هو الاستقرار، وكأن المؤمن يستشفّ بمجيئها هي بالذات أن مسكن الإنسان الأصلي ومستقره الدائم الذي عليه أن يعمل للعودة له هو "الجنّة".

أ-)أسكنهما الجنّة ----------------->تكريم
ب-)كلا منها رغدا حيث شئتما --------> تكريم ثان
ج-)لا تقربا هذه الشجرة-------------> نهي بسيط عن شجرة واحدة بعينها دون كل أشجار الجنة وخيراتها ورغدها .

ومقابل تكريم الله تعالى لهما كان من الشيطان الرجيم إزلال أدى لإخراجهما من الجنة .

ولننظر كيف ترصّد الشيطان لكل تكريم من الله للإنسان، فقابله بضدّه، إذ لمّا كرّمه بإسجاد ملائكته له، وأمره أن يسجد له، استكبر ولم يفعل، ولمّا كرّمه بالجنة أزلّه عنها .

ونكمل تاليا بإذن الله.
« آخر تحرير: 2015-02-25, 12:06:03 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #11 في: 2015-02-25, 12:53:20 »
12- فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(39)

فماذا نتج عن سماع آدم لوساوس الشيطان الرجيم ؟ ولنتذكر قبل الجواب أنه سبحانه وتعالى قد حذّر آدم منه  "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى(116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى(117)" -طه-

لقد أزلّهما الشيطان وأخرجهما مما كانا فيه، وقال الله "اهبطوا"، فقضى الله على آدم وحواء والشيطان بـ:
أ-الهبوط منها.
ب-بيّن أن بعضهم لبعض عدو، الشيطان عدو لآدم، وآدم عدو له.
ج-أنّ الأرض مستقرّهم ومتاع  لهم إلى حين.

وحتى ننفي بالمناسبة أباطيل اختلقها المبطلون حول هذه النقطة من القصة، وأهمها:
1- أن حواء هي سبب الإهباط، 2- أن آدم عليه السلام هو الذي أهبط البشر إلى الأرض.
يجدر بنا الإتيان على حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح يجلّي لنا الأمر:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجَّ آدمُ وموسى ، فقال له موسى : يا آدمُ أنت أبونا خيَّبْتَنا وأخرَجْتَنا من الجنةِ ، قال له آدمُ : يا موسى اصطفاك اللهُ بكلامِه ، وخطَّ لك بيدِه ، أتلومُنِي على أمرٍ قدَّرَه اللهُ عليَّ قبلَ أن يخلُقَنِي بأربعين سنَةً ؟ فحجَّ آدمُ موسى ، فحجَّ آدمُ موسى . ثلاثًا ." -صحيح البخاري-


إذن فهو قدر الله تعالى على آدم عليه السلام، وحتى نتفهم الحديث على وجهه الصحيح فإنه يتبادر للذهن سؤال مهم لا يجوز إغفاله: العاصي اليوم لو قال -استنادا لهذا الحديث- هذه المعصية قدرت علي فينبغي أن يسقط عني اللوم .قال العلماء في ذلك الفرق أن هذا العاصي باقٍ في دار التكليف جارية عليه الأحكام من العقوبة واللوم وفي ذلك له ولغيره زجر وعظة. فأما آدم فميت خارج عن دار التكليف مستغن عن الزجر فلم يكن للومه فائدة بل فيه إيذاء وتخجيل فلذلك كانت الغلبة له....

كما يقول العلماء أن الذي فعله آدم اجتمع فيه القدر والكسب، والتوبة تمحو أثر الكسب وقد كان الله تاب عليه فلم يبق إلا القدر، والقدر لا يتوجه عليه لوم لأنه فعل الله ولا يُسأل سبحانه عما يفعل .فحسن منه أن ينكر على موسى لومه على الأكل من الشجرة لأنه كان قد تيب عليه، كما لا يمكنه لومه على الخروج لأنه فعل الله وليس فعله. إنما قامت حجّة آدم لأن الله خلقه ليجعله في الأرض خليفة، فكان إخراجه من الجنة لهذه الحكمة. فلم يحتجّ آدم في أكله من الشجرة بسابق العلم لأنه كان عن اختيار منه وإنما احتج بالقدر لخروجه لأنه لم يكن بُدٌّ من ذلك.وكذلك قوة حجة آدم عليه السلام  أنْ كأنه قال لو لم يقع إخراجي الذي ترتب على أكلي من الشجرة ما حصلت لك يا موسى هذه المناقب، لأني لو بقيت في الجنة واستمر نسلي فيها ما وجد من تجاهر بالكفر الشنيع بما جاهر به فرعون حتى أرسلت أنت إليه وأعطيت ما أعطيت فإذا كنت أنا السبب في حصول هذه الفضائل لك فكيف يسوغ لك أن تلومني.والخلاصة أنّ إخراج آدم إنما هو قدر من الله تعالى لتكون حياة على الأرض للبشر يترتب عليها جزاء بجنة أو عقاب بنار.

أما أنّ حواء هي التي  كانت سبب إخراج آدم من الجنّة، فهذا مما يبطله القرآن جملة وتفصيلا، وليس في آية واحدة من آياته كلها ما يقول بهذا، بل لقد قال سبحانه : "فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى(120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا"-طه-، بل إنه قد وسوس لآدم عليه السلام، حتى أكل منها كلاهما . وإنك لتجد من يسمَّون المسيحيين اليوم يلقون باللائمة على حواء من بعد ما حرّفت كتبهم، فالحمد لله على نعمة القرآن ونعمة الإسلام .


13- الله سبحانه وتعالى تلقى من آدم كلمات، وما هي إلا كلمات الندم والتوبة، فتاب الله عليه، ونجدها مفصلة في قوله تعالى : "فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ(22) قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23) " -الأعراف-

14-"قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"

يتكرر أمر الله لهم بالهبوط، ولكن هذه المرة بعدما تاب على آدم، ووضّح له أنّه سيأتي ذريّتَه هدى من الله فمن تبع هداه فهو الآمن، ومن كفر به فهو من أصحاب النار الخالدين فيها .

وقصة آدم هنا إجمالا تبيّن لنا قصة الإنسان عموما في كل زمان وفي كل مكان، فهو الإنسان المكرّم من رب العزة، المستخلَف في الأرض، الذي علمه، وأسجد له ملائكته، والذي عرّفه بعدوّه، وأنه سبب خروجه من الجنة، وأن مسعاه أبدا إضلال الإنسان وإزلاله وإخراجه من التكريم والتنعيم إلى دركات الهوى والضلال، وأنه من اتبع هدى الله أمن وفاز، ومن أعرض عنه فلا يأمن مكر الهل تعالى، وهو من أصحاب النار وبئس المصير .

وأضع إجمال قصة الخلق والاستخلاف مثلا في هذه الصورة :


ونكون قد وضعنا خطوة جديدة في سلسلة خطواتنا على دربنا ونعنونها بـ :

ونكمل لاحقا بإذن الله
« آخر تحرير: 2015-02-25, 20:56:26 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #12 في: 2015-02-25, 14:19:26 »
والآن...

بعد انتهائنا من قصة الاستخلاف ونحن في بدايات طريقنا الذي نسلكه مسترشدين بالقرآن الكريم(حسب ترتيب المصحف التوقيفي)، هناك لطيفة تجدر الإشارة إليها، وهي أنّ الله تعالى لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في 23 : "إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"، جاء في (30-39) على ذكر آدم عليه السلام في ربط بين مكونات السلسلة اللؤلئية النبوية، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعا من الرسل.

ونريد الآن أن نجمل أمورا ونرقمها، ونربط نقطة بنقطة.

لو تذكّرنا قوله تعالى في مستهلّ هذه المنزلة (السورة) :

ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ(2)

ثم قوله تعالى في قصة الاستخلاف :
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ


نفهم أن الهدى مصدره هذا الكتاب(القرآن)، كما نفهم أنّ العباد يأتيهم الهدى من عند الله تعالى، فهو لم يترك عباده بلا هُدى .... وأي عقل مُنكر هو عقل من يقول أنّ الله خلق الخلق وتركه، ووضع النواميس وتركها هي التي تفعل !!

كما عرفنا أنّ آدم مستخلَف في الأرض، ولكنّ هذا المستخلَف لم يترك ليحكم بأفكار رأسه، ولا بهواه، ولا بعلمه، ولا بعقله، بل آتاه الله ما يحكم به، وما يكون مستخلفا في الأرض به، ما يتحقق به استخلافه في الأرض، فمعنى استخلافه هو تطبيقه لهُدى الله في الأرض... فما هو هذا الهُدى ؟

إنه هذا الكتاب (القرآن)، ونستطيع أن نقول أن الإنسان قد زوّده الله بالقانون الذي يسيّر حياته وينظّمها، على هذه الأرض، وينظّم علاقته بربه، وبالكون وبالناس من حوله ...هذا الكتاب الذي جعله الله هُدى له، جعله الله مشكاته على طريق الحياة ....

وعلى هذا فهو المنهج الذي عليه أن يسير عليه، وأن يسير وِفقَه، فأما من اتبعه فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأما من أعرض عنه إلى غيره مما يضع عقل إنسان مهما بلغ من مبالغ الحكمة والمعرفة، فأولئك مكذّبون بآيات الله تعالى وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ...

إذن فالاستخلاف له مقوّماته :
1- المستخلِف هو الله سبحانه
2- الإنسان هو المستَخلَف، هو الخليفة في الأرض .
3- قانون الاستخلاف هو هُدى الله (القرآن)، وهو المنهج .

إذن فلمَ خلق الإنسان في هذه الأرض؟

خلق ليعبد الله .

فكيف يعبد الله تعالى على هذه الأرض ؟

أمدّه الله بمفتاح العبادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)

ما مقتضيات هذه العبادة  ؟

تطبيق أمر الله في الأرض(تطبيق منهجه)

فما دوره فيها ؟
الخلافة (تطبيق منهج الله في الأرض لإعلاء كلمته وللدعوة لعبادته وحده)

إذن فبوصولنا لهذه الآيات (من30إلى39) قد عرفنا مقوّمات الاستخلاف، وفيما هو قادم من آيات سورة البقرة، سيفصّل الله تعالى فهمنا لخلافة الإنسان في الأرض، أي لتطبيقه منهج الله فيها، وعليه فلنحاول أن نصطلح ابتداء من هذه النقطة التي بلغناها أن نسمّي هذه المنزلة (أي سورة البقرة) سورة المنهج . وسنرى إن كان اختيارنا لهذه التسمية مناسبا أم لا، مع ما نحن مقبلون عليه من خطوات طريقنا هذا .

وسأضع فيما يلي مجموع الخطوات التي خطوناها على طريقنا بفضل الله تعالى حتى الآن :


فبيّن له الله منبع الهُدى:

وإن الناس أصناف في تلقيهم له:
ولكن الله يدعوهم جميعا(كل الأصناف)
وحتى تحقّق عبادة الله يجب أن تعرف:
ولكن تجنّب المانع من نفاذ هُداه إلى قلبك:
تعرّف على الغاية من وجودك:
« آخر تحرير: 2015-02-26, 10:33:54 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #13 في: 2015-02-26, 13:05:38 »
هنا خلاصة ما وصلنا إليه حتى الآن :
http://www.ayamnal7lwa.net/forum/index.php?topic=6340.msg111781#msg111781

نبدأ الآن مع مرحلة جديدة من مراحل هذه السورة العظيمة، ولا ننسى أننا اتفقنا أن نتخذ قراءة القرآن خطوات، بحيث نحاول قدر الإمكان إيجاد الرابط الذي يصل بين آية وأخرى، وبين قطاع من الآيات وآخر، وكما أسلفنا فإن للقراءة المجملة للسورة دورا كبيرا في فهم مقاصدها، والأقسام التي تكوّنها، والموضوع الذي تعالجه ... والذي غالبا ما يكون موضوعا واحدا وإن تشعبت أساليب طَرْقِه، وحتى نتعلم عدم رؤية السورة شتاتا من آيات كثير منها منفصل موضوعه عن الآخر ...

حتى الآن فهمنا أن سورة البقرة بيّن لنا الله فيها منبع الهُدى الذي نسأله مع بدايات المصحف(الفاتحة)، ثم خطونا سويا على مدارج آياتها إلى أن بلغنا قصة الخلق والاستخلاف، هذا الاستخلاف الذي لا يتحقق إلا بهُدى الله "قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(39)"... وهُدى الله كما عرفنا هو في كتابه "ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ(2) "

وعلى هذا اتفقنا أن نسمّي سورة البقرة "سورة المنهج"...

نتقدّم الآن لنجد أنفسنا مع قطاع جديد، موضوعه الذي يعالجه يمتدّ من الآية 40 إلى الآية 123
إنها خطوتنا الجديدة في طريقنا ...
تبدأ بقوله تعالى : " يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ(40)"

وتنتهي عند قوله تعالى : "وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(123)"

ونحب هنا أن نشبع فضولنا حول :
أ- ما الرابط بين ما سبق وبين هذا القطاع ؟
ب- ما سرّ تخصيص بني إسرائيل بهذا الحديث الطويل ؟
ج- ما الفائدة التي نجنيها من معرفة أخبارهم وأحوالهم ؟

وفي الحقيقة، هذا القطاع من الآيات الذي يعالج أحوال بني إسرائيل ينقسم في حد ذاته إلى مجموعة من العناوين الفرعيّة المندرجة كلها تحت موضوعهم، وكان عبد الله دراز قد قسم قطاع بني إسرائيل إلى قسمَيْن أراهما الأليق من حيث التقسيم العام،وهما :
القسم الأول يذكر فيه سالفة اليهود منذ بعث فيهم موسى -عليهم السلام.(من 49 إلى 74)
القسم الثاني يذكر فيه أحوال المعاصرين منهم للبعثة المحمدية.
(من 75 إلى 123)

ولكن يبدو لي أنّ كل قسم من الاثنَيْن يحتاج إلى أقسام فرعيّة ترد تحته، ذلك لما رأيت من حسن التسلسل والتتابع بين أطراف كل قسم.

أما الآيات من 40 إلى 48، فأراها مقدّمة تسبق الدخول في الحديث عن سالفة بني إسرائيل التي تكون فيها تفاصيل لما ورد في هذه المقدّمة، وبها نبدأ :

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ(40) وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ(41) وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(42) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ(43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(44) وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ(45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(47) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(48)

لقد جاء قوله تعالى :
"يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ(40) "، بعد قوله تعالى :
"قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(38) وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(39)"

فإذا تأمّلنا "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا" تعقبها بداية مخاطبة بني إسرائيل،"يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" وهذا ما يسمّى في اللغة بحسن التخلّص، وهو الانتقال من موضوع إلى آخر بطريقة سلسة لا يشعر معها القارئ والسامع للحديث أنّ هناك انتقالا من موضوع إلى موضوع، وفي القرآن يأتي على شكل لفظ أو على شكل آية كاملة، وإن لم يتأمّل القارئ هذا الانتقال، ولم يحسن الربط حكم أنّ السورة تنتقل من موضوع إلى موضوع كلّ منها منفصل عن الآخر، بينما هناك رابط يجعل السورة تصبّ في مصبّ واحد بكل أطرافها.

