المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي (الصــــــفّ)  (زيارة 275 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

وما نزال في رحاب هذا الجزء المدنيّ المحفوف بأجواء المدينة، أجواء الدولة الإسلامية، وانتظام المجتمع المسلم  الناشئ فيها، المسيَّر بقانون الوحي السماويّ، ليس من قانون يعلو عليه، الدولة تحقّقه نظاما لا يُخرَج عنه، والمجتمع يحقّقه بأفراده، وأُسَرِه حياةً وسلوكا وتربية لا يُعدَى عنها...

أجواء فريدة، لا تُقاس بشيء من مقاييس ما نسميه عصر الحضارة والتقدّم العلمي والتكنولوجي، والسرعة المعلوماتية، والاتصال المحقّق بين أطراف الأرض، مصيّرها بيتا واحدا، من حيث مظهر التواصل الافتراضيّ،  الذي مكّن من معرفة جديد ومستجدّ حال أبعد الأطراف بعضها عن بعض، في حينها ولحظتها... ولكنّ حقيقة البشريّة تشتّت وتفرّق وتبعثر... ! بشرية معلولة، تعاني في صمت أحيانا، وفي صوت أحيانا كثيرة  ... !

لا تُقاس تلك الأجواء، وذلك العصر الفريد الذي اجتمعت له عناصر الجمال والكمال والرقيّ الإنسانيّ، والغذاء الروحيّ، والرَّواء العقليّ على السواء ... ذلك العصر الذي حقّق الحضارة بمعناها الإنسانيّ الراقي، بل بالمعنى الأرقى للإنسانية ... !
فاجتمع فيه العدد من الرّجال الذين هم بوزن الأمم، والعدد من النساء اللائي هنّ بوزن الأمم، فصنعوا الأمّة على نبض الوحي، صنعوها على وقْع أوامره ونواهيه، وعلى مقتضى أحكامه وتعاليمه التي لا يُعلى عليها، وليس فوق تمامها ومواءمتها للحياة البشريّة والحركة المجتمعية التنظيمية نظام أو قانون !

فالإنسان إذ يتشدّق بعصر السّرعة وعصر المادة، وعصر تسخير الكون لحاجاته الجسمية والبدنية، عصر تيسير الحياة وتوفير وتطوير مرافقها..  هو مغيّب كل التغييب عن حاجة أسمى ما يميّزه كسيّد للمخلوقات، وأسمى ما يميّزه ككائن لم يُخلَق ليأكل ويشرب، ويتمتع كما الأنعام : "...وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ" –محمد: من الآية 12-
يغيب كل الغياب عن حاجته الأسمى، ويذهب في غياهب الغفلة عنها... عن حاجة الروح ... عن حياة الروح ... !
وتبدو له الحياة، والوجود، والغاية من الوجود مادة، فيطغى، ويرى نفسه قد استغنى عن ربّه الخالق البارئ المصوّر، الذي أوجده، وسخّر له الكون... !
يغرق في لُجّ المادة... والمال  عنده يزداد، وعبيد المال تحت قدَمَيْه في ازدياد، فيتقوّى على الضعيف، ويبطش، ويستولي، وينهب، ويسلب، لا يؤدُه أن يُهلك كل من يعترض سبيل طغيانه وتجبّره في الأرض... ! ثم يقول كما قال من اغترّ قبله بمُلكٍ مَلَكَه : "هذه الأنهار تجري من تحتي" ، وطغى حتى رأى نفسه الإله الواحد  : "ما علمت لكم من إله غيري " ورأى نفسه الربّ الذي لا يُعلى عليه : "أنا ربكم الأعلى" ... !!

وهكذا هي لغة العصر.... ! العصر الذي تولّى هواه، وجعله إلهه المعبود، وأعرض عن ربّه، وعن عبادته، وعن قانونه الذي أنزل للناس ... !
ومع سُوَر هذا الجزء، نعرف النموذج الأسوة الذي حقّق الخلافة في الأرض، لتعبيد البشر عليها لربّهم الواحد الأحد، الذي يملكها، ويملك زِمام  أمرها، ويدبّر أمرَها، ولكنّه يتركها للامتحان ... !-كما عرفنا أخيرا مع سورة الممتحنة- ذلك الامتحان الذي ينجح في اجتيازه من أقرّ بالعبودية لله وحده، وبالاحتكام له، وبالانصياع لأمره ...
ولأنّه الامتحان الذي لا نهاية له إلا بغلق باب قاعته المفتوحة للناس يتحرّكون فيها حركة الممتحَن، وهم الذين إذا طغوا حسبوا أنها دار الخلود ... !
وهي كلّما غرق الإنسان في لُجّها وطغى، كلّما عسُر فيها الامتحان، وكلّما تبدّى وكأنها التي بلا صاحب يحكمها، وكأنّ الأقوى عليها هو الأحقّ بالولاء ... ! فيعسر الاختيار إلا على عباد الله المخلَصين، فإما توحيد ويقين بالإله الواحد الأحد سبحانه القاهر لكل عباده قويّهم وضعيفهم، وإما عبادة لأهل القوة والسلطان والسلاح والمادة، وانطراح على عتباتهم عبيدا مخلصين ... !
ومع هذا النموذج الفذ، وهذا العصر الذهبيّ بين عصور الأرض، قدوةٌ وأسوة لا غنى للمؤمن عنها في كل زمان، فهي دعامته، وهي التي لا يراها حلما وماضيا انتهى، بل يقتفي أثرها النورانيّ، لا يقنط، ولا ييأس، وهو يهتدي بهُدى أهلها، متيقّنا من قول الله سبحانه أنهم الأسوة التي هي للمؤمنين كافة في كل زمان... وبتأسّيه، واقتدائه هو لا يتزحزح، ولا يتزعزع، فيعيش عُمْرَه وهو المقتفي، وهو الذي لا ينبهر بقويّ غيرهم، ولا يرى حقا فيما سوى ما عندهم ... !

مازلنا معهم ... !
وإننا لسنا نتقرّب منهم من خلال السّور التي تعرض أحوالهم وحياتهم، وانتظامهم في المجتمع المثاليّ وغايتنا المعرفة والتعرّف وكفى، بل غايتنا الكُبرى أن نتعرّف حقيقة تفاعلهم مع الوحي، وعَيْشهم بالوحي من خلال حركتهم البشريّة بما فيها من ضعف ونقص... بخطأ المخطئ بينهم، يجعله الله مادة لتربيتهم، ولردعهم عن الوقوع فيه مرة أخرى، ولتحذيرهم من مغبّته وسوء عاقبته،  بدوام حضّهم على وحدة صفّهم، ونقاء جماعتهم ...  وبإصابة المصيب بينهم، وهو الذي يأتمر، وينتهي ويتخذ الوحيَ مشكاة له على درب الحياة ...

عرفنا في "الحشر" أوليّة المهاجرين والأنصار، وسَبْقَهم، وأهليَّتَهم لأن يكونوا قدوتنا، ومَضَيْنا قُدُما إلى الممتحنة، فأوغلنا في القدوة والأسوة عميقا، وبعيدا في الزمن... إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام ومَن معه، ضرْباً بهذه الدعوة وهذا الدين في أعماق الوجود، وأصل الوجود ...
فتبينّا عقيدة الولاء والبراء في المؤمنين، وتبينّا دورها في الحفاظ على بنية الجماعة، وعلى سلامتها وعلى قوامتها، وقوّتها ... فأعداء الله لنا أعداء، وأولياء الله لنا أولياء، لا جدال، ولا نظر، ولا تمييع باسم المسميّات المختلفة، المختلَقَة حجّة لاستنزاف بقايا الولاء لله الواحد المعبود من قلوب المؤمنين، باسم قوّة قويّ، أو مال غنيّ، أو واقع سيطرة دول على دول ... !
وكان آخرَ ما عايشنا من "الممتحَنة" بنود المبايعة التي هي ميثاق الولاء، والتزام الجماعة المؤمنة، والطاعة لله ولرسوله.
ثم ها نحن على عتبات سورة موالية ...إنها "الصفّ" ...

ويْكأنّي بالممتحنة وما كان فيها قد قدّمت للصفّ... !
الجماعة المؤمنة، وما كان من بعض أفرادها، بين خطأ مخطئهم، ووقعته في ساعة ضعف شديد، وبين قوّة آخر في إقباله على الله، وإدباره عن الدنيا بما فيها ... وكيف أُعلِيَ شأن المحتمي بحِماه سبحانه وليِّ عباده المؤمنين الصادقين، وكيف كانت وقعة المخطئ مناسَبة لدرس عظيم تلقّاه المؤمنون، في الحفاظ على وحدة الجماعة، وصوْنِها عن كل طارئ ضعف وزلل يطرأ من الأنفس،  لئلا تصبح الثلمة صدعا، ولئلا يجرّ الخطأ الواحد أخطاء، ولئلا تنقلب الوقعة وقعات ووقعات... ! وعندها يستعصي على الآسي علاج ... !

وهذا مفتَتَحُها :
"سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)"
كما كان افتتاح سورة الحشر، التي كانت عن أعداء الله وذلّتهم في غير جَنْب الله، وعن أوليائه وعزّتهم في جنبه، واستحقاقهم نصره .
سبّح له سبحانه، كل ما في السماوات والأرض... كل ما خلق... إشارةً إلى أنّ الأجدر والأَوْلى بتسبيحه وتنزيهه عن كل نقص، وبالشهادة له بالكمال هذا الإنسان الذي جعله سيّد المخلوقات، وسخّر له كلّ ما في الكون ليحقّق الخلافة في الأرض ...
هذا الكائن الذي وهبه الله العقلَ، لتكون أسمى معارفه معرفةُ ربّه الذي خلقه من نطفة أمشاج، وجعله سميعا بصيرا، هو الذي هداه السبيل، فهو الأحقّ بين مخلوقاته سبحانه بتنزيهه عن كلّ نقص، وبأن يملأ نفسَه الاعتقادُ بعظمته وكمالِهِ وجلالِه ...
وهو العزيز الذي لا يُغلَب، الحكيم الذي أقام أمرَ كل خلقه على أتمّ صورة، وأدقّها، دون خلل أو زلل.

فهذه افتتاحيّة تمهّد لكمال الله وجلاله، ولحكمته وعزّته سبحانه ... وهي النافذة التي سنطلّ منها على "الصفّ"  ...
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)"
نداء للذين آمنوا به سبحانه، وصدّقوا أنه الإله الواحد المستحِقّ للعبادة وحده، بلا شريك، المختصّ بصفات الكمال والجلال، المنزَّه عن كل نقص... نداء للذين ملأ قلوبَهم وعقولَهم الإيمان بالعظيم الكامل، العزيز الحكيم، الذي لا يُعلى على حكمه، ولا على أمره ... !
إنكم يا مَن أقررتم بهذه الشهادة...  وجب أن تُذعِنوا لأمر الواحد سبحانه، أن تسمعوا لما يدعوكم إليه، ولما يوجّهكم إليه، ولما يحذّركم مغبّته ...ونداء المؤمنين من سمات السور المدنية –كما عرفنا-.

نداء قرآنيّ، علويّ، إلهيّ للمجتمع المسلم، للجماعة المؤمنة التي بايعتْ على السمع والطاعة... بايعت على ميثاق الولاء –الذي عرفنا بنودَه في سورة الممتحنة-
ولكأنّي بالمؤمنين وهم يُبَلَّغون آياتِ القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بعد نزولها عليه، وهو الأمين عليها، فهو مبلّغها كما نزلت لا تزيد ولا تنقص ... ! لكأنّي بهم وهم يتشوّفون بُكْرة وعشيّا للجديد من القرآن، ينزل نديّا من ربّ العزّة سبحانه...
فها هُم يتحلّقون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، أو يجتمعون إليه في بيته، أو يصلّون خلفه، أو يصحبونه في غزوة، أو يحيطون به في شأن من شؤون الدولة والمجتمع، فإذا بالجديد من القرآن يبلغهم ... !

فكأنّ  على رؤوسهم الطير  وهم يشنّفون إليه الآذان ! يستمعون بكلّ اهتمام، وكلّ نقطة فيهم أذن صاغية، لا تلتفت لغير هذا الجديد منه وهو يَطْرُق مسامعهم أوّل مرة ... !
إنها لهَيْبة !  وأيّ هيبة ! وإنه لجلال !  وأيّ جلال ! وإنّه لحظّ وافر قد أوتوه، وإنه لجمال... وأيّ جمال !
"لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ"

إنه استفهام...  وإنه للاستنكار ... ! وإنها للتربية تدقّ أسماعًهم، وقلوبهم وعقولهم ... وإنّه الشيء في النفس يطويه صاحبها عن الناس... ! بل قد يطويه حتى عن نفسه، ويخشى مواجهتها به ...
وإنّ الذي به من ذلك شيء، ليعرف نفسَه، وليستشعر وهو المؤمن الذي يوقِن بعلم الله لدِقّ حاله وجِلّه، خَفِيِّه، وظاهِره، ليعلم منها استنكار الله لحقيقة ما في نفسه ... ! ليستشعر مخاطبة الله له، وكأنها التي نزلت فيه وحدَه ... !
قد يخشى مواجهة نفسه بدائها، فهو الذي يقول ويقول ويقول، حتى إذا ما جاء وقت الفعل تعلّل لها بالعِلل، وتحجّج لها بالحُجَح، وهو في ذلك كلّه يُخفي عنها حقيقتها ... !

ولولا أن جعل الله في القرآن مرآةً تعكس حقائق الدواخل، ولولا تعريتُه لما يحاول أن يجحده الإنسان من نفسه، وأن يجد له الغطاء، والمسمّى الآخر، لبقي الدَّغَل والغبش لا يغادر النفس، بل يزداد السواد نكتة إلى نكتة، حتى يُذهِبَ نورها... !
لمَ تقولون ما لا تفعلون ؟ استنكار لأن يكون مخبر النفس المؤمنة مخالفا لمظهرها، لأن يكون القول مخالفا للفعل ... !
"كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)"
والمقت هو الكُرْهُ والبغض الشديد، ففوق أنّ الله تعالى يبغضه بغضا شديدا، فقد "كَبُر" عنده مقتا سبحانه، يعني منتهى درجات البغض عند الله تعالى أن يقول المؤمن ما لا يفعل، أن يخالف سرُّه علانيّته ...
وإنك وأنت تقرأ هذا المستكْرَهَ والمستنكَر من الله تعالى في المؤمنين، لتذكر أول ما تذكر المنافقين، وصفاتهم، وهذه واحدة من أهمّها فيهم ... !

لذلك فالله سبحانه يريد أن يخلّص المؤمنين منها، حتى لا تكون سِمة دارجة فيهم، وحتى يَميز الله سبحانه بهذا الكشف المؤمن بالجنان من المؤمن بالعنوان ، بتسليط الضوء على الجُرْح، لتطهيره قبل معالجته.. !    لا أن يُغمّى عليه، ويُغَطّى وهو ينزف، فيُحدث إنتانا يسري في الجسد كلّه ... !!
وقد جاء أن هذه الآية الكريمة نزلت في قوم من المؤمنين يتقاولون بأنهم لو نزل الأمر بالقتال، لقاتلوا، ولأقبلوا عليه غير هيّابين، فلما نزل أمر القتال تقاعسوا، ووُجِد من أنفسهم كُرهٌ له، وتعلُّل ...

عن علي بن طلحة عن ابن عباس قال: "كان ناس من المؤمنين قبل أن يُفرَض الجهاد يقولون: لوَدَدْنا أن الله عز وجل دلَّنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبر الله نبيّه أنّ أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يُقِرّوا به. فلما نزل الجهاد كَرِهَ ذلك ناسٌ من المؤمنين، وشقَّ عليهم أمره، فقال الله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)"...}.. ."

وقد نزل قوله تعالى يحدّث عن حال هؤلاء الذين كرهوا القتال، من بعد ما كرهوا أولا الأمر بكفّ أيديهم عن الكافرين الذين أخرجوهم من ديارهم: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) "النساء:77-

وقد جاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قوله :" جلَسْتُ في نفرٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقُلْتُ: أيُّكم يأتي رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيسأَلَه: أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى اللهِ ؟ قال: فهِبْنا أنْ يسأَلَه منَّا أحدٌ قال: فأرسَل إلينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُفرِدُنا رجلًا رجلًا يتخطَّى غيرَنا فلمَّا اجتمَعْنا عندَه أومأ بعضُنا إلى بعضٍ: لأيِّ شيءٍ أرسَل إلينا ؟ ففزِعْنا أنْ يكونَ نزَل فينا. قال: فقرَأ علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 1، 2] ..."-صحيح ابن حبان-
وأيّاً ما كان سبب نزول هاتين الآيتين من السورة، فإنّ الاستنكار يَعُمّ كل المؤمنين في كلّ زمان، كحال القرآن دوما، الذي هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه ...

نجد هاتين الآيتين عقِب الآية الأخيرة من سورة الممتحنة، آية البيعة، التي فيها بنود المبايعة على السمع والطاعة والإيمان والإسلام، وليس ذلك صدفة، وإنما هو توثيق لتلك المبايعات من المؤمنين، أن يعضّدها الفعل لا مجرّد القول، ألا يكون منهم قولا بالألسنة، يُجانبه الفعل ...

إنما الشهادة بأن الله سبحانه حقيق بالعبادة وحده (أول بند في البيعة) وألا معصية لرسوله في معروف(البند الأخير في البيعة) لا يجب أن تبقى في حدود القول واللفظ، بل وجب أن يؤيّدها الفعل والعمل والحركة في الأرض بمقتضيات تلك المبايعة، وذلك الميثاق على الولاء لله ولرسوله .

وقد عرفنا أن تلك الآية بعينها (آية المبايعة أو آية النساء) كان الرسول صلى الله عليه وسلم  يبايع عليها الرجال والنساء من المؤمنين لا النساء وحدهنّ ...
« آخر تحرير: 2020-12-12, 09:33:27 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

إن الله تعالى يستنكر ويستفظع أن يكون في المؤمن خصلة من خصال المنافقين ...
في الممتحنة عرفنا معالجة خطأ حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وكيف كان التشنيع على فعلته، وكان الإنصاف معه في آن، إذ كانت الشهادة العلويّة لبقاء الإيمان في قلبه، ولكنّ ذلك لم يمنع من تجريم فعلته، وآيات متواليات جاءت تربيةً للمؤمنين ألا يأتوا ما أتى، وأنّ الولاء والبراء قضية محسومة لا وسط فيها، ولا تمييع ...

علم الله سبحانه أن المؤمنين أصحاب أنفس، وأن الأنفس تَعرِض للضعف، كما تعرض للبقاء على الخطأ وعلى الانحراف إن لم يكن لها من تصحيح وتقويم، وتربية ...
إنه نداء لجماعة المؤمنين لا لجماعة المنافقين ، نداء في الاستنكار والمقت الكبير من الله أن يخالف مخبر المؤمن مظهره، أن تخالف سريرته علانيَّتَه
وهكذا... في السُّورَتَيْن، نعرف التحذير من الوقوع بشِراك النفاق، عرفنا في "المجادلة" وفي "الحشر" الحديث الصريح عن المنافقين بأعينهم وبذواتهم وبأعمالهم، ولكن في الممتحنة وفي الصف، نعرف التحذير من التلبّس بصفاتهم، وذلك يحصل في النفس وهي الأمّارة بالسوء، المحدّثة به، ولكنها تعلّل له على أنه الشيء الآخر، لا العلّة بعينها ... !

أما القرآن فهو العين الكاشفة، وهو المعالج بالتركيبة اللازمة من الأدوية، وبالجرعات المناسبة ...
لا تكونوا كالمنافقين... لا تكن فيكم خصلة من خصالهم، لأنه الداء الذي يضرب الجماعة المؤمنة، ويضرب وِحْدَتَها في مقتل ... !
الداء الذي يضرب الصفّ المؤمن ... فتسلّحوا لمواجهة أنفسكم بما يلزم، وبالتصدّي لها بما يكفي قبل أي مواجهة ... ! خوضوا الحرب ضدّ أنفسكم، واستكشفوا ساحتها قبل أي ساحة ... !

كما يشمل هذا الاستفهام الاستنكاريّ، وهذا التوبيخ كل ما يكون من قول كذب يصدر عن المؤمن، بأنه الذي فعل وفعل، وهو لم يفعل، أو يعِد بأنه سيفعل، ثم لا يفعل، فهو استنكار أن يكون الكذب من المؤمن، أو أن يكون منه إخلاف الوعد ... ! وكلها صفات المنافقين، وكلها تربية وتنقية للصفّ المسلم من هذه الصفات التي تتهدّد وحدتَه ... !

عن عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنه، يروي عن نفسه حينما كان صبيّا: "دعتني أمِّي يومًا ورسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قاعدٌ في بيتِنا فقالت ها تعالَ أعطيكَ. فقالَ لَها رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ما أردتِ أن تعطيهِ ؟ قالت: أعطيهِ تمرًا. فقالَ لَها رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: أما إنَّكِ لو لم تعطِه شيئًا كُتبتْ عليكِ كِذبةٌ " -تخريج مشكاة المصابيح-
هكذا هو التعليم الربانيّ، والتعليم النبويّ، من مشكاة واحدة، من أمر الله سبحانه وتعالى، الذي يرقى بعبده المؤمن مراقي الصدق والوفاء، والطُّهر والنّقاء، مراقي الأخلاق العالية والشِّيم الفاضلة ... ليجعل منه نموذجا فريدا، محققا للكمال الإنسانيّ، وهو سبحانه الذي خلق الإنسان من ضعف، لا ينكر عليه التقلّبات، والسقطات والزلّات، ولكنّه يعلّم الإنسان أنّه الذي بإمكانه تقويم اعوجاجه، وأنّ السقطة في حياة المؤمن مدرسة للارتقاء، وللتشوّف للعُلا، ولتنقية نفسه مرّة بعد مرّة... وتِلْكُم ثمار صلة المخلوق بخالقه المربّي سبحانه، بهذا المنهج المتكامل الذي أنزل  فيه الدواء لكلّ عِلل نفسه، الذي هو ناقوس ذكرى يدقّ في غمرة الدنيا وتقلّباتها، ليعمل على ضوئه، وليسير وِفْقَه، فيعرف به لا بغيره مواطن الضعف، وعلاجات أدواء نفسه ...

وهكذا هي العلاقة التي لا تنفكّ بين الفرد المؤمن، والجماعة المؤمنة، وهذا القرآن يعدّها بإعداده للفرد، وبتهذيبه لنفسه...
وقد جاء في القرآن عن هذه الازدواجية المقيتة في النفس، والتي عُرف بها اليهود : "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)"-البقرة-
وعن المنافقين جاء قوله سبحانه : "وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ۖ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ۖ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)"-النساء-
وفيهم أيضا جاء : "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)"-البقرة-

وجاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَن كَانَتْ فيه خَلَّةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَلَّةٌ مِن نِفَاقٍ حتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ. غَيْرَ أنَّ في حَديثِ سُفْيَانَ: وإنْ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ." –صحيح مسلم-
لنتأمل : "وَمَن كَانَتْ فيه خَلَّةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَلَّةٌ مِن نِفَاقٍ حتَّى يَدَعَهَا "
هذا هو الذي يخلّص الله عبدَه المؤمن منه، هذه هي الشوائب التي لا يريدها أن تعلو ماءَ نفسه، بل أن يكون ماؤها صافيا رائقا زُلالا، يَشرَب منه أهل الأرض وهم يستعذبونه، ويستسيغونه سُقيا وحياة ... !
بل إنّ المؤمن حينما فَقِه عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم هذه التربية، وهذه التنقية، وهذا الترويض للنفس البشرية على المكارم، لتحليتها بها، من بعد تخليتها من السّفاسف والمفاسد والمهلكات، كانت حركته تجسيدا لتربية القرآن، ولتورّع من نفسه عن قرب ما يفسدها، ويجعلها بحالَيْن متناقضَيْن، بله أن يأتيه... !

هذا ما "كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ الله" ... وهذه هي التربية الربانية للنفس المؤمنة على المراقي والمعالي...
ويحضرني هنا كثرة ما يتحجّج الناس بضعف النفس، بل وكثرة ما يُدَنْدِن به الأخصائيّون النفسانيّون، وكيف يتكؤون أكثر ما يتكؤون على ضرورة مراعاة هذا الضعف، بينما يبدو لي خلل كبير في تركيزهم على جانب الضعف، وهم يغفلون جانب القدرة التي أودعها الله هذه النفس على الترقّي، وعلى مقاومة هذا الضعف، وجهاده ... !
لذلك فأن تكون مرجعيتنا القرآن هو الضمان والموثق، لا أن تكون مرجعياتنا الدراسات النفسية التي تخضع للاستقراء الغربيّ للنفس البشرية في صورة أحكام تأخذ الطابع العلميّ، وهي التي تجهل عن النفس وأغوارها جُلّ أسرارها، بل إنها التي لا تستطيع أن تعطي حقائق، هي حكر على القرآن وحده، هذا المنبع الأصيل لكُنهِها، ولتكوينها، الذي يعرضون عنه، ولا يؤمنون به،  وهو من خالقها وعالم دقّ أمرها وجِلّه... !

فماذا بعد ما كبر مقتا عند الله ؟ !
إنه سبحانه بعدها يحدّث عمّا يحبّ... إنّه ما تُشنَّف له آذان المؤمنين في تلك الجماعة الأولى الفريدة، المميّزة، وهي تنتعش بآيات القرآن تنزل على قلبها نديّة جديدة، فهي أول جماعة تستقبلها ... !

"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)"
وإني لأرى رابطا قويّا بين الآيتين الأولَيَيْن وبين هذه الآية، وقد قدّمتا لها، هيّأتا النفس التي تتأهّل للقتال في سبيل الله... !
هيّأت الفرد الذي لا يخالف مخبرُه مظهرَه... هيّأت الساحة النقيّة من الشوائب، وهي تحقّق سلامة العقيدة والتوجّه سرّا وعلانية، قلبا وقالبا، بالقول وبالفعل على السواء ...
وهي إذ تهيّئ الفرد، تهيّئ المجتمع الذي ينبني على القواعد الجامعة الموحّدة، فلا يكون بتيارات، وبتوجّهات مختلفة، كما نعرف مجتمعاتنا اليوم، مجتمعات تقول بالإسلام دينا، وهي تكرّس للعَلمانية، ولدعاوى حرية الاعتقاد، ولليبراليّة، وللخضوع لقوانين العوْلمة، وجمع العالم تحت غطاء دخيل عن الجماعة المؤمنة، دخيل عن جماعة تعلن ميثاق الولاء، وتصادق على بنود البيعة لله ولرسوله ... !

هذه الجماعة  الخاصة، المتفرّدة بقواعدها، وبما يميّزها من قوانين هي من روح الوَحْي، من روح المنهج الربانيّ للعيش وِفْقَها، وللحركة بمقتضياتها ...
مجتمعاتنا اليوم وهي يُنعَق فيها، وكأنها التي لا تسمع إلا دعاء ونداء !! فهي المستسلمة لكل ناعق ... !
تُعلي من شأن ما يُسمّى الحريّات في كل شيء، في كل شيء ! حتى أصبحت من تقليدها الأعمى، واسترضائها المجنون تُعلي رايات حريّة الانعتاق من دستورها الخاص، ومنهجها الكامل المكتمل... !

أما هذه التهيئة الربانية لساحات الأنفس المؤمنة، فهي الخصوصية، وهي الحقّ الذي يجعلها ذات قوامة وسيادة، وذات قدرة على نشر الخير الذي بيدها في الأرض ... هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، بما حُمِّلت من مسؤولية القيام بأمر هذا الكتاب الكامل الشامل المهيمن ... ! قيام الذي يعطي النموذج والمثال والأسوة، وقيام الذي يبلّغه الناس بالفعل الموافق للقول... لا أن يسمعوا منا أننا المسلمون، ثم يرون منا نُسَخا منهم، وعقلاؤهم قد ضاقوا بحالهم وبأَسْر الماديّة لهم، وخنقها لأرواحهم ... !

"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ "
 فلا قتال في ساحات الوغى في سبيل الله، قبل أن يقيم المؤمن قتالا في ساحة نفسه في سبيل الله، ألا تطفو على سطح نفسه الرائق شوائب وعلل، بل أن ينبع منها الزلال، ويفيض زُلالا ... ! 
ألا يكون المؤمن بحال في سريرته، ويكون بحال مخالفة في علانيّته، ألا يتلبّس بصفات المنافقين، فيقول بفمه قولا يبدو لسامعه أنّه الذي سيفعل وسيفعل، وأنه الذي سيقبل، ولا يدبر، فإذا آن أوان الفعل تقاعس، وولّى، وركن إلى ضعف وخمول ، وقعود  ...
كحال من قال من المؤمنين أنه يودّ لو أذِن له بقتال من أخرجه من أرضه مرغما، ثم لما فُرض القتال قال : "رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ".
فلا نرى فصلا بشكل من الأشكال بين الاستنكار الأول، وبين هذا الذي يدعو له الله سبحانه عبادَه المؤمنين، وهو مما يحبّ سبحانه، ومما يرضيه، وكأنها الدعوة أن قاتلوا في ساحات أنفسكم كُلّ الشوائب التي تعلوها، لتكون أرضا مِطواعا مباركة، ينبت فيها ويثمر  كلُّ ما يُزرَع فيها من أمر الوحي .

وقد جاءت في "الممتحة" تقدمَة بفعلة حاطب، للتحذير من موالاة أعداء الله، وجاءت فيها بنود المبايعة على الولاء، لنجدنا مع سورة الصف، ونحن نتعلّم كيف يصدّق الفعل القول، وكيف تصدّق الحركة ضدّ عدوّ الله القول بمعاداته...
 في "الممتحنة"، جاءت الدعوة لإعلان  الولاء والبراء، حفاظا على وحدة الصفّ المؤمن، وفي سورة الصفّ جاء تجسيد وحدة هذا الصفّ، وهو القائم بوجه الأعداء كأنه بنيان مرصوص ... !

فلا فَلّ فيه، ولا تباعد بين مكوّناته، ولا ثغرات متروكة لنفث النافثين بسمومهم، فكان الاستنكار من الله لصفات النفاق الذي هو أكبر مُعيق، وحائل دون وحدة الصفّ، ودون قيامه بصلابة اللبنة حَذْوَ اللبنة، قويّة ترصّ أختَها، وتعضّدها، فلا مَيْل، ولا تراوح، ولا تذبذب ... !
رؤية واضحة... قاعدة جامعة...مجتمع مرصوص، يحقّق هذا الصفّ، الذي هو بنيان قائم منتصب متين، بوجه العدوّ، يقاتل غير هيّاب، يقاتل وهو الذي لا يعتدي بغير وجه حق، بل يقاتل العدوّ لأنه الذي يريد أن يصيّره رُكاما وحُطاما وأشلاء متناثرة، وأشتاتا مفرّقة ... !

يقاتله وهو لم يترك له بثغراته، وبالانشقاق فيه منفذا ينفذ به إلى قلبه، فيجعل الولاء في أفراده لغير الله، ويزرع أولياءٌ له من بني الإسلام بذورَ شقاق واختلاف وافتراق، تُبذَرُ في بيئة تصلح لإنبات أشواكها، ولتخريج ثمارها المُرّة في قلب الأمة الإسلامية ... !
أمّةٌ لا تحيا بحلول الوسط... لا تحيا بتعايش أولياء العدوّ مع أعداء العدوّ باسم تعايش التيارات المختلفة في المجتمع المسلم ... ! وباسم العمل على التناغم بين أهل الوضعيّات البشريّة، والوحي الإلهيّ... وهو ما يكرّس له دُعاة الحوار والحوار والحوار، وتقبّل الآخر، فيوصَم الصادع بالحق، وبأمر الله، المستمسك بهدايات كتابه، بالتصلّب والتعصّب للرأي الواحد ... قانون من جملة قوانين يريدون إلزام المسلم بها بدعوى تقبّل الآخر، وتعايش المتناقضات ... ونسبيّة الحقيقة.  وهل يتناغم النقاء مع الخَبَث؟ ! وهل يتناغم الحقّ مع الباطل، وهل يستوي حكم البشر ونقص البشر مع حكم الله وكمال أمره ؟ !

ذلك مجتمع يتخذ الإسلام عنوانا، وبيانُه غير ذلك ... ذلك مجتمع مميَّع، شُقَّ فيه الصفّ، وتميّعت فيه الرؤية، وتساوى فيه عدوّ وصديق ... ! وتلك هي الدعوة الأوليّة من الله أن يوافق الفعل القول ليصحّ من بعدها القيام صفّا واحدا قويّا موحّد الرؤية والهدف... !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ"
انتظام، واجتماع على قلب رجل واحد، وتوحّدٌ في الرؤية وفي الهدف،  بخلاف ما عرفنا من حقيقة حال الكافرين والمنافقين، الذين إذا أبصرتَهم قلتَ إنهم "جميعا" مجتمعون، بينما الحقيقة أنّك : "تحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ" وتحسب القلب فيهم على القلب، وهم : "بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ" .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "سُئِلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيُّ الأعْمَالِ أفْضَلُ؟ قالَ: إيمَانٌ باللَّهِ ورَسولِهِ قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قالَ: جِهَادٌ في سَبيلِ اللَّهِ قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ."-صحيح البخاري-

إنه في سبيل الله، لا في سبيل شيء من أشياء الدنيا ...  في سبيل إعلاء كلمته سبحانه، وتحقيق أمره في الأرض، والحَوْل دون إضعاف أمة المؤمنين به وبرسوله ... والحَول دون منع نشر نور الإسلام وعَدْلِه في الأرض...
عن أبي هريرة رضي الله عنه " أنَّ رجلًا قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، رجلٌ يريدُ الجِهادَ في سبيلِ اللَّهِ، وَهوَ يبتَغي عرَضًا مِن عرَضِ الدُّنيا، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: لا أجرَ لَهُ. فأعظمَ ذلِكَ النَّاسُ، وقالوا للرَّجُلِ: عُدْ لرسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فلعلَّكَ لم تفَهِّمهُ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، رجلٌ يريدُ الجِهادَ في سبيلِ اللَّهِ، وَهوَ يبتَغي عرَضًا من عرَضِ الدُّنيا، فقالَ: لا أجرَ لَهُ. فقالوا: للرَّجلِ عُدْ لرسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقالَ لَهُ: الثَّالثةَ. فقالَ لَهُ: لا أجرَ لَهُ " –صحيح أبي داود-

وهذا عن الرجل يخرج مجاهدا في سبيل الله وهو يقرن بنيّته الخروج في سبيل الله، تشوّفه للغنيمة. فالغنيمة من الغزو على حلّها، إلا أنّ الخروج والقتال يجب أن يكونا خالصيْن لله تعالى، فليس مع ابتغاء الله ابتغاء شيء من الدنيا.
إذن...في جوامع من الكلم في هذه الآيات الثلاث المتتابعة، نَخْلص إلى صلة وثيقة، ورابط شديد القوّة بين مجتمع قَوامُه مطابقة القول للفعل، وفيه الحذر من التلبّس بصفات المنافقين، وفيه الرقيّ بالنفس إلى مراقي الصدق والوفاء بالوعد، وتجسيد الطاعة فعلا في الأرض لا قولا مجرّدا عن العمل، والإقبال على أمر الله تعالى، وبين أن يكون حين مواجهة العدوّ صفّا قويّا متلاحما، مترابطا، تجمعه الرؤية الواحدة، والهدف الواحد، والتوجّه الواحد لله سبحانه وحده، ولنصر دينه، وإعلاء كلمته دون ابتغاء أي عرض من أعراض الدنيا ... !

"وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)"
وننتقل من سياق الآيات الثلاث التي جاء فيها بدءا الاستفهام الاستنكاريّ من الله تعالى، إلى التنويه بما يحبّ الله أن يكون عليه الصفّ المؤمن، وهو بمثابة البنيان المرصوص القائم الذي لا تقوى على اختراقه أو هَدِّه قوة  ...
من هذا ينتقل بنا سبحانه إلى أسلوب آخر، أسلوب ذكر ما كان عليه حال السابقين مع رُسُلِهِم، بيانا لحال الأقوام، ولحال الرُّسُل معهم ...

وإنه من تمام بيان أن هذا الدين واحد، وأنّ الرُّسل جميعا جاؤوا بدعوة واحدة، اختلفت الشرائع حسب حاجات الأقوام، ولكنّ مصدرها كلها واحد، والدعوة فيها واحدة لعبادة لله الواحد الأحد ...
موسى عليه السلام وهو يتوجّه لقومه باللّوم، وبالاستنكار، وكلامه فيه خلاصة تفاعل قومه مع دعوته، وزبدة ما لاقى : " يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ "

إنه منهم الإيذاء، وإنه منه التبليغ لرسالة ربّه ...
هذا الرسول وهو يأتمر بما أمِر به، ويؤدّي ما لأجله بُعِث فيهم، وهؤلاء هُم يستقبلون دعوته بالنكران، وبالجحود، وبالتكذيب، وكلها اجتمعت في : " تُؤْذُونَنِي "
آذوه بتكذيبه، وآذوه بالتمرّد عليه، وآذوه بالعناد، وآذوه بالعصيان، فما كادوا ينجون من فرعون وجُنْده، من بعد ما جعل الله لهم البحر يبسا، وصيّره لأجلهم فِرْقَيْن، كل فِرق كالطود العظيم، ما كادت تنتهي بهم الطريق إلى الشاطئ الآخر حتى ودّوا لو جعل لهم موسى صنما يعبدونه :  "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) "-الأعراف-

كما كانوا يعصون ما يُؤمرون به : "وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)"-البقرة-

وآذوه بإخلافهم وعدهم له، فما أن تركهم لأيام في عهدة أخيه حتى :  "وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)"-الأعراف-
وآذوه بالتجرؤ عليه، وبالانتقاص من عمله الذي عمل لأجلهم : " قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)"-الأعراف-
وقد حذّر الله المؤمنين من أن يكونوا مع نبيّهم كما كانوا هم مع نبيّهم :  " يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً "-الأحزاب:69-

وكثير كثير مما أورد القرآن من شنائعهم، وعدم توقيرهم لله ولرسله .
"وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ... "
وهنا تأكيد على إيذائهم موسى بشتى أساليب الإيذاء، رغم يقينهم أنه رسول الله إليهم، "قد" تعني يقينهم بذلك... يقين يؤكّده يوما بعد يوم الآيات التي يُجريها الله على يدي موسى عليه السلام، ينزلها عليهم، فتراها أعينهم وتتلمّسها أيديهم... ! بل لقد كانوا يأكلون ويشربون مما كان يُنزَل عليهم من السماء: " وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)"-البقرة-

رغم كل ذلك، آذوه، وكان أكبر إيذائهم له، تمرّدهم عليه، ومعصيتهم لأمر الله:"وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (93)"-البقرة-
وكانوا يسيئون الأدب مع نبيّهم وربّهم وهم يقولون: "ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ..." " ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها" حتى بلغ بهم الأمر أن يخاطبوه في جلافة وغلظة، وهم يردّون عليه أمر الله لهم أن يدخلوا القرية ويقاتلوا من فيها : " قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) "-المائدة-
ولكأنّهم الربّ الآمر، ولكأنّ موسى عليه السلام العبد الذي يجب عليه أن يطيع أمرَهم ... ! بل أن يخضع الله لمطالبهم، وأن يحقّق لهم مُرادَهم !

" ...فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"
والزَّيْغ هو الضلال، والانحراف عن الحق، وعن طريق الجادة... وهم قد زاغوا، أزاغ الله قلوبهم، وأنبت فيها الضلال الذي اختاروه بأيديهم، وبمَلْكِهم ... والله قد عرّفنا أن ندعو بالثبات على الحق في قوله سبحانه : " رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8) " –آل عمران-

والله لا يهدي القوم الفاسقين، الذين خرجوا عن الحق، وانحرفوا عن طريق الهدى، كفسوق الرّطبة عن قشرها...
وعلى هذا نقف عند جزاء الله العبد بما يختار من سبيل، فهو سبحانه لا يظلم مثقال ذرة، فلا يُضلّ إلا من اختار الضلال ...

وإنها لإشارة للمؤمنين، الذين حذّرهم الله أول الأمر من أن يقولوا ما لا يفعلون، وأنّه قد كبر عند الله مقتا أن يقولوا ما لا يفعلون، وأنّه سبحانه يحبّهم صفّا موحَّدا قائما شامخا، صرحا منيعا، يستعصي على الأعداء الذين يريدون شقّه، والنفاذ من خلاله إلى قلب الأمّة، للعبث بها وبخصوصياتها، وتصييرها أداة بأيديهم يحققون بها مآربَهم، ويستنزفون خيراتها، فلا تقف حائلا دون تجبرّهم في الأرض، وتَسَلّطهم عليها، وهي التي أُخرِجَت لتُخرج الناس من عبودية الأهواء وعبودية الناس إلى عبودية لله الواحد الأحد ...
من خلال موسى عليه السلام، وموقف قومه معه، تربية للمؤمنين ألا يكونوا مثلهم، بل أن يوقّروا رسولهم، ويطيعوه : "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ..."-النساء: من الآية64-

قوم موسى، -مما عرفنا من أمثلة قرآنية، ومن كثير جاء عنهم في القرآن- انقادوا له ساعة الشدّة، ساعة لم يكن بأيديهم الخلاص من فرعون، لولا فضل الله عليهم بموسى الذي قادهم وهو المستيقن من معيّة ربّه سبحانه، على خلاف حالهم، وهم الذين تملّكهم الخوف، والفزع، فلم يساورهم شك أنهم مُدركون من فرعون وجنوده : "فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)" -الشعراء-
وينجيهم الله، ويتحقق وعده، ويهزم عدوّهم ويهلكه، وما أن يبلغ بهم موسى شاطئ الأمان، وقد نجوا، وأغرق عدوّهم حتى ينكصوا على أعقابهم، فيسألوه أول ما يسألوه، أن يجعل لهم إلها كآلهة القوم العاكفين على أصنام لهم : " وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)"-الأعراف-  ...

وتذكر معي... ألم يرفع الله عليهم الطور، وأخذ عليهم الميثاق؟  فلما رأت أعينهم الجبل فوق رؤوسهم، أقروا، وأعطوا الميثاق، وما أن أعاد الله الجبل مكانه، وامتحنهم في ساعات الرخاء ومجرى الحياة العاديّ حتى نقضوا ميثاقهم، وفعلوا الأفاعيل: "ورَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (154)فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)" -النساء-

فانظر... انظر إلى القول منهم بشيء، والفعل منهم بشيء مخالف ... كانوا يقولون ما لا يفعلون ... يتشدّقون بالاتباع، فما أن تذهب الشدّة حتى ينكصوا على أعقابهم ... وذلكم هو الرابط بين مطلع السورة، وذكر ما كان بين موسى عليه السلام وقومه ... إنه إيذاؤهم له، وهم القائلون بما لا يفعلون ...

وأكبر إيذاء الرسول أن يُعصى أمره وهو من أمر الله ... !
ولقد عُرف المنافقون بإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك جاء استنكار التلبّس بصفاتهم في الآيتين الأولَيَين، القول المخالف للفعل، والمظهر المخالف للجوهر.
فجاء فيهم : "وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)" -التوبة-
فالمنافقون قد آذوا الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يصفونه بأنه أذن، أي أنه يصدّق كلَّ ما يُقال له، وكلّ من يقول له، وقد تواصوا أنهم وإن قالوا فيه ما قالوا، وبلغه عنهم ما قالوا،  فإنهم ما أن يذهبوا إليه، ويحلفوا له على الكذب أنهم ما قالوا، سيصدّقهم ... ! لأنهم يعرفون من أنفسهم مخالفة أقوالهم لأفعالهم، وكثرة كذبهم، وإضمارَهم لغير ما يبدون، وإبداءهم لغير ما يضمرون ...
هذه خصال المنافقين، وهذا من إيذائهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه يكشف لنبيّه وللمؤمنين كلّ ما يُسرّون من كُره، واستهزاء، وانتقاص من قدره صلى الله عليه وسلم، ومن حسبان أنهم قادرون بمكرهم وخداعهم، وكذبهم أن يكونوا حائلا دون انتشار نور الله تعالى ...

وهكذا كان ضرب المثال بقوم موسى عليه السلام، الذين من بعد كلّ ما كان من تفضّل الله عليهم، واجهوا الفضل بالنّكران، والخير بالجحود والكُفران ... فآذوا موسى بشتى ألوان الإيذاء ... فما كانوا أهلا لحمل أمانة الهداية للأرض، بل كانوا الأمة الفاشلة في امتحان الاستخلاف  ...

أما أنتم أيها المؤمنون، يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فإنّ شأنكم أعلى، وإنّكم المُناط بكم أن تكونوا الأرقى، والأطهر، والأنقى ...  والأسمى من كل ما من شأنه أن يجعلكم أشتاتا، ويجعلكم بين إيمان وكفر، بين تذبذب، وتقلّب ... !
إنّكم أصحاب الولاء والبراء بلا تمييع ولا وسط ...  وإنكم أصحاب القول بما تفعلون، وأصحاب صدق في المقال وصدق في الحال، وأصحاب المحجّة البيضاء التي ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ... !
وقد وصف سبحانه المنافقين بقوله : "مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)" -النساء-

أنتم أيها المؤمنون لستم كهؤلاء، ولا يجب أن يكون فيكم  شيء من هؤلاء ... أنتم أهل القرار والاستقرار، أهل الثبات على طريق واحدة، لا تعرّجات فيها، ولا التواءات...وجب أن تسلكوها وأنتم الثابتون بلا زيغ، وبلا إِلف لدوافع الزيغ من أنفسكم ... !
إنه التصدّي لمُستصغر الشّرر الذي يصدر من الأنفس بالتربية وبالتقويم، وبالأمر الحاسم الحازم أن يُخلص المؤمن وجهه لله ... فلا يتذبذب ولا يتقلّب في عقيدته، ولا يقبل المساومة فيها وفي مبادئها وأساسياتها ... !

إنها أمانة هذا الدين بأيديكم ...  وأنتم بهدايات هذا الكتاب لها ... وأنتم إن عشتم على نبضه،  لها  ... !
إنكم أصحاب الصفّ، أصحاب البنيان المرصوص، إنكم المؤمن إلى المؤمن، إلى الجماعة المؤمنة كمثل اللبنة إلى اللبنة في انتصاب، واعتدال واستقامة وقوة، يكمّل بعضكم بعضا، كلّكم بهدف واحد، هدف إعلاء هذا البنيان، وصيانته، وحمايته ... !
إنكم لستم كأحد من الناس، بل أنتم أهل الصدق، أنتم أهل أداء الأمانة، وتبليغ الرسالة ... ليس إلا عَبْر هذا القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ... !

ونمضي مع الآيات قُدُما ...
« آخر تحرير: 2021-01-15, 10:52:36 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

"وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)"
وهذا الآن عيسى بن مريم من بعد موسى عليهما السلام ...
نادى قومَه بــ : "يا بني إسرائيل" .
(((ونادى عيسى قومه بعنوان { بني إسرائيل } دون { يا قوم } لأن بني إسرائيل بعد موسى اشتهروا بعنوان «بني إسرائيل» ولم يطلق عليهم عنوان : قوم موسى ، إلا في مدة حياة موسى خاصة فإنهم إنما صاروا أمة وقوماً بسببه وشريعته .فأما عيسى فإنما كان مرسلاً بتأييد شريعة موسى ، والتذكير بها وتغيير بعض أحكامها، ولأن عيسى حين خاطبهم لم يكونوا قد اتبعوه ولا صدّقوه فلم يكونوا قوماً له خالصين .)))-التحرير والتنوير الطاهر بن عاشور-

: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ "  ...
رسول الله، وليس ما افتروه من كذب أنه إله، أو أنه وأمّه إلَهَيْن، أو أنه الابن الذي هو الأب وهو الروح القدس !!   
جاء مصدّقا بكتاب موسى،  إلا بما كان من تحليل لبعض ما حُرِّم عليهم في شريعة موسى عليه السلام : " وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) " –آل عمران-

"وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..."
مصدّقا بمن كان قبله، ومبشرا بمن سيأتي من بعده ... إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشارة عيسى عليه السلام به ...
إنها السلسلة الدُريّة الموصولة بين السماء والأرض، أنبياء الله ورسله، المبعوثون بالدين الواحد، بالإسلام جميعهم، وإن تفرّقت الشرائع التي جاء بها كلٌّ منهم، بما يوائم حال وحاجات كل قوم ممن بُعثوا فيهم ...

سلسلة موصولة، متصلة، يصدّق فيها اللاحق السابق، ويصدّق جميعهم برسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما لهم، وأنه لا نبيّ بعده . بل لقد أخذ الله عليهم الميثاق بتصديق بعضهم ببعض، وبتصديقهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنصرته، وبأخذ الميثاق من أقوامهم أن ينصروه: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81)"-آل عمران-

وأقتطع وقتا،  لأذكّر بما وضعت عن هذه الآية من "آل عمران"، في تدبرات لي فيها،   لنتعلم الآتي:

أولا/ ضرورة علم النبيّ بين الأنبياء أنه ليس الوحيد المبعوث من عند الله:

هو سبحانه يعلّم النبيّ منهم أنه لا يبعثه وحده لدعوة الناس إلى توحيده وإفراده بالعبادة، بل إنه باعثٌ غيره، أي أنه يعرّف الأنبياء بعضهم ببعض، وأستحضر من القرآن دعوة إبراهيم عليه السلام :"رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ  إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" –البقرة:129-
"وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ  قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا  قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي"-البقرة:124-
كانت كبرى أمنيات النبيّ منهم أن تبقى الدعوة إلى الله وإلى عدم الإشراك به وأن تتجدّد عَبْر الأجيال، وكان النبي يعلم أنه بَشَرٌ من البشر، والموت حق لا يستثنيه الله منه، فكان من تمام إيمانه وإخلاصه لربه تمنّيه أن يرث النبوةَ غيرُه، وأن يحمل رسالةَ التوحيد غيرُه، ما دامت الأرض وما بقيت الدنيا... فكان لا يوصي النبيّ ذريته بشيء من أشياء الدنيا، بل كان يوصيه بالدين، بالثبات على الإسلام : "وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ"-البقرة:132-

وإننا لو فرضنا أنّ النبيّ الواحد منهم لا يعلم أن الله سبحانه يبعث أنبياء غيره وِفق اختياره ووِفْق حكمته، لعرفنا من النبيّ تعصّبا لنفسه وتكذيبا لغيره ممن يَبْعَث الله، لا تكذيب عناد أو كفر -معاذ الله-  ولكن تكذيب حرص على دعوة الله، وعملا بحدود ما يعلم، إن كان اقتصر علمه على أنه النبيّ وكفى، دون أن يعلم أنه واحد من الأنبياء، ضمن سلسلة من الأنبياء الذين يُبعثون بالدعوة الواحدة وبالدين الواحد... لكذّب تكذيب من يحمل على عاتقه الدعوة ويحميها، ولا يقبل ادّعاء من أحد أنه بُعث نبيا، وعلى هذا المحمل كان النبيّ أولى من يُعلِمه ربُّه أنه واحد من الأنبياء، وليس النبيَّ الوحيد، وكان علمه بذلك ضرورة يقتضيها الحفاظ على وحدة الدين مع تعدّد الأنبياء، وتصديق دعوة النبيّ لدعوة غيره منهم.

يأتي النبيّ من بعده النبيّ، كلّ مصدّق بمَن سبقه، مؤيّد له، سواء عاصره في زمانه أو جاء بعد موته. وقد كان من الأنبياء من تزامنت بعثتهم من مثل إبراهيم ولوط، ومن مثل موسى وهارون وشعيب، ومن مثل عيسى ويحيى عليهم جميعا صلوات الله وسلامه.
وإن هذا العلم لم يبقَ في حدود العلم وحسب، بل لقد وُثّق وأحكِم ليصبح ميثاقا وعهدا يأخذه الله تعالى على أنبيائه بأن يصدّقوا بغيرهم من الأنبياء، وأن ينصروهم : " لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ "
ولا يقتصر هذا الميثاق على الأنبياء، بل يتعدّاهم إلى :

ثانيا/ ضرورة تعليم النبي لقومه بِعْثة غيره ووجوب الإيمان بهم:

إنّ توفية الأنبياء بهذا العهد لا تقتضي أن يصدّق كلّ منهم بالنبيّ الآخر وينتهي الأمر، إذ أنّ الأنبياء وهم أكثر عباد الله علما بالله، وطاعة لأمره لن ينكص أحدهم عن الطاعة ولن يرتكس وهم وعاء الأرفع من الخُلق والأخلص من العبادة.
الأمر لا يقتصر على ما بينهم، بل إنّنا لو دققنا لعرفنا أنّ في : " وَلَتَنصُرُنَّهُ " والتي معناها نصر النبيّ على أعدائه، وما أعداؤه إلا الذين كفروا به وبدعوته، تتضمّن معنى أن يبلّغ ذلك النبي قومَه عن النبيّ المنصور، أن يبلّغهم أنه نبي من الله وأنه مصدّق لما معه، وأنه وهو على دعوة واحدة وعلى دين واحد، وأنّ عليهم أن يؤمنوا به هو أيضا وأن ينصروه .
ثم نتبيّن ثنائيّة غاية هذا الميثاق الذي أخذه الله على أنبيائه، بأن يكون:

1- عهدا منهم لله أن يصدّق بعضهم بعضا وينصر بعضهم بعضا.
2- وأن يكون من توفيتهم بهذا العهد وهذا الميثاق أن يبلّغوه لأقوامهم، وذلك في قوله سبحانه: "قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ "
أمرُ الله لهم بأن يشهدوا هنا يتضمّن أخذ الأنبياء على الناس ميثاقا بضرورة أن يؤمنوا بالنبيّ اللاحق، والشهادة على مدى توفيتهم به . وبهذا جاء كل أنبياء الله دعاةً للتصديق بمن يأتي بعدهم.

وعلى هذا نعود لآيتنا التي تحمل هذا المعنى :
"إِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ"
يعلن عيسى عليه السلام، تصديقه لما جاء به موسى من قبله، ويبشّر بمجيئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده، وذلك وفاء بما أقرّ به وجَمْعَ الأنبياء بين يدي الله سبحانه وهو يأخذ ميثاقهم، مصدّقا لموسى، ومصدّقا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ومبشّرا قومَه بمقدمه من بعده ... إتماما للغاية الثانية من ذلك الميثاق، -كما عرفنا- في الشهادة على قومه.
وعلى هذا فإنّ بني إسرائيل بما بلّغهم عيسى عن رسول الله صلى الله عليهما وسلم، قد أقيمت عليهم الحجّة، ليحافظوا على تبليغ تلك البشرى جيلا إلى جيل ...

وهذا ما لم يكن منهم، بل كانوا المفرّطين المحرّفين، المبدّلين لكلام الله،  الكاتمين لما جاءهم من أوصاف النبيّ الخاتم، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم : " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)" -البقرة- 
وقد أجلى القرآن أمر لبسهم الحقّ بالباطل، وكتمهم للحق في قوله سبحانه :  "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (71) " –آل عمران-
وبيّن نَسْبَهم ما تكتبه أيديهم لله تعالى :"وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " -آل عمران:78-

"...وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ"
هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد بشّر به عيسى عليه السلام يقينا، من شهادة القرآن لذلك التبشير منه، -وكما عرفنا- فإن كل الأنبياء، قد حدّثت عن مجيئه، وبلّغت بذلك أقوامها، ولكن اختُصّ عيسى من بينهم لأنه النبيّ الذي جاء قبله مباشرة، فلا يأتي بعد عيسى نبيّ قبل رسول الله صلى الله عليهما وسلم، ولا يأتي بعد رسول الله نبيّ غيرُه ...
إنها البشارة بخاتم الأنبياء والمرسلين .  وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إنِّي عندَ اللهِ مكتوبٌ خاتمُ النَّبييِّنَ ، وإنَّ آدمَ لمنجَدلٌ في طينتِه ، وسأخبرُكم بأوَّلِ أمري : دَعوةُ إبراهيمَ ، وبِشارةُ عيسَى ، ورؤيا أمِّي الَّتي رأَت - حين وضعَتني - وقد خرج لها نورٌ أضاءَت لها منه قصورُ الشَّامِ . " –صححه الألباني-

كما أنّ  "أحمد" من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم...
فعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لِي خَمْسَةُ أسْماءٍ: أنا مُحَمَّدٌ، وأَحْمَدُ وأنا الماحِي الذي يَمْحُو اللَّهُ بي الكُفْرَ، وأنا الحاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاسُ علَى قَدَمِي، وأنا العاقِبُ. "-صحيح البخاري-
وقد جرت عادة العرب على التسمية بالمعاني...

فأما "محمد" فهو اسم مفعول، من حمَّد يُحمِّدُ. نقول حمَّدَ الرجلَ، أي أثنى عليه ثناء مستمرا، أي مرة بعد مرة ... فهو مُحَمَّد، وهو كثير الخصال الحميدة، كثير المحامد التي يحمده الناس عليها بكثرة...
وأما "أحمد" فهو من أفعل التفضيل. وهو من الحمد، فهو أحمد الناس لربّه،  وقد جاء في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدّث عن الناس يوم القيامة، وهم في ذلك الموقف العظيم، مضطربون متململون، قد أحاطت بهم الأهوال، يتقرّبون من الأنبياء واحدا إثر آخر، يسألونهم أن يشفعوا لهم عند الله تعالى ليريحهم مما هم فيه، فيبدؤون بآدم، ومنه إلى غيره من الأنبياء، فكلّهم يعتذر عن الشفاعة، وأنه ليس لها أهلا، حتى يبلغوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فيقول : "أنا لها"

يقول صلى الله عليه وسلم : "فأسْتَأْذِنُ علَى رَبِّي، فيُؤْذَنُ لِي، ويُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أحْمَدُهُ بهَا لا تَحْضُرُنِي الآنَ، فأحْمَدُهُ بتِلْكَ المَحَامِدِ، وأَخِرُّ له سَاجِدًا، فيَقولُ: يا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقُولُ: يا رَبِّ، أُمَّتي أُمَّتِي..." إلى آخر الحديث . –صحيح البخاري-
كما جاء في مسند أحمد بتعبير: "وأحَمِدُهُ بمحَامِدَ لم يَحْمَدْه بِهَا أَحَدٌ كانَ قبْلِي"
فهو صلى الله عليه وسلم، يحدّث كيف أنه الذي سيحمد ربّه بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبله، فهو أحمد الناس لربّه سبحانه.
كما يقول صلى الله عليه وسلم : "أَنا سيِّدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامةِ ولا فَخرَ، وبيدي لواءُ الحمدِ ولا فخرَ، وما من نبيٍّ يومئذٍ آدمَ فمن سواهُ إلَّا تحتَ لوائي وأَنا أوَّلُ من تَنشقُّ عنهُ الأرضُ ولا فخرَ"-سنن الترمذي-

فهو صلى الله عليه وسلم محمّد من جانب الناس لعظيم محامده، وهو أحمد الناس لربّه . وبذلك قد جمع أطراف الحمد صلى الله عليه وسلم.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

نأتي الآن إلى بشارة عيسى به، عليهما من الله الصلاة والسلام، وقد بشّر به بهذا الاسم تحديدا.
وسبق وأن أشرت إلى حديثه صلى الله عليه وسلم أنه دعوة أبيه إبراهيم وبشارة أخيه عيسى ...
أما عن الإنجيل المتاح بين أيدي الناس اليوم، والذي أتيح بين أيديهم عبر الأزمنة من بعد تحريفه، وتبديله، فقد حاولتُ تتبّع ما جاء عن أهل الاختصاص في دراسة الكتب المقدّسة، والذين لهم علم بما في نُسَخ الأناجيل المتعدّدة ... فوجدت الكثير الذي تتبعّه هؤلاء، والذي يتبيّن لك من خلاله، مساعيهم المختلفة لإخفاء بشارة عيسى عليه السلام برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّه من أهمّ ما سعوا لإخفائه، وكَتْمِه، كما أخبر عنهم الله عزّ وجلّ ... وبالمقابل كان من هؤلاء المتتبّعين الردّ بالحجة العقليّة المقنعة، والبرهان المُفحِم ...

ولو أنّ شهادة القرآن أعلى وأجلّ وأصحّ شهادة، وهي القول الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويكفينا أنه جاء في القرآن أنه بشّر به، إلا أن هذه المساعي من المتتبّعين، -الرادّين على شبهات النصرانيين والمنصّرين، الموغلين في إنكار هذه البشارة- لها دورُها في إثبات تهافت إنكارهم، بل وحتى في كشف وفضح طُرُقِهم الملتوية في تحريف الكلم عن مواضعه، وفي تبديله ... !
كما أنها كانت دافعا للكثير من النصرانيّين أن ينظروا في نصوص أناجيلهم، وأن يُمْعِنوا النظر فيها، ليقعوا على مدى التناقض فيما بينها، وعلى مدى بقاء هذه المساعي الخبيثة من كاتبي الأناجيل ومُترجميها عبر الأزمنة المختلفة ... كما أنها كانت دافعا لهم للنظر في القرآن وما جاء فيه عن عيسى عليه السلام، وقد كان لمشاهير المُناظرين المسلمين في العالم، دورٌ كبير في بعث السؤال وفضول النظر والبحث في حقيقة كتبهم المقدّسة، من خلال تصدّيهم لأعلم القساوسة بالأناجيل، بالحُجّة والبرهان القائمَيْن في القرآن، مقارنة بالتناقضات الصارخة بين نُسَخ الأناجيل التي بين أياديهم... !

وأعرِض هنا لشيء من هذه التتبّعات، ومع اختلاف الترجمات للأصل العِبْريّ للإنجيل، وتسليط الضوء على نصوص التبشير الموجودة في الأناجيل، وبيان محاولاتهم المستميتة في تبديل أصل اسم المبشَّر به من عيسى عليه السلام، لتتضارب نقولاتهم، بأن أوّلوا أن تبشيره كان بنفسه تارة، وبالروح القدس تارة أخرى :
وقد طالعت لأجل ذلك كتاب الدكتور سامي العامري المتخصّص في شؤون الكتب المقدّسة "محمد في الكتب المقدّسة".
وهذا مثال على نصّ من نصوص التبشير:
((ولسوف أزلزل كل الأمم، وسوف يأتي "حِمَدَا" لكل الأمم، وسوف أملأ هذا البيت بالمجد، كذلك قال ربّ الجنود، ولي الفضّة ولي الذهب، هكذا يقول ربّ الجنود، وفي هذا المكان أعطي السلام، هكذا يقول ربّ الجنود))
و"حِمَدَا" هي الأصل العبريّ للكملة التي ترجموها إلى العربية،  بـ : "مُشتَهَى" وهي ما ينتشر في ترجمات الإنجيل العربية .

يقول دكتور سامي معقّبا على هذا النصّ :
((لنأخذ كلمة  "حِمَدَا" وهي الأصل العبريّ لكلمة "مشتهى" الموجودة في النصّ الذي بين أيدينا، ولعلّي لست مخطئا، فإنها تُقرأ باللغة العبرية الأصلية: "في يافو حِمداث كُول هاجوييم" والتي تعني حرفيّا: "وسوف يأتي "حِمَدا لكل الأمم" والحرفان "ها" في اللغة العبرية يقابلهما في اللغة العربية "ال" للتعريف، أو "ل" عندما تكون في حالة الجرّ، والكلمة مأخوذة من اللغة العبريّة القديمة، أو لعلّها الآرامية وفي الأصل "حِمْد" بالحرف الساكن، وفي اللغة العبرية "حِمْد" تُستعمل عادة لتعني الأمنية الكبيرة أو "المشتَهى" أو "الشهية".))

فنلاحظ كيف أنهم يقومون بترجمة اسم العَلَم، ليعطوا معناه، لا أن يتركوه اسما، كأن تذكر مَنْ اسمه "سليم" في نصّ إنجليزي، فتضع ترجمة معنى اسمه "hale " أو أن تجعله في نص فرنسيّ "saint" فتترجم معنى الاسم، ولا تضع الاسم كما هو .
وعلى هذا تكون "أحمد" ترجمة عربية  لـ "حِمَدَا" من لسان عيسى الناطق بالعبرية .
وهم يدّعون أن "حِمَدَا" بترجمتهم لها "المشتهى" تعني اليسوع، حتى يبتعدوا عن المبشَّر به الحقيقيّ، فيقول دكتور سامي : (( وتعني أحمد، أو محمد . ولا توجد أدنى صلة في أصل الألفاظ ولا في تعليلها بين كلمة "حمد" وبين الأسماء الأخرى مثل "يسوع" أو المخلّص، حتى ولا في أية ناحية من توافق الأصوات أو التشابه بينها)) –سامي العامري-

وفي إنجيل يوحنا 16 : 7-16 :"صدّقوني من الخير لكم أن أذهب، فإن كنت لا أذهب لا يجيئكم المُعزّي، أما إذا ذهبت فأرسِلُه إليكم..."
وجاء فيه أيضا:

"عندي كلام كثير أقوله لكم بعد، ولكنكم لا تقدرون الآن أن تحتملوه. فمتى جاء روح الحق أرشَدَكُم إلى الحق كلّه، لأنه لا يتكلم بشيء من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بما سيحدث، سيمجّدني لأنه يأخذ كلامي ويقوله لكم. وكل ما للآب هو لي، لذلك قلت لكم : يأخذ كلامي ويقوله لكم. بعد قليل لا تروني، ثم بعد قليل ترونني  "

و"المُعزّي" و"المشتهى" و"المعين" كلّها ترجمات بدأ وضعها مكان كلمة "فارقليط" أو "بارقليط" أول مرة  عام 1825، بينما كانت تعتمد الترجمات العربية القديمة على "فارقليط".
وهي كلمة معرّبة عن الكلمة الأصلية اليونانية  "باراكليتوس" .

هكذا هم يقولون، أن الكلمة الموجودة في الأصل هي باراكليتوس، وهي كلمة قريبة جدا من "بيريكليتوس" بالكسر...
بينما –وكما يقول دكتور سامي العامري-   بناء على القاعدة النقديّة "التصحيح الحَدْسي" فإنّ لأهل الاختصاص والتتبّع أن يقولوا بأن الكلمة الأصلية هي الكلمة اليونانية القريبة جدا منها : "بيريكليتوس" بالكسر، والتي تعني الحمد والشكر. إلا أنّ كَتَبَة الإنجيل شائع عنهم الترجمات الركيكة والخطأ في تأويل معاني الكلمات على غير وجهها الصحيح .
كما أنه يجوز أن تكون الكلمة مقرّبة بشبيهتها على وجه التعمّد .

مما يدل على أنها اسم علم، لا صفة، بينما أحدث ما بدأ من التعريب يضع كلمة "المُعين" كان سنة 1825.
وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب النجار في كتابه "قصص الأنبياء" ص397و398 حوارا دار بينه وبين المستشرق كارلونيلينو حول هذه الكلمة تحديدا "بيريكليتوس"، وسأله أن يعطيه معناها الدقيق، فأجابه أن معناها "الذي له حمد كثير" .

ومما سبق، أخلُصُ إلى أنّ أناجيلهم حوت :

1- اسم الرسول صلى الله عليه وسلم بحرفيّته باللسان العبريّ لعيسى عليه السلام "حِمداث" والذي يكون لفظه العربيّ : "أحمد"
2- معنى اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بالأصل العبريّ :  "بيريكليتوس"، وحوِّر في الترجمات العربية إلى "فارقليط" و"بارقليط" ومعناه  "كثير الحمد".
3- تصديقا لقول الله تعالى : "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)" -الأعراف-
فإنّ البشارة به صلى الله عليه وسلم، موجودة إلى يومنا في كتبهم رغم استماتتهم في إخفائها، وما هذا الحفر من أهل الاختصاص في كتبهم من المسلمين إلا واحد من أسباب الله تعالى في كشف ذلك. وإلى يومنا يعتنق الإسلامَ من يُبهَت بهذه النصوص التي بقيت ملامحها الأصلية رغم ما أحدثوه من توريات وتلاعبات بمقاصدها.

لذلك أرى -والله أعلم- أنّ البشارة به جاءت على وجهَيها، بالاسم الحرفيّ وبمعنى الاسم، إذ جاء معنى الاسم ليعرّف بصفته مطابقا لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما عرفنا- أنه حامل لواء الحمد، وأنه يخرّ عند العرش يوم القيامة يحمد ربّه بمحامد لم يسبقه إليها أحد .

ولقد أجلى لنا القرآن أسباب إخفائهم للحقّ في كتبهم، وتبديلهم للكلم، وتحريفهم له، ذلك أنهم استُحفظوا على كتب الله، فما حفظوها، واشتروا بعهد الله أن يبلّغوا ما جاءهم من الله ثمنا قليلا، وعصوا أمر الله تعالى، وأخلفوا ما أخذ عليهم رُسُلُهُم من مواثيق ...
وأنقل ها هنا كلاما من كتاب "محمد في الكتب المقدسة" للدكتور سامي العامري، مع ما ينقله هو بدوره عن الإمام ابن القيم رحمه الله :
((إن الكثير من رجال الدين النصارى، كما ينقلون هم عن بعضهم البعض، يتخذون الدين غَرَضاً ومغنما، وهم يتمرغون في أموال رعايا الكنيسة، وقد أُشرِبت قلوبهم العطايا واسترقّهم نزَقُهُم الثَّمِل بسكرة المتعة الجامحة !
ويعرّي الإمام ابن القيّم أحد هؤلاء، في كتابه "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى" فيقول رحمه الله وأنعم الله عليه وعلينا بالجِنان: "ولقد ناظرت بعض علماء النصارى معظم يوم، فلما تبيّن له الحق بُهِت، فقلت له وأنا وهو خالِيَيْن: ما يمنعك الآن من اتباع الحق؟ فقال: إذا قدِمتُ على هؤلاء الحَمير-هكذا لفظه- فرشوا لنا الشقاق تحت حوافر دابّتي، وحكّموني في أموالهم ونسائهم، ولم يعصوني فيما آمرهم به، وأنا لا أعرف صنعة، ولا أحفظ قرآنا، ولا نحوا ولا فِقها، فلو أسلمت لدُرتُ في الأسواق أتكفّف الناس، فمن الذي يطيب نفسا بهذا ؟ ! فقلت له: هذا لا يكون: وكيف تظنّ بالله أنك إذا آثرت رضاه على هواك يُخزيك، ويضلّك ويُحْوجك ؟ ! ولو فرضنا أن ذلك أصابك، فما ظفرت به من الحقّ، والنجاة من النار ومن سخط الله وغضبه فيه أتمّ العوض عما فاتك. فقال: حتى يأذن الله. فقلت: القدر لا يُحتَجّ به ! ولو كان القدر حجة، لكان حجة لليهود على تكذيب المسيح، وحجة للمشركين على تكذيب الرُّسل، ولا سيّما أنتم تكذبون بالقدر فكيف تحتج ؟ !! فقال: دعْنا الآن من هذا. وأمسك .
)) –من كتاب محمد في الكتب المقدسة : سامي العامري-

إذن فإنما هي الدنيا، وإنما هو الثمن القليل يبيعون به عهد الله تعالى، وما أخذ عليهم الرُّسل من مواثيق !!
كما أنّ من النصرانيين -وهم ينكرون أن الإنجيل الذي بين أيديهم محرّف- من يردّ قول المسلمين القائلين باحتواء الإنجيل على البشارة، بدعوى أنهم لن يتركوا علماء النصرانية وسعة علمهم واطّلاعهم، ومعرفتهم إلى ما يعتبرونه تقوّلا من المسلمين . يفحمهم العامريّ وهو يذكر لهم ما هو كائن منهم حيال اليهود، وهو من جنس ما هو كائن منا حيالهم. يقول :
(( ولنا أن نسأل هذا النصراني المعترض: إنكم ومن تتبعون، تكرّرون دائما أن التوراة (العهد القديم) مُتخَمَة بالبشارات بالمسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، بل لا تكاد تخلو صفحة من صفحاتها من التصريح أو التلميح بمقدم ابن العذراء !! فهل تُنكرون علينا أن قلنا إنّ أحبار اليهود أرسخ منكم قدما، وأطول باعا في تفسير التوراة(العهد القديم)- وتأويلها، وبالتالي فتكذيبهم لقولكم السابق لا يخلو من وجاهة، وهو المقدّم على زعمكم لأن التوراة نزلت فيهم ؟!))

إلا أنه بالمقابل، وكعادة الدنيا وما تجمع من متناقضات، وأحوال يضادّ بعضُها بعضا، وكعادة الحقّ وهو يجد لصداه رجْعا في نفوس الباحثين عنه بصدق، وفي نفوس الذين لا يستنكفون أن يعلنوا أنه الحقّ، لا يرون شيئا في الدنيا أعلى منه، ولا أهمّ من اعتناقه والإقرار به ... كثيرون هم القساوسة وعلماء النصرانيّة الذين اعتنقوا الإسلام، من بعد ما كانوا من كبار المنصّرين، والعاملين على نشر النصرانية في العالم، وكما جاء في كتاب سامي العامري   :
((جاء في المؤتمر التنصيري الثالث لطائفة الإنجليكانيّين الذي انعقد في كندا سنة 1963، في ما قاله "كانون وارن" سكرتير جمعية التبشير الكنسيّة، في بحثه المقدّم إلى هذا المؤتمر : " لقد تجلّى الله بطرق مختلفة، ومن الواجب أن تكون لدينا الشجاعة الكافية لنُصرّ على القول بأن الله كان يتكلم في ذلك الغار الذي يقع في تلك التّلال خارج مكة" (عن Frontier Fission an Account of the Toronto Congress p.18 Peter Whiteley) .
وهذا الملك النصراني القحّ "أوفّا" King Offa of the Mercians (757م-796م) الذي حكم وسط إنجلترا، بعد قرن من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب، والذي جاء في الموسوعة البريطانية الجديدة The New Encyclopedia Britanica 1974 في وصفه أنه "كان واحدا من أقوى الملوك في الزمن الأول لإنجلترا الإنجلوسكسيونية، والذي كان على علاقة جيدة بالبابا أدريان الأول (772م-795م). هذا الملك قد كتب على عُمْلته الذهبية شهادة الإسلام "لا إله إلا الله وحده لا شريك له " باللغة العربية على وجه، وباللغة الإنجليزية على الوجه الآخر. وقد اكتشفت هذه العملة سنة 1841م. وهي معروضة في المتحف البريطاني.
))

وكثير جدا من النصارى يعتنقون الإسلام كل يوم على أيدي قساوسة أسلموا، من مثل القس السابق المهتدي يوسف أستس، وغيره من مختلف بلاد أوروبا . وإنك لتجد التسجيلات المرئية لمساعيهم الطيبة المباركة تملأ الشبكة العنكبوتية.
كما كان لمناظرات العلماء المسلمين المتخصصين في الكتب المقدّسة دور كبير في دخول عدد كبير منهم للإسلام، من مثل مناظرات "أحمد ديدات" رحمه الله، ومناظرات تلميذه النجيب، خليفته على دربه "ذاكر نايك"، وقد عُرِفا بحافظة عجيبة، مكّنتهم من اطلاع واسع على مختلف نُسخ الكتب المقدّسة، فيدحضون دعاوى مناظريهم مستشهدين بالاختلافات بين تلك النسخ،  ويدخل الإسلامَ على أيديهم من النصرانيين والملاحدة، وقد أفحمتهم الحجة الدامغة والبرهان الساطع في القرآن، وهو يقابل أباطيل أناجيلهم.

وقد أورد سامي العامري في كتابه، أن التحريف مرّ بأربع مراحل:
1-ما بين نزول الوحي الأصلي إلى ما قبل البعثة المحمدية : وقد خفّ في القرن السادس قبل الميلاد،  أي  بعد السّبي البابلي، حيث أعاد فيه اليهود كتابة العهد القديم، وتوسّعوا في وضع نصوص من عندهم، ليست لها أدنى علاقة بما أنزل على الأنبياء. وذلك لفَقْدهم النسخ الأصلية للتوراة، من فرط استهانتهم بحفظها من جهة، ولما لحقهم من سبي وتشريد من جهة أخرى.
ومن أسباب التحريف أيضا، خطأ النُسّاخ، وسَهْوُهم، وعدم إتقانهم الترجمة، مما أحدث تحريفا في نقل المعاني، والمسيح تكلم بالآرامية، ثم تُرجمت النُّسخ إلى اليونانية، وضاعت الأصول الأولى.

2-ما بين البعثة المحمديّة إلى القرن العاشر للميلاد: وعُرِفت هذه المرحلة باحتكار اليهود والنّصارى لأسفار الكتب المقدسة، وندرة وجود الترجمات العربية بين أيدي العرب. فأخفوا البشارة ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما حرفوا المفاهيم العقدية أيضا.

3-من القرن العاشر إلى عصر ظهور الطباعة: وفي هذه الفترة  اهتموا بتحريف البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم باستبدال الترجمة للكلمات الأصلية بأخرى لا تحمل معناها الحقيقي، وتمييع معاني النصوص بإحداث تراجم غامضة.

4- من ظهور الطباعة إلى اليوم: في هذه الفترة، قرأ علماء النصارى ما كتبه علماء الإسلام من تبيين للمعاني الحقيقية للبشارات في الكتب المقدسة، فعمدوا إلى تغيير الألفاظ والتراكيب زيادة في التمويه والإخفاء، محادّة للحق .

وهكذا رأيت أنه من المُجدي أن أستفيض شيئا ما في شأن البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم، لما هو كائن من مساعٍ لمتخصصين مسلمين في شؤون الكتب المقدّسة، وقد رأيت ذلك لأول وهلة نافلة من الفعل، والقولُ الفصل بين أيدينا في القرآن، خاصة مع كل تلك التمويهات والمساعي الحثيثة من طرف النصارى لكتم الحقّ، ولكتم البشارة به صلى الله عليه وسلم على وجه أخصّ ... ولكن بعد نظرة أعمق عرفتُ أن لهذه الدراسات والتتبّعات، والردود بالحجة والبرهان، وبالعقل والقواعد المنطقية الداحضة لشًبهاتهم وادعاءاتهم، دورٌ كبير في بعث روح السؤال والبحث عند كثير من الباحثين عن الحقّ في أوساطهم ... كما أنّ هذه التتبّعات وهذا التنقيب والحفر خلف تقلّبات الكتب المقدّسة بين العصور، بيّنت مدى إمعانهم في الكتم والتبديل والتحريف عصرا بعد عصر، خاصة وهم يرون تعقّب الباحثين المسلمين لكتاباتهم .
« آخر تحرير: 2021-01-15, 10:17:09 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

أما القرآن العظيم، المصدر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد جاء فيه أكثر من ذلك ... جاء فيه أن كُتُبَهم حَوَتْ أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، وحوتْ أوصاف صحابته . قال سبحانه: " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" -الفتح: 29-

كما أنّه صلى الله عليه وسلم زيادة على عظمته، وتفرّد صفاته، استحقّ أن يُبَشَّر به من ناحية  الشريعة السمحة التي بُعث بها، إذ حملت لأهل الكتاب العتق مما أثقل كاهلَهم من تكاليف جزاء عنادهم  :"الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"   -الأعراف:157-

قال القرطبي: ((وقد جمعت هذه الآية المعنَيَيْن، فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال، فوُضع عنهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال، كغسل البول، وتحليل الغنائم، ومجالسة الحائض، ومؤاكلتها ومضاجعتها. فإنهم كانوا إذا أصاب ثوبَ أحدهم بول قرضه. وإذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها وإذا حاضت المرأة لم يقربوها. إلى غير ذلك مما ثبت في الصحيح وغيره. والأغلال: جمع غل. وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد. والتعبير بوضع الإصر والأغلال عنهم استعارة لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة والتكاليف الشديدة كاشتراط قتل النفس لصحة التوبة. فقد شبه- سبحانه- ما أخذ به بنو إسرائيل من الشدة في العبادات والمعاملات والمأكولات جزاء ظلمهم بحال من يحمل أثقالا يئنّ من حملها وهو فوق ذلك مقيد بالسلاسل والأغلال في عنقه ويديه ورجليه.والمعنى: إن من صفات هذا الرسول النبي الأمي أنه جاءهم ليرفع عنهم ما ثقل عليهم من تكاليف كلفهم الله بها بسبب ظلمهم. لأنه- عليه الصلاة والسلام جاء بالتبشير والتخفيف. وبعث بالحنيفية السمحة. ومن وصاياه صلّى الله عليه وسلّم: «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا)) -الإمام القرطبي-

ونكمل مع ما تبقى من قوله تعالى : " وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)"

"فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ"
لما جاءهم بالبينات، أي بالآيات البيّنة، كفروا به، ونسبوا له السحر عليه السلام، كما أنّها تنطبق على موقف المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ اتهموه بالسحر، وقد بيّن الله تعالى كيف أن كل الأقوام اتّهموا رُسُلهم بالسحر والجنون : "كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)"-الذاريات-
وبهذا نعلم ما قوبِل به كل من موسى وعيسى عليهما السلام من أقوامهما، في تربية لأصحاب رسول الله صلى الله عيه وسلم ألا يكونوا مثلهم ...
والآيتان مُنْسابتان مع سياق الآية الأولى في نهي المؤمنين عن أن يقولوا ما لا يفعلون، فهو سياق النّهي دائما في هذه الصور المتتالية في الآيات ...أولا بنهيهم عن التلبّس بصفات من صفات المنافقين، ثم عن أن يكونوا مثل الأقوام السابقة من أهل الكتاب في عدم توقيرهم لرُسُلهم.

ونعود لروح السورة مجددا ...
هذه السورة التي بدئت بالنهي عن الازدواجية في النفس المؤمنة، فلا يخالف ظاهرها باطنها، لا يخالف قولها فعلها، لا يتلبّس المؤمنون بصفات المنافقين، ولا يُترَكون لهذه الخطرات من النفس، وهذه الوخزات التي تطرأ وتكون... بل تُعالَج، ويُؤكّد على أنّ الترقّي بالنفس مقدور عليه، إذ قد أودع الخالق سبحانه فيها القدرة على الترقّي وعلى اجتياز عقباتها...فكما خلقها من ضعف، وخلقها ضعيفة، خلق فيها القدرة على الترقّي والإصلاح، والتعلّم من الضعف لتحصيل قوة أكبر ... لا ما ينتشر عادة من التحجّج لها بالضعف، والضعف، وعلى أنه سمة من سماتها، حتى حصل الإفراط الذي صوّرها المقيّدة بضعفها، التي لا تملك منه فِكاكا، ولا لأمرها حِياله زِماما...

وإعلان الله سبحانه مَقْتَه لهذه الازدواجية في النفس من شأنه أن يبعث الحركة في النفس المؤمنة على التحرّر من قيود ذلك الضعف، للارتقاء، والخروج من بوتقة الركون لهَناتها وسقطاتها ...  "كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ "
ولكأنّ المؤمن المنتهَض من سجن ضعفه إلى مرتقى قوّته، الذي يَشخص بصره من بعد سِنة الضعف الآخذة، يتشوّف بقامة منتصبة من بعد أن وهنتْ حينا إلى ما يحبّ الله... فتأتي : "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ"
فكانت النفس المؤمنة المهيّأة للنهوض، المُخَلَّصَة من رهن الازدواجية والغموض، والتقلّب بين حال وحال، أرضيّة الجماعة المؤمنة التي تعمل للهدف الواحد، فتتكامل أجزاءً متراصّةً لبنيان مرصوص يقف حصنا منيعا دون ترصّد الخارج لها، وإحداق الأعداء بها  ...

جماعة يتبيّن فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وتذهب تأرجحاتها، وتُعَالَج هَناتُها، وهي تعلم أنّ ربّها  الذي هي به موصولة يكره منها ما يكره، ويحبّ منها ما يحبّ، فتسعى لإرضائه، وتخشى غضبه وسخطه، محقّقة لعبادته وتقواه على الوجه الأكمل ... !
تِلْكُم هي الجماعة المحصّنة، الممنوعة من الاختراق ... !
ثم ها هي الجماعات عبر العصور مع رُسُلِها، ها هي ممثَّلَةً في جماعة موسى وجماعة عيسى عليهما السلام، في نهي بالمثال عما لا يجب أن تكون عليه الجماعة المؤمنة ...
"وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) "
أي ظلم أكبر من ظلم هؤلاء الذين أرسِل إليهم الرسل منهم، يهدونهم إلى ربّهم، ويعرّفونهم سبيل الرشاد ! أي ظلم أكبر من أن يُكفَر بالله الخالق البارئ المصوّر الهادي إلى صراطه وهو العزيز الحميد ... !

أي ظلم أكبر من أن يُكفَر برُسُله، فيُهانوا، ويُكذّبوا، ولا يكون من أقوامهم تبجيل وتوقير هم  أهلُه، وأحقّ الناس به ... ؟ !
من أظلم ممن افترى على الله الكذب بأن كذّب رسُولَه... وما تكذيب الرسول إلا تكذيب لله تعالى. لذلك جاء عن موسى عليه السلام استنكاره على قومه  : "لمَ تُؤْذُونَنِي"  كما جاء موقف قوم عيسى عليه السلام في  : " فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ".
فوَصْمُهُم الرُّسُلَ بالسّحر، وإيذاؤهم، واستقبالهم لدعوتهم بالتكذيب، هو كقولهم أنّ الله لم يرسل رسولا، وهو أرسله.
ونعرف ذلك في قولهم صراحة : "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ..." –الأنعام: من الآية 91-

افتروا على الله سبحانه، بافترائهم على رُسُلِه، فجعلوا آيات الله سحرا، وكفروا بدعوتهم إلى الله.
" ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)"
افترى الكذب، وكذّب برُسُل الله، وهو يُدعى إلى "الإسلام"...
وهذا هو الدين عند الله، وهو الذي جاء به كلّ رُسُله، بالدعوة للتوحيد الخالص،  وكلّهم أعطى لله موثقا على التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلّهم جاء بنبئه لأقوامهم، وبلّغوهم صفاتِه وأمرَ بعثته، للإيمان به ولنصرته...
لذلك جاء "الإسلام" هنا. لنستشفّ وحدة الدين عبر العصور، والأجيال، وعلى تعاقب الأنبياء منذ بدء الدنيا ...فكلّهم سلسلة عُقد واسطته محمد صلى الله عليه وسلم، كلّهم صلى خلفَه مؤتمّا به، عليهم جميعا صلوات ربي وسلامه.

كما جاء أيضا "الإسلام" هنا، ليكون اللفظ الجامع الذي يشمل كل الأقوام، وكل مَن بُعِث فيهم رسول من رسل الله تعالى، من جانب معرفتهم جميعا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال رُسُلهم، ومن خلال العَهْد الذي أخذه عليهم رسلهم بأن يؤمنوا به ويصدّقوه، -كما عرفنا أعلاه-
لفظٌ جامع، جاء وروده بالغا في الدقة، تاما في التدليل على وحدة الدين، وعلى هيمنة الكتاب الأخير على كل الكتب، وتمام الأمر به، وإكمال الدين كلّه به، منذ بدء بعثة الرسل في الدنيا، إلى خاتمهم صلى الله عليه وسلم .

وقد قال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو أنَّ موسى كان حيًّا ما وَسِعَه إلا أن يَتَّبِعَني"
وتنتهي الآية بقوله سبحانه : "...وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"
قوم موسى الذين آذوه، وقوم عيسى الذين اتهموه بالسّحر، واتهموا أمَّه بالفاحشة ... كل الأقوام الذين كذّبوا رُسُل الله، وافتروا على الله الكذب أنه ما بعث من رسول، وما أنزل من كتاب سبحانه ... ويحسبون أنهم يحسنون صنعا بإعراضهم عن الحقّ، وبدعوتهم غير الله الواحد سبحانه. وكيف تبلغهم هدايةٌ مما لا هدى فيه، وما الهدى إلا هُدى الله سبحانه:
"لهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)"-الرعد-

إذن... فقد جاء بيانُ الأقوام الذين أرسل الله إليهم هُداه، وبُعِث فيهم رُسُله الهُداة، فما أقاموا أمر الله، بل نبذوه وراء ظهورهم، وكتموا الحقَّ الذي جاءهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكثوا عهودهم، ونقضوا مواثيقهم، فما كانوا "الخليفة" الذي جعل الله في الأرض، والذي وُكِل بإقامة أمره سبحانه في أرضه... !

هؤلاء هم الظالمون الذين خاب سعيهم وضلّ ... هؤلاء هم أعداء الحقّ، الدعاة إلى الباطل والضلال، وهم ينبذون هُدى الله وراء ظهورهم، ويقولون ما لا يفعلون، ورُسُلهم يأخذون عليهم المواثيق، ثم ينكصون على أعقابهم : " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)"-آل عمران-.
هؤلاء هم أعداء الله، وأعداء الحق، الذين يريدون وأد الحقّ، وإبعاد الناس عن ربّهم ... هم الذين يعلنون الحرب على الله عزّ وجلّ العزيز الحكيم ...
لذلك تأتي الآية الموالية وفيها تقرير من الله، وحقيقة لا يُعلى عليها، وأمر منه لا يُبدّل:
"يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(08)"

أما عن اللام في " لِيُطْفِؤُوا " فقد سماها بعض أهل العربية "لام أَنْ" لأنّ معنى أَنْ المصدرية ملازم لها. ومعناها : "أن يطفؤوا"
هذا ما يريدون... وإنه لتصوير دقيق من الله تعالى، يتمثل لك به خسران مزاعمهم، وخيبة مساعيهم، وضآلتها وحقارتها أمام أمر الله ... !
فهي ذي أفواههم، وهي تحاول أن تطفئ نور الله !! وأنّى لأفواههم أن تقدر على ذلك ؟ !
أتقوى الأفواه على حجب ضوء الشمس ؟ إنها العاجزة عن إطفاء الشيء القليل قُبالتها، أفَتَقْوى على نور الله ؟ ! ويكفي تعظيما لهذا النور أن يُنسَب لله سبحانه القويّ العظيم العزيز الذي لا يكون إلا ما يريد ...
 أتقوى أفواههم المتقوّلة على الله سبحانه، المفترية عليه كذبا، بتكذيب رسله، وبتقويلهم ما لم يقولوا أن تطفئ نور الله ؟ !!!
أفواههم التي صيّرت المسيح عيسى بن مريم وأمه إلهَيْن، والتي نسبت الربوبية للأحبار والرهبان، والتي جعلت من عزير ابنا لله، أتقوى على إطفاء نور الله تعالى ؟ !

أتقوى أفواههم المتجرّئة على الله تعالى، وعلى رُسُله، والمتقوّلة بغير سلطان ولا علم أن تطفئ نور الله ؟؟ !!
أفواههم المفترية الكذب على الله بافترائها الكذب على رسله :  "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79)"-آل عمران-
وقائمةٌ هي أحلامهم الهائمة، ومساعيهم الخائبة، وأباطيلهم العائمة في إطفاء نور الله تعالى في كل زمان... !

فتسمع من  يرفع عقيرتَه يعوي بأن الإسلام زائل ولا بقاء له، ومَن يعوي بأن الإسلام إرهاب وحقد وعنف وشرّ كله ... !
ويعْوي ذئب بلاد التنوير المزعوم، الرافع لشعار "حرية مساواة أخوة " أن الإسلام في العالم اليوم يعيش أزمة !
الخبيث "ماكرون"، الفأر المستأسد، وقد أفسح له المنافقون من بني جلدتنا، الذين طبّعوا وخانوا قضية الإسلام والمسلمين، فوالوا أعداء الله، وتولّوا قوما غضب الله عليهم، قوما أذاقوا المسلمين وَيْلات وعذابات، وتنكيلا عبر الأزمنة، وعبر التاريخ ... !
يعْوي وقد أفسح له المنافقون المجال، العاملون لمصالحهم، خادموهم المطيعون ....  يعوي وكُرْهُه للإسلام وحقده عليه يملأ كل نقطة من كيانه ... !

وليس وحدَه من يتجرأ اليوم على الإسلام والمسلمين من بعد انبطاح المنبطحين من بني الإسلام، وهم أوّل من يريد الخلاص منه، بتدجين المجتمعات، وتغييبها عن هويتها وأصلها وأساسها الذي يقيمها مجتمعات مؤمنة لها خاصيتها وتميّزها عن كل مجتمعات الأرض...
إنهم، والمنافقون بكل مساعيهم، وتكالبهم يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ! وهيهات هيهات ... والله قد أقرّ ما لا يكون غيره، قد أقرّ إرادته في الأرض ... "وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ"
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ما أروع هذه الكلمات، وما أقواها، وما أكثر ما تحمل من معاني الإرادة الإلهية المهيمنة التي لا تُغلَب ... !!
إرادة الحكيم سبحانه العليم، الذي على ما يظهر من ضعف في أهل الإسلام، وعلى ما يجدّ ويستجدّ في كل مرة من خيانات المنافقين من وسطه، وخذلان خاذليه من أهله، وعلى ما يظهر من انبهارهم بموازين القوة والمال والسلاح، وتسليمهم لأمر أربابهم المعبودين من دون الله !!  وعلى ما يظهر من شحّ النصير ... فإن الله هو العليم وهو الحكيم، وهو الذي جعل الدنيا دار امتحان لهذا الذي جعله في أرضه خليفة !

لينظر أيُحسن أم يسيء، أيثبت على الحق أم يزيغ، أينصر دين الله أم يخذله، أيختار أن يعزّ في جنبه، أم أن يذلّ في جنب غيره ... !
ولكنّه متمّ نوره ... !  وليست القضية في الدين، إذ هو بأمر الله وبتقريره منصور، مُعَزّ، مُتَمّ ... بل القضية فينا،  أنكون سببا من أسباب عزّته، أم لا نكون ... ! هذا ما يجب أن نبحث فيه ... !
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ... ولو تقطّعوا غيظا وحقدا على الإسلام، ولو استماتوا في مساعيهم، وإن جيّشوا لذلك جيوشهم، وإن أنفقوا في سبيل ذلك كل أموالهم، وإن لغّموا الأرض بسلاحهم جوا وبرا وبحرا ... !
هذا ما يجب أن يكون في نفوس المؤمنين عقيدةً لا تتزعزع، ويقيناً لا يتزحزح ... ! ولا يعني ذلك أن يكون عقيدة ويقينا مع قعود، لأن القعود يخرجك من دائرة الإسهام بشيء، يخرجك من دائرة التسبّب في هذا الإتمام ...!

وإنه لا يخرجك من هذه الدائرة وحسب، بل يخرج أجيالا برُمّتها من أن يكون لها في ذلك دور وحظ، يخرج عصورا متعاقبة  من عيش العزّة والتميّز والأستاذيّة القائدة للأرض، الرائدة للبشرية ... !
يخرج عصورا متعاقبة، كما أخرج بني إسرائيل، حينما ضُرب عليهم التَّيه بما عصوا، وبما اختاروا أن يعصوا أمر الله وأمر رسوله لهم أن يدخلوا الأرض المقدسة، حينما خافوا أعداءهم، فوصفوهم بـ "الجبّارين"، وجبنوا عن لقائهم، ومواجهتهم، قعدوا، ولم يختاروا أن يقاتلوا عدوّ الله، وتجرؤوا على نبيّهم  : "قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)"-المائدة-

وحسبوا أنّ القاعد يُحصّل شيئا، حسبوا أنّ الأمر أمر صدفة، حتى قالوا: " فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ " .
ولكنّ رَجُلَيْن من بين القوم، رجلين اثنَيْن من الجماعة كلها، كانا مُشبَعَيْن بعقيدة نصر الله لدينه، متشرِّبَيْن لليقين في قدرة الله، وأنه الذي لا يُغلَب، كانت فيهما عقيدة سليمة من الغبش، فعرفوا أنّها التي يجب أن يصحبها العمل : " قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23) "
فليس التوكّل على الله، واليقين بوعده، وبنصره لدينه بمانع من أن يسعى المؤمن سعيَه ليحظى بذلك النصر، وليعيش العزّ عيشا، بل ليستحقّ أن يُعَزّ ... وأن ينعم بالعزّة واقعا على الأرض... !
وعندها جأر موسى إلى ربّه أنه لا يملك من أمرهم شيئا، وتبرأ من فسوقهم : " قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)"

فكان أمر الله تعالى بضرب التَّيْه عليهم : "قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)"
كذلك حالُنا ... كذلك حالنا حينما تكون عقيدة إتمام الله نوره في أنفسنا عقيدة كلام ... !  نقولها، ونقول أننا المتيقنون منها، وأننا المعتقدون بها، ونحن أبعد ما نكون عن العمل لذلك، بما نملك من قوة ... !
وإنّ في هذا كل التناسق مع محور السورة، مع بداياتها القوية، مع ذلك التخويف من الازدواجية في النفس المؤمنة، في الفكر المؤمن، التحذير من أن يخالف فعلُنا قولَنا... ! فإذا استمعت للمسلمين، وجدتَهم يُدندنون بـ : "الله متمّ نوره"، وإذا تتبعتَ حالهم وواقعهم، وجدتَه الأبعد عن العمل لأجل ذلك النور، لأجل حمايته، لأجل صدّ أفواه النافخين فيه ... !
بأن نكْبِتَهم ونُخزيهم، ونُذلّهم ونُعجزهم عن النّطق، ليس ذلك إلا وهم يروننا بوجوههم صفّاً واحدا، متلاحم الأطراف، متراصّ اللّبنات، صرحا عظيما قائما شامخا متينا لا تتخلّله الشقوق، وتضعضعه الثغرات ... !
عندها نكون بوجه الذين يحسبون أنهم ينفخون في نور الله لإطفائه بأفواههم، فيحول رُعْبهم ورَهْبَتهم دون أن يفعلوا ... ! دون أن يتجرؤوا على المؤمنين، وعلى خصوصية جماعتهم ... ! عندها سيستحقّ المؤمنون أن يكونوا جيل المنصورين، المُعَزّين، الممكَّنين  ... !

وهكذا تتلاحم سورة الممتحنة وسورة الصف ... !
امتحانُك أيها المؤمن، فإما أن تثبت على ولائك لله، وعدائك لأعدائه، ونصرتك لدينه،  فتكون لبنة في بنيان الجماعة المؤمنة المرصوص، أو أن تكون الشّرخ، وتكون الصدع، وتكون الخلّة التي تجعل من جماعة المؤمنين جماعة مختَرَقة من داخلها، فتفتح الباب لخارقيها من الخارج ... !

وِحْدة الصفّ الداخلي بمثابة المصل الواقي من سموم الخارج، من تربصات العدوّ... بمثابة الحصن المنيع دون الاختراق... !
"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(09)"
هو سبحانه ... هو مالك هذا النور، الذي يريدون عبثا أن يطفؤوه بأفواههم، هو العظيم العزيز الحكيم... الذي أرسل موسى وعيسى بالحقّ على غِرار مَن سبقهم من الرسل ليدعوا إلى "الإسلام" ... دين الله الواحد ...
هو الذي أرسل رسوله محمدا بالهدى ودين الحقّ، الإسلام، ليظهره على الدين كلّه.

أما هم فقد افتروا على الله الكذب، بأنه سبحانه ما أنزل على بشر من شيء، وأما : " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ " فبيانٌ، وأي بيان على أنّه هو سبحانه من أرسل رُسُلَه بما شاء من هدايات وشرائع، كلها الحق من عند الله...  وأرسل رسوله الخاتم على درب إخوته الرُّسُل من قبله، بالكتاب المهيمن الأخير الذي لا دين على الحقيقة لكل من ينكره ويكفر به وقد بلغه .
"...لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ"
هكذا سبحانه هي إرادته، مقابل إرادتهم السرابيّة أن يطفؤوا نور الله، والتي لن تتحقق...  إرادته سبحانه أنه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كله، لينصره وليكون الأعلى ... إنه نوره الذي هو متمّه سبحانه ولو كره الكافرون ... !
يقول في ذلك سيد قطب رحمه الله في ظلال القرآن : ((وشهادة الله لهذا الدين بأنه {الهدى ودين الحق} هي الشهادة. وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة. ولقد تمت إرادة الله فظهر هذا الدين على الدين كله. ظهر في ذاته كدين، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته، فأما الديانات الوثنية فليست في شيء في هذا المجال، وأما الديانات الكتابية فهذا الدين خاتمتها، وهو الصورة الأخيرة الكاملة الشاملة منها، فهو هي، في الصورة العليا الصالحة إلى نهاية الزمان.))

أرسله به صلى الله عليه وسلم ليُظهره ... ولقد كان ... وإنه الذي سيكون، بما أقرّ سبحانه من إنفاذ إرادته بإتمام نوره ...
عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللَّهَ زَوَى لي الأرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أُمَّتي سَيَبْلُغُ مُلْكُها ما زُوِيَ لي مِنْها، وأُعْطِيتُ الكَنْزَيْنِ الأحْمَرَ والأبْيَضَ، وإنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتي أنْ لا يُهْلِكَها بسَنَةٍ عامَّةٍ، وأَنْ لا يُسَلِّطَ عليهم عَدُوًّا مِن سِوَى أنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وإنَّ رَبِّي قالَ: يا مُحَمَّدُ إنِّي إذا قَضَيْتُ قَضاءً فإنَّه لا يُرَدُّ، وإنِّي أعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أنْ لا أُهْلِكَهُمْ بسَنَةٍ عامَّةٍ، وأَنْ لا أُسَلِّطَ عليهم عَدُوًّا مِن سِوَى أنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، ولَوِ اجْتَمع عليهم مَن بأَقْطارِها، أوْ قالَ مَن بيْنَ أقْطارِها، حتَّى يَكونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، ويَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا."-صحيح مسلم-
زوى الله له الأرض كلها صلى الله عليه وسلم، وكانت منه صلى الله عليه وسلم  النبوءة بأن ملك الأمة الإسلامية بالغٌ ما زُوِي له صلى الله عليه وسلم، وذلك هو إظهار الدين على الدين كله ...

"...لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ"
وهكذا ... من بعد ذكر موسى وعيسى عليهما السلام، وذكر ما استقبل به أقوامهما الدعوة إلى الله، إلى الإسلام... تلك الدعوة الواحدة الممتدّة عبر الرسل المتعاقبين، فكلّهم جاء بالحقّ، وكلّهم دعا إلى الواحد الأحد ...
هذا الآن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المؤمنين حامل لواء التمام والكمال والختام، والهيمنة بالكتاب الذي بُعِث به رحمةً للعالمين، وجماعته حاملة لواء الإيمان الحقّ في الأرض، وحاملة راية الإسلام لله ربّ العالمين ...  رائدة الأرض، وسائقتها إلى صلاحها بالمنهج الربانيّ المهيمن .

وإن سياق الآيات من 7 إلى 9 هو من جنس سياق الآيات من 30 إلى 33 من سورة التوبة : " وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)"
وهنا الآيتان 32 و33 من سورة التوبة، تحملان المعنى ذاته الذي في الآيتين 8و9 .

فأما إتمام النور فجاء عند ذكره سبحانه كراهيةَ الكافرين له، وأما إظهار الدين فجاء معه كراهية المشركين له .
وقد ناسب ذكر المشركين لسياق إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي بُعِث في وسطهم، وهم يشركون بالله غيره، إذ زعموا أن آلهتهم تقرّبهم إلى الله زلفى ... وهم قد كرهوا الدعوة، وتصدّوا لها بكل الطرق والأساليب، والله أظهر هذا الدين الذي بُعث به مَن هو منهم، ونصره، كما ناسب ذكر الكافرين في قضية إتمام الله لنوره، لأنهم افتروا على الله الكذب بأن ألّهوا الرُّسُل، وجعلوهم لله ولدا ... بل وقالوا أنه سبحانه ما أنزل على بشر من شيء...

ّإتمام النور وإظهار الدين، رغم أنوف الكافرين، ورغم أنوف الشركين، ولكأني بالسياق والنقلة بين " وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" و "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ" هي نقلة تكميلية تبيينيّة أنّ هذا النور متمٌّ ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أظهر الدين على الدين كله.

وهكذا يجتمع كُرْهُ الكافرين لنور الله، وكُرْه المشركين لظهور هذا النور، وكلّهم قد آثر الظُّلمة عليه، والضَّلال على الهدى، والباطل على الحق... بل ويسعون سعيهم في كل زمان لمحاربة الحقّ ولإذهاب ريحه ... وهو ما قد قرّر الله أنه لن يكون ... !
فهو منه سبحانه إتمام النور، وإظهار الدين ... وهذا ما يتحقق للجماعة التي تحرص أول ما تحرص على وحدة الصفّ، وقيامه في وجه كل ريح سَموم قيام البنيان المرصوص ...
« آخر تحرير: 2021-01-22, 13:17:14 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ويأتي دور النداء الثاني في هذه السورة  للجماعة المؤمنة في الأرض في كل زمان :
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)"
نداء للجماعة التي قضى الإسلام، وقضى القرآن على الازدواجية فيها، بالحثّ على محاربتها في النفس، بالحث على جهاد النفس، حتى تتخلّص من براثنها...  بالتربية الفردية التي هي أساس القوامة الجماعية ... أساس البنيان المرصوص، لبنةً إلى أختها، بهدف واحد وبتوجّه واحد، وبمرتكز تربويّ واحد ...  لتحقيق الصفّ الموحّد ...
من بعد ما :

1-جاء الإنكار عليهم أن يكونوا بتلك الازدواجية التي يخالف فيها المظهر المخبر، لينطلق الجهاد الأكبر في ساحة النفس،  جهاد داخليّ لمظاهر النفاق في النفوس المؤمنة : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)"

2-ثم الدعوة إلى جهاد العدوّ الخارجي والذي لا يستقيم، ولا يتحقق كما يجب إلا بعد جهاد النفس، وجهاد عدوّ الداخل : "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)"

ليأتي الآن دور نداء هذا محلّه ... إنه شدّ انتباه الجماعة المؤمنة حتى تشنّف الآذان، وحتى تتشوّف لهذه الدلالة :
" ...هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ "
أسلوب التنبيه، والترغيب، للتبيّن، والتشويق للمعرفة... لمعرفة الجواب ... وهو الدلالة إلى الحقّ وإلى كل خير، وهي من الربّ الخالق العليم الخبير العزيز الحكيم، الذي لا يكون إلا ما يريد، والذي إليه الرُّجعى للجزاء من بعد مرحلة الامتحان والابتلاء ...
إنها التجارة ... تعبير بمصطلحات الدنيا، بمصطلحات الرّبح والكسب، والنفع... ولكنّها تجارة مع الله، تجارة مع مَن لا تضيع عنده الحقوق، مع مَن يُفيض على عبده من فضله، تجارة مع مَن يجزي الحسنة بعشرة أمثالها، ويجزي السيئة بواحدة ويعفو ويصفح ...
مع الله الذي يريد لنا الخير كل الخير، وهو بنا رؤوف رحيم، مع الله الذي نتاجر معه لنربح نحن ونفوز نحن، وهو الغنيّ عنا ... تجارة بما يدوم ويبقى، لا بما يذهب ويفنى  ...

لذلك قُرِنتْ بوصفه سبحانه لها أنها التي : " تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ". لأنها التجارة التي يكون مضمارها الدنيا، ويكون ربحها في الآخرة، يوم يكون الإنسان أحوج ما يكون لما ينجيه، ولما يجعله الفائز ...
إنها التجارة التي لن تبور :" إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)"-فاطر-

فأي تجارة هي هذه ؟ ... دُلَّنا يا الله ... نعم... دُلّنا يا ربّنا ... !
"تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)"
نداء للذين آمنوا، أن يؤمنوا بالله ورسوله !
أوليسوا هم الذين آمنوا بالله ورسوله ؟ ... بلى ... !
فكيف يُدْعَون ليؤمنوا بالله ورسوله ؟ !

إنها الدعوة لتجديد الإيمان بالله ورسوله، بالامتثال لأمر الله ولأمر رسوله الذي هو من مشكاة أمر الله تعالى، ومع كل امتثال وتطبيق وعمل بأمر الله، هو الإيمان الحقّ المجسّد حركةً وفعلا على الأرض ...
إنه الإيمان الذي حقيقته الفعل، لا القول المجرّد ... !
وهنا تناسق جديد مع بداية السورة، وفيها الإنكار على المؤمن وهو يقول ما لا يفعل ... إنه الارتباط والاتساق .... إن الله يعلّمنا أنّ الإيمان الحقّ هو إيمانٌ اعمل فيه يصدّق القول، فمَن قال بالإيمان كان مؤمنا على الحقيقة وهو يفعل ما يُؤمَر، وينتهي عما يُنهَى...لا أن يكتفي بقوله أنه المؤمن ...

إنه –كما أسلفنا- الاعتقاد الجازم عند المؤمن بأن الله سبحانه متمّ نوره، ومُظهرٌ دينه، ولكنه الاعتقاد المدعَم بالعمل، لا الاعتقاد مع القعود ...
إنه الاعتقاد والجزم بأن الله متم نوره، ومظهر دينه، مع التشوّف لدلالة الله تعالى عبدَه المؤمن على هذه التجارة المنجية من عذاب أليم ... تجارة مع الله، هي العمل الذي يصدّق الاعتقاد... هي الفعل بما يُقال، لا أن يقال ما لا يُفعَل ...
وأكرّر التأكيد على التحذير من صفات المنافقين في الوسط المؤمن، كما جاء ذلك في سورة الممتحنة، حينما خُوِّف المؤمنون سلوك درب موالاة أعداء الله وإن كانوا رحِماً وأولاداً ... !

ومن بعد الإيمان بالله ورسوله، وتجديده وتحقيقه بالامتثال لأمر الله :
"وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ"
الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى، الجهاد للمساهمة في إظهار دين الله تعالى، ولتكون للمؤمن يدٌ في نصر دينه ... الجهاد لإحقاق الحقّ ولنشر الهُدى، ولإتمام النور في الأرض ...
الجهاد لمقاومة أعداء الله، الصادّين عن درب الله، المترصّدين للحق وللهُدى بالحرب، وبإبعاد الناس عن تولّي الله، العاملين على شَيْطَنة الأرض، وعلى تعبيدها للشيطان ...
الجهاد في سبيله وحده لا في سبيل شيء غيره ... بالأموال وبالأنفس، والجود بالمال جهادا في سبيل الله لا يقتصر على  المساهمة في حروب ضد أعداء الله بالعُدة اللازمة...
وإنما هو كل‌‌‌ جهاد في سبيل إعلاء كلمته سبحانه بتمويل مشاريع لنشر هُدى القرآن تحفيظا وتدبّرا وتفسيرا... لتشجيع الشباب على الفضيلة، وعلى التزام الطريق المستقيم...

جهاد بتمويل الدعاة المخلصين لله لنشر كلمة الله، وهُداه في الأرض ...
مجاهدة بالمال في سبيل تنشئة جيل مسلم على الموالاة لله ولرسوله، وعلى البراء من أعداء الله، باتخاذ ثقافتهم وسلوكياتهم ظِهريّا، وتبنّي تربية القرآن،  وهدايات السُّنة المطهّرة بغاية التكريس للخُلُق القويم في المجتمع المسلم. بذل المال جهادا في سبيل توحيد صفّ المسلمين، ونبذ الفرقة ...
توحيد الصفّ بدْءاً من النواة الأولى، الأسرة ...بضرورة الحفاظ على تلاحم أفرادها، وتحابّهم، انطلاقا من مودّة ورحمة تقوم بين الزوجين في سبيل تخريج مؤمنين موصولين بالله...

انتقالا إلى التلاحم المجتمعيّ، بالتكافل والتعاون، بعَضْد القويّ للضعيف، وإعطاء الغنيّ للفقير، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وحُبّ المؤمن الخير لأخيه المؤمن حُبَّه لنفسه، وانشغاله بحال أخيه المؤمن...
بدوام الدعوة إلى الثبات على الولاء لله، وإن تكبّد الدّاعي في سبيل ذلك ما تكبّد من صعاب، مع ما يُعرف من هجمات على الإسلام، وترصّد له من الداخل والخارج، في خضمّ هذا التواصل العالميّ بالوسائل  المختلفة المتاحة، والتي نفَذَتْ من خلالها عوامل الشّقاق والنفث في روح الجسد الواحد بالتفريق، والتحريض على تقاتل أطرافه فيما بينها لإضعافه وخلخلته ...!
الصفّ الواحد ...... !

إنه الذي يعلم أعداءُ الله وأعداء الإسلام علم اليقين أنه الحصن المنيع دون إنفاذ إرادتهم استئصال شأفته باستئصاله من قلوب المسلمين ومن فكرهم ... بالتمكين للغزو الفكريّ الذي يعمل عمله اليوم بشراسة على كل الأصعدة، مع ما مهّد له من انبطاح المنبطحين المنافقين الذين هم العدوّ الأكبر وهم منّا وفينا .... !
بَذْلُ المال في سبيل توحيد الصفّ جهادٌ في سبيل الله... !
بَذْلُ المال في سبيل إجهاض محاولات التفريق والتشتيت والإبعاد عن الهويّة الحقيقية، وتلبيس الأمر على شباب الإسلام، بتشكيكه في دينه، وبجعله الفريسة السهلة بين أنياب أعداء الدين، وهم يقتحمون عليه أخصّ خصوصياته في عُقر داره ويضربون انتماءه في مَقْتل ... !

بَذْلُ المال في سبيل إعادة شباب المسلمين إلى جادّة الحق، وفي سبيل تشريبهم الولاء لله وللدين جهادٌ في سبيل الله، في نار هذا العصر المسعور  بالحقد على الإسلام، المُسَعّر بكُرْهِه ... !
بَذْلُ المال في سبيل توحيد الصفّ المسلم، وفي سبيل التنشئة السليمة للأنفس المؤمنة على موافقة الفعل للقول، ونبذ الازدواجية، وشَيْطنة النفاق...
كلها جهاد في سبيل الله، في ظل اشتعال الحرب على الإسلام... حربٌ الأرض كلها اليوم ساحتها، وكل الطُّرق أسلحتها...! 
بل إن "السلام العالمي" و"الأخوة في الإنسانية" "والتعايش" و "العولمة" و "كَفْل الحرية العقدية للفرد"  كلها أسلحة ماضية في عصرنا لضرب الإسلام ولحربه ...!!

وإن التفطّن لكل هذه الوسائل الخبيثة الملتوية، ولهذه الحرب المعلنَة والمقَنَّعة في آن ... المعلنة عند أولياء الله وأولياء دينه، البيّنة عندهم علاماتها ... المقنَّعة بقناع الإنسانية وحرب الإرهاب عند المطبّعين والغافلين عن قضايا دينهم، المولَعين بالدنيا،  العابدين لمظاهرها .... !
التفطّن لهذه الحرب الشّرسة، ولما يُراد بالإسلام من الداخل ومن الخارج على السواء ...  سلاح وجب أن يتسلح به المؤمن في إطار اعتقادٍ منه جازم بأن الله متمٌّ نوره ولو كره الكافرون، ومُظهِرٌ دينَه ولو كره المشركون، يدعمه العمل المصدّق للاعتقاد والقول، جهادا في سبيل الله بالمال وبالنفس ... !
إننا في حرب من نوع آخر ... حرب بلغة العصر، بلغة الحِرباء المُحاربة بألوان، فهي الحرب باسم السلام وباسم المؤاخاة وباسم الحريّة .... !! ولكنها الأشياء الحلال فيما بينهم، الحرام نَحْوَ المسلمين ... !

هُم هذا اعتقادهم وهذه عقيدتهم ...! والمسلمون اليوم متخلّفون عن موالاة بعضهم بعضا، متناحرون متقاتلون ... ولأعداء الله هم موالون ... ! 
ويالسُخريّة المفارقات !! ويالِبُعد القول عن الفعل ... !

كله من روح هذه السورة التي تبدأ أوّل ما تبدأ بإنكار أن يقول المؤمن ما لا يفعل ... !   
ونلاحظ في الآية كيف سبقت "أموالكم"  "أنفسكم" ... وهو ما يُتاح أكثر، إذ نُسقط على أيامنا، فنعرف ضعفا في الأمة، وهَزْلا... ضعفا جعلها متأخرة عن الجهاد، وجعلها المغلوبة، وغيرها الغالب، وجعل الجهاد مغيّبا وهو ذروة سنام الإسلام، ومن أهمّ فرائضه التي تحمي الجماعة المؤمنة، وتحافظ على قوة الأمة وصلابتها، وهيبتها في الأرض، وتنشر دين الله تعالى، وتقف بالمرصاد للصادّين عنه، وللحائلين دون تبليغ الناس هدى الله، ودعوتهم لدين الحق ...
نُسقط ...فإذا الأمة بالشقاق الحاصل في جسدها، وتضعضع صفّها، وافتراق أطرافها بعضها عن بعض، اليوم والأمة الواحدة أشلاء متناثرة يقاتل بعضها بعضا، وينشغلون بالتناحر الداخلي، والخلافات الداخلية التي يفتعلها اللّوبي المعادي، وهي تنصاع له في خِزي وعار، فتزداد ضعفا إلى ضعف، وتشتتا إلى تشتت ... ! يستبيح بيضتَها مَن يُعلي لواء حمياتها، فإذا "حاميها حراميها" !! ويخنع منافقوها، فيوالون العدوّ، ويعادون الوليّ ... !

فإذا الأمة اليوم بتضعضع صفّها بعيدة وعاجزة عن أهليّة الوقوف بوجه عدوّ الخارج، وسُوسُ الداخل ينخر أوصالها ... ! حالها اليوم أوضح مثال على دور وحدة الصفّ الداخليّ، وتوحّد الرؤية والهدف، في الوقوف صفا لجهاد العدوّ... ! فلما تخلخل صفُّها عجزت عن مواجهة عدوّها فذلّت .. !
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تبايعتُم بالعينةِ وأخذتم أذنابَ البقرِ ، ورضيتُم بالزَّرعِ وترَكتمُ الجِهادَ سلَّطَ اللَّهُ عليْكم ذلاًّ لاَ ينزعُهُ حتَّى ترجعوا إلى دينِكُم"-صحيح أبي داود-
فمن بين أسباب بيان تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، هذا الوضع الذي نعيش، والذي يُتاح فيه الجهاد بالمال في مجالات مختلفة لتوحيد صفّ الأمة، للتهيئة لقوة تؤهّلها لقيامها صفّا كأنه البنيان المرصوص في  قتال العدوّ ... !
الجهاد في سبيل الله ... تلك الفريضة التي يُراد لها أن تختفي، وأن يُغَمَّى عليها، وهي من أهمّ دروع الأمة، الضامنة لبقاء شوكتها ...

ساعة كان الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض، عزّت الأمة، وصنعت لها هَيْبة، وحسب لها العدوُّ ألفَ حساب، وانتشر دينُ الله الذي يريد أعداؤه ليطفؤوا نوره، فهم اليوم في حرب قذرة معلَنَة عليه بكل الوسائل والطرق، يشوّهون صورته، ويصِمُونه بالإرهاب، ويستبيحون أن يستهزؤوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ... وليس ذلك إلا من ضعف الصفّ المسلم وتضعضع بنيانه ... !
إنه الجهاد بالمال وبالنفس، تلك هي التجارة التي دلّ الله عبادَه عليها، تنجيهم من عذاب أليم، و : "ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ"
ذلكم خير لكم...
ومَن غيرُ الله تعالى يدلّ عبدَه على ما فيه خير له ؟ ! " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)"-البقرة-
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: " سَأَلْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ الأعْمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قالَ: الصَّلاةُ علَى وقْتِها قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ برُّ الوالِدَيْنِ قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ قالَ: حدَّثَني بهِنَّ ولَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزادَنِي."-صحيح مسلم-
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون

ثم ها هو سبحانه جلّ في عُلاه يبسط لشيء من هذا الخير الذي في هذه التجارة :
"يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) "

وقد جاء: " يَغْفِرْ " مجزوما تدليلا على أنه جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر في قوله  تعالى  قبل ذلك :" تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ ".
أي أنهما : ("تؤمنون" و "تجاهدون") وإن جاءا بلفظ الخبر، إلا أنهما في معنى الأمر، أي آمنوا وجاهدوا.
هذا الخير العميم، والذي على رأسه مغفرة الذنوب، هذه المغفرة التي تنجّي من عذاب أليم، والتي هي أهم ما يحتاجه المؤمن يوم القيامة، ومن بعدها يُدخَل المؤمن جنات تجري من تحتها الأنهار، وذلك لعَمْري الفوز العظيم ... !
فكيف يتأخر المؤمن على بذل ما يكون جزاؤه هذا الخير الذي لا يُقدّر بمقدار، هذه النجاة...هذا الفوز العظيم ... !

ومَن يتشرّبْ قلبُهُ اليقين بوعد الله تعالى، واليقين بأمره سبحانه في اليوم الآخر وعطائه، سيُقدِم، وسيُقبل،  وسيجود بالنفس والنفيس في سبيل الفوز العظيم ... ستهون في عينه الحياة، وسيقبل على الآخرة بكَلّه وكَلْكَلِه ...
ثم يزيد سبحانه في وصف ذلك الجزاء العظيم فيقول: "وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ"
يقال عَدَنَ فلان بالمكان أي أقام فيه إقامة مؤبدة. وهي مساكن، وطيّبة، و"طيّبة" تجمع كل معاني الراحة والسكينة والطمأنينة والجمال، والرغد...
"وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)"
ووصفت العطاءات الأخرى بـ " تُحِبُّونَهَا "، وهي من عطاءات الدنيا، لأن الإنسان بطبعه يحبّ العاجلة، كما يحبّ المؤمن أن يرى ثمرة الجهاد في سبيل الله عزّة ومَكْنة : "نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ "
وقد كان نصر الله لعباده المؤمنين من بعد ما كانوا مستضعفين، ومن بعد ما حسبت قريش أنها قادرة على استئصال شأفة الدين، وعلى قهر أصحابه وإذلالهم، وإسكات صوت الداعي صلى الله عليه وسلم، وتوالى النصر على المؤمنين، كما تحقّق فتح مكة، ونزول هذه السورة كان بعد الحديبيّة وقبل الفتح...

ويرسّخ سبحانه في نفوس المؤمنين عقيدة أن النصر من عنده، إن شاء جعله حليفهم، وإن لم يشأ لم يكن، حتى لا يُفتَنوا بالأسباب فيَرَوْها كل شيء ... ! وهذا هو الفهم المتوازن السليم الذي يزرعه القرآن في نفوس المؤمنين، يحثهم على الحفاظ على وحدة الصفّ عاملا أساسيا لتحقيق القوة ولحماية الأمة، ويدلّهم على التجارة الرابحة بالجهاد في سبيل الله، وبالمقابل، يرسّخ في أنفسهم أنّ الله هو الذي يتمّ نوره، وأنه هو سبحانه الذي يظهر دينه، وأنّ النصر من عنده...
هكذا... لأنّ دوام صلة المخلوق بخالقه، وعطاء المعبود سبحانه لعبده، أن يستيقن العبد -مع أخذه بالأسباب- من أنّ القوة لله كلها، وأن العزّة لله جميعا، وأنّ الأسباب من الله، وأنه الظاهر والباطن، وهو العزيز الحكيم ومنه البدء وإليه الرُّجعى ... !
كما أن النصر والفتح عطيّة من الله للمؤمنين في كل زمان متى ما حافظوا على وحدة صفّهم، ومتى ما كرّسوا وضوح الرؤية، ووضوح حالهم، فلا ازدواجية فيه، بل يوافق الفعل منهم القول ...

ومع كل سورة مما مضى في هذا الجزء، ومع سياق التربية والهدايات، والتنظيم والإعداد المجتمعيّ الذي لا ينفكّ عن إعداد الفرد المؤمن، كما تنتظم بهما الدولة المسلمة ... في هذه السياقات، كنا نتعرّف إلى شروط قوامة الأمة، وشروط بقاء شوْكَتِها، وهيْبَتها ...
فعرفنا في "الحشر" حقائق عن ضعف العدوّ الذي لا يقوم على شيء، فهو يرهب المؤمن، الموصول بخالقه، المعتدّ بمنهجه الربانيّ ، وفي "الممتحنة" عرفنا عقيدة الولاء والبراء، وهي من أهم عوامل بقاء روح الجماعة المؤمنة ... وفي رحاب هذه السورة بعدهما، نعرف كيف يَعِدُ الله عباده القائمين صفّا كأنه البنيان المرصوص بنصر من عنده، لا في زمن بعينه دون زمن، بل على امتداد الأزمنة، ما استضاؤوا بهَدي الوحي ، وما أيقنوا أنه شيفرة العزّة والمَكنة ... !

لذلك تُذيّل الآية الشريفة بقوله سبحانه : "وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ"
فهي بشرى من الله الذي هو متمٌّ نوره ولو كره الكافرون، ومظهرٌ دينه ولو كره المشركون، بشرى لجماعة المؤمنين القائمين صفّا واحدا مرصوصا بوجه النفاق والازدواجية، جهادا في ساحة الأنفس يؤهّل لجهاد عدوّ الله في سبيل إعلاء كلمة الله ...
لنأتي الآن على الآية الأخيرة من السورة ... ونحن لا نشعر بالانتقال بين الآيات، من سلاسته، ومن اتّساق المعاني، وتناسق مركّبات السياق ....
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)"
إنه النداء الثالث من بعد :
1-نداء أول: تصدّرَ السورة، فيه إنكار الله على المؤمنين أن يخالف فعلُهم قولَهم، ألا يكونوا عند القول مغاوير، وعند الفعل متقهقرين، وأنّ ذلك كبر عند الله مقتا.
2-نداء ثانٍ: جاء فيه تشويق المؤمنين لمعرفة دلالة الله على ما يحبّ من عباده، وما يجعلهم فائزين الفوز العظيم، (إيمان بالله ورسوله + جهاد في سبيله بالمال والنفس)
3-نداء ثالث: فيه الدعوة لنصر دين الله :

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ..."
كونوا مع نبيكم محمد، كما كان الحواريون مع نبيّهم عيسى عليهما الصلاة والسلام ... والأنصار جمع نصير، وهو الناصر الشديد النصر.
كونوا أنصار الله... انصروا دينه، بإعلاء كلمته، بالغيرة على دينه وعلى نبيّه، وعلى مقدّساتكم، بالقيام صفّا واحدا، بنيانا مرصوصا اللبنة تشدّ اللبنة، في وجه العدوّ المترصّد للإسلام في كل زمان ...
وليس النصر بالجهاد في ساحات الوغى وحسب، بل الجهاد كما جاء خلال السورة ألوان :

1-بالجهاد في ساحة النفس أولا... بتأسيس الفرد المؤمن على النهج الرباني... على خُلُق القرآن، بموافقة القول للفعل، ونبذ الازدواجية، بوضوح الحال وهو المطابق للمقال، بالإيمان قولا، وبتجسيد الإيمان فعلا وامتثالا لأمر الله، باتّباع ما يحبّ سبحانه، وبنبذ ما يكره ويمقت. فهي التربية الفردية التي هي أساس المجتمع المنتظم بأمر الوَحْي، ثم الدّولة المسلمة التي تحافظ على هذه الأسس، وتكرّس لاعتماد موادّها وتعميمها، وجعلها قانونا ساريا مُطبّقا بوازع السلطان يكرّس لوازع القرآن .
2-بالجهاد بالمال -كما عرفنا- لنصر الحقّ، وللتكريس لخُلُق القرآن، وللعَيش به حياةً، بَذْل المال للحفاظ على وحدة الصف، من أصغر مكوّن للمجتمع المسلم (الأسرة) تماهيا في روح الأمة الواحدة .
وهذا مما يؤكّد على أهمية هذين النَّوعَيْن من الجهاد، المتاحَين في حال القوة كما في حال الضعف.
فالحواريّون لم يجاهدوا بأنفسهم، بل نصروا الله واستجابوا لنبيّهم بالصبر والثبات على الحقّ، حتى أظهر الله دينَه، وانتشر في الأرض ثم دبّ إليه التغيير حتى جاء الإسلام فنسخه من أصله.

وضرَبَهُم الله مثلا لجماعة المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنّه سبحانه عرّفنا بصدود قوم عيسى عليه السلام عن دعوته(الآية06)، ليتبيّن لنا أنّ أتباع الحقّ وأنصاره دائما قلّة ... ولكنّها القلّة الموصولة بالله...القلّة المستيْقنة من نصر الله ومن إتمامه نوره، وإظهاره دينه، القلّة الثابتة على الحق لا تتزحزح، ولا تتزعزع ...تُنصَر على قلّتها، تُنصَر وتظهر على أعدائها وإن كانوا أهل كثرة... ! " ...كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين" –البقرة: من الآية249-

ولنكمل الآية :
"...فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ"
أجل إنها طائفة هي التي آمنت ...
آمنت ووصفها الله بـ : "آمَنَتْ" من بعد ما عُرف منها فعلٌ يوافق القول ... فقد قالوا بأفواههم : " نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ " فلما رأى الله منهم ثباتا وصبرا يتحرّك على الأرض عملا، وهم الذين لاقوا ما لاقوا من التعذيب والتنكيل، وهم "الطائفة" الأقلّ بكثير من التي كفرت... أيّدهم ...أيّدهم على عدوّهم، نصرهم، بإظهار دينهم، وتقويتهم وإظهار دعوتهم .

وكذلك جعلهم الله أسوة للمؤمنين، لما كان فيهم من صدق وإيمان يؤيّده العمل والثبات على الحقّ ..
قال تعالى" لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) "-آل عمران:186-
وهذا هو الكائن اليوم، أذى بكل الأشكال، وبكل الصور من أهل الكتاب ومن الملاحدة في الأرض لأهل الإسلام، بالطعن في دينهم، وبالتجرئ على مقدّساته، وبالتجرئ على نبيّنا صلى الله عليه وسلم استهزاء، وسبّا وشتما ...
وما يقضّ مضاجعهم، وما يفسد عليهم خُطَطَهم شيء كثبات المسلمين على دينهم، ونصرهم له في أنفسهم، وفي حياتهم، بأن يكونوا مؤمنين حقا، لا أن يكونوا أشباه أحد من الناس، إلا مَن كان من المؤمنين السابقين فهم الأسوة وهم القدوة الذين دلّهم الله على سلوك دربهم، واتخاذهم أسوة ... !

ولنتأمل تناسب نهاية السورة مع بدايتها ...لقد جاء في صدرها الإنكار على المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون، وأنه كبر مقتا عند الله أن يقولوا ما لا يفعلون، وها هي النهايات وفيها من جنس تلك البدايات، إنه قول الحواريّين : "نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ" ثم موافقة فعلهم لقولهم الذي قالوا، بأن نصروا نبيّهم حقا حتى وصفهم الله تعالى بقوله : "فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْهُم"   لأنها الفئة التي حققت قولها فعلا على الأرض ... ولم تكن قائلة بما لم تفعل ... هؤلاء هم الذين وجب اتخاذهم قدوة وأسوة، هؤلاء هم الذين اتضحت رؤيهم، واتضح هدفهم، وارتقوا بأنفسهم عن دركات الازدواجية المقيتة ... فمثلهم "كـــــــونوا أنصارا لله"

" وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"
الصبر والتقوى، الصبر والثبات على الحقّ، ونحن في عصر مسعور بكُرْه الحقّ، وكُرْه دين الحق الذي قوامه العدل، ونصر المظلوم، بينما دأبُ المُبطلين نشر باطلهم، ومحاربة كل ما من شأنه الوقوف بوجه جبروتهم وظلمهم واضطهادهم للمستضعفين، وسلبهم لحقّ الشعوب، ونهبهم لخيراتهم باسم محاربة الإرهاب الذي هو محاربة للحقّ وأهله، محاربة لما من شأنه أن يُحلّ العدل ويُذهب الظلم وأهله ... !
ويكأنّ آخر هذه الآية يقول لنا، إن الله الذي هو متمّ نوره، ومظهر دينه، لا يحبّ من عباده إلا أن يثبتوا على الحقّ، ولا يتزعزعوا عنه، وهو ناصرهم ومُؤيّدهم على عدوّهم، ومظهرهم عليهم...

أنت اثبتْ ... هذا ما عليك، وهذا نجاحك في امتحانك في ظلّ كلّ المغريات، وكل المثبّطات، وكل ما يحيط بك من مظاهر الاستضعاف .... ! وكل ما يحيط بك من مظاهر قوة القويّ المتسلّط المستأسد على  الضعفاء ... ! اثبت على توحيد ربك وعبادته وحده، ولا تتخّذ القويّ المتسلط لك إلها تتولاه من دون الله ... !

اثبُتْ ...فبثباتك أنت "اللّبنة" في صفّ البنيان المرصوص ... فبكَ وبالآخر والآخر ووجهتكم جميعا الله الواحد، وهدفكم جميعا نصر دين الله، يقوى الصفّ، وتتراصّ لبناته، حتى يعلو ... حتى يقوم البنيان ... وحتى تُعلَن الحرب على النفاق، فلا يتقوى المنافقون، بل يندحرون، ويخسؤون، وحتى  يشقى ويعيا عدوّك وهو الذي لا يجد من أين ينفذ ... ! ولا من يساهم في إنفاذه .... !!

اثبُتْ... وأنت كالشمس المضيئة، التي تَسَمَّى بضوئها النهار...قديمٌ ضوؤها جديد... هو الضياء حقا، ولا شيء يضاهيه أو يشبهه ... ! وأنت الذي ليلك كنهارك ليس كبياض محجّتك بياض ... ! تقول ما تفعل، وتفعل ما تقول ...حالك هو مقالك .. وإن وصموك بالإرهاب، وإن وصموك بالعنف، وإن قالوا أنك المتخلّف، أو أنّك صاحب حكايات وأقاصيص الروح والروحانيات في عالم المادة الجافة القاسية المتصلّبة ... ! وإن عيّروك بأنك الذي يتشدّق بالروحانيات، وما من مصنوع  يُسجَّل من صنع يديك، وما من ابن للمادة ملكك براءة اختراعه ... !

اثبتْ....فإنّ الحقّ والعدل لا يقتضي أن أستعبدك لأنك لا تصنع ... وإن الإسلام لا يقضي بهذا .... ولذلك هم يعلنونها عليه حربا لا تهدأ ولا تَني ... !

اثبُتْ ولا تدع للهزيمة النفسيّة سبيلا إليك ... بما يُتخذ من التقدّم التكنولوجيّ، والاختراعات العلمية مقياسا للإنسانية، ولقبول الإنسان ولاحترام الإنسان، فإن الإنسان أولا وقبل كل شيء روح وقِيَم وأخلاق، هذا ميزانُه، وحتى إن لم نلحق بركبهم العلميّ، فإن لدينا الكثير الذي نقدّمه لهم، بل لدينا رأس الأمر كله ... الإسلام لله، وتوحيده وعبادته، وتعبيد الأرض له، وتحقيق الخلافة عليها بإعلاء كلمته... ! وإنها للغاية العُظمى من الوجود ... !
فأيّ معنى لعيش الإنسان عبدا للمادّة، كافرا بالله الواحد الأحد ...

الله متمٌّ نوره ولو كره الكافرون، ومظهر دينه ولو كره المشركون ... وأنت ما عليك إلا الثبات على الحقّ، وألا يهزّك هازّ ... فإن ذلك ما يريده أعداء الدين، الذي يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم، بإطفائه في أنفسكم ....

فكونوا صفّا ... فإنّ الصفّ حصن الأمة المنيع ...
« آخر تحرير: 2021-02-07, 16:37:30 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب