-12-
إن إقامة المؤمن للدنيا على منهاج الله جزء لا يتجزأ من مهام الخلافة في الأرض. فمن جعل غايته إعلاء كلمة الله عليه أن يتجهز لمعارك لا تتوقف مع الباطل وأهله.
فالمعركة بين الحق والباطل ليست معركة في الضمير وفقط، وإنما يتدافع كل منهما ليفرض سلطانه على الأرض ويخضع الناس لمنهاجه وشريعته.
ومن هذا المنطلق ندرك توجيه القرآن للمسلمين على إعداد القوة. ولكن رحمة الله تعالى اقتضت أيضا أن يكون هذا الإعداد بحسب الطاقة والاستطاعة.
فمن سنن الله سبحانه وتعالى أن يعلو الباطل في بهرجته وأن يتفاخر بتفوق عدته وتقدم علومه، فلا يقع في منطق البشر أن فئة من البشر أقل قوة وعدة قد تفكر في تحدي هذا الباطل المغرور، فضلا عن مواجهته وتصور إمكانية الانتصار عليه.
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)إنها معركة بين جند الله وجند الشيطان، وجند الله لا ينتصرون إلا بالله وحده. بل إن مجرد التعلق القلبي بأسباب الدنيا من تخطيط وإعداد وقوة يورث الهزيمة!
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)
والسؤال المحير حقا، كيف للمؤمن أن يقيم الدنيا كوسيلة لإعلاء كلمة الله، لا رغبة في الدنيا ونعيمها وإن كان حلالا؟
بداية، من تعلق قلبه بالدنيا كره الموت واستثقل الجهاد، وسعى إلى تجنب الصدام مع الباطل حرصا على صيانة العمران، وهو بذلك يتخلى عن مكانه في قيادة البشرية، ويترك مقعد الإمامة شاغرا لأهل الباطل.
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ.
لهذا كان لابد من ضبط البوصلة نحو الوجهة الصحيحة أولا. ولعل فترة إعداد العقيدة في قلوب المؤمنين في مكة كان لها أبلغ الأثر في إصلاح القلوب وبناء الفهم الواضح لحقيقة الرسالة ومتطلبات التكليف بها.
ثم تأتي مرحلة بناء الدولة في المدينة وتعقيدات التعامل مع حظوظ النفس ومغريات الدنيا، فيكون النموذج القدوة الذي نرجع إليه في كل زمان ومكان.
فكيف بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء دولة الإسلام في المدينة؟ وكيف يمكن لنا أن نستقي هذا النهج في زماننا؟
المتدبر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى المدينة يلاحظ ثلاثة أمور هامة:
١- الأنصار هم من قدموا إلى رسول الله صلى الله عليه يطلبون التكليف ويعرضون النصرة والتضحية لدين الله.
فالفئة المؤمنة لا تنتظر دعوة من أحد. فالقلوب العامرة بالإيمان لا تطيق القعود عن نصرة الدين. ولا تخاف على ما في يدها من الدنيا.
هم قد باعوا أنفسهم لله. باعوها في كل أحوالها، فلا يشغلهم عن الهدف العظيم شيء من الدنيا، لا وظيفة ولا حياة مستقرة ولا مال ولا وضع اجتماعي ولا حكمة زائفة تحت شعار حسابات المخاطر.
٢- العقد والثمن الذي ارتضاه الأنصار لهذا البذل الغالي هو الجنة.
الجنة وفقط. لا وعد بالحصول على سلطة أو ثمرة دنيوية، ولا وعد بحياة مستقرة ينعمون فيها بالهدوء والراحة.
إن تخليص النفس من حظ الدنيا شرط أساسي للعصبة المؤمنة التي تريد رفع لواء الله وإعلاء كلمته.
فالتجرد للغاية هنا يعني أن قيمة الدنيا في القلب قد انضبطت بميزان الله، فهي أهون على المؤمن من دينه وإيمانه، وهو بالتالي يستخدمها لغايته، لا تأسره هي في حبها.
٣- الشروع في العمل والتنفيذ مباشرة، دون اكتراث بالبداية المتواضعة. فكم من المشاريع تفشل لأن أصحابها يريدون القفز إلى العمل الكبير مرة واحدة.
فهم لم ينتظروا تمام العلم بالدين، ولم ينتظروا وضع تفاصيل التصورات الكبرى للمجتمع والدولة الجديدة في المدينة. بل ولم ينتظروا أن يصل عددهم وعدتهم إلى حجم يسمح لهم بقتال قريش مثلا!
٤- كما ضحى الأنصار باستقرارهم وأموالهم وأوقاتهم، كانت التضحية من المهاجرين كذلك بترك الأهل والديار والأموال، والهجرة إلى المجهول!
إن عقيدة المسلم هي وطنه على الحقيقة، والأرض كلها لله يورثها من يشاء من عباده.
وهذه المخاطرة التي تبدو غير منطقية في أذهان البعض أو غير مدروسة بحكمة هي برهان الإيمان في القلوب.
بل لعل المنطق البشري يقول أن يتمهل المسلمون الأوائل حتى يجدوا طريقة لنقل أموالهم وبيع ممتلكاتهم أولا قبل الهجرة، فهم لاشك يحتاجون إلى هذه الأموال في وطنهم الجديد!
لكن الواقع الذي فرض نفسه وقتها لم يكن ليسمح بحدوث هذا في وقت سريع وفي ظل بطش قريش وفرض سيطرتها على الناس وممتلكاتهم، وبهذا كان القرار بترك الدنيا والخروج إلى أرض غير معلومة لكثير من المهاجرين وقتها.
٥- لم يشك أحد من المهاجرين والأنصار في أوامر رسول الله لهم، ولم ينتظروا اثباتات واقعية أو خطط مفصلة لما سيكون بعد هذه القرارات الكبيرة التي سيكون من الصعب جدا الرجوع عنها. بل سارع الجميع إلى التلبية، ملبين أمر الله ورسوله. فالاختبار هنا في التجرد للعقيدة وإخلاص التوجه لله حقا.
وعلى الرغم من كل هذا اليقين في أمر الله، لم يدخر المسلمون سعة في الإعداد للهجرة بأقصى ما يستطيعون من أسباب. والمتدبر في فعل الصديق رضي الله عنه بتجهيز الراحلتين والمال استعدادا لأمر الهجرة في أي لحظه، وفي تخطيط الرسول صلى الله عليه وسلم لمسار هجرته تجنبا لبطش قريش، يدرك كيف لا يتعارض الأخذ بالأسباب مع التسليم الكامل لأمر الله.
ولعل حادثة سراقة بن مالك ثم وصول المشركين إلى غار ثور لدليل آخر على أن التسليم لأمر الله هو عنوان حياة المؤمن، وأن الأسباب مهما كانت محكمة فلن تغني عنه شيئا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يقدر الأسباب والنتائج. فليس على المؤمن أن يتعسف في الأخذ بالأسباب ويجعلها مبتدأ الأمر ومنتهاه، فهي لن تغني عنه شيئا على كل حال. ولهذا جعل الله الأجر على العمل وبذل أقصى الوسع لا على النتيجة.
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)ومع اليقين في أن الأمر كله بيد الله وحده، نجد المزج الرائع بين الأسباب وصدق التوجه لله سبحانه وتعالى.
فالرسول المعصوم يرسل مجموعة إلى المسلمين إلى الحبشة ليكونوا ذخيرة احتياطية للأمة، وهو في ذات الوقت يتحرك وفق إيمان راسخ بنصر الله وإقامة الدين وتمام أمر أمة الإسلام.
وكان أول فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وصوله إلى المدينة هو إقامة المسجد.
فالمسجد لم يكن مكانا للصلاة وإقامة الشعائر، بل منطلق كل الأمور في حياة المسلمين.
المسجد هو رمز وتذكرة بأن وجود المسلم في هذه الدنيا مرتبط بتحقيق عبوديته لله سبحانه وتعالى في شتى مناحي الحياة.
البدء بالمسجد يرسى قاعدة التصور للكيان البشري ومعارفه وسلوكه. فلا يتصور حياة للمؤمن دون إطار شريعة الله ودينه الذى ارتضى للبشر.
فكان هذا بمثابة إعلان لنموذج حياة جديد غير ما تعارف عليه البشر من تصورات ومفاهيم.
وبهذا أيضا نفهم كيف يمكن أن تتحقق الخطوة الثانية في مجتمع المدينة. إنها المؤاخاة المباركة بين المهاجرين والأنصار.
وليس في تاريخ البشر شيء كهذا. فلا يتصور أن ينخلع المجتمع من كل تعلق بالدنيا حتى لينزل عن جزء من ماله وبيته لرجل لم يعرفه إلا منذ أيام!
بل يصير هذا الرجل الوافد الجديد أخا له حق في الميراث ثم الحكم والإمامة بعد ذلك!
إن الأخوة لم تكن تعني تضحية ظاهرية، بل كانت مشاعر حب في الله حقيقية تجلت في أفعال تسمو بالنفس البشرية فوق كل مادة ورغبة دنيوية.
أخوة اجتماعية كذلك يهتم فيها المسلم لحال أخيه في كل شيء، حتى في عبادته وتعاملاته مع أهل بيته!
حتى إذا ما نزغ الشيطان بينهم وتنادوا بالقبلية في لحظة ضعف بشرية، كانت التذكرة بالإيمان كفيلة بالرجوع والتوبة.
ونعم، سيخطئ المسلمون لا ريب، حتى في تلك اللحظات الأولى لخير الناس على الأرض بعد الأنبياء. هي سنة الله في البشر، وعلينا أن نتقبلها ونحسن التعامل معها، فنسارع بالتوبة وننتبه إلى خطورة شهوات النفس وظنونها إذا ما تركت دون مراقبة وضبط.
والملاحظ هنا أن الصحابة رضوان الله عليهم لم تأخذهم العزة بالإثم، ولم يجادلوا فيمن بدأ فيمن كان السبب، ولو يجد المخطئ في نفسه مشكلة من التوبة والإنابة سريعا. فكم من الدعوات تضعف لأن أصحابها لا يستطيعون أن يروا أنفسهم على خطأ، بل وقد يحتكرون الحق لأنفسهم ظنا أنه لا يمكن أن يأتي إلا من خلالهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولعل هذه الواقعة أظهرت للصحابة الكرام خطورة عدوهم الداخلي الذي قد يفسد عليهم دينهم ودنياهم، كما أظهرت أيضا مداخل أعدائهم وكيف يسعون لشق صفهم وتفرقة اجتماعهم.
فما إن استقرت حقيقة التصور لأمور الحياة من منطلق إسلامي بجعل المسجد أولى الأولويات، كذلك أدرك الصحابة أن الأخوة في الله هي الرابط الأساس الذي عليه يقام المجتمع المسلم.
ومن ثم كان هذا إيذانا بالبدء في بناء الدولة الإسلامية، لتكون نموذجا يحتذي به المسلمون في كل زمان ومكان. ودليلا للتائهين إذا أعياهم البحث عن كيفيات إقامة الدين.