نعود إلى هاتين الآيتين، المنتَهى بها من الجزء السابق، والمبتدَأ بها في هذا القطاع، أولاهما (39)تلك التي أنهينا بها قصة الخلق، وأنهينا بها أيضا مجمل الخطوات التي انتقلنا عبرها من الاستهداء، إلى معرفة منبع الهُدى، إلى دعوة الله الناس جميعا إلى العبادة، إلى معرفة مفتاح العبادة، إلى قصة الاستخلاف الذي به تتحقق العبادة، كما تُحقق العبادة بدورها الاستخلاف، فكلاهما مرتبط بالآخر ارتباطا طرديّا . فعرفنا أنّ من يتبع هُدى الله الذي يتعهّد به عباده بإرسال رسله الذين ينزل عليهم كتبه، فهو الفائز المفلح، ومن يعرض عنه فهو الخاسر، فكان ذكر بني إسرائيل بعد ذكره سبحانه مآل المعرضين، وقد كانت تلك صفتهم الأبرز ... وحتى لا نستعجل الحكم لمَن لا يعلم عن تاريخهم وجبلّتهم شيئا، ندعو أنفسنا وإياه لاستيضاح هذه العلاقة الوطيدة بين مآل المعرضين وحال بني إسرائيل ونحن نستعرض أخبارهم التي يقصّها الله تعالى، وهو الذي يقصّ الحق سبحانه .
« آخر تحرير: 2015-02-26, 18:38:49 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #14 في: 2015-02-26, 14:41:09 »
آيات المقدمة
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ(40) وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ(41) وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(42) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ(43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(44) وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ(45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(47) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(48)

كل هذه الآيات -كما أسلفنا- مقدّمة لفتح موضوع بني إسرائيل،  ابتدأت بندائهم، "يا بني إسرائيل"

1- "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ".يدعوهم لأن يذكروا نعمه سبحانه عليهم، و"نعمتي" هنا اسم جنس بمعنى الجمع.

2- "وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ".يدعوهم ليوفوا بعهدهم فيوفي سبحانه بعهده، فأما العهد الذي أخذه عليهم فهو أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا يكتموا أمره وقد أخبروا به في كتبهم.وأما عهده هو سبحانه فإدخالهم الجنة بما أطاعوا الله، كما يقول بعض المفسّرين أنّ العهد أيضا يشمل طاعة الله وأوامره.
وأجدني أفهم أنّه يخصّ ذكر أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنّ الله تعالى يدعوهم عند نزول القرآن وهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا أدعى لأن يذكرهم بضرورة وفائهم بعهدهم  وقد بعث، والله أعلم.

3-"وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ".يدعوهم أن يرهبوه سبحانه، وهو أهل ذلك، ولا أحد غيره له أهل، ورهبته تعني خشيته، وخشية عقابه وغضبه.

4-"وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ". دعوته أن يؤمنوا بالقرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المصدّق لما معهممن كتبهم، جاء حقا كما جاءت كتبهم حقا من قبل أن يحرّفوها. ويقول الدراز في هذه النقطة :
"ولو أن التحريف أو الضياع الذي نال من هذه الكتب قد ذهب بمعالم الحق فيها جملة لكان لهم بعض العذر في تكذيبهم بالقرآن؛ إذ يحق لهم أن يقولوا: "إن البقية المحفوظة من هذه الكتب في عصرنا ليس بينها وبين القرآن هذا التطابق والتصادق، فليس الإيمان بها موجبًا للإيمان به".. بل لو أن هذه البقية ليست عندهم ولكنهم كانوا عن دراستها غافلين، لكان لهم مثل ذلك العذر. أما وهذا القرآن مصدق لما هو قائم من الكتاب في زمنهم وبأيديهم ويدرسونه بينهم فبماذا يعتذرون وأنى يذهبون؟! .".  كما يدعوهم لئلا يكونوا أول كافر بالقرآن، والأولى أن يكون أول من يصدّق به لأنّه مذكور عندهم في كتبهم، كما ذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

5-"وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً". يدعوهم سبحانه ألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا، فأحبارهم قد اشتروا السيادة والجاه وحطام الدنيا بآيات الله، وكلها قليل زهيد دفعوا له أنفس شيء وهي آيات الله.

6-"وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ". يدعوهم سببحانه لتقواه .

7- "وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ". كما قال ابن عاشور في هذه الآية : "{ ولا تلبسوا } فإنه مبدأ انتقال من غرض التحذير من الضلال إلى غرض التحذير من الإضلال". فالله سبحانه يحذرهم الآن مغبّة الإضلال الذي هم عاملون عليه في كل زمان وفي كل مكان.
فأما لبس الحق بالباطل فهو ما كان عليه بنو إسرائيل، بإدخالهم في كتبهم ما ليس منها، وبترويجهم الباطل في صورة الحق، وأما كتم الحق وهم يعلمون فذلك كتمهم لخبر محمد صلى الله عليه وسلم، ونكران معرفتهم بمبعثه في كتبهم وهُم يعلمون أنه حق، وقد قال تعالى : "أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ(197)"-الشعراء-

8-"وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ". بعدما أمرهم بأن يؤمنوا بما أنزل سبحانه على محمد صلى الله عليه وسلم، ها هو بعد أمرهم بالاعتقاد بما جاء به، يأمرهم بأن يتلبّسوا بشعاره، وشعاره الصلاة، والصلاة عماد الدين، وقد أعلن أبو بكر الصديق رضي الله عنه الحرب على من سمّاهم المرتدين لقولهم بمنع الزكاة، وبفصلها عن الصلاة، وقد قال في ذلك ابن عاشور: "وفيها دليل لما فعل أبو بكر رضي الله عنه من قتال مانعي الزكاة وإطلاق اسم المرتدين عليهم؛ لأن الله جعل الصلاة والزكاة أمارة صدق الإيمان إذ قال لبني إسرائيل { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ولهذا قال أبو بكر لما راجعه عمر في عزمه على قتال أهل الردة حين منعوا إعطاء الزكاة وقال له : كيف تقاتلهم وقد قالوا : لا إله إلا الله وقد قال رسول الله : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها » فقال أبو بكر : لآقاتلن من فَرَّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ، فحصل من عبارته على إيجازها جواب عن دليل عمر.".

9- "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ". هنا يبدو لي أن معناها -والله أعلم- أن أحبار بني إسرائيل وهم يقومون بمهمتهم في الوعظ والإرشاد ودعوة الناس لدينهم، -وقد كان العرب يَحفَلون بما يسمعون من أمور دينهم- وينسون مع هذا عهد الله تعالى المذكور في كتبهم، بأن يصدقوا بنبوة محمد وبأن يؤمنوا به وبالقرآن، فهُم يأمرون الناس بالبر، وأمامهم أمر من الله يخفونه، ويكتمونه، فأيّ حال هُم عليه من كذب وتدليس ؟! وأي عقل هذا الذي يقبل هذا؟! ولهذا ذيّلت ب"أفلا تعقلون" .

