المحرر موضوع: من الماضي والحاضر.  (زيارة 477274 مرات)

0 الأعضاء و 2 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل جواد

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 265
  • الجنس: ذكر
رد: من الماضي والحاضر.
« رد #100 في: 2024-12-25, 11:25:24 »
-9-

{وَقُلۡنَا يَـٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (35) {فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (36)

الجنة دار المؤمن وسكنه ومستقره الذي يعيش على أمل الرجوع له. فالبشر في الدنيا في رحلة اختبار وتكليف، لا مقام واستقرار.
وعلى هذا المعنى نفهم كيف هانت الدنيا على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وكيف كانت قراراتهم فيها سهلة دون تعقيد ولا تأزم.
إن نفسية المؤمن المدركة لحقيقة وجوده المؤقت في هذه الدنيا تهون عليه أقدار الدنيا وكدرها. وهكذا كانت حركة المجتمع الأول سهلة بسيطة في كل أمور الدنيا المادية والاجتماعية.

وكما وجهت الآية تفكير المسلم لتوضيح حقيقة مستقره ومسكنه النهائي، كذلك فإنها وضحت حقيقة معركته في اختبار الدنيا، وحقيقة نفسه الضعيفة أمام مكر الشيطان الذي يصادف أهواء النفس البشرية.

يقول سيد قطب:

والآن. لقد انكشف ميدان المعركة الخالدة. المعركة بين خليقة الشر في إبليس، وخليفة الله في الأرض. المعركة الخالدة في ضمير الإنسان. المعركة التي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الإنسان لشهوته. ويبعد عن ربه.

لقد أبيحت لهما كل ثمار الجنة.. إلا شجرة.. شجرة واحدة، ربما كانت ترمز للمحظور الذي لا بد منه في حياة الأرض. فبغير محظور لا تنبت الإرادة ، ولا يتميز الإنسان المريد من الحيوان المسوق، ولا يمتحن صبر الإنسان على الوفاء بالعهد والتقيد بالشرط. فالإرادة هي مفرق الطريق. والذين يستمتعون بلا إرادة هم من عالم البهيمة، ولو بدوا في شكل الآدميين!.

(فأزلهما الشيطان عنها، فأخرجهما مما كانا فيه)
ويا للتعبير المصور: فأزلهما .. إنه لفظ يرسم صورة الحركة التي يعبر عنها. وإنك لتكاد تلمح الشيطان وهو يزحزحهما عن الجنة، ويدفع بأقدامهما فتزل وتهوى!.
عندئذ تمت التجربة: نسي آدم عهده، وضعف أمام الغواية. وعندئذ حقت كلمة الله، وصرح قضاؤه:

(وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين)
وكان هذا إيذانا بانطلاق المعركة في مجالها المقدر لها. بين الشيطان والإنسان. إلى آخر الزمان. ونهض آدم من عثرته، بما ركب في فطرته، وأدركته رحمة ربه التي تدركه دائما عندما يثوب إليها، ويلوذ بها.

(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم)
وتمت كلمة الله الأخيرة، وعهده الدائم مع آدم وذريته. عهد الاستخلاف في هذه الأرض، وشرط الفلاح فيها أو البوار.

(قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)
وانتقلت المعركة الخالدة إلى ميدانها الأصيل، وانطلقت من عقالها ما تهدأ لحظة وما تفتر. وعرف الإنسان في فجر البشرية كيف ينتصر إذا شاء الانتصار، وكيف ينكسر إذا اختار لنفسه الخسار.

وبعد فلا بد من عودة إلى مطالع القصة. قصة البشرية الأولى.

لقد قال الله تعالى للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة .. وإذن فآدم مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى. ففيم إذن كانت تلك الشجرة المحرمة؟ وفيم إذن كان بلاء آدم ؟ وفيم إذن كان الهبوط إلى الأرض، وهو مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى؟

لعلني ألمح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعدادا. كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه. كانت تدريبا له على تلقي الغواية، وتذوق العاقبة، وتجرع الندامة، ومعرفة العدو، والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين.

