البوصلة
تفاجئنا الأحداث غالبا بما لم نحسب حسابه، ومهما اجتهدنا في التخطيط المسبق فإن ذلك لا يدفع مفاجآت القدر.
والتعامل مع الحياة على طريقة رد الفعل فقط لا يبني مستقبلا ولا يقيم أمة لها غايات عظام.
ولهذا يحتاج المسلم إلى بناء بوصلته التي لا تنفصل عنه في كل حال، فلا ينحرف بإذن الله عن المسار الذي يريده الله منه.
لمست هذا المعنى لأول مرة في جمعة الغضب في مصر ٢٨ يناير ٢٠١١.
حشد ضخم من مختلف أطياف الشعب، أصحاب الدين منهم والعلمانيين ومن ليس لهم هم إلا قوت يومهم، وغيرهم من مختلف التوجهات والأفكار.
الهدف يبدو واحدا، والوسيلة تطلب منهم غض الطرف عن اختلافاتهم، فلا تعليق على تصرفات مخالفة للشرع ولا اهتمام إلا بالحشد واسقاط النظام الظالم.
وهنا نقطة فاصلة.
هل يتصور أن يكون الجيش المسلم مثلا بلا أخطاء شرعية، أو أن يكونوا كلهم على درجة إيمان عالية ؟
لا أعتقد ذلك، ولا أظنه كان حاصلا حتى في كل جيوش المسلمين الأولى، وهذه رحمة من الله بنا، وتقدير عملي لضعف الإنسان وتقلب أحواله.
لكن الغير مقبول في جيش المسلمين أن يكون رافضا لتحكيم شرع الله فيه، أو أن تكون نيته من الخروج هي الدنيا ورفاهيتها على حساب الدين وشرع الله.
وبالطبع يقفز السؤال التالي، هل إذن نترك الناس تواجه الظلم والطغيان والتجبر وحدهم؟ أليس من أهداف الشريعة دفع الظلم عن عموم الناس بلا استثناء؟
هذه الأسئلة غالبا ما ينشأ منها تصادم كبير حتى بين أصحاب الفكر الواحد، لأننا نريد الإجابة السريعة التي نشعر معها بالأمان ولا تتطلب منا تغييرا في الفكر أو الرؤية.
ولعل الانطباعات المسبقة هنا أيضا لها دورها، فما إن يتحدث أحد عن الحاكمية المتفردة لله سبحانه وتعالى، إلا ويتم الربط بينه وبين من حاولوا من قبل سلوك طريق خاطئ بفهم معوج يبرر لهم قتل الناس واستباحة دمائهم، وهذه الفزاعة تخرج عن حجمها الحقيقي فتدمر النقاشات والعلاقات، وهو قصور كبير في الفهم.
ولنرجع إلى سؤالنا السابق،
من أهداف الشريعة دفع الظلم عن عموم الناس نعم، ومن أهداف الشريعة تربية النفس المؤمنة على العزة ومحاربة الظالمين والوقوف في وجههم، ولكن من أهداف الشريعة أيضا درء الفتنة ودفع أكبر الضررين.
ومن هنا تأتي أهمية النظر في توابع الأفعال والتوقف عن التعامل مع الاحداث بمفهوم رد الفعل فقط! فتنقلب الأمور إلى فوضى قد تكون أسوأ مما كان عليه الحال سابقا.
وهذا للأسف ما كانت بوادره تظهر في يوم جمعة الغضب.
كان واضحا أن كل مجموعة بل وربما كل فرد قد خرج لتحقيق ثورته الشخصية، فلربما التقت بعض اهدافه مع غيره وربما لم تلتق.
ولا بأس في هذه الحالة في دعم أهداف لا تتعارض مع الشريعة في شيء، فتحقيق كرامة العيش وحرية النفس والعدالة الاجتماعية كلها من الأمور المحمودة التي يحث عليها الإسلام.
لكن لا يجب بأي حال أن نظن أن هذا يعني أن الناس تطلبها من منظور إسلامي!
بل إن الحال وقتها كان واضحا جدا أن طلبها كان من خلال الدنيا فقط ورفض أن تكون مرتبطة بالشريعة والإسلام.
ظهر هذا صراحة من زعامات شباب الثوار العلمانيين ومن حال عموم الناس سواء المشاركين في الثورة بأنفسهم أو راضين عنها ولكن لم يشاركوا فيها.
وللأسف كان وهج الحماسة والإندفاع كرد فعل أكبر بكثير من صوت العقل والحكمة. أو فلنقل أنه لم تكن هناك تربية كافية وإعداد سابق لكثير ممن تزعموا المشهد من الإسلاميين.
وهو شيء لم أدرك فداحته إلا متأخرا جدا، وهو ما دفعني في بداية هذا الموضوع للحديث عن الأهداف والغايات وكيف من المفترض أن يعيش المسلم حياته كلها تحقيقا لغايته،
وأن يسعى لتغيير الواقع لا التأقلم معه أو الرضى به تحت ضغط تحقيق الأمان والاستقرار الشخصي لنفسه وعائلته كما يفرضه المجتمع عليه.
ولهذا حين جاءت الفرصة للتغيير لم يجد هؤلاء ما يقدمونه لمجتمعهم فيجنبونهم به ويلات الانتقام والظلم.
ولعل هذا يجيب على السؤال المحير، لماذا لا يستطيع المسلمون اقتناص أحداث التحولات الكبيرة والانتفاع بها مثلما ينتفع بها غيرهم؟ لماذا يكون المسلمون أكبر المتضررين في كل مرة؟
هم لم يعملوا لها من قبل! والفرصة لا تسلم نفسها لمن لم يستعد لها.