10-"وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ.الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ". إن الله تعالى وهو الذي عرفنا أنه لم يبخل على كل عباده (بأصنافهم الثلاثة) بالدعوة لعبادته، كذلك هو سبحانه يعين بني إسرائيل على الخروج مما ألفوه من حالهم المتثاقلة عن أمر الله عبر الأزمنة، يدعوهم للاستعانة بالصبر والصلاة لتغيير ما بأنفسهم وليميلوا نحو الحقّ وقد ألفوا الباطل . الصلاة التي لا يراها الخاشع الموقن بلقاء ربه والرجوع إليه كبيرة ولا يراها تشق على نفسه . أما غير هذا فيراها الشاقة الصعبة الثقيلة، فيستثقلها . ونلاحظ أنه سبحانه ضمنيا يذكر بني إسرائيل بلقاء الله وبالرجوع إليه مما من شأنه أن يوقع في أنفسهم الرهبة .

11- وكما بدأ بندائهم، يختم الله هذه المقدمة الدعويّة بندائهم أيضا:" يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(47) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(48)". نلاحظ أنه سبحانه كما بدأ مذكرَهم بنعمته عليه، يختم المقدمة بذلك أيضا، بل وبتفضيله لهم على العالمين، وتجدر الإشارة والتوضيح هنا أنّ "العالمين" هنا تعني ما كان في عصرهم، فهم أتباع موسى عليه السلام في زمانه قبل مجيء عيسى عليه السلام، وأتباع كل نبي مفضّلون على العالمين في زمانهم قبل أن يأتي النبي الآخر وليس العالمين إلى قيام الساعة .

ويعود ويذكّرهم بيوم لقائه سبحانه، يوم لا ينفع أحدا نفسُه ولا نفس غيره، ولا تنفعه شفاعة شافع، ولا أن يقدّم عدلا عما أجرم فينجو، ولا أن يُنصر من نصير والله هو الولي وهو النصير . وأي مآل هو، يلقي الرهبة والرعب في القلوب المؤمنة !! نسأل الله السلامة .

والآن فلنحاول أن نجمل هذه المقدّمة ناظرين فيها متعاقبة متسلسلة :

1-يذكرهم بنعمته سبحانه وبعهده وبرهبته------> وكلها أمور يعلمونها في كتبهم، فشكرهم للنعمة من الإيمان، والوفاء بالعهد من تمام الإيمان، ورهبة الله من الإيمان----->2-أمرهم بالإيمان بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم إذ الوفاء بالعهد المعهود إليهم في كتبهم يؤدي إلى هذا منطقا وعقلا------>3-يأمرهم بعدم التلاعب بآيات الله(تحريفها)، ولبس الحق بالباطل ونكران أمر رسول الله بكتمانه وهو في كتبهم. وهذا الأمر في حال لم يكونوا موفين بالعهد، وكافرين بما أنزل على رسول الله، ولا رهبة لله في قلوبهم.وبالتالي فالأمر يسوق بعضه بعضا------->4-يأمرهم بأن يكونوا في صفوف المؤمنين، بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وألا يدّعوا الدعوة للخير وهم يغفلون عن الوفاء بعهد الله بكتمانهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور في كتبهم، فيستعينوا على أنفسهم وتغييرها بالصبر والصلاة إمعانا في دعوتهم وإمضاء للحجة عليهم .

ومن هذا نرى تسلسلا في دعوتهم، يسوق أوله ثانيه، وثانيه ثالثه، وثالثه رابعه، وهكذا في ترتيب وتناسق، وطريقة دعويّة فريدة، تقيم الحجة على المدعوّ، فتذكّره بالنعمة، وتدعوه للوفاء بما عليه، وتدعوه للحق، تدعوه بما يعرف من تاريخ قومه، وما جرى عليهم(النقل)، وتدعوه بالعقل وهو سبحانه يستنكر عليهم ما يدّعونه من دعوتهم الناس للبر، ولليهودية، وهم بالمقابل يتكتمون على ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم .

ولنا تتمة بإذن الله.

« آخر تحرير: 2015-09-13, 13:25:04 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل فارس الشرق

  • شباب إيجابي
  • ***
  • مشاركة: 827
  • الجنس: ذكر
  • وحشيتي سرج على عبل الشوى نهد مراكله نبيل المحزم
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #15 في: 2015-02-28, 00:45:25 »
فتح الله عليك فتوح العارفين..
"وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القلى متعزل
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ
سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل"
الشنفرى

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #16 في: 2015-03-01, 09:35:55 »
فتح الله عليك فتوح العارفين..


وإياك أخي فارس، بارك الله بك.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #17 في: 2015-03-01, 13:47:00 »
حتى الآن عرفنا عن المقدمة من 40 إلى 48، وهي التي فيها نداء لبني إسرائيل، وتذكير لهم بنعمة الله عليهم، ودعوة لئلا يلبسوا الحق بالباطل، وألا يدّعوا الدعوة لله، وهم يكتمون ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم، وهو الوفاء بالعهد الذي عهد الله به إليهم، وأمرهم بالاستعانة بالصلاة والصبر لعلاج  ما بأنفسهم من تثاقل عن أمر الله ...

ما سيأتي بعدها تفصيل نحاول خوض معانيه :
كنا قد قلنا بالتقسيم الذي وضعه عبد الله دراز رحمه الله لمجمل الآيات التي تذكر أحوال وأخبار بني إسرائيل:
القسم الأول يذكر فيه سالفة اليهود منذ بعث فيهم موسى -عليه السلام.(من 49 إلى 74)
القسم الثاني يذكر فيه أحوال المعاصرين منهم للبعثة المحمدية.(من 75 إلى 123).

القسم الأول: يذكر فيه سالفة اليهود منذ بعث فيهم موسى -عليه السلام.(من 49 إلى 74)


وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ(49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ(51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ(59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ(61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ(64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ(65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ(66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ(67) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ(68) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(69) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ(70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ(71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(74)

وتبدأ تفاصيل المقدمة الآنفة في هذه الآيات، ونحاول عدّها مرقومة:

1- ذكر تنجيته سبحانه إياهم مما كان يلحقهم من فرعون من تذبيح الأبناء، واستحياء النساء.
2- فَرق البحر بهم، لإنجائهم من فرعون وجنوده بعد أن جعل لهم طريقا يبسا بين الفِرقَين، وإغراق آل فرعون فيه بعدما عاد البحر لحاله وقد نجا بنو إسرائيل.
------------**************---------------------

1 و2 (الآيتان49 و50) فيهما ذكر نعمة التنجية من عذاب فرعون وآله تنجية كلية، بأن أغرقهم ونجّى بني إسرائيل بالوسيلة نفسها، بالبحر الذي كان رحمة لبني إسرائيل وكان غرقا وهلاكا لآل فرعون. وهنا توفّر لهم الأمن، فلو تخيّلنا قوما يُدعون لله ولتكاليف العبادة والدعوة وهم خائفون أذلاء غير آمنين، لما استقام الأمر، ولما استطاعوا أداء ما عليهم، ولكنّ الله تعالى يقطع على بني إسرائيل كل حجة، فهو سبحانه لم يدعهم ولم يكلّفهم حتى أمّنهم وأذهب الخوف عنهم . فلاقَ أن تكون هذه هي البداية، وهي نعمة من أكبر النعم. وهنا إذن أول التفصيل لقوله تعالى في المقدمة التي رأينا "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم"، وكانت أحقّ نعمة بالذكر أولا

-----------**************---------------------


3-العفو عن بني إسرائيل وقد اتخذوا العجل إله معبودا من دون الله عندما ذهب موسى لميقات ربه أربعين ليلة عند الطور.
4- إيتاء موسى عليه السلام الكتاب(التوراة)، والفرقان، ومنهم من يقول بأن الفرقان والكتاب واحد، ولكن الدكتور فاضل السامرائي يقول أن الجمع هنا بينهما دالّ على المغايرة، أي أن الكتاب هو التوراة، أما الفرقان  فالآيات الدالة على صدق موسى عليه السلام، أي معجزاته . وقد أوتي كليهما هدى لبني إسرائيل.
5- توبة الله عليهم بعد اتخاذهم العجل.
6- بعثهم بعد إماتتهم بالصاعقة من بعد ما تجرؤوا وطلبوا من موسى أن يريهم الله جهرة.

------------**************---------------------

أما 3 و 4 و 5 . (من52 إلى56)
فهي أيضا ما تزال في دائرة نعمة الله عليهم "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم"، ولكن إذا تأملنا عرفنا أنها نعم يقابل بها الله تعالى معاصيهم !! يعني أنها جاءتهم بعد معاصيهم، فهم وقد رأوا بأعينهم تنجية الله لهم بفرق البحر، راحوا فعبدوا العجل مباشرة بعد ذهاب موسى عنهم لميقات ربه، وقد تمثلت في: عفو، وإيتاء موسى الكتاب هدى لهم، وتوبة عليهم، وبعثهم بعد إماتتهم. وكلها رغم معاصيهم !

------------**************---------------------

7- تظليل الغمام  عليهم وهم في الصحاري وتحت حر شديد.
8- إنزال المنّ والسلوى  مأكلا لبني إسرائيل، فأما المنّ فأشهى ما يكون من الحلوى، وأما السلوى فطائر ينزله الله عليهم وهو من ألذ الطعام. ظل ذلك يأتيهم بلا تعب ولا شقاء، وبكميات وفيرة تكفيهم وتزيد.
9- أمرهم بدخول بيت المقدس وأن يأكلوا منها حيث شاؤوا، وأمرهم أن يستغفروا ويقولوا "حطة"، فلما استهزؤوا بأمر الله، أنزل عليهم عذابا من السماء.
10- انفجار اثنتي عشرة عينا لهم بعدد الأسباط من بعد أمر الله موسى أن يضرب الحجر بعصاه.
كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ


------------**************---------------------

7 و 8 و 9 و 10 (من57 إلى60)
ومازال ذكر النعم "اذكروا نعمتي عليكم" ، وهذه المرة نعم الرزق بالأكل والشرب، فإذا الأكل كأشهى ما يكون الأكل بلا جهد ولا عناء، وإذا المشرب رزق من الله في قحط وفي صحراء قاحلة. "كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ".


إذن فقد :


1- آمنهم الله من بعد خوف عظيم كانوا يعيشونه، وما كلفهم إلا بعدما آمنهم.
2- كان الأحرى أن يؤمنوا بالله ويرهبوه من بعد ما رأوا نعمته عليهم بالتنجية، ولكنهم عموا فعبدوا العجل إله،ورغم ذلك عفا الله عنهم، وتاب عليهم، ثم عادوا فطلبوا رؤية الله جهرة، فأماتهم ثم عاد فأحياهم.
3- أطعمهم من جوع وسقاهم من ظمأ .

فماذا كان ردّ فعلهم إزاء نعم الله عليهم ؟
لقد قالوا لموسى أنهم لن يصبروا على طعام واحد ينزل من السماء، بل طلبوا منه أن يدعو لهم ربّه (وكأنه ربه وحده!) أن يخرج لهم من الأرض البصل والفوم والعدس، وهنا كان تقرير الله تعالى "وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ".

إذن فهذا الجزء من الآيات(من49 إلى 61) يقابل قوله تعالى في المقدمة " يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ".

ولنا بإذن الله تتمّة
« آخر تحرير: 2015-03-01, 13:49:50 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #18 في: 2015-03-02, 16:55:32 »
تابع القسم الأول: سالفة  اليهود منذ بعث فيهم موسى عليه السلام

وكنا قد توقفنا عند الآية 61، ونكمل مع ما تبقى من آيات هذا القسم:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ(64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ(65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ(66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ(67) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ(68) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(69) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ(70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ(71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(74)

الآية التي سبقت هذه المجموعة من الآيات (الآية61)بينت غضب الله تعالى على بني إسرائيل من بعد النعم التي أنعمها عليهم، فكانوا إما جاحدين لها، ناكصين على أعقابهم وقد رأت أعينهم المعجزات الباهرة، وإما متجرئين مشارطين إيمانهم برؤيتهم الله جهرة، وإما مستبدلين الأدنى قيمة بالأعلى قيمة، كل هذا في كفة، وقتلهم الأنبياء في كفة أخرى، ومن أجل كل هذا التعنّت منهم والمكابرة، والطبيعة الخسيسة كان بوؤهم بغضب من الله، وضرب الذلة عليهم والمسكنة.

ولقد عرفنا فيما عالجنا من آيات سابقة(من49 إلى61) تفصيلا مقابلا لما انتظم في مقدّمة موضوع بني إسرائيل "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ".

كنت قد تحدثت آنفا عن "حسن التخلّص" في اللغة، وهو الخروج من موضوع إلى آخر بطريقة سلسة لا تُشعر القارئ والمستمع بالانتقال، وكذلك حدث مع هذه الآيات التي بين أيدينا، فنحن ما نزال في غمار أحوال بني إسرائيل ولم ننتقل لموضوع غيره، ولكن فلنتأمل الآية 62 :

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(62)


ولنتساءل: ما وجه الربط بينها وبين ما سبق من آيات (49-61)، وبين ما هو آت (63-74).

إذا كان الله تعالى قد قرّر غضبه على بني إسرائيل وضربه الذلة والمسكنة عليهم، بما ظلموا وبما كانوا يعتدون، وبكفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حق، فإنه سبحانه-وهو الذي لا يظلم عباده- يعود في هذه الآية فيبيّن لنا عدله وإيتاءه كل ذي حق حقه، يأتي هنا العدل الإلهي في تقريره أنّ كل من اتبع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، لا يُبخسُ حقّا، ولا خوف عليه ولا هم يحزن، فأما "الذين آمنوا" فهم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والباقون يندرجون تحت الفرق التي تسمّت بأسماء مختلفة سواء كانت اليهودية أو النصرانية أو الصابئية... كل من انضوى منهم تحت راية الدعوة المحمّدية فهو الناجي والفائز. ويقول في ذلك الشعراوي رحمه الله :"وكل إنسان في الكون مطالب بأن يؤمن بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ..فقد دعا الناس كلهم إلى الإيمان برسالته..ولو بقي إنسان من عهد آدم أو من عهد إدريس أو منعهد نوح أو إبراهيم أو هود..وأولئك الذين نسبوا إلى اليهودية وإلى النصرانية وإلى الصابئية..كل هؤلاء مطالبون بالإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتصديق بدين الإسلام..فالإسلام يمسح العقائد السابقة في الأرض..ويجعلها مركزة في دين واحد..الذين آمنوا بهذا الدين: { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}..والذين لم يؤمنوا لهم خوف وعليهم حزن..وهذا إعلان بوحدة دين جديد..ينتظم فيه كل من في الأرض إلى أن تقوم الساعة..أما أولئك الذين ظلوا على ما هم عليه..ولم يؤمنوا بالدين الجديد..لا يفصل الله بينهم إلا يوم القيامة".

نلاحظ أنه بهذه الآية تمّ الخروج من القطاع السابق(تفصيل النعم وموقف بني إسرائيل إزاءها)، بتقرير نجاة من يؤمن بما أنزل على محمد، بخلاف ما باء به بنو إسرائيل من غضب وضرب ذلة ومسكنة، كما تمّ بها أيضا الدخول في موضوع ناسب كل المناسبة أن تكون مقدّمة له، وهو موضوع الإيمان وموقف بني إسرائيل من أمر الله تعالى فيهم، وهو ما يقابل من المقدّمة(40-48) "وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ" وهذا هو حسن التخلّص.

نبدأ الآن مع :

1- الآيتان (63و64)، ذلك هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل، حتى رفع فوقهم الطور يأخذ منهم العهد بالإيمان به سبحانه، وبطاعته، وعدم استصغار أوامر الله، بل بأخذها بقوة وعزم وجدّ لا يساوره شك ولا يدانيه لهو ولا لعب ولا استهزاء، ومع هذا الأخذ بقوة ضرورة أن يذكروا ما فيه، يذكروه في أنفسهم وينشروه للناس، فما كان منهم إلا التولّي عن أمر الله لولا أن تغمّدهم برحمته وفضله، وهذا مما يندرج تحت عدم وفائهم بعهد الله، وعدم رهبتهم إياه، وهنا بداية تفصيل  قوله تعالى في المقدمة "وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ"

2- الآيتان 65و66 قصة أهل القرية من بني إسرائيل عصوا أمر الله، إذ نهاهم عن الاصطياد يوم السبت، وامتحن امتثالهم لأمره سبحانه بأن تكثر الحيتان يوم السبت، وتقل في غيره،"واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(163)"-الأعراف-، فجعلوا يحتالون ليصطادوا يوم السبت بأن حفروا في الشاطئ حياضا ليجتمع فيها من ماء البحر وفيه حيتان، ولا يأخذون من تلك الحياض إلا يوم الأحد، فهم هكذا بزعمهم سيجمعون بين طاعة الأمر والاستفادة من خيرات السبت، وما كان منهم ذاك إلا عصيانا لأمر الله، وانعداما لرهبته في قلوبهم. فعاقب الله الذين اعتدوا في السبت بمسخهم قردة. وهذا أيضا تفصيل مقابل لقوله تعالى في المقدمة : "وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ"

فنلاحظ تسلسل المقابلة بين الإجمال والتفصيل في أحوال السلف من بني إسرائيل .

3- من 68 إلى 73 : قصة البقرة، وهي التي سمّيت عليها السورة بـ "البقرة"، وفي هذه القصة أيضا معصية لأمر الله تعالى،  وتثاقل في طاعته، وتماطل، وتجرؤ، وهي قصة مقتل أحدهم، وتحيّر القوم في معرفة قاتله، وطلبهم من موسى عليه السلام أن يدعو لهم الله أن يكشف لهم قاتله، فأخبرهم عليه السلام أن الله يأمرهم بذبح بقرة، هكذا "بقرة" بلا تعريف ويلا تعيين، فصعّبوا، وبدؤوا بالاستفسار حول أوصافها، مرة واثنتَين وثلاثا، ولو أنهم ذبحوا بقرة من بين البقر لأجزأتهم، ولكنّهم كما صعّبوا على أنفسهم صعّب الله عليهم، وفي المرة الأخيرة قالوا: "الآن جئتَ بالحَقّ"، وكأنه عليه السلام لم يجئ به من قبل ! وتلكم هي طبيعتهم في مخاطبة الأنبياء، لا يعرفون لهم قدرا، بله قدر الله من قبلهم ! وكانوا في كل مرة يقولون "ادعُ لنا ربك" ، وكأنه ربه وحده، وليس ربّهم ، بل لقد كذّبوه أول مرة لمّا أعلمهم بأمر الله أن يذبحوا بقرة، فقالوا متجرئين، متجردين من أدنى طرائق الأدب حيال نبي الله تعالى : "أتتخذنا هزؤا"، فما كان من نبي الله موسى عليه السلام إلا أن استعاذ بالله أن يكون من الجاهلين ...

وفي المرة الثالثة اهتدوا للبقرة العَوان، الصفراء الفاقع لونها، التي لم تسخّر لخدمة، المسلّمة التي لا شية فيها، فذبحوها وما كادوا يفعلون، و "ما كادوا يفعلون" جماع لوصف حالهم المتثاقلة، المتماطلة مع أمر الله تعالى فيهم، فهم قد أوشكوا على ألا يذبحوها لولا إرادة الله إمضاء أمره ليروا جديدا من عظيم قدرته ومشيئته، ولقد رأوا كيف بُعث الميت إلى الحياة وقد ضربوه -بأمر من الله- ببعض البقرة المذبوحة، فدلّهم على قاتله، ثم مات، ولقد وصف القرآن سبب ذبح البقرة في آيتين وصفا رائعا مجملا لا يقدر على الإتيان به أحد غير الله تعالى، وكان ذكره للسبب بعد قصّ تفاصيل المماطلة في أمر الذبح لا قبلها:" وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73)".

فهل أذعن بنو إسرائيل وهم يرون إحياء الموتى أمام أعينهم بإذن الله تعالى وبالطريقة التي شاء، إحياء ميت ببعض ميت غيره،  يجيبنا القرآن، ويصف ردة فعلهم " وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73)".

وفي هذا المعنى نستحضر من سورة البقرة ذاتها في الإماتة والإحياء والبعث قوله تعالى : " كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(28)".

فأمر الإحياء والإماتة له وحده سبحانه، وطريقته في الإحياء والإماتة سرها عنده وحده، فكما يشاء سبحانه يحيي، وكما يشاء يميت، وكما قد شاء بعث هذا الرجل الميت ببعض من بقرة ميتة، وبنو إسرائيل كانوا مثالا في خواء قلوبهم من رهبة الله تعالى الذي يجري بين أيديهم المعجزات التي تفرّق بين الحق والباطل، وتبين لهم قدرته سبحانه، وتلقي في القلوب المتفتحة للحق الرهبة والخشية...
أما هُم فلا أحد يضاهيهم في التعالي والتكبر والجهل الذي تجرؤوا فوسموا به سيدنا موسى عليه السلام حينما كذّبوه وهو يلقي إليهم بأمر الله فيهم، ومن أجهل وأظلم ممن يرى بأم عينه قدرة الله  ثم يُنكرها ؟!

ولقد ذيّلت الآية الخاتمة للقصة بـ "لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"، والعقل السليم لا يُنكر ما رأت العين وما كان أمامه حقيقة اجتمع على معاينتها الجمع الكثير، ولم تكن ادعاء واحد منهم أو اثنَيْن...

نسأل الله السلامة والهدى والتقى وأن يجعلنا من الذين هم لربهم يرهبون .

وهنا أيضا في هذه الآيات (آيات قصة ذبح البقرة من 68 إلى 73) تفصيل يقابل قوله تعالى في المقدمة(40-48) "وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ"، وهي معصية من معاصيهم التي يتجلى فيها عدم وفائهم بعهد الله تعالى، كما يتجلى فيها أيضا عدم رهبتهم له سبحانه.

------------**************---------------------

إذن فنذكّر أنّ هذا القسم الذي بين أيدينا "سالفة بني إسرائيل (40-73)" قد انقسم بدوره إلى قسمَين، أولهما (من 40 إلى 61) وكان تفصيلا مقابلا لقوله تعالى في المقدمة "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ"، وثانيهما (من 63 إلى 73)، كان تفصيلا مقابلا لقوله تعالى في المقدمة : "وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ"، لنلاحظ التجانس في المقابلة بين الإجمال والتفصيل من رب العالمين في كتابه العظيم الكريم المعجِز لفظا ومعنى وتركيبا وبيانا وعلما وفصلا ...

------------**************---------------------

أما الآية 74 فسأقتطف ما قاله عبد الله دراز رحمه الله فيها، وفي تواجدها فاصلا بين قسم ذكر سالفة بني إسرائيل، وقسم ذكر أحوال المعاصرين للدعوة المحمدية :

"وأراد القرآن أن يصل حاضرهم بماضيهم فانظر كيف وضع بينهما حلقة الاتصال في هذه الآية التي ختم بها القسم الأول: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} فقوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} كلمة حددت مبدأ تاريخ القسوة ولم تحدد نهايته، كأنه بذلك وضعت عليه طابع الاستمرار وتركته يتخطى العصور والأجيال في خيال السامع، حتى يظن أن الحديث قد أشرف به على العصر الحاضر، ثم لم يلبث هذا الظن أن ازداد قوة، بصيغة الجملة الاسمية في قوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} دون أن يقول: فكانت كالحجارة.
ثم انظر كيف كان انتهاؤه إلى وصف قلوبهم بهذا الوصف توطئةً لتغيير الأسلوب فيهم، فإن من يبلغ قلبه هذا الحد من القسوة التي لا لين فيها يصبح استمرار الخطاب معه نابيًا عن الحكمة، ويصير جديرًا بصرف الخطاب عنه إلى غيره ممن له قلب سليم. وهكذا سينتقل الكلام من الحديث معهم في شأن سلفهم إلى الحديث معنا في شأنهم أنفسهم.
"
« آخر تحرير: 2015-03-03, 10:21:07 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: على درب الحياة والقرآن مشكاتي...
« رد #19 في: 2015-03-04, 16:15:09 »
والآن ننتقل سويا إلى القسم الثاني من الآيات التي تعالج موضوع بني إسرائيل، ولقد حاولنا الإسهاب فيه شيئا ما، حتى لا نبخس الآيات وجمالياتها وتناسقها، وتقابلها حقها، وأعود وأذكر أنّ غايتنا الأولى من هذا الخوض هي الربط بين سور القرآن الكريم بالشكل الذي معه يُتاح لقارئه بتسلسل المصحف التوقيفي من عند الله تعالى معرفة المراد منه خطوة إثر خطورة تماما كالذي يستكشف طريقا يسلكه عليه مشكاة، وإنما المشكاة هي القرآن وإنما الطريق هي الحياة...

أذكّر بهذا، لأننا مع إسهابنا في آيات بني إسرائيل، قد يبدو الانقطاع عن شعارنا في اتخاذ ترتيب المصحف مشكاة على طريق الحياة، فلا تقلقوا، مازلنا على عهدنا ذاك، وفور انتهائنا من هذه الآيات -وهي التي تأخذ من السورة قطاعا كبيرا- سنحدّد ملخصا لها نُجمله في خطوة جديدة تُضم إلى خطواتنا التي قطعناها على دربنا بإذن الله تعالى.

نعود لنكمل مع القسم الثاني من هذه الآيات :

القسم الثاني يذكر فيه أحوال المعاصرين منهم للبعثة المحمدية.(من 75 إلى 123).

أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ(78) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ(79) وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ(83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ(84) ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(85) أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(86) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ(87) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ(88) وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ(89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ(90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(91) وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ(92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ(93) قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ(95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(96) قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(97) مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ(98) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ(99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(100) وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(101) وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ(102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ(103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(104) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(105) مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ(107) أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ(108) وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(109) وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(110) وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(114) وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(115) وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ(116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(117) وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ(119) وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ(120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(122) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ(123)

وقد عرفنا أن الآية 74 كانت النقلة البديعة التي فصلت بين الحديث عن سالفة بني إسرائيل، والدخول في الحديث عن المعاصرين منهم للدعوة المحمدية، كان ذلك بعد إنهاء قصة ذبح البقرة، لما تثاقل القوم عن أمر الله فيهم، وما كادوا يذبحونها، وكان السرّ البديع في "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك"، ليتكشّف لنا بهذه البَعْديّة عصر جديد من عصورهم، وجيل جديد، ولكنه لا يختلف عن سلفه، بل إنّ أول ما يُلوَّحُ به لمعرفتهم "قسوة القلوب"، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وإن الحجارة أمام قلوبهم القاسية لليّنة طيّعة، نافعة متفجّرة بالأنهار، متشققة عن مياه عذبة شروب، هابطة من خشية الله ...
وأنّى لقلوب متحجرة أن تتقبل الهُدى ؟!  نسأل الله السلامة .

1- الآيات من 75 إلى 77 :يخاطب الله المؤمنين، مستنكرا ميئّسهم من إيمان اليهود بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان دَيْدنهم تحريف كلام الله تعالى الذي أنزله على موسى عليه  السلام في التوراة، كما أنهم كانوا يدّعون الإيمان كذبا أمام المؤمنين، فإذا ما خلا بعضهم إلى بعض استنكروا أن يُبدي المدّعون إيمانا، دفعا لأن يكون ذلك سببا لمحاججتهم به عند الله، بمعنى أنّ من يدّعي الإيمان والتصديق فمعناه أنه يعلن تصديقه بما جاء في توراتهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يسعون هُم في إخفائه وكتمانه، وهذا الإظهار منهم ولو على سبيل الادعاء والكذب يكون سببا لمحاججة المؤمنين به لليهود عند الله يوم القيامة، أي أنكم أعلنتم إيمانكم وتصديقكم بما جاء به وذلك ما معناه تصديقكم بموعود التوراة به، وهذا عند الذين لم يدّعِوا الإيمان قلة عقل ! فهل غاب عنهم أن الله تعالى الذي يخافون المحاججة أمامه، سبحانه عليم بهذا الذي يسرّون من المحادثات ؟! ولكنّ قوما مكذّبين للأنبياء، مكابرين، متجرئين على الله وعلى رسله، لا يستبعد عدم تقديرهم الله حق قدره ...

فماذا تقابل هذه الآيات من المقدمة (40-48) ؟  إنها تقابل قوله تعالى : "وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ"

2- الآيتان (78و79): من بني إسرائيل أميّون لا يقرؤون ولا يكتبون، ولا يعلمون ما جاء في التوراة إلا ما افتراه أحبارهم من أكاذيب وأباطيل وتحريفات، ثم يتوعّد الله بالويل من يكتبون منهم الكتاب بأيديهم ثم ينسبونه لله، ليشتروا بذلك عرضا من أعراض الدنيا قليل، كالذي عُرف عن أحبارهم من أخذهم المال من عامة القوم، فلما خشوا أن تُقطع عليهم العطايا كذبوا، وكتموا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، وأنكروا أمره .

فماذا تراها تقابل مما جاء في المقدمة(40-48) ؟   إنها تقابل قول الله تعالى : "وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ"
فإذا تأملتَ تعجّبت من هذا التقابل المتسلسل، بين المجمَل والمفصّل !