إن قصة الشجرة المحرمة، ووسوسة الشيطان باللذة، ونسيان العهد بالمعصية، والصحوة من بعد السكرة، والندم وطلب المغفرة.. إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكرورة!.
لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر خلافته ، مزودا بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلا، استعدادا للمعركة الدائبة وموعظة وتحذيرا..


ولعل من الإشارات الأخرى اللطيفة في موقع القصة بعد آيات الخلق في أول سورة البقرة، أنها تصيغ أولويات المفاهيم والتصورات للمؤمنين على مر الحياة.
ونحن في حاجة كبيرة لهذا الوضوح في الأذهان والقلب في زمان ازدحمت فيه المعرفة وانفتح على البشر من ألوان العلوم وصنوفها ما يغرق العقل ويعقد التصور.
إن كل منطلق للتصور في حياة البشر وفي خلافة الإنسان في هذه الأرض لابد أن ينطلق من تلك الحقائق الواضحة لغاية خلقه وتحديد أعداءه ومناط اختباره في معركة الدنيا.

ومن ثم لا تخرج أفعال المؤمن الاستخلافية في الأرض عن مقصدها، ولا يغيب عن ناظره وقته المحدود فيها. وبالتالي تنضبط أولوياته ويتجلى أمامه خط سيره الذي يرجوا في نهايته أن يصل لمستقره الأصلي في الجنة بإذن الله.

غير متصل جواد

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 265
  • الجنس: ذكر
رد: من الماضي والحاضر.
« رد #101 في: 2024-12-25, 19:56:22 »
-10-

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ۖ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۚ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ۗ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)


لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ۖ هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي ۗ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ ۖ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24)
« آخر تحرير: 2024-12-25, 20:17:23 بواسطة جواد »

غير متصل جواد

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 265
  • الجنس: ذكر
رد: من الماضي والحاضر.
« رد #102 في: 2024-12-26, 15:31:21 »
-11-

{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ} (60)

عن ثوبان عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت"

إنها الدنيا مرة أخرى، من ترك العمل فيها ولم يأخذ بما يستطيعه من أسبابها فقد خالف أمر الله. كذلك فإن الإنغماس في الدنيا لذاتها وحبا فيها يحيد بالمسلمين عن الطريق ويورثهم الذلة والمهانة بين الأمم.

هذه العلاقة المتشابكة مع الدنيا تصف واقع اختبار المؤمن فيها. فهو لا يقعد عنها فيتركها قوة في يد أعداء الله يحاربونه بها، ولا هو يطلبها لذاتها فيقع في فتنتها فتورثه الخذلان والضياع.

إنها حقيقة الخلافة في هذه الأرض. أن يعمرها الإنسان على مراد الله بغية إعلاء كلمة الله وسلطانه على كل سلطان آخر في هذه الدنيا.
فالغاية والوسيلة مترابطتان لا يستقيم أحدهما دون الآخر. فلا يتنزل النصر دون عمل، ولا يتحول وجه الحياة ليكون على مراد الله دون إعداد وتضحية وبذل للدماء.

 عن حذيفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت"

لقد فرق الرسول صلى الله عليه وسلم بين الخلافة والملك حتى تتضح القدوة للناس في مفهوم الخلافة الراشدة، وحتى يتضح منهاج النبوة في إقامة الدنيا، فلا يختلط بظواهر ملك الدنيا.

وبهذا الفهم المنضبط يقبل المؤمن على العمل في الدنيا مستعدا لها، ومدركا لغايته منها، وغير غافل عن فتنتها وخداعها.
إن المؤمن لا يستقي تصوراته عن الدنيا من واقع الناس ولا ما ألفوه فيها. مهما كان هذا الواقع مهيمنا على حياة الناس، ومهما كانت القوة التي تدعم تلك التصورات الجاهلية.
فالإطار الإسلامي للدنيا محكم في الكتاب والسنة، وتحققت القدوة النموذجية له في عهد الخلفاء الراشدين. ومن هذا الإطار الإسلامي الصافي يستقي المسلم تصوراته التي تلائم واقعه في كل زمان ومكان.

والمؤمن يتعامل مع الواقع بحكمة ورفق، فلا تخرجه الغاية عن القصد. ولا يتعجل الثمرة قبل أوانها، فهو مأجور على فعله وعمله، والله وحده بيده النصر والتمكين.
فحياة المؤمن هي معركة الحق والباطل، وهي سنة التدافع في هذه الدنيا حتى نهايتها. وعلى هذا يوجه المؤمن كل سكناته وحركاته في هذه الدنيا.


يقول سيد قطب رحمه الله:

ولكن الإسلام يتخذ للنصر عدته الواقعية التي تدخل في طوق العصبة المسلمة ؛ فهو لا يعلق أبصارها بتلك الآفاق العالية إلا وقد أمن لها الأرض الصلبة التي تطمئن عليها أقدامها ؛ وهيأ لها الأسباب العملية التي تعرفها فطرتها وتؤيدها تجاربها ؛ وإلا إذا أعدها هي للحركة الواقعية التي تحقق هذه الغايات العلوية :

( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ، ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم . وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) .
فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد ؛ والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها ؛ ويخص ( رباط الخيل )لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة . . ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة - تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا - والمهم هو عموم التوجيه :

( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) .
إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في " الأرض " لتحرير " الإنسان " . . وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة : أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها ؛ فلا يصدوا عنها ، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها . .
والأمر الثاني : أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على " دار الإسلام " التي تحميها تلك القوة . .
والأمر الثالث : أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي ، وهو ينطلق لتحرير " الإنسان " كله في " الأرض " كلها . .
والأمر الرابع : أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية ، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها ؛ ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده ؛ ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه . .

إن الإسلام ليس نظاماً لاهوتياً يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب ، وتنظيماً للشعائر ، ثم تنتهي مهمته !
إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة ؛ يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية . فلا مفر للإسلام - لإقرار منهجه الرباني - من تحطيم تلك القوى المادية ، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى ، وتقاوم المنهج الرباني . .


وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة . . ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني . ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد !
إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر ؛ ولا لتقرير سلطان زعيم ، أو دولة ، أو طبقة ، أو جنس ! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان ؛ ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية ؛ ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية . .
إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير ، ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعبيد . .

هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع ؛ وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي ! والجهاد الإسلامي .

ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة . فالنص يقول :

( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) .
فهي حدود الطاقة إلى أقصاها . بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها . كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة :

( ترهبون به عدو الله وعدوكم ، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ).
فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض . الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ؛ ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم ، أو لم يجهروا لهم بالعداوة ، واللّه يعلم سرائرهم وحقائقهم . وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم .
والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء ، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض ؛ ولتكون كلمة اللّه هي العليا ، وليكون الدين كله للّه .

ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالا ، وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل ، فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله :

( وما تنفقوا من شيء - في سبيل الله - يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ).
وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله ، من كل غاية أرضية ، ومن كل دافع شخصي ؛ ومن كل شعور قومي أو طبقي ، ليتمحض خالصا للّه " في سبيل اللّه " لتحقيق كلمة اللّه ، ابتغاء رضوان اللّه .

ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه - منذ الوهلة الاولى - كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول . وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق . وكل حرب تقوم للقهر والإذلال . وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن ، أو قوم على قوم ، أو جنس على جنس ، أو طبقة على طبقة . .
ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة . . حركة الجهاد في سبيل الله . . والله - سبحانه - لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب .
إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته . وهو غني عن العالمين . ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين .

« آخر تحرير: 2024-12-26, 16:03:12 بواسطة جواد »

غير متصل جواد

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 265
  • الجنس: ذكر
رد: من الماضي والحاضر.
« رد #103 في: 2024-12-30, 16:16:46 »
-12-

إن إقامة المؤمن للدنيا على منهاج الله جزء لا يتجزأ من مهام الخلافة في الأرض. فمن جعل غايته إعلاء كلمة الله عليه أن يتجهز لمعارك لا تتوقف مع الباطل وأهله.
فالمعركة بين الحق والباطل ليست معركة في الضمير وفقط، وإنما يتدافع كل منهما ليفرض سلطانه على الأرض ويخضع الناس لمنهاجه وشريعته.
ومن هذا المنطلق ندرك توجيه القرآن للمسلمين على إعداد القوة. ولكن رحمة الله تعالى اقتضت أيضا أن يكون هذا الإعداد بحسب الطاقة والاستطاعة.

فمن سنن الله سبحانه وتعالى أن يعلو الباطل في بهرجته وأن يتفاخر بتفوق عدته وتقدم علومه، فلا يقع في منطق البشر أن فئة من البشر أقل قوة وعدة قد تفكر في تحدي هذا الباطل المغرور، فضلا عن مواجهته وتصور إمكانية الانتصار عليه.

{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

إنها معركة بين جند الله وجند الشيطان، وجند الله لا ينتصرون إلا بالله وحده. بل إن مجرد التعلق القلبي بأسباب الدنيا من تخطيط وإعداد وقوة يورث الهزيمة!

{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

والسؤال المحير حقا، كيف للمؤمن أن يقيم الدنيا كوسيلة لإعلاء كلمة الله، لا رغبة في الدنيا ونعيمها وإن كان حلالا؟

بداية، من تعلق قلبه بالدنيا كره الموت واستثقل الجهاد، وسعى إلى تجنب الصدام مع الباطل حرصا على صيانة العمران، وهو بذلك يتخلى عن مكانه في قيادة البشرية، ويترك مقعد الإمامة شاغرا لأهل الباطل.

عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ.

لهذا كان لابد من ضبط البوصلة نحو الوجهة الصحيحة أولا. ولعل فترة إعداد العقيدة في قلوب المؤمنين في مكة كان لها أبلغ الأثر في إصلاح القلوب وبناء الفهم الواضح لحقيقة الرسالة ومتطلبات التكليف بها.
ثم تأتي مرحلة بناء الدولة في المدينة وتعقيدات التعامل مع حظوظ النفس ومغريات الدنيا، فيكون النموذج القدوة الذي نرجع إليه في كل زمان ومكان.

فكيف بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء دولة الإسلام في المدينة؟ وكيف يمكن لنا أن نستقي هذا النهج في زماننا؟

المتدبر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى المدينة يلاحظ ثلاثة أمور هامة:

١- الأنصار هم من قدموا إلى رسول الله صلى الله عليه يطلبون التكليف ويعرضون النصرة والتضحية لدين الله.
فالفئة المؤمنة لا تنتظر دعوة من أحد. فالقلوب العامرة بالإيمان لا تطيق القعود عن نصرة الدين. ولا تخاف على ما في يدها من الدنيا.
هم قد باعوا أنفسهم لله. باعوها في كل أحوالها، فلا يشغلهم عن الهدف العظيم شيء من الدنيا، لا وظيفة ولا حياة مستقرة ولا مال ولا وضع اجتماعي ولا حكمة زائفة تحت شعار حسابات المخاطر.

٢- العقد والثمن الذي ارتضاه الأنصار لهذا البذل الغالي هو الجنة.
الجنة وفقط. لا وعد بالحصول على سلطة أو ثمرة دنيوية، ولا وعد بحياة مستقرة ينعمون فيها بالهدوء والراحة.
إن تخليص النفس من حظ الدنيا شرط أساسي للعصبة المؤمنة التي تريد رفع لواء الله وإعلاء كلمته.
فالتجرد للغاية هنا يعني أن قيمة الدنيا في القلب قد انضبطت بميزان الله، فهي أهون على المؤمن من دينه وإيمانه، وهو بالتالي يستخدمها لغايته، لا تأسره هي في حبها.

