آيات نتلوها، أو أبيات نرددها، أو كلمات نحفظها، يغور معناها بين دثور الذاكرة، حتى إذا تقلبت الحياة، وسار بنا الزمن، صادفت أحوالنا شيئا مما كاد النسيان يطويه، طفقنا نعيد ذكره دون وعي وانتباه!
هكذا أجبته حين لمحني أتمثل أبيات الأمير: رمى بنا البين أيكا غير سامرنا .. أخا الغريب، وظلا غير نادينا. كل رمته النوى، ريش الفراق لنا .. سهما، وسل علينا البين سكينا. إذا دعا الشوق لم نبرح بمنصدع .. من الجناحين، عي لا يلبينا
.. لم يجد شوقي في الأندلس ما يعيبها، لا، ولا نبذته، أو انتقصته، بل فهم فيها ما كان غافلا عنه هنا، وأدرك بها ما غُيِّب عنه بمصر، ونعمة الفهم والإدراك يحفظ لها المرء ود الشكر والعرفان، ربما.. أكثر من نعمة الأكل والشراب!
غير أنها كانت منفاه عن أهله وبلده، عن ربعه، ومهده، وقديما قالوا: وحبّبَ أوطانَ الرجال إليهم .. مآربُ قضّاها الشباب هنالك. إذا ذُكِّروا أوطانهم ذكرتهمُ .. عهودَ الصبا فيها فحنوا لذلكَ. وكأن شاعرنا حار بين فقد المنشأ، وحب المآل، أو تردد بين طيب الذكرى، ولذة الحين، وهو مع ذلك يصارع ألما نفسيا آخر، يكمن في علمه أن داره هنا ليست بالدائمة، وأنه سيعود حتما إلى مصر، فكأنه خشى أن يفتح الطريق لقلبه هنا، فيصيبه غدا حين الرحيل، ما أصابه اليوم حين المجيء!.
أكثر من هذا - لو تعلم - يصيب من رزقه الله شيئا من نقاء، وبعضا من رقة يحمد الله عليها، إذا قضى عليه بالتنقل بين البلاد، مكرها، أو مكرها في صورة مختار، تحترق وجنتاه بصادق دمعه، ويكتوي صدره، بجراح قلبه، وتضطرب مشاعره، ولا تكاد تثبت عيناه على شيء، شوقا لديار جامدات خلت، وبكاءَ بلاد - كم قسون عليه - مرت.
فماذا إن افتقد الصدر قلبا أحبه، وبكت المقل عينا رنت إليها، واستوحشت الأنامل يدا عرفت دفئها، وافتقدت الضلوع وجها صافيا كانت تحتضنه، فتنسى عالمها الخارجي، حتى ينتهي اللقاء، وتبقى على ذكراه حتى يتجدد.. ماذا إن فارقتَ يا صاحب الأشواق قلبا نابضا، ووجها غضا صافيا، وليته كان الفراق الواجب، ففي معية الله ما يصبرنا، بل فرقة حيرى، واغتراب متردد، لا نعمنا بالوصال، ولا اصطبرنا على الفراق، بل دفء يزهقه برد الشتاء، وغيوم لا تقوى عليها نسائم الربيع.
كنا على البحر معا..!
اتدري من تأتي كل هذه المياه؟.. ضحك قائلا: سألت والدي وأنا صغير هذا السؤال!
وماذا قال لك؟
من الشاطئ الآخر..!
ضحكنا معا.. وفتحت بوابتي على مصراعيها ليسبح بالنفس ما شاء ... من كل شيء!