3- الآيات من 80 إلى 82: فيها ادعاءات اليهود التي يعلنونها بين المؤمنين على أنها الحق، وعلى أنها علم من العلوم التي حصّلوها من كتبهم ومن أنبيائهم، وهي الحق يلبسونه لباس الباطل، ومن ذلك قولهم عن النار وهي حق، ما هو باطل، أنها لن تمسّهم إلا أياما معدودات بزعمهم، كما قال منهم من قال أن الدنيا عمرها سبعة آلاف عام، واليهود عن كل ألف منها يوم تمسهم فيه النار! فينكر الله عليهم ذلك، أفمن عهد بينهم وبين الله كان هذا والله لا يخلف عهده، أم من قولهم على الله ما لا يعلمون ؟ ، ثم يُعقبها الله تعالى بتبيين الحق الواضح الجليّ أنّ كل من كسب سيئة وأحاطت به الخطيئة إحاطة فلم تدعْ له مجالا لتوبة هو من أصحاب النار الخالدين فيها، وأنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات مآلهم الجنّة خالدين فيها.

فماذا تراها تقابل من حديث المقدّمة (40-48) ؟ إنها تقابل قوله تعالى : "وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(42)"

4- الآيات من 83 إلى86: يذكّر الله بني إسرائيل المعاصرين للدعوة المحمدية بالميثاق الذي أخذه على آبائهم من قبلهم، بألا يعبدوا إلا الله، والإحسان للوالدين، ولذي القربي واليتامى والمساكين، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وأنه كان منهم التولي، فما وفى به إلا قليل منهم،  كما أخذ الميثاق عليهم ألا يقتل أحدهم أخاه، وألا يتعدّى على حقه فيخرجه من داره، وقد تولوا أيضا في هذا، ونقضوا الميثاق كعادتهم، وها هم أولاء وهم من جيل آخر على خطى آبائهم، يقتل بعضهم بعضا، ويخرج بعضهم بعضا، وذلك فعلهم لمّا كانت قبائل من اليهود في المدينة توالي الأوس، وقبائل أخرى توالي الخزرج، فكان موالو فرقة يقتلون موالي الفرقة الأخرى وهم منهم، ولكنهم عند الأسر يذهبون لافتدائهم ! يؤمنون بما يحبون ويكفرون بما يحبون، وإنما جزاؤهم الخزي في الحياة الدنيا، والعذاب في الآخرة...

وفي هذه الآيات نلاحظ الربط بين سالفة اليهود وبين الجيل الذي عاصر الدعوة المحمدية، لنرى أنهم على خُطاهم، وأن الجبلّة واحدة، لا فرق بين هؤلاء وأولئك. كما نلاحظ تفصيل الميثاق هنا(العهد) من بعد ما أجمله في قسم "سالفة بني إسرائيل" في قوله تعالى "وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور"، كما نلاحظ ذكره للصلاة والزكاة، فماذا تراها تقابل من المقدمة(40-48) ؟
إنها تقابل قوله تعالى : "وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ(43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(44) وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ(45)"


5- الآيات من 87 إلى 93 : لو تأملنا هذه الآيات لعرفنا أن الجامع بينها هو حديثها عن الكتب المنزلة وعن موقف بني إسرائيل منها ومن الأنبياء، فلقد آتى الله موسى عليه السلام التوراة، ثم جاء من بعده عيسى بالإنجيل، وكانوا على حالَين مع الأنبياء لا ثالث لهما، فهم إما قاتلون لهم، أو مكذبون، كذبوا موسى عليه السلام، ولاقَى منهم ما لاقَى، ثم لما جاءهم عيسى عليه السلام همّوا بقتله لولا أن الله رفعه إليه، ففعلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ما أنزل عليه، هو من جنس فعلهم مع الأنبياء السابقين، إذ لما جاءهم القرآن كفروا به، وقد كانوا من قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم يستفتحون على الكافرين أنهم غالبوهم وقاهروهم مع النبي الذي سيبعث، فلما بعث كذبوه وأنكروا ذكره في كتبهم، فكانوا أن باؤوا (بنو إسرائيل المعاصرون للدعوة المحمدية) بغضب على غضب، ولقد عرفنا بوْء آبائهم بغضب من الله، فهؤلاء قد باؤوا بغضب جديد على غضب آبائهم القديم، وهم حينما دُعوا للإيمان، ادّعوا أنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل من قبل على أنبيائهم، ولكن الله تعالى يفضح زيفهم وكذبهم، فكيف لمَن قتل أنبياء الله من قبل أن يدّعي الإيمان بما جاؤوا به ؟! فإن كانوا ادعوا الإيمان بالتوراة التي أنزلت على موسى، فإنهم قد اتخذوا العجل من دون الله الذي أمرهم بعبادته وحده، كما أنهم لما رفع عليهم الطور لأخذ الميثاق والعهد عليهم بطاعة ما جاءهم به موسى عليه السلام، وبالإيمان بما أوتي بقوة وعزم وجدّ، ما كان جوابهم إلا "سمعنا وعصينا" بدل "سمعنا وأطعنا"، ولقد أشربوا العجل وحبّه وحب الذهب والدنيا والمال بدل أن يُشربوا الإيمان في قلوبهم  ...

فهذه الآيات جاءت تدحض ادعاءاتهم الباطلة وهم بين المؤمنين، يدّعون ما يدّعون، ولكن لا، لم يعد لهم من مجال للكذب والتدليس على المسلمين أكثر، ومحمد قد جاء بما يكشف زيفهم للعرب الذين لطالما خُدعوا فيهم وهُم لا يسمعون أخبارهم إلا منهم .

6- الآيات من 94 إلى 98 وفيها أيضا دحض لادعاءات باطلة منهم، وهي قولهم أنهم المختصّون بالآخرة وخيرها ونعيمها دون غيرهم، وقولهم بأنهم أعداء لجبريل عليه السلام، ومع كل من الادعاءَيْن دحض بما يقابله من حقيقة حالهم، فهم المحبون للحياة الكارهون للموت، وبالتالي الكارهون للقاء الله، وجبريل هو الذي نزل بالهدى، فمن كان عدوا لملائكته، كان الله عدوا له.

وهنا هذه الآيات مقابلة من المقدمة(40-48) لقوله تعالى : "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون"


7- الآيات من 99 إلى 103، ما يجمع بينها هو كفرهم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبذهم لذكره في كتبهم، وكتمهم إياه، بينما يستعيضون عن أمر الله، وكتب الله، ورسل الله بالشعوذة والسحر والخرافة، وهؤلاء جبلتهم كجبلة آبائهم الذين استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير يوم قالوا لموسى عليه السلام "ادعُ لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها...." مستعيضين به عما كان ينزل عليهم من السماء مأكلا ومشربا. وضمنيا جاء قول الحق في حق النبي سليمان عليه السلام الذي تجرؤوا فوصموه بالسحر حاشاه، ولقد اتبعوا هُم سحر هاروت وماروت اللذَين جعلهما الله فتنة ليظهر عبرَهما من يتبع الحق ممن يتبع الباطل، ولقد اتبعوهما، وتعلموا السحر، وقد تعلموا ما يضر ولا ينفع، فبئس ما استعاضوا به عن نور الله الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم !!

ونكمل هذا القسم من أخبارهم لاحقا بإذن الله تعالى .
« آخر تحرير: 2015-03-05, 10:21:53 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب