وتتتابع بعض التفاصيل التي كانت في غزوة بدر لمزيد تذكير بنعمة الله تعالى :
1-ب) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ(124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ(125) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ(127)نلاحظ الأفعال بصيغة المضارع لا الماضي لاستحضار تلك الأحداث فتتمثل بقوة ..
**إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ(124)
استفهام تقريري من الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ثلاثة آلاف من الملائكة منزَلين من عند الله تعالى يمد بهم عباده المؤمنين ... أليسوا بكافين ؟! وليس الجواب عن هذا إلا : بلى ..
**بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ(125)والتقوى ملازمة المؤمن مقترنة بالصبر كما عرفنا في قوله سبحانه : "
وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ..." –من:120-
وكما أسلفت، ليس صبر القعود بلا عمل، بل صبر بعمل، صبر مع تقوى تجمع بين إيمان وعمل ...
إن توفرّ في أنفسكم صبر وتقوى وأتاكم العدوّ من فورهم مسارعين لقتالكم يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوَّمين أي معلَّمين ... وأضع من قول محمد رشيد رضا في معنى "مسوَّمين" : "
وَقَدْ وَرَدَ سَوَّمَهُ الْأَمْرَ بِمَعْنَى كَلَّفَهُ إِيَّاهُ، وَسَوَّمَ فُلَانًا: خَلَّاهُ، وَسَوَّمَهُ فِي مَالِهِ: حَكَّمَهُ وَصَرَّفَهُ، وَسَوَّمَ الْخَيْلَ: أَرْسَلَهَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي ظَاهِرَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الْوَاوِ مِنْ (مُسَوَّمِينَ) فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ يَكُونُونَ مُكَلَّفِينَ مِنَ اللهِ تَثْبِيتَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مُحَكَّمِينَ وَمُصَرَّفِينَ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ فِي النُّفُوسِ مِنْ إِلْهَامِ النَّصْرِ بِتَثْبِيتِ الْقُلُوبِ وَالرَّبْطِ عَلَيْهَا أَوْ مُرْسَلِينَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى . وَأَمَّا قِرَاءَةُ كَسْرِ الْوَاوِ (مُسَوِّمِينَ) فَهِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ سَوَّمَ عَلَى الْقَوْمِ إِذَا أَغَارَ فَفَتَكَ بِهِمْ وَلَوْ بِالْإِعَانَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ. " -تفسير المنار-
قد يسأل سائل عن وجه الجمع بين عدد الملائكة الوارد هنا والوارد في سورة الأنفال، وذلك في قوله تعالى : "
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ(9)"-الأنفال - فالجواب أن التنصيص على الألْف هنا لا ينافي ثلاثة آلاف فما فوقها لقوله: " مُرْدِفِينَ " بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم غيرهم.
كما أنني أرى أن اقتران الصبر بالتقوى هنا يعني أيضا الصبر والطاعة، تلك طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من طاعة الله تعالى فهي التقوى، طاعة ما أمرهم به، ما أمر به الرماة ألا يتزحزحوا عن مكانهم وإن رأوا بأعينهم النصر، وانهزام الكافرين، والصبر هو الصبر على الطاعة،
الثبات عليها، بمعنى أن يتمّوا طاعة أمره، وهو ما لم يتحقق، إذ قد أطاعوا بداية، ولكنهم حينما رأوا الغنائم لم يكن عندهم من الصبر على طاعته صلى الله عليه وسلم ما يثبتون به لآخر لحظة، فيأتونها تامة تامة ... بل نزل منهم مَن نزل عن مكانه فانكشف المسلمون للمشركين وصارت الدائرة عليهم ...
**وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ(127)وما جعل الله تعالى هذا الوعد الذي وعد به عباده المؤمنين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بشرى وطمأنة لقلوبهم، بشرى بالنصر، ولتحلّ السكينة على القلوب المضطربة من عدد المشركين وعدّتهم ...
وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِوليس النصر من عددكم ولا من عدّتكم، ولا من الملائكة التي يمدّكم بها، بل هو من عنده سبحانه العزيز الذي لا يُغلَب والحكيم الذي يعلم كيف ينصر ومتى ينصر ومن ينصر .
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَوالطرف يُراد به أشراف قريش الذين أهلكوا في بدر، والكبت أصلها من إصابة الكبد بالغيظ الشديد، يقال فلان كبِد أي أصيب في كبده، فهم بين حالَين قتل لعدد منهم، وعودة السالمين منهم مكبوتين، مخزيين خائبين .
وهكذا ونحن بصدد هذا التذكير للمؤمنين بنعمة الله عليهم بالنصر في بدر:
أ-) وقد كان مناسبا كل المناسبة لما اعترى تَيْنك الطائِفَتيْن من الضعف الذي كاد يودي بهما إلى التولّي بفعل سعي المنافقين بينهم بالتثبيط.
ب-) نصر حالفهم رغم قلة عددهم وعدّتهم وكثرة عدوهم عددا وعدّة. مع إمداد الله لهم بالملائكة يومها بشرى بالنصر وطمأنة لقلوبهم.
إلا أنّ التأكيد قائم على أن النصر على الحقيقة من عند الله تعالى : "وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ"
وكما أنّ النصر من عند الله تعالى إن شاء أنفذه وإن شاء حبسه، وإن كانوا مؤمنين، سبحانه يعلم متى يكون وكيف يكون لأهله الذين يوفّرون شروط الإيمان والعمل مع التوكل على الله لا الإيمان مجرّدا، كذلك أمر المشركين، هو لله تعالى لا لأحد وإن كان النبيّ ذاته :
لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(128)ها هي الآية تأتي في ترابط تام مع ما قبلها، كما أن النصر من عنده سبحانه لا يكفي إيمان وحده ليُسَلَّم بحصوله، فإن أمر المشركين لله وحده، يُنصَر عليهم المؤمنون ليُقطع منهم طرف وليعود مَن يعود منهم مكبوتا مخذولا مخزيّا ... وعودة السالمين منهم كذلك لا تعني نهاية أمرهم على ذلك بل :
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَأسلم كثير منهم بعد بدر وأحد، من مثل خالد بن الوليد الذي كان القائد الذي التفّ على المسلمين في أحد ليقلب الكفة من صالح المسلمين إلى صالحهم، وأبي سفيان، وصفوان بن أمية وغيرهم ..
فسبحانه عليم بمَن سينقلب حاله، فيتوب عليه، ومن سيبقى على حاله فيكون مستحقا للعذاب في الدنيا بدوام خزيهم وفي الآخرة بخلودهم في النار، وليس تعذيبه سبحانه لهم إلا لأنهم ظالمون، والشرك ظلم عظيم ..
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَوإنه مما جاء في الصحاح عن أنس بن مالك رضي الله عنه : "
أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُسِرَتْ رَباعيتُه يومَ أُحُدٍ . وشُجَّ في رأسِه . فجعل يسلُتُ الدمَ عنه ويقول ( كيف يُفلحُ قومٌ شجُّوا نبيَّهم وشجُّوا رَباعيتَه ، وهو يدعوهم إلى اللهِ ؟ ) فأنزل اللهُ تعالى : لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ [ 3 / آل عمران / 128 ] ."-صحيح مسلم-
حتى الرسول ذاتُه ليس له أن يقرّر في شأن الناس...وليس له في أمر الهداية إذا شاء الله أن يجعلها لأحدهم وإن كان من ألدّ أعداء الإسلام يوما، تماما كما عرفنا أن النصر للمؤمنين من أمر الله، وهو ذا صلى الله عليه وسلم فيهم لم ينتصروا حينما تخلّفوا عن رُكن ركين من أركان النصر، تخلفوا عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم...
وسواء كان هذا سبب نزول الآية، أو لم يكن فإن معناها متسق تمام الاتساق مع ما بيّنه الله سبحانه في هذه المقدمة، من أنّ كل الأمر إليه وحده، سواء في ذلك أمر المؤمنين أو أمر المشركين، فليس عنوان الإيمان كافيا لحيازة النصر، كما أن مظهر الكفر ليس كافيا للحكم على صاحبه الذي لا يعلم مآله في الدنيا وانقلاب حاله من عدمه إلا الله سبحانه ... فالعناوين لا تؤدّي إلى الحكم الفصل ...بل إن الأحوال تتبدّل ...
فأمة محققة لشروط القوة في داخلها كما عرفنا، وعلى رأسها طاعة الله وطاعة رسوله مؤهّلة للنصر وهي مع تحقيقها لتلك الشروط العملية يسوقها التوكل على الله تعالى، أما أمة تقاعس أفرادها عن دورهم، وتملّكتهم الهزيمة النفسية فتخلّوا عن مقوّمات ثباتهم وعن دعائم هويّتهم، حتى وجدت سموم الشُبُهات سبيلا إلى عقولهم، واستحوذت الشهوات على قلوبهم، فانبهروا بالغرب أيّما انبهار، وتمسّحوا بمسوحه يرونه الأعلى ويرونه الذي لا يقاوَم، ونخر سُوسُ المنافقين بالأمة حتى لم يعد لها من صُلب قائم...أمة هذه حالها أنّى لها أن تُنصَر ؟!
يقول الزمخشري في الآية: "
المعنى أن الله مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم" –الكشاف للزمخشري-
ثم يُتمّم هذا المعنى الذي فيه بيان يد الله تعالى في تدبير الأمر، أمر المؤمنين والمشركين سواء بسواء... سبحانه يدبّر أمره كما يشاء، بإحاطة علمه وتمام حكمته وكمال عدله، بينما يخفى عن العباد ما يعلمه الله، وينقص العبادَ ما هو تامّ في حكمة الله، وإن كان نبيّ الله المصطفى...
وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(129)
لا ينازعه في ملكه منازِع، وليس له في تدبير الأمر شريك، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو سبحانه الغفور الرحيم . والمغفرة مقدَّمة على العذاب من أصل رحمته التي كتبها على نفسه سبحانه ... وإلا من أين يكون لكبراء المشركين الذي لم يألوا جهدا في قتال المسلمين وإرادة الشر بهم أن ينقلبوا فيصيروا من جند الإسلام الخُلّص ؟!