٣- الشروع في العمل والتنفيذ مباشرة، دون اكتراث بالبداية المتواضعة. فكم من المشاريع تفشل لأن أصحابها يريدون القفز إلى العمل الكبير مرة واحدة.
فهم لم ينتظروا تمام العلم بالدين، ولم ينتظروا وضع تفاصيل التصورات الكبرى للمجتمع والدولة الجديدة في المدينة. بل ولم ينتظروا أن يصل عددهم وعدتهم إلى حجم يسمح لهم بقتال قريش مثلا!

٤- كما ضحى الأنصار باستقرارهم وأموالهم وأوقاتهم، كانت التضحية من المهاجرين كذلك بترك الأهل والديار والأموال، والهجرة إلى المجهول!
إن عقيدة المسلم هي وطنه على الحقيقة، والأرض كلها لله يورثها من يشاء من عباده.

وهذه المخاطرة التي تبدو غير منطقية في أذهان البعض أو غير مدروسة بحكمة هي برهان الإيمان في القلوب.
بل لعل المنطق البشري يقول أن يتمهل المسلمون الأوائل حتى يجدوا طريقة لنقل أموالهم وبيع ممتلكاتهم أولا قبل الهجرة، فهم لاشك يحتاجون إلى هذه الأموال في وطنهم الجديد!
لكن الواقع الذي فرض نفسه وقتها لم يكن ليسمح بحدوث هذا في وقت سريع وفي ظل بطش قريش وفرض سيطرتها على الناس وممتلكاتهم، وبهذا كان القرار بترك الدنيا والخروج إلى أرض غير معلومة لكثير من المهاجرين وقتها.

٥- لم يشك أحد من المهاجرين والأنصار في أوامر رسول الله لهم، ولم ينتظروا اثباتات واقعية أو خطط مفصلة لما سيكون بعد هذه القرارات الكبيرة التي سيكون من الصعب جدا الرجوع عنها. بل سارع الجميع إلى التلبية، ملبين أمر الله ورسوله. فالاختبار هنا في التجرد للعقيدة وإخلاص التوجه لله حقا.

وعلى الرغم من كل هذا اليقين في أمر الله، لم يدخر المسلمون سعة في الإعداد للهجرة بأقصى ما يستطيعون من أسباب. والمتدبر في فعل الصديق رضي الله عنه بتجهيز الراحلتين والمال استعدادا لأمر الهجرة في أي لحظه، وفي تخطيط الرسول صلى الله عليه وسلم لمسار هجرته تجنبا لبطش قريش، يدرك كيف لا يتعارض الأخذ بالأسباب مع التسليم الكامل لأمر الله.

ولعل حادثة سراقة بن مالك ثم وصول المشركين إلى غار ثور لدليل آخر على أن التسليم لأمر الله هو عنوان حياة المؤمن، وأن الأسباب مهما كانت محكمة فلن تغني عنه شيئا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يقدر الأسباب والنتائج. فليس على المؤمن أن يتعسف في الأخذ بالأسباب ويجعلها مبتدأ الأمر ومنتهاه، فهي لن تغني عنه شيئا على كل حال. ولهذا جعل الله الأجر على العمل وبذل أقصى الوسع لا على النتيجة.

{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

ومع اليقين في أن الأمر كله بيد الله وحده، نجد المزج الرائع بين الأسباب وصدق التوجه لله سبحانه وتعالى.
فالرسول المعصوم يرسل مجموعة إلى المسلمين إلى الحبشة ليكونوا ذخيرة احتياطية للأمة، وهو في ذات الوقت يتحرك وفق إيمان راسخ بنصر الله وإقامة الدين وتمام أمر أمة الإسلام.

وكان أول فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وصوله إلى المدينة هو إقامة المسجد.
فالمسجد لم يكن مكانا للصلاة وإقامة الشعائر، بل منطلق كل الأمور في حياة المسلمين.
المسجد هو رمز وتذكرة بأن وجود المسلم في هذه الدنيا مرتبط بتحقيق عبوديته لله سبحانه وتعالى في شتى مناحي الحياة.
البدء بالمسجد يرسى قاعدة التصور للكيان البشري ومعارفه وسلوكه. فلا يتصور حياة للمؤمن دون إطار شريعة الله ودينه الذى ارتضى للبشر.
فكان هذا بمثابة إعلان لنموذج حياة جديد غير ما تعارف عليه البشر من تصورات ومفاهيم.

وبهذا أيضا نفهم كيف يمكن أن تتحقق الخطوة الثانية في مجتمع المدينة. إنها المؤاخاة المباركة بين المهاجرين والأنصار.
وليس في تاريخ البشر شيء كهذا. فلا يتصور أن ينخلع المجتمع من كل تعلق بالدنيا حتى لينزل عن جزء من ماله وبيته لرجل لم يعرفه إلا منذ أيام!
بل يصير هذا الرجل الوافد الجديد أخا له حق في الميراث ثم الحكم والإمامة بعد ذلك!

إن الأخوة لم تكن تعني تضحية ظاهرية، بل كانت مشاعر حب في الله حقيقية تجلت في أفعال تسمو بالنفس البشرية فوق كل مادة ورغبة دنيوية.
أخوة اجتماعية كذلك يهتم فيها المسلم لحال أخيه في كل شيء، حتى في عبادته وتعاملاته مع أهل بيته!

حتى إذا ما نزغ الشيطان بينهم وتنادوا بالقبلية في لحظة ضعف بشرية، كانت التذكرة بالإيمان كفيلة بالرجوع والتوبة.
ونعم، سيخطئ المسلمون لا ريب، حتى في تلك اللحظات الأولى لخير الناس على الأرض بعد الأنبياء. هي سنة الله في البشر، وعلينا أن نتقبلها ونحسن التعامل معها، فنسارع بالتوبة وننتبه إلى خطورة شهوات النفس وظنونها إذا ما تركت دون مراقبة وضبط.

والملاحظ هنا أن الصحابة رضوان الله عليهم لم تأخذهم العزة بالإثم، ولم يجادلوا فيمن بدأ فيمن كان السبب، ولو يجد المخطئ في نفسه مشكلة من التوبة والإنابة سريعا. فكم من الدعوات تضعف لأن أصحابها لا يستطيعون أن يروا أنفسهم على خطأ، بل وقد يحتكرون الحق لأنفسهم ظنا أنه لا يمكن أن يأتي إلا من خلالهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولعل هذه الواقعة أظهرت للصحابة الكرام خطورة عدوهم الداخلي الذي قد يفسد عليهم دينهم ودنياهم، كما أظهرت أيضا مداخل أعدائهم وكيف يسعون لشق صفهم وتفرقة اجتماعهم.

فما إن استقرت حقيقة التصور لأمور الحياة من منطلق إسلامي بجعل المسجد أولى الأولويات، كذلك أدرك الصحابة أن الأخوة في الله هي الرابط الأساس الذي عليه يقام المجتمع المسلم.
ومن ثم كان هذا إيذانا بالبدء في بناء الدولة الإسلامية، لتكون نموذجا يحتذي به المسلمون في كل زمان ومكان. ودليلا للتائهين إذا أعياهم البحث عن كيفيات إقامة الدين.
« آخر تحرير: 2024-12-30, 16:29:22 بواسطة جواد »

غير متصل جواد

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 265
  • الجنس: ذكر
رد: من الماضي والحاضر.
« رد #104 في: 2025-01-22, 08:52:54 »
-13-

إن كانت غاية المؤمن في حياته هي الجنة، فإن الرسول وصحابته الكرام قدوته للوصول إليها. وقد كانت حياة الصحابة جهادا عمليا لا ينقطع، فلا يستقيم للمؤمن أن يكون ممن يخالف فعله قوله. وهي نقطة فارقة في زماننا هذا.

لقد ابتلينا في العقود الأخيرة بكثرة الكلام وقلة العمل، ولعل هذا نتاج النظام التعليمي الذي يعتمد بالأساس على الأقوال والنظريات بأكثر من الأفعال الحقيقية.
فنجد مثلا أساتذة في الاقتصاد لا يجرؤون على ممارسة أي عملية اقتصادية على أرض الواقع! على الرغم من مراكزهم العلمية ومخرجاتهم البحثية التي يتباهون بها في كل مجلس.
وحتى لا يؤخذ الكلام في غير سياقه، فما كان ذلك ليكون مشكلة كبيرة في ذاته إذا توفر أمران مهمان:

١- أن تختبر تلك النظريات والأطروحات عمليا بمشاركة فعلية وواقعية ممن قاموا عليها.
٢- أن يكون تطبيق مباشر لمثل هذه النظريات في أرض الواقع، وإعادة تقييم مستمرة بعد تفاعل النظرية مع واقع الناس.

وواقعنا كمسلمين يدل على أننا أبعد ما يكون عن ذلك. فالغالبية اكتفت بالشق التنظيري والأكاديمي وهي تعلم بمدى احتياج الواقع للشق العملي. وأن النظرية نفسها لا تستقيم بدون اختبار عملي.
والحجة هنا أنهم غير مسؤولين عن فعل كل شيء! وأنهم أدوا ما عليهم من دور. وهذا برأيي فهم مغلوط للدين.

فالمؤمن لا يتعامل مع قضايا أمته من منظور رغبته الشخصية ومنطقة راحته! فكأنما هو موظف لا يهتم إلا بالعمل الموكل إليه بناءا على ما تعلمه في حياته.
بل نجده فيما تفتقد الأمة من أمور. فتجرده لله أعلى مما تهواه نفسه وتحب.

عن زيد بن ثابت قال: أَمَرَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَعَلّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ وَقالَ إِنّي وَالله مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي، قالَ فَمَا مَرّ بي نِصْفُ شَهْرٍ حَتّى تَعَلّمْتُهُ لَهُ.

لكن النفس قد تزين إلينا أعمالا تحبها وتجد متعتها العقلية فيها، فنبحر فيها ونزداد منها تحت شعار أنه عمل عظيم للأمة -وقد يكون كذلك فعلا بضوابط معينة- إلا أن يتحول إلى غاية في ذاته دون اعتبار لما يحتاجه واقع أمتنا.

{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ} (2) {كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ} (3) {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ} (4)

قال علي بن طلحة عن ابن عباس قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به،
فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به. فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره.


والجهاد ليس بالضرورة أن يكون بالسيف. فالجهاد يحتاج إلى إعداد في كل نواحي الحياة يسبق مرحلة الصدام بالسيف. وقد قدم الجهاد بالمال على النفس في كثير من المواضع في القرآن.

والجهاد بالمال كذلك ليس بالضرورة أن يكون إنفاقا للمال، وإنما أولا إنفاق الوقت والجهد في سبيل الله، وهو ما قد يؤثر على كسب المال ويضع المؤمن في اختبار ضيق العيش.

والمتابع لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة وقت الهجرة وبداية دولة المسلمين في المدينة، يجد هذا المعنى متجسدا في كل موقف.
فالمؤمنون في حاجة، وأبعد ما يكونون عن استقرار العيش أو رفاهية الحياة، وهم على الرغم من هذا يبذلون جل أوقاتهم وأعمالهم عملا لدين الله!
فالمؤمن يدرك أن متطلبات الحياة لا تنتهي، وأن عليه أن يضع حدا للانشغال بالدنيا وتحصيلها حتى لا تضيع حياته في اللهث ورائها.

وبالتالي فهو يتخلص من الحمل الزائد للدنيا طالما يقعده عن العمل لدين الله. فإن كان في بلد مرهقة في تكاليف المعيشة انتقل إلى بلد آخر، وإن كان التعليم في الجامعات العالمية يثقله انتقى البدائل التي تغنيه عن ذلك.
أما الرغبة في مجاراة حياة عموم الناس ثم الشكوى بأن تكاليف الحياة لا تدع مجالا للمخاطرة بالوظيفة المرموقة التي تقتل الوقت وتشتت الجهد، فهي خدعة أخرى من الشيطان ليبرر لنا القعود عن العمل.

وعلى المؤمن أن يتحلى بالقناعة فلا يشقي نفسه بالرغبة في تحصيل كل شيء! وهذا يتطلب جرأة في العزيمة وإيمانا قويا يحسم مخاوف النفس وميولها لما في دنيا الناس.

والمؤمن كذلك يدرك أنه هو المسؤول عن هذه الدنيا، وأن عليه أن يسخر مهاراته وإمكاناته التى أكرمه الله بها في العمل لله، سواء كان هذا العمل ما يحبه ويهواه أو غير ذلك.
فالعبرة هنا بما تحتاجه الأمة، لا برغباتنا الشخصية.

فلا يستقيم أبدا أن يظل المسلمون يتحدثون عن تصورات المجتمع الإسلامي والنظم الإسلامية، ثم هم لا يتحركون على الواقع لتحقيق هذه التصورات بخطوات فاعلة، وليس مجرد دروس وعظات !
فإذا كان هم الجميع هو نشر الوعي، فمن سينفذ ويطبق؟

وقد يكون مبرر القعود هنا الضعف وقلة الموارد، فنحن ماهرون جدا في رسم صور ضخمة لا نتصور تنزيلها على الواقع مع كل التحديات التي نراها حولنا.
فكيف نتحاشى الإنزلاق في فخ التنظير الذي لا يتبعه عمل؟


وهنا عدة نقاط هامة يجب الانتباه لها.

١- مثالية التصور قد تورث احباطا وتقعد الإنسان عن العمل حين يرى ضخامة الفجوة بين واقعنا وبين الصورة المرجوة.

٢- من يتنظر أن يخبره أحد بما يتوجب عليه فعله يحتاج أن يراجع نفسه، فالقلب المشغول بالإسلام لا يطيق العيش دون العمل له.

٣- المبالغة في التجهيز والإعداد تقتل العزيمة. فيجب الانتباه من فخ الإعداد الذي لا يواكبه عمل، وقد يتحول طول الإعداد إلى مخدر يضيع الجهود بدلا من الاستفادة منها.

٤- من لا يريد إلا عملا يحبه ويوافق ميوله قد يفسد العمل ويضيعه. وعليه أن يراجع نيته ويربي نفسه على التجرد للغاية لا الركون إلى ما تحب.

٥- الموارد كلمة خادعة، ومدخل كبير للتقاعس عن العمل في ظل دنيا تحاصرنا من كل حدب وصوب. فما يمكن عمله بمواردنا اليوم أكبر بكثير مما نتصور.

٦- التحزب لفكرة أو جماعة أو شخص يمنع عن المؤمن الكثير من الخير، وسلامة الصدر تجاه المسلمين من أساسيات الإيمان.

٧- النفس هي العدو الأول، والدنيا هي سلاحها الأمضى، وهما التحدي الأكبر للمؤمن في حياته.

٨- التكاتف مع المؤمنين العاملين ومحاولة تنسيق الجهود معهم يتطلب جهادا للنفس، وهو مدعاة للبركة بإذن الله.

٩- الاعتناء بالأولويات والأعمال التأسيسية للأمة من جانب تطبيقي سريع مقدم على ما سواها من الأعمال التي قد تأتي بعد ذلك.

١٠- الفهم الصحيح لمعركتنا في الحياة ووضع الغاية والتصور الإسلامي نصب الأعين يصحح المسارات ويضبط الأعمال على مراد الله بإذن الله.

-- يتبع إن شاء الله.
« آخر تحرير: 2025-02-07, 22:36:06 بواسطة جواد »