في الملتقى كتبتُ
بسم الله الرحمن الرحيم
حياكم الرحمن جميعا
تمضي بنا الدنيا، تأخذ منا ونأخذ منها، ولا يكاد يقر للإنسان فيها حال، أو يدوم له بها مآل..
وأعلم علْمَ اليوم والأمس قبله .. ولكنني عن علم ما في غدٍ عمِي
طال الغياب، وتكرر الاعتذار، وملت الشوقَ القلوبُ،..!
فجئتُ.. مرهفَ السمع حينا، هامسا بقلمي حينا أقل!
عسانا نحفظ ودا يجمعنا به عند الحوض وفي ظل العرش.. آمين
لا يسعني في أغلب الأحيان متابعة الملتقى إلا عن كثب بعيد، وكم تجتذبني الموضوعات إلى المشاركة ثم تحول الحوائل، فإن ابتعدت ما قرأتُ، وإن اقتربت ما كتبتُ،.. وبين هذين تفتقد النفس محاورتكم، والحياة معكم، ولو عبر هذه الصفحات.. ولو تعلمون، لإني أحوج إليكم منكم، وأكثر شوقا..
ومازلت على حالي.. لا أدري متى أعود، وكيف يتيسر لي الخطاب.. فراودتني فكرة أن أمد بيننا قناة تواصل، ألتزم فيها كلما تيسر نقل شيء مما سبق تدوينه سماعا أو بحثا أو مُدارسة، لا يختص بفن معين، ولا يهدف إلا إلى صحبة الأخيار، وأنتم كذلك
هي مسائل، وبعضها مشكِل، بعضها كذلك غريب، وآخر مشهور.. وربما ييسر الله فيكون تفصيل بعد إجمال وربما أكتفي بما كتبت أول مرة دون تعقيب أو توضيح.. والأمر كله لله
لنتابع،..
ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا
أخوكم
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة المجاز ومشكلة التأويل
1- اللفظ غير المعنى، والعلاقة بينهما أربعة إجمالا تسعة تفصيلا..
أولا: أن يكون اللفظ واحدا والمعنى واحدا أيضا، وهو ثلاثة أقسام
1 - العلم. وهو اللفظ الموضوع لفرد واحد، كلفظ زَيْد والشخص المسمى به
2 - المتواطئ. وهو اللفظ الموضوع لأكثر من فرد ويصدق عليهم جميعا بالتساوي، كلفظ حيوان والحيوانات المختلفة، فه اللفظ يصدق على كل منها صدقه على الآخر [ويسمى المشترك المعنوي]
3 - المشكك. وهو اللفظ الموضوع لأكثر من فرد ويصدق عليهم بنسب مختلفة، كالنور فإنه يصدق على شعاع الشمس والمصباح والقمر والشمعة، وهي متفاوتة.
ثانيا: أن يكون اللفظ متعددا والمعنى متعددا أيضا، وهو
4 - المتباين. وهي الألفاظ التي دل كل منها على معنى غير الآخر، كلفظ إنسان ولفظ نبات، والمعنى المطابق لكل منهما الذي يغاير الآخر تماما.
ثالثا: أن يكون اللفظ متعددا والمعنى واحدا، وهو:
5 - المترادف. وهي الألفاظ التي دلت جميعا على معنى واحد، كالأسد والقسورة والغضنفر.. كلها ألفاظ متعددة لمعنى واحد.
رابعا: أن يكون اللفظ واحدا والمعنى متعدد، وهو أربعة أقسام:
6 - المشترك. وهو اللفظ الصادق على أكثر من معني بالتساوي، كلفظ القرء، فإنه يطلق على الحيض إطلاقه على الطهر.
7 - الحقيقة. وهو اللفظ المستعمل في وضعه الأول وهذا الوضع باق على اشتهاره واستعماله، كالأسد إذا أريد به الحيوان المعروف.
8 - المنقول. وهو اللفظ الذي اشتهر في غير وضعه الأول حتى غلبه في الاستعمال، كالصلاة فإنه وضع أولا للدعاء ثم اشتهر في العبادة المعروفة حتى صار استعماله فيها أشهر من استعماله في الدعاء [ويسمى الحقيقة العرفية]
9 - المجاز. وهو اللفظ المستعمل في غير وضعه الأول مع أن الوضع الأول باق على اشتهاره واستعماله، كالأسد إذا أريد به الرجل الشجاع مثلا.
2- الاستعمال من صفة المتكلم، والحمل من صفة السامع، والوضع قبلهما!
المتكلم إذا أراد الكلام، تخير اللفظ الدال على المعنى الذي يريد التعبير عنه، فلا يجوز له أبدا التعبير بالمباين، وإن أراد التعبير بما يحتمل أكثر من معنى، سواء كان مشتركا أو منقولا أو مجازا.. التزم أن يترك للسامع ما يدل على قصده أحد المعاني المحتملة.
السامع إذا أراد فهم الكلام التزم أن يفهمه على وجهه، فلا يجوز له أبدا حمل اللفظ على المباين له، وإن سمع كلاما يحتمل أكثر من معنى فعليه أن يبين ما حمله على فهم أحدها بعينه دون غيره من المعاني المحتملة.
يضبط كل هذا "عقد الوضع" وهو تعارف العرب على جعل كل لفظ مستعمل بإزاء معنى. أو تعارف طائفة خاصة على ذلك إن اللفظ منقولا.
3- متى عُرِف الوضع فلا إشكال إلا فيما يتعدد فيه المعنى ويتحد اللفظ، وهو كما سبق أربعة أنواع:
المشترك. يجب على المتكلم نصب ما يعين المعنى الذي يريده، ولا يجوز للسامع أن يفهم الكلام على معنى ما إلا إذا بين ما حمله على اختيار هذا المعنى دون غيره مما يشترك فيه اللفظ.
كلفظ القرء. استدل الحنفية على أن المراد بها في الآية الحيض، واستدل الشافعية على أن المراد الطهر.
أما حمل الكلام على معنى ما دون دليل فهو تحكم غير مقبول، وكذا إلقاء الكلام المشترك دون ما يبين المراد به هزر يتنزه عنه.
الحقيقة. لا يجب على المتكلم تبيين ما يدل على قصده إياها، لأنها الوضع الأول للفظ الباقي على اشتهاره، فهو المعنى إذا أطلق اللفظ
وكذلك لا يجوز للسامع حمل الكلام على غير حقيقته مالم يبين دليلا دفعه إلى ذلك.
المنقول. لا يجب على المتكلم تبيين ما يدل على قصده مادام يتكلم مع الطائفة التي نقلته، كأن يتكلم النحوي بين النحاة عن الحال أو الظرف، وكذلك لا يجوز لأحد من أهل هذه الطائفة حمل الكلام على غير المنقول مالم يبين دليلا دفعه إلى ذلك
أما خارج هذه الطائفة فيلتزم المتكلم بالوضع اللغوي الأول، فإن أراده فليس عليه أن يبين ما يدل عليه، وإن أراد غيره التزم أن يبينه
المجاز. يجب على المتكلم أن يلتزم أمرين إذا أراد التعبير عن المعنى بغير لفظه الذي وضع له أولا:
- أن يبين دليلا على أنه يريد هذا المعنى
- أن يستخدم لفظا يكون بين معناه الأول والمعنى الذي يريد التعبير عنه علاقة.
فمن أراد التعبير عن الرجل الشجاع بالأسد. التزم أن يبين دليلا يوضح أنه يريد هذا المعنى لا معنى الحيوان المعروف، ويلزمه أن يكون المعنى الأول للفظ أسد وهو الحيوان المعروف بينه وبين المعنى الذي أراد أن يعبر عنه علاقة، كالشجاعة مثلا أو المهابة أو نحو ذلك.
4- التأويل: صرف اللفظ عن وضعه الأول وحمله على معنى غير مشهور فيه.
التأويل إذن من صفة السامع.
فهو يدعي أن المتكلم لم يقصد من اللفظ وضعه الأول، وإنما يقصد معنى كذا. فالتأويل إذن: ادعاء أن الكلام مستعمل على طريقة المجاز.
فعلى السامع أن يجري الكلام على شروط المجاز. أي أن عليه أن يبين الدليل الذي دفعه إلى حمل اللفظ على غير وضعه الأول، وعليه أن يبين العلاقة بين الوضع الأول للفظ والمعنى الذي حمل اللفظ عليه.
فإن أقام ذلك بشكل صحيح.. قُبِل تأويله، وإن أبانه بشكل فاسد فتأويله مردود، وإن لم يبنه أبدا بل ادعاه عاريا فهو لعب لا تأويل
ورحم الله تاج الدين السبكي حين قال: التأويل صرف اللفظ عن ظاهره فإن كان لدليل فصحيح، أو لما يُظن دليلا ففاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل.
رضي الله عن كل من استفدنا من حرفا في المعرفة به عز وجل
مسألة الدليل العقلي والنقلي، ومشكلة التعارض بينهما والترجيح
1- لأهل السنة في تأسيس البناء المعرفي تشييد فائق، يتلخص في نقاط ثلاث:
- المعرفة ممكنة، خلافا لمن ذهب إلى استحالتها وهم السوفسطائية
- المعرفة مراتب، علم فظن فشك فوهم.
- وسائل المعرفة تختلف باختلاف درجاتها فالمعرفة المقبولة بوجه عام (العلم والظن) وسائلها ثلاثة هي: الحس والنظر العقلي والخبر.
2- فإذا تعارضت معرفتان تعارضا تاما قدم الأعلى رتبة منهما على الأقل، سواء كانتا حسيتين أو عقليتين أو خبريتين، أو مختلفتين. ولا يُفرض التعارض بين القطعيات.
3- لا نقول إذن العقلي مقدم على النقلي ولا النقلي مقدم على العقلي، ولا الحسي مقدم عليهما أو مؤخر.. بل نقول: القطعي أيا كان مقدم على الظني أيا كان، أو بعبارة أعم: الأعلى رتبة أيا كان مقدم على الأقل أيا كان أيضا!
4- ورحم الإمام البنا حين قال:
وقد يتناول كل من النظر الشرعى والنظر العقلى ما لا يدخل في دائرة الآخر ، ولكنهما لن يختلفا في القطعى، فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة، ويُأَوَّل الظنى منهما ليتفق مع القطعى، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعى أولى بالإتباع حتى يثبت العقلى أو ينهار
ثم كُتب لي:
يا حيا الله سيد شباب الملتقى ..
عودا حميدا يا رجل ..!
ائذن لي أن آخذ مكاني في درسك هنا ..! فلعل الله يرفعنا بكم بسطة في العلم والفهم ..!
وهو لعمر الله درس يأبه به أولو الألباب لما فيه من عبرة وتذكرة لمن ألقى السمع وهو شهيد ..!
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أزهري صميم
3- لا نقول إذن العقلي مقدم على النقلي ولا النقلي مقدم على العقلي، ولا الحسي مقدم عليهما أو مؤخر.. بل نقول: القطعي أيا كان مقدم على الظني أيا كان، أو بعبارة أعم: الأعلى رتبة أيا كان مقدم على الأقل أيا كان أيضا!
4- ورحم الإمام البنا حين قال:
وقد يتناول كل من النظر الشرعى والنظر العقلى ما لا يدخل في دائرة الآخر ، ولكنهما لن يختلفا في القطعى، فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة، ويُأَوَّل الظنى منهما ليتفق مع القطعى، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعى أولى بالإتباع حتى يثبت العقلى أو ينهار
أفلا تبسط لنا في مفهوم هذه القاعدة الشرعية إن كان من عند الأصوليين أو الفقهاء ..؟!! فقد دارت جدالات شتى في تعارض الحقائق العلمية بالقواعد الشرعية ..!
والإشكال ليس مني ولا عندي ..!! فإني لأسمع الكلمة - الصحيحة - من رسول الله فيصدق بها كل جسدي من ظاهر وباطن ..!!
لكن هب أن بين أيدينا قاعدة علمية ثابتة صحيحة عليها إجماع أولي النهي في هذا العلم ..! ثم عارضها نص شرعي من السنة أفئن سلمنا عقولنا للعلم يدخل في إيماننا النقص والشك ..؟!! ولئن سلمنا للنص السنيّ أفيدخل في عقولنا النقص والشك ..؟؟!
لا ريب أن القواعد الشرعية يقبلها العقل ولا تردها العادة ..!
لكن لو وقعنا على تعارض نقلي وعقلي وكان في كفة العقلي حجرا يرجح كفّته فلمن نلقي عقولنا وأفهامنا ..؟؟!!
ننهي هذه النقطة يا مولانا ثم نعرض لسواها لو أذنت لنا ..
دم خاشعاً ..
... المرشد
فأجبتُ
بسم الله الرحمن الرحيم
المرشد الحبيب وهبك الله سرور أهل الجنة
القضية كما علمنا يا أخي قضية تقديم قطعي على ظني، بعيدا عن كون أحدهما عقليا والآخر نقليا، مع اعتبار أن التقديم والتأخير لا يصار إليه أصلا إلا بعد استنفاد محاولات الجمع بينهما.
والإشكال في تعارض نتائج المختبرات مع الأخبار المنقولات.. كتابا أو سنة.
أما نتائج المختبرات فتستفاد بالحس أو بالاستنتاج العقلي، وكلاهما قد يكون ظنيا وقد يكون قطعيا، فأداة الإحساس قد لا تكون دقيقة مئة بالمئة كما يعلم أرباب المختبرات، والاستنتاج العقلي كذلك قد يبنى على لزوم بين أو علة مؤثرة، وقد يبنى على لزوم خفي أو علة متوهمة.
وأما الأخبار المنقولات فينظر لها من جانبين، جانب الثبوت وجانب الدلالة. والمقطوع به من جانب الثبوت نوعان فقط:
الخبر المتواتر، وخبر الواحد المؤيد بالمعجزة.
والقطع في دلالات الألفاظ عند الشافعية بعيد يلزمه السلامة من معارضات عشرة!
والقطع فيها عند الحنفية قريب إلا أن الظن كثير أيضا
فالتعارض المخوف هو التعارض بين ما ثبت من نتائج المختبرات قطعا، كأن يكون محسوسا مشاهدا رأي العين مثلا، أو استنتاجا عقليا بديهيا، وبين ما ثبت من الأخبار بطريق القطع ودل دلالة قاطعة لا تحتمل.
ومثل هذا لا يوجد ولن يوجد أبدا بإذن الله..
وكلما أنعمت النظر بين ما يثار إشكاله اليوم، وما أثير إشكاله أمس، وما سيثار.. تجد أنك إما أمام نظريات علمية لم يشتد عودها في المختبرات بعد، أو أمام أخبار تحتمل من الدلالات ما يسع أهل الكوفة! وربما كان أيضا في ثبوتها نظر بعيد
وتعارض الظنيات لا يمتنع، فلا ينقص من إيمان العبد أن يتوقف في دلالة خبر قوي لديه خلافها، ولا ينقص من عقل المؤمن أن يتوقف عن ظاهرة غلب عليه الإيمان بخلافها.
فما دام الأمر ظن وغلبة احتمال ليس إلا فابحث ولا حرج
هناك أمر آخر،..
ذهب كثير من الأصوليين إلى تخصيص العام بالحس وبالعقل وعدوهما ضمن المخصصات المعتبرة، بل بدأ بهما أحد علماء الأصول المعاصرين بيتا نظم فيه المخصصات الثمانية.
أكمل رضي الله عنك