المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي(آل عمران)  (زيارة 8084 مرات)

0 الأعضاء و 2 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
غزوة أحد ...

تلك التي كانت في العام الثالث للهجرة، أحاول أن أسرد شيئا مما كان قبلها، والذي كان سببا لها ...

أصيبت قريش يوم بدر في مقتل، و هي التي لم تكن تحسب لجيش محمد حسابا يُذكر، بل قد جزمت بالنصر، وأقامت الأفراح والليالي المِلاح هناك في الموقعة من قبل اندلاع الحرب بين الفريقَين، فكانت الهزيمة عليها صدمة لا توصف بوصف ولا يعادل ألمَها ألمٌ...ومنذ عودتها مهزومة والغيظ يأكل قلوب رجالها، والثأر لا يكاد يترك في أنفسهم مكانا لغيره، وهم الذين قُتِل في بدر أكابرهم وصناديدهم، حتى إنهم كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم، ومنعوا من الاستعجال في فداء الأسارى حتى لا يتفطن المسلمون إلى مدى مأساتهم وحزنهم‏...

ولقد غدت قريش في أزمة اقتصادية كبيرة، حيث قُطعت طرق تجارتها مع الشام، وألمّت بها أزمة سياسية ضخمة حيث أُهينت كرامتها وضاعت هيبتها في الجزيرة العربية بعد الهزيمة المرّة التي مُنيت بها، وخاصةً أنهم كانوا أضعاف الجيش الإسلامي، إضافةً إلى وجود أزمة اجتماعية بقتل سبعين من أشرافها.

وكان أكثرهم دعوة للثأر والانتقام عبد الله بن أبي ربيعة، وعِكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أميّة، فكلموا أبا سفيان بشأن العير التي كان قد نجا بها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه، ليحبسوها لتمويل حملة عسكرية على المسلمين، فقالوا: إن محمدا قد وترَكُم(الموتور الذي قُتل له قتيل ولم يُدرك دمه)، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا، ونحن طيّبو أنفس أن تجهّزوا بربح هذه العير جيشا إلى محمد، فقال أبو سفيان: وأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي، فباعوها فصارت ذهبا، فسلّم أبو سفيان إلى أهل العير رؤوس أموالهم وأخرجوا أرباحهم، فكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار.

وفيهم نزل قول الله تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36)" -الأنفال-
وكان أبو سفيان أشد تأليباً على المسلمين بعدما رجع من غزوة السَّوِيق خائباً لم ينل ما في نفسه، بل أضاع فيها مقدارًا كبيراً من تمويناته . زاد النار إذكاء ما أصاب قريشاً أخيراً في سرية زيد بن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها، حينئذ زادت سرعة قريش في استعدادها للخوض في معركة تفصل بينهم وبين المسلمين‏.‏

لما سارت قريش، كتب العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بخبرهم كلّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقبل جيش قريش وقوامه ألف مقاتل، وسرّحوا إبِلَهُم وخيولهم في زروع كانت للمسلمين . وكانوا قد أخرجوا معهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال، وعدم فرارهم، فكُنّ خمس عشرة امرأة، أبرزهنّ هند بنت عتبة مع أبي سفيان، وكانت معهنّ الدفوف والخمور، فَكُنّ يبكين قتلى بدر، ويحرّضن الرجال على القتال وعدم الهزيمة والفرار، وقد كان قائد الناس أبا سفيان بن حرب، وقائد الفرسان خالد بن الوليد، وحامل اللواء من بني عبد الدار.

فأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستعداد لهم، وكان يرى أن يقاتلوهم داخل المدينة، ورأى بعض الصحابة ذلك معه، بينما رأى غيرهم أن يُجالدوهم خارجها إقداما منهم على الشهادة ومناجزة المشركين، فيما رأى عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عن اتباع لرأيه بل ليسهل عليه الفرار في داخل المدينة المنورة. فأمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي الذين أحبوا قتالهم خارج المدينة عملا بالشورى وأخذا برأي الأغلبية، واستعدّ ولبس لأمةَ الحرب، فلما خرج على أصحابه، ندموا ورأوا أنهم استكرهوه على رأيهم، فأحبوا الرجوع عنه إلى رأيه، ولكنه صلى الله عليه وسلم حسم أمره، وقال: "ليس لنبيٍّ إذا لبِس لَأْمَتَه أن يضَعَها حتى يُقاتِلَ".

فخرج في جيش قوامه ألف مقاتل مقابل ثلاثة آلاف من المشركين، إلى منطقة حيث جبل أُحُد ..
وصفّ جيشه، ونظمه، وكلّف الرجال، وجعل على جبل الرماة مقابل جبل أحد عددا منهم بقيادة عبد الله بن جُبير، وقال: "إِن رَأيتُمونا تَخطَفُنا الطَّيرُ فَلا تَبرَحوا مَكانَكُم هَذا حتَّى أُرسِلَ إليكُم، وإنْ رَأيتُمونا هَزَمنا القَومَ وأَوطَأناهُم، فَلا تَبرَحوا حتَّى أُرسِلَ إِليكُم. " –صحيح البخاري-
وكان هذا أمره الذي لم يُتمّ الرماة طاعته، بل لما رأوا الغنيمة نزل جلّهم من على الجبل لجمعها، فانكشف الجيش، ووجد خالد بن الوليد ثغرة استغلّها أكبر استغلال بالتفافه على المسلمين، لينقلب نصرهم هزيمة ...

ونكتفي بهذا الحد، حتى نعيش قصة الغزوة ونستكشف تفاصيلها مع آي القطاع  ...

إننا كنا مع القطاع السابق في أحوال الأمة المسلمة وما يجب أن تكون عليه لتحقق القوة اللازمة التي تؤهلها لأن تكون حاملة رسالة الإصلاح في الأرض، والرائدة إلى الخير باعتصامها بحبل الله وعدم تفرّقها، وبطاعتها لله ولرسوله وتولّيها عن طاعة أهل الكتاب وهم يحقون الباطل ويبطلون الحق، وبأن تتخلّص من الهزيمة النفسية التي تُملي عليها أنّ أهل القوّة المادية وإن كانوا خواء من الحق هم أهل الكلمة والصّولة والجولة في الأرض،  فتُؤَهّل بذلك لأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

وكنا قد عرفنا قبلها مع بدايات السورة الإشارة إلى أنها الأمة التي أناط الله بها هذه المهمة من بعد فشل أهل الكتاب في الاستخلاف وقد بدّلوا وحرّفوا وحاجّوا في الحق بأباطيلهم ... وكانت تلك الإشارة في قوله تعالى : " قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ(27)"

ولقد كانت نهايات القطاع السابق حول بيان خطورة الفئة المنافقة التي تُظهر خلاف ما تُبطن للمسلمين، مع بيان سيماهم وصفاتهم، والأمر بألا يتخذهم المؤمنون بطانة .

كل هذا كان لضمان قوة الجبهة الداخلية للأمة المسلمة ...

وهذا وجه العلاقة بين ما كان من بيان حول شروط تحقّق القوة في الأمة، وبين قصة الغزوة ...
أوليست الغزوة حربا ضدّ العدوّ ؟  أوليست مواجهة لجبهات خارجية تريد بالأمة شرا وخضدا لشوكتها واستئصالا لشأفتها، وإذهابا لريحها، وإعداما لدعوة الحق والخير التي وُكِلت بها ؟ لدعوة التوحيد وإعلاء كلمة الله في الأرض ...

إذن فإننا نمضي مع الآيات مقاما فمقام، وخطوة فخطوة ... لنجدنا ننتقل من القضية الداخلية والإعداد الداخلي، والتقوية والتحصين الداخِلِيّين إلى القضية الخارجية، والتي لا تجد الأمة مناصا من مجابهتها حفاظا على الدين، وعلى دعوته وخيريّته، وحتى يبلغ خيرُه الأرض، ولا تُحرم منه ...

وعلى هذا المخطط حاولت تفصيل ذلك التقدم :

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ولقد تفلسف دعاة إدامة السلام وتأففوا وتقززوا، فما رأينا في تاريخ بعيد ولا قريب غيابا للحروب، بل لقد أبيدت خضراء أقوام واكتُسِحت أمصار، وقامت حروب بالصيغة العالمية تقتّل الناس ألوفا ألوفا وتأتي على الأخضر واليابس لا تفرّق بين صغير وكبير،  ولا بين جنديّ مقاتل ومدنيّ مسالم، ولا بين رجل وامرأة ... تخلط حابلا بنابل فتصبح الأرض بطعم النار ورائحة الدم وروح الانتقام والانتقام من الانتقام ...

فهل يجيزون لأنفسهم الحرب بالظلم والإبادة والتعسّف وأكل حقوق الناس والاستيلاء على خيرات البلاد، وعَدّ البشر حيوانا من الحيوان بل أضلّ وأهون ... ! ويقيمون الدنيا ولا يُقعدونها على ثورة في وجه الباطل ومواجهة أهله حينما يُصرّون على باطلهم ويريدون أن يحرموا الأرض من الخير والحق والعدل ؟!

إذن فإننا الآن مع القضية الخارجية ... مع دور الأمة في مواجهة الباطل والكفر في الأرض، ليس من فراغ ولا من غطّ في نوم ورديّة أحلامُه، نصر الدين فيها وإعلاء كلمة الله كلام يُقال وشعارات تُرفَع من غير إصلاح للداخل، ولا تقوية لجبهته ... من غير توفير لشروط القوة والخيرية والريادة ...
إننا في العام الثالث للهجرة، والمسلمون قد حازوا نصرا عظيما مؤزّرا في غزوة بدر عاما من قبل، ثم تلاها عدد من الغزوات والسرايا  أهمها غزوة بني قينقاع التي كانت أول مواجهة للمسلمين مع اليهود، وكان النصر فيها حليف المسلمين، وأُجلِي فيها يهود بني قينقاع إلى الشام .وسريّة زيد بن حارثة التي أجهزت على الأمل الباقي عند قريش بغَنْم المسلمين لخيرات قوافلهم التي صارت تشقّ عليها التجارة وقد قويت شوكة المسلمين .

هذا لنعرف أن الأمة المسلمة في تلك الآونة قد تقوّت حتى تأهّلت للمجابهة الخارجية ... لم يكن المسلمون من قبل بقادرين على الحرب، بل لقد تهيأت نفوسهم، وصُنِعت على عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمكنت العقيدة الصحيحة من قلوبهم وعقولهم، حتى صار الإسلام قضيّتهم التي لا يستكثرون في سبيلها نفسا ولا نفيسا ...
لقد حققوا الشروط اللازمة، فكانوا المعتصمين بحبل الله، وكانوا جميعا ولم يكونوا شتى، الأنصاريّ أخو المهاجريّ آواه ونصره، وقاسمه ماله وأرضه عن طيب خاطر، والأوس والخزرج أعداء الأمس هم اليوم إخوة متحابون ...
وعلى هذا هم اليوم أهل لنشر الخير الذي عندهم، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إعلاء كلمة الله ودحض كلمة الكفر .

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(121)

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخبِر عنه الله سبحانه وقد غدا من أهله، أي من بيت أهله ليُنزِل المؤمنين منازلهم من خطة الحرب، و " تُبَوِّئُ " أصله من التبوء وهو اتخاذ المنزل . يقال : بوأته  أو بوأت له منزلا ، أي : أنزلته فيه .
ولتكن لازمتنا مع هذه الآيات ما بينتُه أعلاه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين مما لا يكون في القرآن ... 

فلننظر ولينظر أهل إنكار السنة وإنكار حجيّتها ... إن القرآن يُخبر عما كان من النبي وانتهى، فهل رفض الصحابة الامتثال لأمره بحجة أنه ليس أمرا في القرآن ؟! 
والله سميع لما هو كائن بين نبيّه وبين أصحابه، وهو صلى الله عليه وسلم ينظّمهم كلاّ في مكانه الذي يراه له، ميمنة أو ميسرة أو كتيبة وكتيبة حسب ضروب السلاح ...سبحانه عليم بنيّة ودخيلة كل واحد من الذين حولَه ... لا تخفى عليه خافية ...


1- إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(122)

وهكذا نرى أخبار الغزوة تترا ...
هاتان طائفتان من المؤمنين، كلٌّ من قبيلة، همّت كلتاهما أن تفشل، وترتكس فتفرّ من اللقاء، وليس ذلك إلا من اندساس المنافقين في صفوف المسلمين، يُظهِرون الإسلام والولاء لهم، بينما يُضمرون الكُره والعداء ...  والهمّ حديث النفس بتوجهها إلى الشيء، فما لم يُعزَم عليه بقي همّا لا يُعتبر في عداد الأفعال فعلا.

ولقد عرفنا في الآيات السابقة التحذير من اتخاذهم بطانة مع تبيان صفاتهم، فناسَب أيّما مناسبة أن يكون ذلك التحذير توطئة للإخبار عما يُحدثونه في الصف المسلم من سعي بالتخذيل والتخويف والتشكيك في جدوى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالإقدام على محاربة الكفار .

ففي أُحُد لما مضى الجيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، انخزل عبد الله بن أبي رأس النفاق عن المسلمين بحوالي ثلاث مئة من المنافقين، وحاول الصحابة ردّهم دون جدوى، وإنما أقاموا على انخزالهم من نفاقهم وكُرههم القتال في سبيل الله، ولكنهم تحججوا بأنهم لا يرون أن القتال كائن ... وهذا ما سنعرفه مفصّلا في آيات قادمة من هذا القطاع : " وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا  وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا  قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْهُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ  يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ  وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ(167)"
هاتان الطائفتان من المؤمنين تأثرتا بإرجافات المنافقين، ولكنهما كانتا مؤمنَتَيْن يعلم الله تعالى صدق إيمانهما، فكان تأثرُهما لحظيا سرعان ما ذهب عنهما من ولاية الله لهما جزاء صدقهما: وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

لقد نجتا ... ولم ينجِّهِما إلا صدق الإيمان في قلوبهما ...
 
وهذا من إنصاف القرآن الكريم، ومن عدل الله تعالى، الذي حاشاه سبحانه أن تلتبس عليه الأمور المتشابهة، وهو العليم الذي يعلم ما تُخفي الصدور، فلو كان الأمر للناس وحدهم فإنهم سريعا ما ينسبون النفاق لمؤمن يعتريه الضعف ساعة فيجعل تصرّفاته شبيهة بتصرفات المنافق الذي يُدْبِر ولا يُقبِل ... ولكنّ الأمر لله سبحانه هو الذي يعلم دخيلة كل إنسان على حقيقتها ...

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "فينا نَزَلَتْ : { إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا } . قال نحن طائفتان : بنو حارِثَةَ وبنو سَلَمَةَ، وما نُحِبُّ - وقال سُفيانُ مرةً : وما يَسُرُّني - أنها لم تَنزِلْ، لقولِ اللهِ : { وَاللهُ وَلِيُّهُمَا} . "-صحيح البخاري-

فلننظر ولينظر أهل إنكار السنة وإنكار حجّيتها ... إن نتبعْهم نضلّ ونخزى وتذهب عنا حقيقة الدين...

فهذا جابر رضي الله عنه يستشعر حلاوة عظيمة في الآية من إعلان الله تعالى ولايته لهاتين الطائفتين وهو واحد من أفرادهما، فهي عنده تكفيه خِزي لحظة الضعف التي اعترتهم، من نزول هذه الآية فيهما وفيها البشرى بولاية الله لهما ...
فأيّ علم يُحرَم منه مَن ينكر السنة، أو يشكك بصحيحها الذي نقله إلينا الأمناء المؤتَمَنون، وأي اهتداء يُحرَمُه من لا يقتدي بهم وهم الذين تفاعلوا مع القرآن غضا طريا من السماء، تُلامس معانيه ومراميه شِغاف قلوبهم، فيتبصّرون بها ويزدادون على الهُدى هُدى ... 
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
"وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ "

في الآية الجامعة ذاتها، نعرف خبر الطائفتَين اللتين أوشكتا على الفشل والتولي في لحظة ضعف اعترت أفرادهما، ثم في الجزء الثاني نعرف خلاصهما بتولي الله لهما من صدق إيمانهما، ثم أخيرا ها نحن مع التربية الربانية التي تنجّي من مثل هذا الضعف والنكوص والتولّي ...
إنه التوكّل على الله تعالى الذي هو سمة المؤمنين ...

ولكــــــــن ...

يجب أن نتأمل أمرا دقيقا...
ذلك أن التوكل على الله لا يأتي مع قعود كما هو الفهم السائد للتوكل والذي يساوي التواكل .. بل يأتي بعد عمل وأخذ بالأسباب كلها ..
فلنلاحظ كيف أن الآية السابقة جاء فيها خبر عَمْد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبويئ  أصحابه منازلهم في القتال، وفي ذلك عمل وأخذ بالأسباب من تنظيم واستعداد و تأهّب وهو النبي المؤيد بالمعجزات،  لا يركن للنبوة وللمعجزات في تحقيق ما يريد، بل يعلمنا الأخذ بالأسباب... وأولاء الصحابة مُقبلون معه على الجهاد، وعلى بذل أنفسهم، مجالدين مناجزين مقاتلين، متكبّدين كل الصعاب ... ثم بعدها يأتي ذكر التوكل على الله ...

أيضا عرفنا في القطاع السابق(قطاع الأمة100-120) ضرورة تحقيق الشروط العملية والنفسية اللازمة لتتأهل الأمة لأداء دورها، شروط عرفناها وعددناها، وفيها كلها العمل والسعي والبذل والاجتهاد ... ثم بعد كل ذلك يأتي ذكر التوكل على الله ... حتى لا يبقى ذلك الفهم القاصر الذي هو من وحي أنفس كسولة مقصّرة ترى في الإيمان وحده خصيصة يستحق صاحبها عليها أن يُعطَى  دون أن يُعطي شيئا ...! إنه معنى "اعقلها وتوكل"

ولترسيخ عقيدة التوكل مع العمل بما يسع العامل من طاقة وبما يُتاح له من قوة في الإعداد والاستعداد، يذهب  معها الخوف من عدوّ أقوى عددا وعُدّة، يذكّر الله المؤمنين بالنصر الذي تحقق لهم على المشركين في بدر، ليزيد في بيان معيّة الله تعالى لعباده المؤمنين، وكيف أن النصر من عنده وحده، وليس مناطه غلبة في عدد أو عُدة حينما يأخذ المؤمنون بكل الأسباب المُتاحة وهم متوكلون على الله :

1-أ) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(123)

ألم تكونوا في بدر قلّة في العدد والعُدّة، مقابل عدوّ بثلاثة أضعاف عددكم بسلاحه وخيله ورجاله ورُكبانه ؟ كنتم ثلاث مئة، وكانوا ألفا ... ولكنّ الله نصركم عليهم  لما رأى فيكم من اجتهاد وعمل وبذل وإقدام يُتوجّه الإيمان ...
وكما كان في الآية السابقة، نعرف في الآية الخبر متبوعا بالتعليم الرباني، الأمر بتقوى الله التي تؤدي بصاحبها إلى شكر نعمائه سبحانه ... ونظير هذا ما عرفناه في قطاع الأمة من شروط القوة فيها : " ....واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ... " -من103-

إنها نعمة الله التي تستحق الشكر، ذلك الشكر الذي لا يتأتى إلا بتقوى الله سبحانه .
وإنه التعليم الضمنيّ للمؤمنين والتذكير الدائم أن النصر من عند الله تعالى، هو عطيّة من عطاياه سبحانه يمنّ به على من يستوفي الشروط اللازمة التي عرفناها في القطاع السابق، فلا يكون العدد والعُدّة بذلك الفيصل في نصر أو هزيمة ...
وأحب هنا أن أؤكد على معنى للتقوى قد يكون مغيّبا نوعا ما أو مُغفَلا عنه..

نعلم أن التقوى هي الائتمار بأمر الله، والانتهاء عن نهيه، فيُقتصر في فهم هذا على أنّها ترك الذنوب والبعد عن المعاصي ، ويُغفَل عن أنّ الله أمرنا أيضا بالعمل، بالاحتراز، بالأخذ بالأسباب ... يُقتصَر على التفاعل النفسيّ دون التفاعل العمليّ...

وقد عرفنا في أواخر القطاع السابق :

**أمر الله بألا يتخذ المؤمنون بطانة من دونهم، الائتمار بهذا الأمر تقوى ... 
**أمرنا أن نعتصم بحبل الله، تحقيق هذا تقوى.
** بألا نتفرق ، الحرص على الأخوة والحفاظ عليها وتجنّب أسباب التفرّق تقوى ...
**الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقوى ...
وعلى هذا فإن الأخذ بالأسباب اللازمة والعمل والسعي وعدم الركون للقعود تقوى... "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ... "-الأنفال من:60-
هذا الإعداد من  تقوى الله لأنه الائتمار بأمره سبحانه ... فلا نُقْصِرنّ التقوى على الإيمان دون العمل، كما لا يجب قصرها على عمل دون إيمان، فهي تجمع الطرفَين الحسيّ والمعنويّ، النفسي والعملي سواء بسواء ...

التقوى تجمع الإيمان والعمل . تجمع العمل مع التوكل لا واحدا دون الآخر ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وتتتابع بعض التفاصيل التي كانت في غزوة بدر لمزيد تذكير بنعمة الله تعالى  :

1-ب) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ(124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ(125) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ(127)

نلاحظ الأفعال بصيغة المضارع لا الماضي لاستحضار تلك الأحداث فتتمثل بقوة ..

**إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ(124)

استفهام تقريري من الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ثلاثة آلاف من الملائكة منزَلين من عند الله تعالى يمد بهم عباده المؤمنين ... أليسوا بكافين ؟! وليس الجواب عن هذا إلا : بلى ..

**بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ(125)

والتقوى ملازمة المؤمن مقترنة بالصبر كما عرفنا في قوله سبحانه : " وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ..." –من:120-
وكما أسلفت، ليس صبر القعود بلا عمل، بل صبر بعمل، صبر مع تقوى تجمع بين إيمان وعمل ...

إن توفرّ في أنفسكم صبر وتقوى وأتاكم العدوّ من فورهم مسارعين لقتالكم يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوَّمين أي معلَّمين ... وأضع من قول محمد رشيد رضا في معنى "مسوَّمين"   : "وَقَدْ وَرَدَ سَوَّمَهُ الْأَمْرَ بِمَعْنَى كَلَّفَهُ إِيَّاهُ، وَسَوَّمَ فُلَانًا: خَلَّاهُ، وَسَوَّمَهُ فِي مَالِهِ: حَكَّمَهُ وَصَرَّفَهُ، وَسَوَّمَ الْخَيْلَ: أَرْسَلَهَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي ظَاهِرَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الْوَاوِ مِنْ (مُسَوَّمِينَ) فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ يَكُونُونَ مُكَلَّفِينَ مِنَ اللهِ تَثْبِيتَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مُحَكَّمِينَ وَمُصَرَّفِينَ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ فِي النُّفُوسِ مِنْ إِلْهَامِ النَّصْرِ بِتَثْبِيتِ الْقُلُوبِ وَالرَّبْطِ عَلَيْهَا أَوْ مُرْسَلِينَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى . وَأَمَّا قِرَاءَةُ كَسْرِ الْوَاوِ (مُسَوِّمِينَ) فَهِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ سَوَّمَ عَلَى الْقَوْمِ إِذَا أَغَارَ فَفَتَكَ بِهِمْ وَلَوْ بِالْإِعَانَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ. " -تفسير المنار-

قد يسأل سائل عن وجه الجمع بين عدد الملائكة الوارد هنا والوارد في سورة الأنفال، وذلك في قوله تعالى : "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ(9)"-الأنفال -  فالجواب أن التنصيص على الألْف هنا لا ينافي ثلاثة آلاف فما فوقها لقوله: " مُرْدِفِينَ " بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم غيرهم.

كما أنني أرى أن اقتران الصبر بالتقوى هنا يعني أيضا الصبر والطاعة، تلك طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من طاعة الله تعالى فهي التقوى، طاعة ما أمرهم به، ما أمر به الرماة ألا يتزحزحوا عن مكانهم وإن رأوا بأعينهم النصر، وانهزام الكافرين، والصبر هو الصبر على الطاعة، الثبات عليها، بمعنى أن يتمّوا طاعة أمره، وهو ما لم يتحقق، إذ قد أطاعوا بداية، ولكنهم حينما رأوا الغنائم لم يكن عندهم من الصبر على طاعته صلى الله عليه وسلم ما يثبتون به لآخر لحظة، فيأتونها تامة تامة ... بل نزل منهم مَن نزل عن مكانه فانكشف المسلمون للمشركين وصارت الدائرة عليهم ...

**وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ(127)

وما جعل الله تعالى هذا الوعد الذي وعد به عباده المؤمنين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بشرى وطمأنة لقلوبهم، بشرى بالنصر، ولتحلّ السكينة على القلوب المضطربة من عدد المشركين وعدّتهم ...

وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ

وليس النصر من عددكم ولا من عدّتكم، ولا من الملائكة التي يمدّكم بها، بل هو من عنده سبحانه العزيز الذي لا يُغلَب والحكيم الذي يعلم كيف ينصر ومتى ينصر ومن ينصر .

لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ

والطرف يُراد به أشراف قريش الذين أهلكوا في بدر، والكبت أصلها من إصابة الكبد بالغيظ الشديد، يقال فلان كبِد أي أصيب في كبده، فهم بين حالَين قتل لعدد منهم، وعودة السالمين منهم مكبوتين، مخزيين خائبين .
وهكذا ونحن بصدد هذا التذكير للمؤمنين بنعمة الله عليهم بالنصر في بدر:
أ-) وقد كان مناسبا كل المناسبة لما اعترى تَيْنك الطائِفَتيْن من الضعف الذي كاد يودي بهما إلى التولّي بفعل سعي المنافقين بينهم بالتثبيط.
ب-) نصر حالفهم رغم قلة عددهم وعدّتهم وكثرة عدوهم عددا وعدّة. مع إمداد الله لهم بالملائكة يومها بشرى بالنصر وطمأنة لقلوبهم.
إلا أنّ التأكيد قائم على أن النصر على الحقيقة من عند الله تعالى : "وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ"

وكما أنّ النصر من عند الله تعالى إن شاء أنفذه وإن شاء حبسه، وإن كانوا مؤمنين، سبحانه يعلم متى يكون وكيف يكون لأهله الذين يوفّرون شروط الإيمان والعمل مع التوكل على الله  لا الإيمان مجرّدا، كذلك أمر المشركين، هو لله تعالى لا لأحد  وإن كان النبيّ ذاته : لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(128)

ها هي الآية تأتي في ترابط تام مع ما قبلها، كما أن النصر من عنده سبحانه لا يكفي إيمان وحده ليُسَلَّم بحصوله، فإن أمر المشركين لله وحده، يُنصَر عليهم المؤمنون ليُقطع منهم طرف وليعود مَن يعود منهم مكبوتا مخذولا مخزيّا ... وعودة السالمين منهم كذلك لا تعني نهاية أمرهم على ذلك بل : أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ

أسلم كثير منهم بعد بدر وأحد، من مثل خالد بن الوليد الذي كان القائد الذي التفّ على المسلمين في أحد ليقلب الكفة من صالح المسلمين إلى صالحهم، وأبي سفيان، وصفوان بن أمية وغيرهم ..

فسبحانه عليم بمَن سينقلب حاله، فيتوب عليه، ومن سيبقى على حاله فيكون مستحقا للعذاب في الدنيا بدوام خزيهم وفي الآخرة بخلودهم في النار، وليس تعذيبه سبحانه لهم إلا لأنهم ظالمون، والشرك ظلم عظيم .. أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ

وإنه مما جاء في الصحاح عن أنس بن مالك رضي الله عنه : "أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُسِرَتْ رَباعيتُه يومَ أُحُدٍ . وشُجَّ في رأسِه . فجعل يسلُتُ الدمَ عنه ويقول ( كيف يُفلحُ قومٌ شجُّوا نبيَّهم وشجُّوا رَباعيتَه ، وهو يدعوهم إلى اللهِ ؟ ) فأنزل اللهُ تعالى : لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ [ 3 / آل عمران / 128 ] ."-صحيح مسلم-

حتى الرسول ذاتُه ليس له أن يقرّر في شأن الناس...وليس له في أمر الهداية إذا شاء الله أن يجعلها لأحدهم وإن كان من ألدّ أعداء الإسلام يوما، تماما كما عرفنا أن النصر للمؤمنين من أمر الله، وهو ذا صلى الله عليه وسلم فيهم لم ينتصروا حينما تخلّفوا عن رُكن ركين من أركان النصر، تخلفوا عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم...

وسواء كان هذا سبب نزول الآية، أو لم يكن فإن معناها متسق تمام الاتساق مع ما بيّنه الله سبحانه في هذه المقدمة، من أنّ كل الأمر إليه وحده، سواء في ذلك أمر المؤمنين أو أمر المشركين، فليس عنوان الإيمان كافيا لحيازة النصر، كما أن مظهر الكفر ليس كافيا للحكم على صاحبه الذي لا يعلم مآله في الدنيا وانقلاب حاله من عدمه إلا الله سبحانه ... فالعناوين  لا تؤدّي إلى الحكم الفصل ...بل إن الأحوال تتبدّل ...

فأمة محققة لشروط القوة في داخلها كما عرفنا، وعلى رأسها طاعة الله وطاعة رسوله مؤهّلة للنصر وهي مع تحقيقها لتلك الشروط العملية يسوقها التوكل على الله تعالى، أما أمة تقاعس أفرادها عن دورهم، وتملّكتهم الهزيمة النفسية فتخلّوا عن مقوّمات ثباتهم وعن دعائم هويّتهم، حتى وجدت سموم الشُبُهات سبيلا إلى عقولهم، واستحوذت الشهوات على قلوبهم،  فانبهروا بالغرب أيّما انبهار، وتمسّحوا بمسوحه يرونه الأعلى ويرونه الذي لا يقاوَم، ونخر سُوسُ المنافقين بالأمة حتى لم يعد لها من صُلب قائم...أمة هذه حالها أنّى لها أن تُنصَر ؟!

يقول الزمخشري في الآية: "المعنى أن الله مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم" –الكشاف للزمخشري-

ثم يُتمّم هذا المعنى الذي فيه بيان يد الله تعالى في تدبير الأمر، أمر المؤمنين والمشركين سواء بسواء... سبحانه يدبّر أمره كما يشاء، بإحاطة علمه وتمام حكمته وكمال عدله، بينما يخفى عن العباد ما يعلمه الله، وينقص العبادَ ما هو تامّ في حكمة الله، وإن كان نبيّ الله المصطفى...

وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(129)

لا ينازعه في ملكه منازِع، وليس له في تدبير الأمر شريك، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو سبحانه الغفور الرحيم . والمغفرة مقدَّمة على العذاب من أصل رحمته التي كتبها على نفسه سبحانه ... وإلا من أين يكون لكبراء المشركين الذي لم يألوا جهدا في قتال المسلمين وإرادة الشر بهم أن ينقلبوا فيصيروا من جند الإسلام الخُلّص ؟!

« آخر تحرير: 2019-01-13, 17:51:31 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ولقد كان ما سبق مقدّمة افتُتِحت بذكر تنظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجيش، ثم ما همّت به الطائفتان المؤمنتان من أثر فعل المنافقين المرجفين بين المؤمنين، جاء في صدده التذكير بالنصر الذي جعله الله للمؤمنين على المشركين في بدر رغم قلة عددهم، تخلّله تعليم شروط النصر، والتي أهمها :

1-الأخذ بالأسباب(العمل والسعي والحركة بتقوية الصفّ الداخلي وتنقيته، بالاعتصام بالله وبالتوحّد وعدم التفرّق)
2-التوكل على الله.
3-التقوى(طاعة أمر الله بما فيه الأمر الحركيّ العملي مثل عدم اتخاذ المنافقين بطانة وبما فيه طاعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم )
4-الصبر (الصبر مع العمل لا صبر اليائس القاعد المتقاعس، الصبر أمام العدوّ وإن كان أكثر عددا وعدة، والصبر على الطاعة، ومنها طاعة الرسول إلى آخر لحظة )
5-اليقين أن الأمر كله لله أمر المؤمنين والكافرين سواء بسواء، فليس ظاهر عنوان الإيمان كافيا للنصر، ولا ظاهر الكفر كافيا للحكم النهائي على صاحبه الذي قد ينقلب من كفر إلى إيمان.

ثم ينقلنا الله تعالى إلى سلسلة أخرى من الآيات :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(130) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(131) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(132) وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135) أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(136) قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ(137) هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ(138)


وهكذا... المؤمنون وهم يعرفون معية الله لهم، وتأييده لمساعيهم، لعلّهم أن يصيبهم الغرور، فيغتروا بعنوان الإيمان، ويرون أنهم المنصورون في كل حال .. ! لعلّهم يغترون بالظاهر، حتى يتقاعسوا عن العمل والحركة، لعلّ تأييد الله لهم بالملائكة يجعلهم يظنون ذلك حادثا لهم في كل حال ... لعلّ علمهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس يجعل مَن يقصر فهمُه بينهم يظنّها القاعدة التي لا تستدعي شروطا...!

ولقد عرفنا المعالجة الربانية الحكيمة لهذا الحُسبان المُحتمل من المؤمنين، وما هُم إلا بشر من البشر يعتريهم من الضعف ما يجعلهم عُرضة للاغترار والحُسبان الخطأ . عرفنا الله تعالى يعلّمنا أنّ النصر من عنده وحده، ليس من توكل على الله دون عمل، ولا من عمل دون توكل على الله، ولا من مدّ بالملائكة، بل يمنحه سبحانه أهله المستحقين له .
كما عرّفنا أن أمر الكفار أيضا له وحده سبحانه، فمن شاء تاب عليه فصار إلى خير حال، ومن شاء جعله أهلا للخزي والعذاب المقيم، بعدله وحكمته وعلمه .

لننظر الآن ... إنّنا بين يدَي تربية ربانية جديدة ... إننا انتقلنا من الحديث عن  النصر وشروطه، إلى سلسلة من النواهي في النفس ... من الحرب على الأرض، وجلاد الرجال للرجال، إلى الحرب مع النفس وجِلاد النفس لأهوائها وتقلباتها ...


1- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(130) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(131)

حرب مع النفس... يجب الإعداد لها هي الأخرى، يجب الأخذ بالأسباب لخوضها، يجب ألا تُترَك وما تريد، بل يجب أن تُحارَب ...
أجل... أنتم أيها المؤمنون، أنتم يا خير أمة أخرجَت للناس، بل لأنكم خير أمة ... بحاجة إلى تربية مستمرة، وإلى تذكير مستمر، وإلى ترقية مستمرة ...
وإن أكثر ما يستحوذ على النفس ويأسرها "المال" ... وهو داعية للشهوة الكبرى بين الشهوات، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أنَّ لابنِ آدمَ واديًا من ذهبٍ أحبَّ أن يكونَ له واديان ، ولن يملأَ فاه إلَّا التُّرابُ ..." –صحيح البخاري-

وإن هذا النهي لتثنية في هذه السورة، ونحن نذكر أوائلها وقد جاء فيها :" زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ  ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(14) "
وجاء الجواب الإلهي، الذي يرغّب فيما هو خير، وفيما هو أدوم وأبقى :
"قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ  لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(15)"

وإن السؤال القائم... ما وجه علاقة الغزوة بهذا النهي ؟

العلاقة أنّ كليهما حرب ... الحرب والحرب ...
حرب مستواها النفس، هي ضدّ النفس، وحرب مستواها الأرض هي ضدّ العدوّ ...
والحرب الأُولى أَوْلى وأسبق، وأوجب ...

هكذا هي خصائص المؤمن ... قد يُقبِل الكافر على حرب المؤمن، وهو آكل للربا، وهو فاعل للفاحشة، وهو فوق ذلك كله، وأكبر من ذلك كلّه كافر بالله، لا يعرف التوكّل عليه، ولا يخرج في سبيل إعلاء كلمته، هكذا حاله وهو يقاتل المؤمن، وقد ينتصر... وهي ذي حاله التي نعرف...  حتى لا يظنّ أولئك القافزون إلى هذه القراءات أننا غافلون عمّا يقرؤون... يريدون وَصْم القرآن باللاواقعية، وأنّه يُحدّث بما لا يُعرف في الواقع، يحدّث بنصر للمؤمنين وهم اليوم أكثر الناس انهزاما، يحدّث بدحض كلمة الكفر وأصحابها اليوم أكثر الناس انتصارا وظهورا ... !

ولقد أسلفتُ في مقامات سابقة في عَرَض سورتنا، أنّ هذا ليس من روح القرآن البتّة، بل هو الحق الذي لا ينفي الواقع، الواقعيّ الذي يضع القواعد الواقعية ويعدّد الشروط، ويرتّب المقامات وِفق تحقيقها...

نعم ينتصر الكافر اليوم على المؤمن، وهو على ما هو عليه من كفر ومن انعدام لأمر الله في نفسه وفي عمله، ورغم روْمه للباطل، لأنّ المؤمن لم يحقق شروطه، ولم يتمتع بخصائصه التي خصّه الله بها ... ولن ينتصر ما لم يحقق شروطه النفسية والعملية، وما لم تتوفّر نفسُه على تلك الخصائص التي وإن كان الكافر خالي الوِفاض منها قد ينتصر، بينما لا ينتصر المؤمن ونفسه خواء منها...  هكذا هي خصيصة المؤمن الذي يصنعه الله تعالى بأمره ونهْيه فيه، وبجعله خليفة له سبحانه في الأرض، يعمل بما أنزَلَ عليه من منهج ...

يُرابي الكافر وينتصر، ولكن يُرابي المؤمن فلا ينتصر ... هكذا هي النفس المؤمنة، نفس أريد لها الرقيّ في كل موضع، في كل حال، أريدت لها الخصوصية وحقيقة الائتمار بأمر الله، وحقيقة ترجمة العبودية لله في الأرض حقّ العبودية، فلا ينهى سبحانه عن أمر ويكون إتيانُه من المؤمن هيّنا مقبولا، ولا يجعل سبحانه طاعة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم شرطا من شروط القوة والخيرية والنصر، ثم تكون المعصية هينة متقبلة ... !

هكذا يُراد بخليفة الله في أرضه ...  ليس في الأمر تلك الاستثناءات التي هي في حقيقتها تنازلات تُذهِب معنى العبد الرباني الذي يُبصر بنور الله، ويمشي بنور الله ...
جاء هنا النهي عن الربا،  ولقد كان الرجل منهم يكون له على رجل مال فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فإذا عجز المدين عن سداده طلب التأخير، فيؤخّره الدائن بزيادة مضافة يدفعها المدين مع رأس المال، وهكذا في كل مرة تكون الزيادة كلما كان التأخير، وتلكم هي : "أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً " . 

وإننا نعرف انهزام المسلمين في أُحُد بسبب معصية الصحابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدؤوا مطيعين له غير مُعرضين عن أمره، ثم لم يتمّوه كما أمرهم، بل ما أن رأوا الغنائم وعلامات النصر، حتى نزل الذين أمرهم رسول الله بملازمة أماكنهم وإن رأوا إخوانهم منصورين يغنمون... وإنها الغنائم أخذت أولئك وأذهلتهم عن أمر رسول الله، فسارعوا إليها ...
إنه فعل المال في النفوس... هي نفوس مؤمنة مطيعة متّقية، ولكنها ضعفت ...
ولذلك جاء النهي الإلهي عن الركون إلى المال... عن جعله غاية تربو عن غاية النصر وإعلاء كلمة الله، وتحقيق طاعة أمره وأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم ...

جاء التخليص الإلهي لعباده المؤمنين من ربقة المال، من ربقة المادة ...

جاءت الإشارة إلى أنّ التعوّد على التخلّص من سيطرته في حال السِّلم، وعدم أوليّته في النفس، وأن الأوليّة لأمر الله ولإعلاء كلمته، يجعل صاحبه متعففا عنه في كل حال، فلا يأخذ بلُبِّه وإن كان غنما يغنمه من عدوّه المنهزم، إلا أنه يقدّم طاعة الله وطاعة رسوله عليه ... إنه التدريب على الفِكاك من أسره ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ثم  لنتأمل ....

بيّن سبحانه أن أمر المؤمنين له، كما أن أمر الكافرين له، وأن النصر من عنده وحده، وأنّ مآل الإنسان هو سبحانه وحده عليم به، والظاهر من الأمر ليس هو الحقيقة التي يُحكَم وِفقَها، فليس لمؤمن لا يعرف من إيمانه غير العنوان أن يكون المنصور أبدا، ولا أن يُفصَل في أمر الكافر والله أعلم بمآله ...

وهنا أيضا ....الأمر كذلك لله... الحقيقة هي في أمر الله ونَهْيه...

إنه المال، إنه زيادة على زيادة .... إنه الأضعاف المضاعفة ... إن ظاهرَهُ ترفٌ وربح وكسب وغنى ... ولكنّ حقيقته شَرَهٌ، ولهفة، واغترار بالمال، وتسلّط على رقاب ضِعاف الناس، واستغلال لاحتياجهم وقلة ذات يدِهم ... إنه المجتمع الطبقيّ في أبشع صوره، فطبقة مُترَفة تعلو بالربا وتصعد على جماجم الناس تدهسهم ولا تبالي، وطبقة مضطهَدة مُتحكَّم فيها لا تجد فِكاكا من سطوة الماديين المُرابين، ومن اللهث خلف تلبية إملاءاتهم الربويّة...

وهكذا ...الذي يظهر للإنسان خيرا وترفا، هو في حقيقته شرّ واضطهاد وطبقية لا يحبها الله العدل الذي يريد العيش الآمن والحياة المحترمة لكل عباده... حياة لا يأكل فيها القويّ الضعيف ...

إننا دائما في دائرة ما يظهر للإنسان ... وما حقيقتُه عند الله ...

مؤمن لا يحقق شروط النصر لن يُنصر، كافر لا يُحكَم على مآله، بل لا يأس من تبدّله من كفر إلى إيمان... ومال وربح وغِنى عن ظهر تسلّط وظلم وزهوّ طبقة من البشر على طبقة ليس بالخير بل هو الشرّ الذي يُنهى عنه المؤمن ...
وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(130) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(131)

وإنّ الانتهاء عنه لمن تقوى الله، وتقوى الله أساس في النصر والتمكين، وتقوى الله تؤدي بالمؤمن إلى اتقاء النار التي أعدّت للكافرين ... وفي هذا تخويف وأيّ تخويف للمؤمن من الربا ... !
ولقد قال العلماء بأنّ هذه الآية سبقت آيات تحريم الربا التي جاءت في البقرة : "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ  ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا  فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ  وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ  وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)" -البقرة-
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(278)" -البقرة-

إذن... فمِن ساح الوغى والحرب... إلى ساح الوغى والحرب أيضا ...إلا أن تلك على الأرض، وهذه على النفس ...

وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(132)
هذا الأمر محور من محاور هذه السورة ... التثبيت على طاعة الله ورسوله قَوام الأمر كله ...
أطيعوا أمر الله الأخير هذا بالانتهاء عن أكل الربا... وأطيعوا كل أمر منه سبحانه، وكل أمر من نبيّه صلى الله عليه وسلم ...

فلننظر ولينظر أهل إنكار السنة وإنكار حجّيتها ... إن كان يُراد بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة أمره الذي يتلوه على المؤمنين من القرآن الكريم، فلِمَ لمْ يُقتصر على: "وأطيعوا الله" دون قرنها بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟!  فالأمر بطاعة الله معلوم بالبديهة أنّه سيكون عَبر رسول الله المبلّغ ... لا عن طريق تبليغ من الله لكل عبد من عباده على حِدة ...

فهذا يبلّغه الرسول عن الله، فما الداعي إلى قرنه بـطاعة الرسول أيضا إن كان أمر الله القرآنيّ؟ إلا أن يُراد منه طاعة كلّ أمره الذي هو من مشكاة القرآن سواء كان أمرا قرآنيا أو نبويا غير قرآني ...
إنه التأكيد على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن بصدد غزوة أحُد التي عُرفت فيها معصية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.


2- وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)

أيها المؤمنون ... انتهوا عن الشَّرَه في المال، وحبّه حتى الثُّمالة بانتهائكم عن الربا الذي ظاهره ربح وترف، وحقيقته ظلم واعتساف وعبودية للمادة تُذهب المؤمن عن غاياته الأسمى...
كونوا عِباد الله الذين تتحقق بهم خلافة الإنسان في الأرض بأمر الله وبإعلاء كلمته فيها ... وأطيعوا أمر الله ورسوله...

ولتكن وِفق ذلك مسارعتكم لا للدنيا، بل لمغفرة من ربكم ... مغفرة فيها التدليل الضمني على ضعف العبد، على أنّ المؤمن أيضا تأخذه السِنة من الضعف والسِّنة، فالمسارعة إلى المغفرة منجاة له، إذ مادام يستغفر ويُسارع للمغفرة فهو ناج ...
والمسارعة إلى المغفرة مُؤدّاها جنّة عرضها السماوات والأرض ...
المسارعة إلى المغفرة، إلى الجنة هي المُراد الأول من المؤمن ... المسارعة إلى رضى الله، المسارعة إلى ما هو خير، إلى الدائم، لا إلى الزائل من المغانم سارعوا إليه حتى انكشفوا للعدوّ.. عصوا أمر رسول الله، وسارعوا إلى الغنائم حتى انقلب نصرهم هزيمة ...
هذه الجنة أعدّت للمتقين، بخلاف النار التي أعدّت للكافرين الذين يعصون أمر الله، ولا ينتهون عما ينهى عنه ... ثم تأتي صفات هؤلاء المتقين :

3- الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135) أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(136)

1-أ) وها نحن مرة أخرى، نجدنا في أمر الإنفاق ...
الإنفاق، إخراج المؤمن مما يملك في دُربة دائمة على التخلّص من العبودية للمادة، التخلّص من ربقة المال، ومن أن يكون الهدف الأكبر للإنسان.
تدريب على الخلاص من ربقته تارة بالانتهاء عن الربا المُكثر للمال بلا مبالاة بالناس دُهِسوا أو ظُلِموا... وتارة بالإنفاق في سبيل الله ... لنيل رضى الله...

إنها أول صفة للمتقين ... ينفقون في السراء والضراء ... في اليُسر وفي العُسر.
فأما المُعسِر فبما يتيسر له، وهو على إعساره مُنفق، الامتثال لأمر الله عنده مُلازم له في كل حال ... وأما الموسر ففي السراء منفق، لا تُلهيه كثرة ماله وغناه عن الامتثال لأمر الله، نيل رضى الله والمسارعة لمغفرة منه سبحانه ولجنّة عرضها السماوات والأرض مُقدّم عنده على كل الملذات الزائلة ...

1-ب) وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ... الذين يكظمون غيْظَهم ولا يُنفِذونه .
يقول ابن عاشرو : "ولا شكّ أن أقوى القوى تأثيراً على النَّفس القوّة الغاضبة فتشتهي إظهار آثار الغضب ، فإذا استطاع إمساكَ مظاهرها ، مع الامتلاء منها ، دلّ ذلك على عزيمة راسخة في النَّفس ، وقهرِ الإرادةِ للشهوة ، وهذا من أكبر قوى الأخلاق الفاضلة." –التحرير والتنوير-

1-ج) وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ . هؤلاء أصحاب الأنفس القوية، الذين يقاومون حاجة في النفس ملحّة للانتقام وللانتصار للنفس.
فهؤلاء المتّصفون بهذه الصفات مُحرَّرون من سُعار الأهواء، من المال، ومن الغيظ ومن الانتصار للنفس ... مرتقون، رانون لله تعالى ولرضاه ...
وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ... أجل هؤلاء هم المحسنون الذين يرتقون في سلم الإنسانية والإيمان حتى يبلغوا العفو عن الناس ...

1-د) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135)

والفاحشة الفعل السوء بالغ القبح، وظلم النفس كل ذنب أقل من الفاحشة... وقيل أن الفاحشة ما تعدى شرها إلى الغير، وظلم النفس فعل السوء الذي لا يتعدّى النفس ...

هؤلاء الذين إذا فعلوا شيئا من هذا ذكروا الله، هؤلاء في عِداد المتقين...

والذكر هنا ليس ذكر لسان،  بل هو ذكر مقام الله تعالى وذكر وعيده وعقابه، يقول محمد رشيد رضا : "وَذِكْرُ اللهِ عِنْدَ الذَّنْبِ يَكُونُ بِتَذَكُّرِ نَهْيِهِ وَوَعِيدِهِ أَوْ عِقَابِهِ أَوْ تَذَكُّرِ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَهُمَا مَرْتَبَتَانِ: مَرْتَبَةٌ دُنْيَا لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ، وَهِيَ أَنْ يَتَذَكَّرُوا عِنْدَ الذَّنْبِ النَّهْيَ وَالْعُقُوبَةَ فَيُبَادِرُوا إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَمَرْتَبَةٌ عُلْيَا لِخَوَاصِّ الْمُتَّقِينَ وَهِيَ أَنْ يَذْكُرُوا - إِذَا فَرَطَ مِنْهُمْ ذَنْبٌ - ذَلِكَ الْمَقَامَ الْإِلَهِيَّ الْأَعْلَى الْمُنَزَّهَ عَنِ النَّقْصِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ كُلِّ كَمَالٍ، وَمَا يَجِبُ مِنْ طَلَبِ قُرْبِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالتَّخَلُّقِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى الْآمَالِ، فَإِذَا هُمْ تَذَكَّرُوا انْصَرَفَ عَنْهُمْ طَائِفُ الشَّيْطَانِ، وَوَجَدُوا نَفْسَ الرَّحْمَنِ" -تفسير المنار-

فيسارعون لاستغفار مَن لا يغفر غيرُه الذنوب ... وهم بعد استغفارهم لا يصرّون على ما فعلوا، بل هم التائبون توبة نصوحا، النادمون على ما كان منهم، المسارعون للاستغفار، الذين لا يصرّون على أفعالهم ...

يقول في ذلك ابن عاشور مستشهدا بكلام لأبي حامد الغزالي : " وقد انتظم من قوله : { ذكروا الله فاستغفروا } وقوله : { ولم يصروا } وقوله : { وهم يعلمون } الأركان الثلاثة الَّتي ينتظم منها معنى التَّوبة في كلام أبي حامد الغزالي في كتاب التَّوبة من «إحياء علوم الدّين» إذ قال : «وهي عِلْم ، وحال ، وفعل.فالعلم هو معرفة ضرّ الذنوب ، وكونها حجاباً بين العبد وبين ربِّه ، فإذا علم ذلك بيقين ثار من هذه المعرفة تألّم للقلب بسبب فوات ما يحبّه من القرب من ربِّه ، ورضاه عنه ، وذلك الألم يسمّى ندماً ، فإذا غلب هذا الألم على القلب انبعثت منه في القلب حالة تسمّى إرادة وقصداً إلى فعل له تعلّق بالحال والماضي والمستقبل ، فتعلّقه بالحال هو ترك الذنب ( الإقلاع ) ، وتعلّقه بالمستقبل هو العزم على ترك الذنب في المستقبل ( نفي الإصرار ) ، وتعلّقه بالماضي بتلافي ما فات" –التحرير والتنوير-

أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(136)


ولقد كان تفصيل صفات هؤلاء المتقين بين حالين هما الحال الواحدة، وذلك بين قوله سبحانه : "وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" وبين هذه  الآية الأخيرة .

المغفرة والجنات .... والخلود فيها جزاء المتقي وأجرُه .... ونعم الأجر هو !

وإننا إذا تأملنا وجُلْنا بألحاظ عقولنا لرأينا أن هذه النواهي والأوامر التي جاءت في هذه الآيات، إنما نعرف فيها رقيّ المؤمن، وسموّه في درجات الإيمان، رقيّا يجعله الأفضل، ينقّيه من أدران النفس ومن سُعار أهوائها ... يرفع درجاته، ويجعله المميز المختصّ بهذه الخصائص ...

تتبين لنا صعوبة النفس عندما يُناصب صاحبها أهواءها العداء ... وهي المجبولة على أن تهوى ... "زُين للناس حب الشهوات ...."
فهذا الذي يقاومها، ويحاربها، ويجاهدها مُرْتَقٍ فمرتق في سلّم الإنسانية ... تقوى نفسه، ويُصبح هواها بما في أمر الله، وبُغضُها بما في نَهْيِه...

وتلك القوة النفسية هي المؤهّلة لقوة في مواجهة العدوّ ... نفس لا تغترّ بقوة تواجهها، لا تغترّ بمال كثير في حيازة العدو، لا تُعمي بصيرتَها ملذات الدنيا، بل لقد تدربت على أن الهدف الأسمى هو الله، هو رضاه ... هو مغفرته وجنّته ... نفس مرابطة، ثابتة لا تُزعزِعها المُزعزعات، ولا تغرّها المغريات ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وذلكم هو وجه العلاقة بين الغزوة وهذه الآيات ...

ثم تُختَم هذه الآيات التربوية الترقويّة التثبيتيّة بقوله سبحانه :

4- قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ(137) هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ(138)

لقد مضت سنن مَن قبلكم أيها المؤمنون ... سنن الله تعالى في هذه الحياة، سنن كونيّة جعلها سبحانه، يسير الكون وِفْقَها، فشمس تسطع بأوان وتغرب بأوان، وجبال شامخات راسيات مثَبّتة في الأرض أن تميد بنا، وماء ينزل من السماء من بعد دورة تجعله يصعد من الأرض ليجتمع في السماء ثم ينزل إلى الأرض مجددا، ونهار بأوان، وليل بأوان، وهكذا ... سنن تسيّر الكون بدقة متناهية، وضعها الله سبحانه، لا يتخلّف فيها مخلوق من مخلوقاته عن دوره وما كُلِّف به  ...

وكذلك سبحانه جعل للنصر والهزيمة سننا، جعل لصراع الحق والباطل على الأرض سننا لا تتخلّف، تتكرر عبر العصور والأزمنة ... ثابتة ...
هذه السنن تقضي بأنّ أهل الحق متى حققوا الشروط واستوفوها، وعملوا، وسعوا، واجتمعت كلمتهم ولم يتفرقوا، وائتمروا بأمر الله وانتهوا عن نهيه،  وأطاعوا أمر نبيّهم القائد في حياته، وأمره في سنّته بعد مماته، وولّوا الكفار الدُّبُر فلم ينبهروا بحالهم، ولم يركنوا إليهم يأخذون منهم طبائعهم وسلوكهم، وأساليب حياتهم يلصقونها بأنفسهم تمسّحا وتقليدا عماية على عماية، متى نقّوا صفّهم، فعرفوا المنافقين بسيماهم ولم يجعلوهم بطانة وولاية، ومتى تعلموا الحق الذي علمهم الله إياه وجعلوه عقيدتهم التي لا يتزعزعون عنها، وعلموا علم اليقين أنّ أهل الباطل لا ينفكون ساعين بالإفساد والإضلال في صفوفهم ...

متى حققوا هذه الشروط كلها كان النصر حليفهم، سنّة ثابتة ... ومتى لم يحققوها كانت الهزيمة ما يستحقون، متى أطاعوا الله ورسوله واجتمعت كلمتهم نُصِروا، ومتى تخلفوا عن الطاعة انهزموا وانتصر عدوّهم ...

هذه سنن الله تعالى التي لا تتخلّف ... فأنّى للمسلم القاعد اليوم، وهو يتشدّق بالإسلام عنوانا لا يتعدى العنوان أن يكون له النصر والتمكين وهو المنهزم نفسيا، المقلّد، المنبهر، الذي تفعل فيه الشُبهات والشهوات فعل السلاح الفتاك الذي يأتي فيه على الأخضر واليابس ...؟!
نعم إنها السُّنن التي لا تتخلف، تلك التي ينتصر فيها الكافر على المؤمن لأنه العامل، المخطط، الساعي، ولقد قال علي رضي الله عنه : "إن هؤلاء قد انتصروا باجتماعهم على باطلهم وخُذِلتم بتفرقكم عن حقكم " .

إن السنن التي خلت كانت في الأمم السابقة، وقد قال سبحانه : " وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ"-العنكبوت:36-
"وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ  وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ"-العنكبوت:38-
"فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ  فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا  وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"-العنكبوت:40-

كان نصر أهل الحق على أهل الباطل لما استمسك أهل الحق بحقهم...

ولقد عرفنا مثلا في الفترة الفاصلة بين مبعث عيسى عليه السلام ومبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوّيا لكل من الروم والفُرس، وسيطرة كاملة منهما على الأرض، قسم من الأرض تبع للروم، وقسم منها تبع للفرس ... وكانوا أهل تبديل وتحريف وخلط لوحي السماء بخرافات الأرض وبالوثنيات، وأفسدوا دين الله كل إفساد ... ولكنهم سادوا الأرض، وتجبروا وظلموا وكان النصر حليفهم، فسيطروا على البلاد وملكوا زمام أمر أهلها لأن أهل الحق غُبِروا، حتى بعث الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم لينشر العدل، وليُحق الحق ويُبطِل الباطل، فانقلب حال الروم والفرس، وأصبحوا أمام المسلمين -رغم كل ما أوتوه من قوة مادية- ضِعافا مغلوبين منهزمين، وعلت راية الحق، ورفرفت في الأرض، وفُتِحت بلاد للإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ...

كما أحبّ أن أشير إلى الموازنة الدائمة التي لا ينفكّ القرآن معلِّمَها للمؤمنين، حتى لا يقعوا في شِباك التطرف بأي شكل من الأشكال... حتى لا تكون لهم تلك النظرة المنحازة والأحاديّة  للأمور الت تقبل التغيّر...
فإنّ الإيمان بالسنن الثابتة لا يعني الإيمان المطلق بها إلى حدّ جعلها الأولى وكأنّه لا مسبّب لها، بمعنى الإيمان بالأسباب وكأنها الفاعل بلا مسبّب مشيئته مطلقة ...

ولقد عرفنا ذلك في عَرَض هذه السورة ونحن نتعرّف إلى حقيقة عيسى عليه السلام الذي شاء الله تعالى خرق الأسباب الطبيعية فيه، فكان بلا أب ... غالى فيه مَن غالى من أهل الكتاب حتى جعلوه إلها، وفرّط في معجزته من فرّط حتى اتهموا أمّه ولم يصدّقوا أنه العبد الذي شاء الله بطلاقة مشيئته أن يجعله بلا أب ...

وغُلاة الأمس واليوم ممّن يُسمَّون "العقلانيين" يضعون العقل فوق كل شيء، فما تصوّره، واستطاع تصوّره صدّق به، وما لم يكن من عمله وكان فوق عمله، -بما في ذلك المعجزات التي صحبت الأنبياء- عدّه خرافة ودجلا ...
يقول سيد قطب في تعليم القرآن للمؤمنين ثبات السنن، مع الإيمان المصاحب بطلاقة المشيئة الإلهية : "إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله ، ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة ومجريات حياتهم فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها ، فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا .. وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة ، ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة. بل حملتهم إليها! وارتقت بهم إلى مستواها ، في ربع قرن من الزمان. على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية ، إلا بعد أجيال وأجيال .. فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية ، وأنه إلى اللّه تصير الأمور .. فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله ، واتسع له تصورها ، ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة ، فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن اللّه الثابتة والاطمئنان - بعد هذا - إلى مشيئته الطليقة! «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ» .." –في ظلال القرآن-

فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ

كذلك في الأمم السابقة، كانت السنن التي تعمل ثابتة، متى حقق أهل الحق شروطا بعينها استحقوا التمكين والنصر، ومتى تقاعسوا أُخّروا عن الركب وتقدم عليهم أهل الباطل ...
ولقد علّم الله المؤمنين عن الأمم السابقة، ونعرف ذلك في بني إسرائيل حينما رافقوا طالوت للجهاد حتى بقي معه من صدقوا الله بعزمهم، فكانوا يقولون مما علمهم أنبياؤهم عن الله تعالى : ...قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" –البقرة: من249-

وهم أولاء يقولون من وحي إيمانهم، وتوكلهم على الله ومما علمهم الله:
"وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(250) "

فماذا كان ؟ لقد كانت سنّة الله في نصره وهزيمته، في الحق والباطل ... فيمن استوفى شروطه :
فهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ  وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(251)  " -البقرة-

فهي سنن ... أجل سُنن لا تتخلّف ... !

« آخر تحرير: 2019-01-23, 11:08:50 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ولرشيد رضا كلام أعجبني في هذه السنن، وكيف أنها تخدم أهل الباطل إن هم عملوا ولم يجدوا أهل الحق أهلا لمجابهتهم : "فَإِذَا قَامَ رَجُلٌ بِدَعْوَى بَاطِلَةٍ وَلَكِنْ رَأَى جُمْهُورٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ مُحِقٌّ يَدْعُو إِلَى شَيْءٍ نَافِعٍ وَأَنَّهُ يَجِبُ نَصْرُهُ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَنَصَرُوهُ وَثَبَتُوا عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَنْجُونَ مَعَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ. وَلَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يَدُومُ، بَلْ لَا يَسْتَمِرُّ زَمَنًا طَوِيلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْوَاقِعِ مَا يُؤَيِّدُهُ بَلْ لَهُ مَا يُقَاوِمُهُ فَيَكُونُ صَاحِبُهُ دَائِمًا مُتَزَلْزِلًا، فَإِذَا جَاءَ الْحَقُّ وَوَجَدَ أَنْصَارًا يَجْرُونَ عَلَى سُنَّةِ الِاجْتِمَاعِ فِي التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ، وَيُؤَيِّدُونَ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ بِالثَّبَاتِ وَالتَّعَاوُنِ ; فَإِنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَدْمَغَ الْبَاطِلَ وَتَكُونَ الْعَاقِبَةُ لِأَهْلِهِ، فَإِنْ شَابَتْ حَقَّهُمْ شَائِبَةٌ مِنَ الْبَاطِلِ، أَوِ انْحَرَفُوا عَنْ سُنَنِ اللهِ فِي تَأْيِيدِهِ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ تُنْذِرُهُمْ بِسُوءِ الْمَصِيرِ."

وإننا نعيد ذلك التساؤل الملحّ على كثير من العقول، سواء من كان من أصحابها سيئ النية ومن كان منهم حسنها : لماذا كانت عاقبة المكذبين  سريعة وفي الدنيا ونحن اليوم لا نرى تلك العاقبة للمكذبين ؟

زيادة على ما فصّلتُ في شأنه أكثر من مرة في عرض آيات سورتنا، من أن حالنا حال المتقاعس، الذي لا يحقق الشروط اللازمة، فإنني أزيد فأقول أن أولئك قد بُعث فيهم الأنبياء، ورغم أن المؤمنين بهم كانوا دائما قلة، والكافرين بهم كانوا الأكثرية إلا أنهم عملوا بما جاءهم به نبيّهم . استمسكوا بأمر الله، واعتصموا به فنصرهم وخذل عدوّهم لأنهم آمنوا وجاهدوا من أجل كلمة التوحيد، وكذلك كان حال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه...

أما نحن فالكتاب والسنة فينا، والنبيّ ليس فينا، وذلك امتحانُنا إلى يوم الساعة ... متى نعمل بما عندنا ننصر ويهلك عدونا...
قدر الله وشاء أن يكون كتابُه خاتم الكتب، ويكون قدره أن يمتد الامتحان به دون نبيّ. فمتى نُصر واتُّبِع نصر أصحابه. نحن لم نحرف ولم نبدل .. ولكننا حِدْنا ... حِدْنا والحق بين أيدينا وبدل أن ننصر كلمة الله على كلمة الكفر، غرتنا حال أهل الكفر ورأيناهم الأقوياء أبدا !!!

أيضا فإن السير في الأرض يعني النظر في الآثار الدالة على تلك الأمم، وعلى ما كان معها، وعلم الآثار قائم بذاته له دلائله العلمية وقوانينه التي تحدد الزمان الذي كانوا فيه، وتحدد معالم حضارتهم وأساليب حياتهم، زيادة على أن قراءة التاريخ تعتبر من السير في الأرض والنظر في تاريخ الأمم . يقول في ذلك ابن عرفة : " السير في الأرض حسّي ومعنوي ، والمعنوي هو النظر في كتب التَّاريخ بحيث يحصل للنَّاظر العلم بأحوال الأمم ، وما يقرب من العلم ، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض لِعجز الإنسان وقصوره "

هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ(138)

كل هذا الذي مضى مما عرفنا في السورة، بيان، وأي بيان !

البيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت الشبهة حاصلة، بيان وتوضيح وإذهاب لكل لُبس، كان في التفاصيل التي عرفنا، في الشروط وفي ترتيبها، وفي ترتّب النتائج عليها ...

كل ما مضى في قطاع الأمة(100-120) وفي القطاعات التي سبقته وحوت علما بحال الأنبياء الذين لبّس أهل الكتاب أحوالهم على الناس، ولولا نور الله والحق الذي أنزل لما عرف الإنسان حقا من باطل من فرط سعيهم بالتضليل والكذب والادّعاء  ...
ما مضى من أنّ أمر المؤمنين لله، والنصر ليس مكتوبا لهم هكذا دون عمل منهم ولا سعي ولا بذل، وأمر الكافرين أيضا له سبحانه، ونهاية أمرهم وما يؤولون إليه في الدنيا في علم الله وحده، وكذلك أمر ما يُزَيّن للناس من مظاهر المال والتّرف، وهو في حقيقته إفساد وأخذ للإنسان من عبوديته لله إلى عبوديته للدنيا ...

كل هذا كان بيانا، كان شفاء للعقول... للناس كافة ...

لنتأمل ...إن البيان عُمم للناس، بينما جعل الهُدى والموعظة للمتقين دون غيرهم : هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ
يقول الرازي: "الفرق أن البيان عام في أي معنى كان، وأما الهدى فهو بيان لطريق الرشد ليسلك دون طريق الغي. وأما الموعظة فهي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين، فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان: أحدهما: الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى.الثاني: الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة. "-مفاتيح الغيب-
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وبعد هذا البيان للناس، وهذا الهدى الذي لا يعبّ من نوره إلا أهل التقى، وهذه الموعظة التي لا يمتثل لها ولا ينتصح بها إلا أهل التقى ... في ما مضى من بيان لسنن الله تعالى التي لا تتخلّف في نصر من يستوفي شروط النصر، وفي ترقّي أهل الإيمان والرنوّ للاستزادة لمَن هم أهل لقيادة البشرية وسياستها أكمل سياسة ...

نعود إلى جوّ الغزوة ... وقد كنا عرفنا مع الآيات السابقة تقدمة حولها ثم كان فاصل تلتْه آياتنا الجديدة التي سنرى ... وأضع ها هنا مخططا أبين فيه الفاصل ثم العودة...


5-
وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142)

إننا نتنسّم الطبطبة الإلهية على نفوس المؤمنين وعلى قلوبهم الوَجعَى مما لحقهم في أحُد ... استشهد منهم سبعون رجلا، في مقدّمتهم سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه وأرضاه ..
إنها الهزيمة، بل إنها في حقيقتها الانقلاب الكليّ الذي حدث في النتائج ...

فمن بعد قوة وإثخان من المسلمين في صفوف المشركين، ومن بعد أن لاحَتْ علامات النصر بقوة حتى انكبّ المسلمون على الغنائم يجمعونها، انقلبت النتيجة رأسا على عقب وحلّت الهزيمة من أثر مخالفة الرماة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بملازمة أماكنهم .

بدأ القتال، فخرج الزبير بن العوام رضي الله عنه لمبارزة طلحة بن أبي طلحة فقتله،  ثم أخذ لواءَ المشركين أخو طلحة فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فضربه بالسيف فقتله، ثم حمل اللواءَ أخوهما أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجَرتَه فقتله. 

وهكذا توالى حملة اللواء من المشركين، كلٌّ منهم يُقتَل، حتى بلغوا أحد عشر . واضطربت صفوف المشركين بعد مقتل حملة اللواء، فتفرقوا، فشدّ المسلمون عليهم وأزالوهم عن أمكنتهم، وشعارهم يومئذ: "أمِتْ أمِتْ"، وحمل الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على خيل خالد بن الوليد فهزمه الله ومن معه.

واغتيل حمزة من ورائه بعدما قاتل كالأسد الجسور لا يفتُر ولا يني، بحربة وحشيّ الذي استأجرته هند بنت عتبة ليقتله منتقمة لأبيها عتبة الذي قتله حمزة في بدر. وظلّ المسلمون مسيطرين على الموقف كله حتى سُقِط في أيدي المشركين، وانكشفوا منهزمين لا يَلوُون على شيء، ونساؤهم ألقين الدفوف، وقصدن الجبل كاشفات سيقانهنّ يولوِلْن .

عنِ ابنِ عباسٍ أنه قال : "ما نصَر اللهُ تبارك وتعالى في موطنٍ كما نصَر يومَ أُحدٍ " فأنكر عليه الصحابة ذلك، فقال ابنُ عباسٍ : "بيني وبينَ مَنْ أنكر ذلك كتابُ اللهِ تبارك وتعالى إنَّ اللهَ عز وجل يقولُ في أُحُدٍ : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } " يقولُ ابنُ عباسٍ والحَسُّ : القتلُ.

يروي البراء بن عازب عن سبب  انقلاب الأمر : "جَعلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم على الرَّجَّالةِ يومَ أُحدٍ - وَكانوا خَمسينَ رجلًا - عبدَ اللهِ بنَ جُبَيرٍ، فَقال: إِن رَأيتُمونا تَخطَفُنا الطَّيرُ فَلا تَبرَحوا مَكانَكُم هَذا حتَّى أُرسِلَ إليكُم، وإنْ رَأيتُمونا هَزَمنا القَومَ وأَوطَأناهُم، فَلا تَبرَحوا حتَّى أُرسِلَ إِليكُم. فهَزموهُم، قال: فَأَنا واللهِ رَأيتُ النِّساءَ يَشتدِدْنَ، قد بَدَت خَلاخِلُهنَّ وأَسوُقُهنَّ، رافعاتٍ ثيابَهُنَّ، فَقال أَصحابُ عبدِ اللهِ بنِ جُبيرٍ: الغَنيمةَ أيْ قومُ الغَنيمةَ، ظَهَر أَصحابُكم فَما تَنتَظِرون؟ فَقال عبدُ اللهِ بنُ جُبيرٍ: أَنَسيتُم ما قال لَكُم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم؟ قالوا: واللهِ لَنَأتينَّ النَّاسَ فَلَنُصيبنَّ مِنَ الغَنيمةِ، فلمَّا أَتوْهُم صُرِفت وُجوهُهُم فأَقبَلوا مُنهَزِمين" –صحيح البخاري-

وهكذا بينما المسلمون مُنشغلون بجمع الغنائم، إذ بخالد ينقضّ عليهم من خلفهم بخيله.
إن وجعهم من انقلاب الحال من النقيض إلى النقيض لأشدّ وطأ في نفوسهم من هزيمة تبدو أماراتها من بداية المعركة ..!

5-أ) ولا تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(139)

طبطبة إلهية تواسي المؤمنين، وتُذهِب عنهم بوادر الفشل والضعف الذي أصابهم .. لا تهنوا ولا تحزنوا على ما فاتكم من نصر كنتم قاب قوسين أو أدنى من العودة مكلّلين به ..

وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ

إنكم وإن هُزِمتم، وإن دارت الدائرة عليكم، فأنتم الأعلون، أنتم الأكرم ما دمتم مؤمنين، وليس الإيمان هو ذلك العنوان الفضفاض الذي يتشدّق به القاعد، بل هو الإيمان الذي قَوامه الثقة بالله تعالى والثبات على أمره رغم النوائب ورغم المصائب .
إنه إيمان الذي لا تهزّه المصيبة ولا تأخذ بِلُبِّه المُلِمّات، بل يقوم من جديد بإيمانه ولأجل إيمانه . إيمان الصابرين، الذين لا تفتّ في عضدهم الهزيمة، بل تزيدهم إصرارا على القيام من جديد، والقوة على القيام تُستمدّ من الاستمساك بالله، ومن السعي الدؤوب لنصر دينه .

إن الظاهر نصرٌ للكافرين، وهزيمة للمؤمنين، الظاهر رجحان كفة الكفر على الإيمان...
ولكنّ كفة الكافر لا ترجح على كفة المؤمن عند الله، فذلك يحصد في الدنيا، والآخر حصاده في الدنيا بإعلاء كلمة الله وحصاده الأكبر بجزاء الآخرة .

ولننظر إلى هذه التربية الربانية القويمة، وهو سبحانه يقدّم المواساة، ولا يقدّم العتاب، ولا يقدّم التأنيب على الخطأ . إنه سبحانه عليم بمكنونات صدور المؤمنين وهم تكتنفهم حسرة ولوعة وحزن عميق على انفلات النصر من بين أيديهم انفلات العصفور الذي ما يلبث أن يطير ما أن يتفرق عن أصابع اليد القابضة عليه أصبع واحد... ! وأي حسرة هي !
كما أنها تربية ربانية دائمة مستمرة، صالحة لكل عصر...
 
ألا يظنّ المسلمون اليوم بأنفسهم الضعف الدائم والوهن الدائم، والهزيمة النفسية متمكنة منهم أيما تمكّن ؟!... إنها الموازنة السليمة التي لا  تَخْطيئ فيها حدّ التيئيس، ولا رفع فيها حدّ التغرير والتمنية بالعزّ الوهمي الذي يأتي من فراغ بدعوى عنوان الإسلام وعنوان الإيمان .. !
وسنرى لاحقا العتاب اللازم ...

5-ب)َ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141)

وهنا تبرز معالم المواساة... إنه إن يمسسكم قَرح، (القَرح هو الجرح)، فإن الكافرين أيضا قد أصيبوا بمثل مُصابكم  يوم بدر حينما قُتِل منهم سبعون، وفيهم رؤوس الكفر والتدبير.. وإن الأيام دول ..وقد سأل هرقل أبا سفيان حينما حاوره بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم  :" كيف كان قتالكم له؟ قال :الحرب بيننا سِجَال يَنَالُ مِنَّا وننال منه ، فقال هرقل : وكذلك الرسل تبتلَى وتكون لهم العاقبة".

وقد قال سبحانه : "وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ  إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ  وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا"-النساء:104-

ولنتأمل ...

ألم يعلّمنا الله تعالى قبل آيات قليلة أنّ سننه ماضية فيمن خلا من الأمم كما هي ماضية في المسلمين ؟ "قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ "

أجل... فتلك الأيام نداولها بين الناس حسب ما تقتضيه تلك السنن التي لا تتخلّف، من أعدّ واستعدّ وأطاع قائده وأحاط بشروط النصر والقوة كان النصر حليفه ... هذا والجنود أهل كفر، فكيف بجنود مؤمنين يتخلّفون عن طاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم ؟!

وإن للهزيمة دروسا لمن يعقل ويعتبر لا يُعطيها النصر ... وسنرى ذلك في تفصيل الله تعالى لمحاسن أُحُد .

ولابن القيّم كلمات عميقة في مداولة الله للنصر بين صفّ وصفّ : "لو انتصر الحق دائما لامتلأت صفوف الدعاة بالمنافقين، ولو انتصر الباطل دائما لشكّ الدُّعاة في الطريق، ولكنّها ساعة وساعة "لِيَمِيزَ اللهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَيِّب"

ويقول الرازي : "واعلم أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله - تعالى - ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين ، وذلك لأن نصرة الله منصب شريف ، وإعزاز عظيم فلا يليق بالكافر ، بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه :  الأول : إنه - سبحانه - لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات . لحصل العلم الاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل ، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب ، فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الإيمان وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية ، والمكلف يدفعها بواسطة النظر فى الدلائل الدالة على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله . والثانى : أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصى ، فيكون تشديد المحنة عليه فى الدنيا أدباً ، وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضباً من الله عليه " –مفاتيح الغيب-
« آخر تحرير: 2019-01-24, 21:05:30 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
5-ج) أما الآن فسنرى كيف يعدّد الله محاسن الهزيمة، وكلّه ضمن الطبطبة والمواساة كما عرفنا :

وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141)

5-ج-1) وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ... وتلك الحسنة الأولى من هذه الهزيمة التي كَمِد لها المسلمون، وليس معناها أنه سبحانه ابتلاهم ليعلم، ونحن نعلم أنه سبحانه المحيط علما بكل شيء، بما كان وبما هو كائن، وبما سيكون.

بل إنه يُراد به انتقال علم الله الأزليّ الغيبيّ إلى عالَم الشهادة ليعلمه الناس فتُقامَ الحجّة عليهم. لقد كان امتحان الله تعالى لعباده. لتتبيّن فيه المعادن، وتنكشف فيه الحقائق، إنه الامتحان بالأمر الأصعب على الإنسان، لقاء العدوّ... وهو لا يعلم في لقائه إن كان سيعود سالما أو أنه لن يعود إلا محمولا على الأعناق جثة هامدة ...

لتُقام عليكم الحجة، فتعلموا مع علم الله السابق بما سيحصل، وكيف سيكون تفاعل كل واحد منكم وهو في مواجهة العدو الذي يفوقكم عددا وعُدّة، ومع إرجافات المنافقين بينكم وتخذيلهم لكم، وإنّ معرفتكم بالمنافقين في حدّ ذاتها حسنة من حسنات هذه الغزوة...
ولتعلموا ما يكون من أنفسكم وأنتم منهزمون، أما تزالون مؤمنين مستمسكين بالله تعالى وبعزمكم على إعلاء كلمته وأنتم منهزمون والكفار منتصرون عليكم ؟ أم أنّ تلك التساؤلات الشيطانية التي يُلقي بها الشيطان في طريقكم مع ضعفكم وانهزامكم قد غلبت على أنفسكم ؟ كيف يكون نبيا ويُهزَم ؟ كيف تكون معيّة الله للمؤمنين ويُهزَمون ؟  ... وتلك التثبيطات التي تخوّر العزائم وتنذر صاحبها بالشؤم واليأس كأنّ تلك الهزيمة نهاية العالم برمّته ...

إنها لمن حسنات الهزيمة أن يتبيّن المؤمن حقا ممن إيمانُه على حرف : "أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"-العنكبوت:02- ...
إنه امتحان الثبات وذلك النصر الأكبر الذي يرومه الإسلام، أن يصنع أنفسا جلدة ثابتة لا يهزها خطب، قوتها لله ولإعلاء كلمته، أن يصنع تلك الهِمم الشامخة التي تورّث الهِمم الشامخة ...

وإنه لو لم يكن ذلك رأس غايات هذا الدين، فأنّى للعدد القليل الذي اجتمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقا به أن يكون البذرة التي أنبتت شجرة الإيمان الباسقة التي ألقت بظلالها الوارفة على الأرض كلها شرقها وغربها، شمالها وجنوبها ...

5-ج-2) وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ... ومن هذه الحسنات أيضا، أيها المؤمنون المنهزمون الحزانى الوَجْعَى ... أن الله تعالى اتخذ منكم الشهداء، أولئك الذين قضوا على أيدي المشركين وحزنتم على قتلهم، إنما هم الشهداء عند الله تعالى المكرَّمون الذين اتخذهم سبحانه مقرّبين فاختار لهم الشهادة ... "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا  بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) "-آل عمران-

عن رجل من الصحابة أنَّ رجلًا قال : "يا رسولَ اللهِ ما بالُ المؤمنين يُفتنون في قبورِهم إلَّا الشَّهيدَ قال : كفَى ببارقةِ السُّيوفِ على رأسِه فتنةً" –صحيح النسائي-
وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، تأتي خاتمة للآية، الذين ظلموا أنفسهم بنبذهم للحق وراء أظهرهم وباستمساكهم بأحابيل الكفر الواهية. تأتي عقب ذكر كرامة الشهداء تدليلا على حبّ الله للشهداء بخلاف الظالمين الذين باؤوا بكره الله لهم ... نسأله سبحانه أن يرزقنا ما يجعلنا أهلا لحبّه لنا.

5-ج-3) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ... التمحيص يعني التخليص من الشوائب... إنه الابتلاء الصعب الذي يُصعِد نارا تُذيب المعدن لتنقّيه من كل شائبة فيبقى صافيا نقيّا ..
قد عرفنا بدايةً كيف جُعلت الهزيمة امتحانا ليُعرف الثابت من المتزعزع : " وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ "  ثم هؤلاء المؤمنون الذين تميّزوا عن غيرهم من المنافقين والمؤمنين على حرف، بعدما عُلِموا يعمل في أنفسهم التمحيص... لتذهب النقيصة من النفس وتزكو وترتقي، ولتتخلّى من الرذيلة وتتحلّى بالفضيلة ...

5-ج-4) وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ... والمَحق بمعنى الإهلاك، وأصله الذهاب شيئا فشيئا، ولذلك نعرف المُحاق وهو الهلال في آخر أطواره حينما يؤول إلى زوال واختفاء فيبقى منه خيط رفيع .

فكما كانت الهزيمة امتحانا لثبات من بقي حيا من المؤمنين، وكانت فيها العطيّة للذين اختيروا من رب العزة شهداء، وكانت تمحيصا وتنقية للنفوس المؤمنة لتزداد إيمانا على إيمان وهدى على هدى، فهي أيضا مَحق للكافرين وإهلاك لهم، وهم على ما هم عليه من الكفر والشرك، يفعل فيهم النصر فعل السوء، فيُصابوا بالبطر والغرور والانتفاش والزهوّ بمظاهر ليس من ورائها غاية تُرجى إلا الدنيا، فتكون حدودها الدنيا، وتكون كالبنيان القائم من رمل ما أن تأتي عليه موجة خفيفة حتى يذهب ويزول كأن لم يكن ... !
وبالمقابل المؤمن المُمحَّص سيزيد تحفّزا وتأهّبا. يقول محمد أبو زهرة في ذلك : "لأن العزائم قد تحفزت حذرة لمنازلتهم، فكانت الهزيمة سبيلا للنصر، وكان الجرح سبيلا لإعلاء كلمة الله تعالى."-زهرة التفاسير-

وهنا أستحضر من تلك الأدوية المعالِجة ما عرفنا في الآيات (130-138) ... تلك التعهّدات التي تفعل فعل الماء الذي يسقي النبتة كل حين وحين لترتوي ولئلا تذبل، بل تزيد إيناعا، وتزيد نماء وخضارا ... لا تأكلوا الربا، أطيعوا الله والرسول، سارعوا إلى المغفرة وإلى الجنات، لا تكن الدنيا أكبر همّكم ولا مبلغ علمكم ...

كونوا من المتقين الذين لا تأسرهم المادة ولا تستعبدهم، يحسنون كظم الغيظ، والعفو عن الناس، وإنكم بشر من البشر تخطؤون كما تصيبون ولكن لا تصروا على الفاحشة ولا على ظلمكم أنفسكم بالذنوب... فإنها المغفرة من الله المنجّية، وإنها الجِنان ....

هناك دائما ما هو أكبر أنتم له عاملون، هناك ما لا يزول ولا ينتهي ولا يفنى ... هناك ما يستحقّ العناء والصبر والثبات رغم كل المُلمّات ... وكله من عطايا الله سبحانه ...
هناك الله الذي في سبيله تهون كل مصيبة، ويهون كل صعب... !

وبعد كل هذا كيف يبدو أنّ تلك الآيات (130-138) جاءت منفصلة عن الغزوة ولا علاقة لها بالغزوة... إن الله تعالى يعلّمنا كيف لا تنفصل التزكية عن الجهاد، كيف أنّ الإسلام كلٌّ متكامل، يجعل من الإنسان أرضا يُبذَرُ فيها ويُتعهّد الزّرع لينمو ويُزهِر فيُعطي ويُغدِق، ويشتدّ عوده فيثبت ليقاوم الرياح العاتية والأيام الشاتية، والحرارة اللافِحة، ويعود ليُعطي في كل حين ...

إنها شجرة المؤمن أصلها ثابت وفرعها في السماء ...!
« آخر تحرير: 2019-01-24, 21:07:20 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
5-د) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142)
استفهام استنكاريّ من رب العزة سبحانه، جاء بعد ذكر كل تلك الحسنات التي تُجنى من الهزيمة، والتي غُمّيت على المؤمنين ساعة حزنهم ... جاءت بعد المواساة والطبطبة الإلهية الرفيفة التي حنتْ على المؤمنين لتنتشلهم من حسرتهم وأساهم، وتبثّ الأمل في نفوسهم من جديد، وأنّ ما هم فيه من ألم فوائده جمّة، يُعَبّ منها للقيام بنور أسطع وإيمان أكبر ...

أم أنكم حسبتم أن الجنّة سهل منالُها ؟!

إن هذه المصائب والشدائد التي تحلّ بكم مهرُها، وأنعِم بها من عروس لا يعزّ عليها مهر ... ! وقد قال صلى الله عليه وسلم : " حُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ وحُفَّتِ الجنَّةُ بالمكارِهِ"

إنكم لن تدخلوها حتى تتعبوا، وحتى تُمحّصوا ...
أفحسبتم أن تدخلوها ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ؟
-وكما أسلفنا-  هو علم الله تعالى الأزلي الذي عنده منذ الأزل، ولكنه في طيّ الغيب، وإنه ينتقل إلى الشهادة لتُقام الحجة على الناس ...  ليدخل صاحب الجنة الجنة وقد علم أنه اجتاز امتحانه، ونجح إذ ثبت ولم يتزعزع إيمانُه ... ليعلم الذي جاهد أنه جاهد، وليعلم الذي صبر أنه صبر ... فهذا اليوم جزاؤه الذي وعده ربُّه ... عيانا، يراه ويلمسه، ويشمّ ريحه ...

غزوة أُحُد ... ذلك الامتحان الذي جعله الله للمسلمين... فلما كان منهم ما كان من مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تكن أُحُد نصرا، ولكنها كانت مدرسة عظيمة دخلوها، فكانوا من خيرة من يتعلّم ويتعظ ويعتبر ... لقد كانت دروسُها مِلْء أسماعهم وأبصارهم ... لم تغادِرهم... لم يعودوا لمعصية الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها في غزوة قط ...

ولقد عرفناهم في غزوة الأحزاب صُبْرا جُلْدا، وقد اجتمع عليهم عشرة آلاف مشرك متظاهرين متآزرين لاستئصال شأفتهم ... لم يبرحوا أماكنهم، ظلوا فيها على الطّوى وعلى الظمأ وهم ثابتون لا يتزحزحون، لا يعودون إلى ديارهم وهي القريبة منهم، من بعد ما حفروا خندقا عظيما استغرق منهم حفْرُه الأيام والليالي ... ظلوا على تلك الحال صابرين شهرا والمشركون من أمامهم، وبنو قريظة الغَدَرة من ورائهم  حتى نُصِروا ...

فلقد تعلموا من أُحُد ...

ولقد عرفناهم في غزوة مؤتة يخوضون حربا وسط بحر من الروم ومُواليهم من العرب، بحر متلاطم الأمواج، يكاد يكون عددهم إلى عددهم خيالا من الخيال ... بسلاح وكُراع لم يعرفوا مثله قطّ ... فاستُشهد القادة الثلاثة زيد وجعفر وعبد الله، وكان لمَن في مثل موقفهم بالغ الصعوبة، والذي لا ينجو منه أحد أن يعودوا أدراجهم وقد قُتل القادة الثلاثة، ويفرّوا من جيش عرمرم يحيط بهم إحاطة السِّوار بالمِعصم ...  ولكنهم لم يفعلوا ! بل لقد ثبتوا، وأبوا إلا أن يكملوا، فأمّروا عليهم خالدا مقبلين غير مُدبِرين، حتى فتح الله عليه، وكاد للروم وعاد بجيش المسلمين سالما من بحر خضمّ ...

فلقد تعلموا من أُحُد ...

لقد كانت أُحُد مرحلة مفصليّة، ومحطة بالغة الأهمية، وهي التي لم يكن فيها نصر ... بل كانت فيها هزيمة مع حزن وحسرة على تفويت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
كانت لأُحُد آثارها البارزة في كل ما أقبل من غزوات المسلمين وحُروبهم ... كانت مدرسة ذات دروس عظيمة جليلة ... ما نزال نعرف المزيد منها في عَرَض المقبل من الآيات ...

6-وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ(144)

لقد كنتم متشوقين للخروج في سبيل الله، وكنتم تتمنون الموت في سبيله، فها أنتم تنظرون إليه بأعينكم، وتلمسون علاماته لمسا، وتعرفون شدّته  ... هو هذا امتحانكم ... ليس أن تقولوا بأفواهكم، بل أن تخوضوا الغِمار بأنفسكم، بقلوبكم وجوارحكم ...

وما أسهل القول، وما أسهل الحديث عن الشجاعة والإقدام باللسان..! أما ساعة الجدّ فهي هي الامتحان لا غيرها... هنالك يُعرف المقبل من المدبر، والشجاع من الجبان، والذي تمنى الشهادة حقا من الذي ردّد أمنيته كلمات باللسان ...

لنتأمل ...

لقد خرجنا من طَوْر المواساة والطبطبة إلى طور جديد، بدأت فيه المُواجهة المباشرة حول ما كان  ...
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ(144)

إن هذا من أهم ما كان يوم أُحُد، ذلك أنه لما التفّ خالد على المسلمين من بعد انكشاف ظهورهم وقد نزل الرُّماة عن أماكنهم ... طُوّق المسلمون، ووضع فيهم المشركون السيوف، وأوجعوا فيهم قتلا ذريعا، فانتقضت صفوفهم، واختلطوا، فصاروا يقتتلون على غير شعار، ويضرب بعضهم بعضا ما يشعرون مما أصابهم من الدهش والحيرة.

وتراجع المسلمون وترك بعضهم ساحة القتال، وثبت مصعب بن عمير رضي الله عنه حامل اللواء، يقاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحمل اللواء بيد بعدما يقطع ابن قمئة يده الأولى، ويحمله بعضديه وقد قطعت كلتا يديه، ولم يسقط منه إلا عندما بارحت روحه الطاهرة جسده، وأسلمت لبارئها وزادُها إلى الله ثقيل ثقيل ثقيل... ما أثقله !

ولما قَتَل ابن قمئة مصعب بن عمير، وكان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم إذا لبس لأمَتَه، ظَنَّ أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش وهو يصرخ بأبعد صوت: ألا إن محمدا قد قُتل، فلما سمع المسلمون ذلك وكانوا قد أصابهم الاضطراب، وهدّتْهم الحرب، سُقط في أيديهم وكادت أن تنهار الروح المعنوية في نفوس كثير منهم، وأصبحوا حيارى لا يدرون ماذا يصنعون .

فانقسموا ثلاث فِرَق:فرقة لاذتْ بالفرار وتركت ساحة القتال، وفرقة ثانية ثبتت واستماتت في القتال دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفرقة ثالثة تحيّر أصحابها فلم يعرفوا ما يفعلون، فقال بعضهم: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي بن سلول، فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، فارجعوا إلى قومكم ليؤمّنوكم قبل أن يأتي المشركون فيقتلوكم..

وفي هذه الشائعة التي بُثّت في الصفّ المسلم نزل قوله تعالى : " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ(144)"
ها هي الهزة التي يجب أن يتيقظ بها المسلمون، ها هو الخطر العظيم الذي جعل الله تعالى للمسلمين دُربة عليه من قبل حصوله رحمةً بهم وإنجاء لهم من الهلاك ... إنه نبأ موت رسول الله صلى الله عليه وسلم... ذلك الذي لم يُعِدّ المسلمون له عُدّتهم، فإذا ما وقع لم يُصدّقوا، واضطربوا، واهتزّت نفوسهم أبلغ اهتزاز حتى يُخاف أن تصير مرتعا للشك والاضطراب والحيرة بدل اليقين والثبات ...

لقد كانت شائعة وما كانت حقيقة ... ولكنها كانت امتحانا لإيمان المؤمنين، أيثبتون حتى وإن مات الرسول صلى الله عليه وسلم أم ينكصوا، وينقلبوا على أعقابهم، ويرجعوا بعده كفارا ؟!

إننا لم نجرّب هذا الامتحان الصعب، لأننا وُلِدنا ولم نعرف رسولنا صلى الله عليه وسلم ولم نصاحبه ولم نعايشه، بل وُلِدنا وكبرنا على أنه صلى الله عليه وسلم مات من قرون، وأنّ الدين بعده هو الباقي وهو الذي لا يزول ...

أما الصحابة فقد عايشوه، وقاربوه، وحدّثوه، وكانوا بين طارق وطارق كلما ألمّت بهم مُلمّة من شؤون حياتهم... واستناروا بنور وجهه الوضاء، واسترشدوا بما أوتي من جوامع الكلم العظيم، وعرفوا رأفته بهم وحنوّه عليهم، ولينَه معهم... فكان فَقدُه مصيبة عليهم، وأي مصيبة!

ولذلك فإنّ هذه الشائعة التي بُثّت فيهم كانت لهم دُربة، وكانت لهم تذكيرا ومنجاة... وليس أدلّ على كونها كذلك من قراءة أبي بكر رضي الله عنه لهذه الآية تحديدا يوم التحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم  بالرفيق الأعلى، حينما اهتزّ المسلمون، وصُدموا صدمة عظيمة، يومها خرج أبو بكر فوجد عمر يتململ لا يعرف ما يفعل، وهو لا يصدّق بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام  أبو بكر في الناس وقال: "أما بعدُ ، فمَن كان منكم يَعبُدُ محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا قد ماتَ ، ومَن كان منكم يَعبًدً اللهَ فإن اللهَ حيٌّ لا يموتُ . قال اللهُ : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل - إلى قوله - الشاكرين .

يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : "واللهِ لكأَنَّ الناسَ لم يَعلَموا أن اللهَ أنزلَ هذه الآيةَ حتى تلاها أبو بكرٍ ، فتلقاها منه الناسُ كلُّهم ، فما أسمعَ بشرًا مِن الناسِ إلا يَتلوها ."

وعندها قال عمر رضي الله عنه  : "واللهِ ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكرٍ تلاها فعَقِرْتُ ، حتى ما تُقِلْني رجلايَ ، وحتى أَهْوَيتُ إلى الأرضِ حينَ سمعتُه تلاها ، علمت أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد مات ." –صحيح البخاري-

أولستم تشهدون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أوليس قد علّمكم أنه رسول من رسل الله ؟ أولستم تعلمون أنه آخر الأنبياء بعثة إلى الأرض، وأنه الرسول الخاتم، وأن كلّ من كان قبله من الرسل قد مات ؟
فإنه واحد من أولئك الرسل البشر الذين جرت عليهم الموت، وهي على محمد صلى الله عليه سلم ستجري...

أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ

أفئن مات محمد صلى الله عليه وسلم، تموت في قلوبكم الرسالة؟ تذهب من أنفسكم ؟ ينتهي دورها في الأرض ؟!

إنها الرسالة الخاتمة، وإنه الرسول الخاتم، وإنه صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى : "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ"-الزمر:30-
أما الدين فهو الباقي، فهو الذي يدرّب الله عباده على الاستمساك به ما حيوا ... محمد بشر، وهو إلى ذهاب عن الدنيا، أما هذا الدين الذي جاء به فهو إلى بقاء ... وهو على عواتق المؤمنين من بعد محمد صلى الله عليه وسلم ...

يقول سيد قطب رحمه الله : "وكأنما أراد اللّه - سبحانه - أن يأخذ بأيديهم ، فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى. العروة التي لم يعقدها محمد - صلى اللّه عليه وسلم - إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون! وكأنما أراد اللّه - سبحانه - أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة ، وأن يجعل عهدهم مع اللّه مباشرة ، وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام اللّه بلا وسيط. حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة ، التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - أو يقتل ، فهم إنما بايعوا اللّه. وهم أمام اللّه مسؤولون!"-في ظلال القرآن -
« آخر تحرير: 2019-01-24, 21:21:42 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وإنه ليس درسا للصحابة وحدَهم، بل هو استفهام يوجّه إلينا نحن بقوة : أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ

أفننقلب على أعقابنا من بعد موت رسولنا صلى الله عليه وسلم ؟
أفننقلب على أعقابنا ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فينا ؟!
أفننقلب على أعقابنا ونقول أولئك صاحبوه وعرفوه، أما نحن فما عرفناه ولا صاحبناه ...؟!

إن القرآن هو الحي الذي لا يموت، وإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا هي الحية ...

وإنه صلى الله عليه وسلم قد علّمنا أنه تارك فينا ما إن اتبعناه لا نضلّ بعده أبدا ... كتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم ...
وإننا نعايش الهجمات ذات الضروب والألوان على سنّته صلى الله عليه وسلم، والمهاجمون من القرآن في توقّف وتحذّر حتى لا تفوت عليهم فرصة التشكيك وإفساد العقيدة على المؤمنين، حينما يتنبّهون للمقدّس الأعلى وهو يُمسّ على أنه الوحي الإلهي، والكلام الإلهي ... !

فهم يعملون عملهم مع السنّة، ويجهل مَن يجهل من المؤمنين –وأغلبهم جاهلون للأسف- أنها الوحي مع الوحي ... ! يجعل هؤلاء الخبثاء من نقل الصحابة لها، ومعالجة العلماء العظماء لما نُسب للرسول كذبا عبر حِقَب الدولة الإسلامية بتنقيتها، مطيّة لمآربهم الخبيثة، على أنهم النّقلة، وعلى أنهم البشر الذين اجتهدوا وليس لاجتهادهم قداسة، ولا لعملهم كمال، ولا أنه المبرّأ من أن يُقال فيه أو يُقال، وعلى أنّهم أهل النصوص لا أهل إعمال العقول...  و كثير كثير مما يُقال، يُلقى بين تلافيف الكلام كما يُلقى السمّ الزُّعاف حباتٍ حباتٍ على قطعة تُؤكَل ... !

وسورتنا هذه –كما عرفنا- تعالج جهل المؤمن، وتحذّر من أن يكون جاهلا بدينه، تحذّره من أن يكون عقله نَهبا لأهل الشُّبَه والادعاءات ...
أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
كم أنّ لها وقعا في زماننا ! وكم يلازِمُنا ألم مبرح من سطوة أهل الشُّبَه على عقول كثيرين جدا من المسلمين، سطوة من وجد الساحة خالية، والمُحارَب بلا سلاح... !

وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ

لن يضرّ الله شيئا من انقلب، ومن اضطرب، ومن اهتزّ ، ومن لم يثبت ...
لن يضرّ اللهَ شيئا من ينصاع لأدعياء التجديد اليوم وهم يسمّون تجديدا عملهم على جعل الدين موائما للأهواء وللانفلات من قيد التكليف باسم الحريات، لن يضرّ الله شيئا انسياق شباب المسلمين خلف كل ناعق يدّعي التجديد ليكون الدين متقبّلا عند أهل الصرعات والأهواء والانبهار بالغرب وصيحات الغرب المتفلّت ... !

حتى لكأننا سنسمع يوما عن الغرب وهو يدعو للعودة والأوبة إلى الفطرة، والانعتاق من أغلال الماديّة المُطبِقة على الأنفس والأنفاس، سنسمع يوما عن تكوينه جماعات تدعو للعودة إلى حكم الإله الواحد مُنزِل المنهج للعباد من بعد تعبهم وشقائهم بمناهج العباد ... !
يومَها ... هل سنسمع مع ذلك أيضا اتباع المسلمين لهم، وعودتهم لعودة الغرب ؟؟! من فرط الاتباع الأعمى الذي نعيشه، ربما اتبعوا دينهم إذا اتبعه الغرب يوما !! وليت شعري أي حسرة هي !!  .... وإنه : وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً.

وتكتمل الآية بقوله سبحانه : وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ
وقد يتبادر إلى الذهن تساؤل حول محلّ "الشاكرين" بدل "الصابرين" ..

فيحضرني قوله سبحانه : "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا"-الإنسان:03-
فجاءت المقابلة هنا بين "شاكرا" و "كفورا" إذ أنّ الشكر هو عدم جحد نعم الله تعالى وعدم كفرانها، ورأس نعمه سبحانه الهُدى إلى الحق. فهو سبحانه قد هدى السبيل ودلّ عليها، وعلى الإنسان ما يكون بعدها، فإما شاكرا وإما كفورا ... والشكر على الهُدى هو الإيمان والثبات عليه.
لذلك أجد مقام "الشاكرين" هنا أحقّ مقام، وهو على عكس حال المنقلب على عقبَيه، إنه الثابت على الهُدى الذي لا يهزّ إيمانَه هازّ ...

ولقد كان على رأسهم أنس بن النضر الذي غاب عن قتال بدر، فأقسم : "لئن اللهُ أشهدني قتالَ المشركينَ ليَرَيَنَّ اللهُ ما أصنعُ " فلما كان يومَ أُحُدٍ ، وانكشفَ المسلمونَ ، قال : اللهمَّ إني أعتذرُ إليكَ مما صنع هؤلاءِ ، يعني أصحابَهُ ، وأبرأُ إليكَ مما صنعَ هؤلاءِ ، يعني المشركينَ . ثم تقدَّمَ فاستقبلَهُ سعدُ بنُ معاذٍ ، فقال : يا سعدُ بنَ معاذٍ الجنةُ وربِّ النضرِ ، إني أجدُ ريحها من دونِ أُحُدٍ ، قال سعدٌ : فما استطعتُ يا رسولَ اللهِ ما صنع ، قال أنسٌ : فوجدنا بهِ بضعًا وثمانينَ : ضربةً بالسيفِ أو طعنةً برمحٍ أو رميةً بسهمٍ ، ووجدناهُ قد قُتِلَ وقد مَثَّلَ به المشركونَ ، فما عرفَهُ أحدٌ إلا أختُهُ ببنانِهِ " –صحيح البخاري-

وفيه وفي أمثاله نزل قوله تعالى : " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً(23)"-الأحزاب-

إذن فأن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه، فذلك من قضاء الله في عباده كلهم، وفيمن خلا من قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم جميعا ... وإنه لاجتماع المصائب على المسلمين، هزيمتهم وشائعة موت نبيّهم ... ورغم ذلك كلّه فهو الامتحان الإلهيّ في هذه الموقعة بهذه المصائب الشديدة ليُمَحَّص المؤمنون حقّ تمحيص، وليعلموا علم اليقين أنّ الداعية إلى ذهاب، ولكنّ الدعوة باقية ...
وها نحن اليوم والمصائب مجتمعة علينا... في هزيمة وفي استضعاف، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم ليس فينا، ولكنّ القرآن فينا، والسنة فينا ... وذاك  امتحانُنا ... !

نتعلّم الثبات في كل مقام من مقامات هذه السورة-كما رأينا- ... ونتعلم الثبات من غزوة أحد رغم كلّ المصائب المجتمعة، ورغم كل علامات الضعف ... ! ونتعلم العمل على البقاء مع الدعوة لا مع شُخوص الدّعاة ...
« آخر تحرير: 2019-01-24, 16:43:32 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
7- وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ(145) وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(147) فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(148)

إننا الآن نعرف في هذا الطور الجديد، بعد المواساة مواجهة المسلمين بما كان منهم، وهو سبحانه هنا يعلّمهم ما يجب أن يكون عقيدة راسخة في نفوسهم لعلمه بتخاذل مَن تخاذل بينهم، وبمخالفة مَن خالف منهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لكأن هؤلاء قد رغبوا بملذات الدنيا أكثر من رغبتهم في الآخرة، وعلى هذا استدعى الأمر معالجة ما بأنفسهم حتى لا يعلق بها وهو الشائبة الضارة المُهلكة، وحتى لا يراه المؤمنون مِن حولهم والمؤمنون من بعدهم هَملا من الأمور قد حصل ولا يحتاج تربية ولا تقويما ...

وهكذا، يستطرد الحديث عن الموت والحياة، من بعد ما عرفنا من عتاب الله تعالى للمؤمنين على اضطرابهم واهتزازهم عند سماعهم شائعة مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يمت حقا، ولكن لن يكفي أن تعلموا أنه لم يمت لتعودوا ثابتين، بل يجب أن تعلموا أنه ميت، وأنه كسائر الرسل الذين سبقوه سائر إلى الموت، وثباتكم مع علمكم بموته هو المُبتغى ...
وهذا ما يرمي إليه الله تعالى، أن تثبتوا بعده  ...

لذلك وجب أن يتعلم المسلمون الموت عقيدة راسخة، لا يجزعون إذا ما حلّت ...
لا يجزعون ولا تذهب ريحُهم وريح عملهم للدين حتى وإن مات الذي بُعِث بهذا الدين، فكيف بمن هو أدنى منه منزلة ؟!!   وكل الناس وكل المؤمنين، أدنى منزلة منه صلى الله عليه وسلم ... لذلك يأتي التعليم الرباني العظيم :
7-أ)وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ(145)

لن يموت محمد إلا إذا حضر أجلُه، وإن أجله لم يئن أوانه يوم أحد، وكل نفس ذائقة الموت، وكل نفس تموت بإذن الله تعالى وبأجلها المؤجل، لا تؤخر عنه ولا تُقدّم ... فلا يمنع حذر من قدر، لا يمنع خوف من خوض غِمار الحرب ومن غِشْيان ساحة الوغى من الموت...

وهذا خالد بن الوليد الذي عاش حياته في ظلال السيوف، ومع سيفه المسلول أبدا في سبيل الله، لا يُغمَد، يخوض المعارك العظيمة، ويبارز الجيوش المجيّشة لا يموت إلا على فراشه ! بينما قد يخرج أحدهم للقتال مرة فيأذن الله أن يموت منها ...

إنه الأجل ... إنه الكتاب المؤجل بساعة، والموت آتٍ لا محالة، وإن تترّس منها الناس بالتروس : "أيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ... "-النساء:من78-
وفي هذا حضّ للمؤمنين على الإقدام في سبيل الله، وأن يزْوُوا الجُبن والخوف جانبا...

وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ

وبعد تمكّن هذه العقيدة من النفوس، فإنّ كلا وما يختار، فمن كان مطلبه الدنيا فإنّ الله يؤتيه إياها، ونحن نعرف الكفار وهم مغيّبون عن معرفة الله وتقديره حقّ قدره، لا يرومون غير الدنيا، وكيف أن الله يعطيهم مطلبهم، فهم في غاية الترف ومبلغ الرخاء ...
ومن يرد ثواب الآخرة إنما هو المؤمن حقا، لا يدير ظهره للدنيا في فهم معوجّ لمعنى أن المؤمن غايته الآخرة، بل يعمل في الدنيا ويعيش في الدنيا، وعينُه على  الآخرة وهي مبلغ مُناه... وإننا لنتعلم ذلك من القرآن: "... رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ "-البقرة:201-

المؤمن الذي لا يتحجّج بأنه مريد آخرة، وأن الدنيا جنة الكافر ليترك دوره في إعمار الأرض وهو يسعى سعيه لإعلاء كلمة الله فيها ... حتى استفحل هذا الداء في الأمة واستشرى، لأنه مِشجب الضعفاء يعلّقون عليه تقاعسهم، ويتخذونه ستارا دون تقصيرهم في القيام بدورهم في إصلاح الأرض...
وفي الآية  إشارة لمن سارع إلى الغنائم من المسلمين حتى انكشفت ظهورهم للمشركين.. وكيف أنّ قلبَهم للأولويات قد أحدث ما أحدث من شرخ كبير ...

7-ب) وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(147) فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(148)
إنه سبحانه يعلّم المسلمين، ويجعل المؤمنين الذين سبقوهم قدوة لهم، ويضرب لهم بهم الأمثال ليعتبروا، وليعلموا أن موكب الإيمان ضارب في القِدم، وأنّ الجهاد في سبيل الله تعالى كان  على امتداد الأنبياء وعبر بعثتهم للأرض هُداة ...

ولا يخلو التعليم الرباني من ضرب الأمثال، ومن ذكر القدوات . ولقد عرفنا في هذه السورة مثلا :
1-ضرب المثال بفرعون في أن الكافرين لن يغني عنهم مالهم وقوتهم من الله شيئا . "كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ  وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(11)"
2-ضرب المثال بالأمم السابقة في أن النصر حليف المؤمنين ما وفّوا بالشروط اللازمة، وأنّه قد يكون للكافرين حينما لا يحقق المؤمنون شروطهم . "قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(137)"
3-ضرب المثال هنا بالأنبياء السابقين وبمن كان معهم من جند الإيمان .

لقد كان من قبلكم مؤمنون ثابتون، مع أنبياء كُثُر كانوا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا ربيّين أي  ربانيين متبعين لأنبيائهم ولما جاؤوهم به من الهدى، وكانوا على القوة اللازمة، إذ :

** فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ : أي لم تتململ أنفسهم، ولم تضطرب، بل كانوا ثابتين رغم كل ما لاقوه في سبيل الله من الأذى والضرب والجراحات .
** وَمَا ضَعُفُواْ : والضعف ينتج عن ذلك الوهن الذي يصيب النفوس، فيحدث الفشل واليأس من القيام بعد السقوط، ومن هذا الحال كثير نعانيه في أيامنا هذه، في أنفس للمؤمنين ليست لها غاية ولا هدف من الدنيا إلا العيش، وتكوين الأسر للأكل والشرب وإشباع الأهواء ما أمكن ثم الموت، الموت بعد حياة بلا قضية وبلا تضحية من أجل القضية ... !
** وَمَا اسْتَكَانُواْ : وهذه الصفة الثالثة لهم، أنهم لم يرضوا ذلا ولا استكانة تحت وطأة مَن هم أكثر منهم قوة وأغلب مادة ...
وإنما هذه الصفات الثلاث صفات الصابرين، وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ

وقد قال أبو زهرة في حبّ الله للصابرين  : "ونقف هنا وقفة قصيرة عند معنى الصبر، واستحقاقه للمحبة لَا لمطلق الجزاء، إن الصبر ليس هو احتمال الشدائد، فقط، بل هو ألا يتضعضع عند نزولها، وألا يضطرب التفكير عند اشتداد الشديدة، وأن تنفي مطامع النفس إلا ما كان منها إجابة لداعي الحق ونصرته، وأن تخلص القلوب عن شوائب الشهوات فلا تخضع لها ولا تذل، بل تتحكم كل نفس في أهوائها، وألا يكون أنين ولا شكوى ولا ضجيج، وهذا هو الذي سمى الصبر الجميل، والصبر على هذا المعنى هو أجل الصفات الإنسانية وأكملها؛ لأنه ضبط النفس، وكمال العقل، وسيطرة الحكمة وقوة الجنان، وهو يتضمن في ثناياه معنى الشكر، فهو عنصر من عناصره، ومظهر من مظاهره، وكان الجزاء أعلى جزاء، وهو المحبة من الله، ومحبة الله تعالى تتضمن رضوانه، وتتضمن ثوابه، وهي مرتبة أعلى منهما، ولا ينالها إلا الصابرون. "-زهرة التفاسير -

هؤلاء الصابرون، الذين كانوا مع الأنبياء السابقين، كيف كانوا عند لقاء العدوّ ؟

وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(147)

لقد سألوا الله أول ما سألوا مغفرة الذنوب وإسرافهم في أمرهم ... إنهم مقرّون بضعفهم بين يدي الله، مقرّون بأنهم أصحاب الذنوب والزلات، لم يدخلوا الحروب بطرا ولا رياء ولا فخرا، بل دخلوها رجاء ثواب الله تعالى، ورجاء مغفرة ذنوبهم، دخلوها وهم بين يدي الله الضعفاء المساكين الأذلاء ... أما مع أعدائهم من الكفار فهم الأشدّاء عليهم الأعزة بالله، المنافحون عن دينه ...

إن ذلّهم وانكسارهم لله وحده سبحانه المعبود الذي يُرجى رضاه ... هؤلاء الذين يذلّون بين يدي الله هم الذين يُعليهم الله، ويرفع درجاتهم ويعزّهم ...

هؤلاء الذين يسألون المغفرة والثبات قبل أن يسألوا النصر ذاته ! إنهم يعلمون أنهم السبب في استحقاق النصر كما أنهم السبب في استحقاق الهزيمة...
إنهم يقدّمون من أنفسهم كسبب قبل أن يقدّموا النتيجة ... إنهم عارفون بالمعادلة، وليسوا أهل اغترار بعنوان الإيمان ... بل إنهم يعلمون أنّ ساحة أنفسهم الأرض الأولى التي تستحقّ النصر على شوائبها قبل أن يُطلَب النصر على العدوّ في ساحة الوغى ...
وإنّ سؤالهم الثبات قبل النصر لهو سؤال العارف بالغاية العظمى من هذا الدين، الثبات الذي يكون مفتاح النصر ومفتاح كل عزّ وقوة وتمكين

فماذا استحقّ هؤلاء من الله تعالى ؟
فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(148)
« آخر تحرير: 2019-01-24, 21:50:09 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
أحُد وأيامنا

لكَم ينطبق الأمر علينا ...! لكم هي مشابهة أيامُنا ليوم أُحُد ..!

لكم يناسب ويليق كلّ اللَّياق أن تكون غزوة أحد هي أول ما نعرف تفاصيله من الغزوات في ترتيب المصحف ! إذ أننا لا نجد تفاصيل بدر ونصرها أولا، بل تفاصيل غزوة أحُد، بهزيمتها وبالضعف الذي اعترى الصحابة فيها، وبدروسها الجليلة... !
نقف على الدرب، نتخذ من القرآن مشكاتنا المضيئة، نستهدي ربّنا، فيعلّمنا أن الهُدى في هذا الكتاب لا في غيره... ويعلّمنا أن فيه المنهج الذي يبلّغنا التوفيق والفلاح في مسير الحياة،  ثم ها هو سبحانه يثبتنا عليه، ونحن في أمسّ الحاجة للتثبيت، في زمن تتلاطم فيه أمواج الفِتن وتجتاح المسلمين اجتياحا ...!

ونحن اليوم نعايش هذه الظروف... نعايشها لا على مستوى هزيمة في حرب، وفي لقاء، بل على مستوى هزيمة طال أمدُها، وضُعفٍ امتدّ زمانُه ... لنجد في مرامي الآيات، وما رُتّب فيها من الشروط ومن الخصائص التي يجب توفّرها في الأمة لتتقوّى داخليا، ولتتأهّل من ثَمَّ للمجابهة الخارجية، نجد فيه مجتمعا الوصفة والتركيبة اللازمة من الدواء الشافي  لعلل وأدواء نعايشها ...

كم نحتاج دروس أحد ... للتقوية والتثبيت، لنتعلّم أن قوة الإيمان والتّقوى والثبات على الحق بكل آليات الثبات، من تبصّر بهداية القرآن، ومن طاعة لله ولرسوله، ومن علم يقيني أنّ رسالة إصلاح الأرض على عواتق المؤمنين لا على عواتق غيرهم، ومن حبّ للترقّي في سلم الإحسان، مع العمل على استيفاء شروط القوة... كل ذلك يقلب الهزيمة نصرا...

لنتعلّم أنّ الثبات وتمكّن العقيدة من أنفسنا، والعزّة بالله وبالإسلام عوامل بالغة الأهمية في الإقدام، وفي القيام من جديد رغم اجتماع المصائب وكثرة النوائب ...
نحتاج أن نتعلم أن كل وضع نكون فيه، مهما بلغت صعوبته، وإن رأيناه هزيمة ساحقة ورزءا ما بعده رزء، يكون علاجه الصبر والأمل في الله والعمل على التقوّي، مع تقديم الآخرة في النفوس على الدنيا، بهذا تُقلب الكفة لصالحنا، وهي أصلا لصالح المؤمنين، إلا أننا ابتعدنا فابتعد عنا النصر ...

فهي إذن دعوة لاسترجاع الأصل : النصر للمؤمنين لا للمضيعين من أهل الإيمان ...


فهي إذن دعوة لاسترجاع الأصل : النصر للمؤمنين لا للمضيعين من أهل الإيمان ...
« آخر تحرير: 2019-01-25, 10:31:31 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
إذن فلقد عرفنا :


ثم تستطرد الآيات :
8- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ(149) بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ(150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ(151)

كنا مع ضرب المثل بالمؤمنين السابقين على صبرهم وثباتهم مع أنبيائهم، وكيف أنهم ما سألوا النصر أوّل ما سألوا، وإنّما سألوا المغفرة والثبات، في تعليم ربانيّ دقيق أنّ النصر الأكبر الذي يُرام لهذا الدين هو أن يكون له رجال ثابتون لا تهزّهم الخُطوب ولا تزلزلهم النوازل، يحرقون الفِتن ولا تحرقهم الفِتن ...

وها نحن الآن نستمع للتوجيه الرباني، وهو سبحانه العليم بدخائل النفوس، عليم بما تفعل الهزيمة فيها، هزيمة يعلم أصحابها أنهم السبب فيها، فهم يذوقون ما جنتْ أيديهم...

ثم إنّ حُزْنَهم على عصيانهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشدّ عليهم من الهزيمة ذاتها ...
وفي أُحُد –كما عرفنا- حينما انتشرت شائعة مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم انقسم المسلمون فرقا، منهم فرقة تنادتْ بالسعي إلى أخذ الأمان من قريش :" لو كلّمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان" .

إذن فهناك من بلغ به الاضطراب، والوَهَن النفسيّ أن فكّر بهذا، ووجده مخرجَه مما هم فيه... وفي ذلك نزلت هذه الآية.
وإنها النّهي الإلهي عن طاعة الكافرين. طاعة المنهزم وهو يرى المنتصر الأقوى والأحقّ بالاتباع ما دام قد نُصر، ويرى نفسه الأضعف، طاعة من تنهزم نفسُه كل انهزام فلا يرى في سَعْيه ما يبلّغه قوة ومَكِنة ...

ولقد عرفنا قبل هذه الآية حال المؤمنين الثابتين الذين صبروا أيّما صبر عند الشدائد، فكانوا الجبال الشوامخ الشواهق التي لم تأتِ عليها رياح ولا عواصف... صبروا وسألوا الله الثبات قبل سؤاله النصر فآتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ...

ثم تأتي هذه الآية مُحدّثة عمّن لم يثبتوا على ما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،  أخذ بريق الغنائم بألبابهم عن الطاعة والامتثال لقائدهم فلم يثبتوا، فلم يؤتِهم الله نصرا ... هؤلاء الذين أخذتهم الغنائم، والذين ما أن سمعوا شائعة مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عزموا على استئمان الكافرين على أنفسهم، من السهل أن تستفحل الزعزعة فيهم فيَروا الكافرين أهلا للطاعة ولأن ينقادوا إليهم وللَوثاتهم العَقَديّة ...!

وإننا نعايش هذه الحال في أيامنا... بل هي أيامنا .. !
عصر الانهزام النفسي أمام الكافرين، ورؤية القوة بأعينهم، ووزنُها بميزانهم، واليأس من أن تكون لنا قوة غالبة، وعدم معرفة قدر الحقّ الذي معنا، بل عجزُنا عن العيش به، وعن الامتثال للأمر الذي فيه، والذي يجعل أهل الإيمان أهل القوة والخيرية والنصر . عجْزُنا عن التداوي بعلاجاته، بل عجزنا عن معرفة سرّ التركيبة الدوائية فيه ... !
هم أخذتهم الغنائم، ونحن أخذتنا زهرة الحياة الدنيا، هم تزعزعوا عند سماع شائعة مقتله صلى الله عليه وسلم، ونحن أحدثْنا بعده انتسابا بالاسم وانتماء بالعنوان، وبُعدا بالحياة ...!

إنّ هذه الآية لو تأملناها : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ.

تبيّن لنا أن طاعة الكافرين هي المؤدّية إلى الخسار... إنه سبحانه يخاطب رجالا مهزومين، ولكن ليس انهزامهم في تلك المعركة هو الخسار، بل الخسار في عدم الثبات على الحق، وذلّ المؤمنين بين أيدي الكافرين وهم الذين لا يليق بهم أن يذلّوا لغير الله تعالى ...
فقد يسأل سائل:" فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ"

أوَليسوا أصلا خاسرين ؟!

لا ...لا... ليس ذلك هو الخسار... ولقد عرفنا كيف آتى الله المؤمنين ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة لا لأنهم سألوا النصر أولا، وإنما لأنهم سألوا الثبات قبلا ... لأنهم أيقنوا أن هذا الدين يريد رجالا حُرّاسا قياما، قبل أن يروم النصرَ على العدوّ، رجالا يُصنَعون بالثبات على الحق، فيَهُون أمر النّصر مع ثباتهم ...!
إنكم إن أطعتموهم انقلبتم خاسرين، أما بغير طاعتهم وأنتم على ما أنتم عليه، فستنقلبون منهزمين هزيمة هي سنّة الله في عباده، يوما فيوم، هزيمة لكم فيها دروس ودروس تتعلمون منها ما يجعلكم في المرات المقبلة أكثر ثباتا واحتراسا وقياما بالأمر لتستحقّوا النصر بما تعلّمتم من هزيمتكم...

إذن فإن ذُلَّكُم بين أيدي الكافرين، واستكانتَكم، ونظرَكم لهم من علُ هو غاية الخسار ومُنتهى البَوار ... إنّ طاعتكم لهم طاعة العبد لسيّده ... ولا سيّد غير الله تعالى الحقّ النور العدل الذي أنزل كتابه بالحق، ونورا وهداية وعدلا ...
ولقد عرفنا هذا النهي في آية سابقة من سورتنا : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ(100)" .

فكان عدم طاعة الكافرين مركّب من مركّبات الدواء الشافي لعلل الأمة، حتى تثبت على الحق...
وهذا التذلّل للكافرين والتمسّح بهم –كما نعرف في كثيرين من بني جلدتنا- هو دَيْدَن المنافقين الذين يخشون دوائر الدنيا لا الله سبحانه الأحق أن يخشوه : "تَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ  فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ" –المائدة:52-

وهو ما لا يليق بمؤمن : " لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ  أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ  وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا  رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ  أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ  أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" –المجادلة:22-

بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ(150)

إنها الهزيمة في جولة، وليست في كل مقام... لذلك يتحدث سبحانه عن النصر وهم منهزمون: وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ، نعَم أنتم منهزمون، ولكنها سقطة وليست النهاية...
ستنتصرون لاحقا... وإنّ أعظم انتصاراتكم أن تنتصروا على أنفسكم وغواياتها وعلى الشيطان ونفثاته في ساعة ضعف تعتري النفس، فتثبتون ...  إنها ليست نهاية العالم، وستُقبِل الانتصارات ما دمتم مؤمنين، استنصروا الله القويّ العزيز، وإياكم أن تغرّكم قوة في العباد، فتذلُّوا لهم من دون الله ...! إياكم وتَزَعْزُعَ اليقين في قلوبكم، إياكم وتَضَعْضُعَ الإيمان في أنفسكم...فإنما تلكم هي الهزيمة النكراء والمُلِمّة الشنعاء...إنما تلكم هي المصيبة ...!

ولقد قالها عمر رضي الله عنه : "اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني، فكلّ مصيبة سواها تهون".

سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ(151)

إن هؤلاء الذين كفروا، ليسوا على شيء، إنّ بيوت قلوبهم واهية، واهنة كبيت العنكبوت، لا تقوم على شيء، لا تدين لخالقها بشيء... ! هذه القلوب هي من خَلْقِه، هذه الأنفس من خلقه سبحانه، خلقها ثم هي تنكره، وتكفر به ربا يُعبَد ... فأنّى لها أن تقوم لها قائمة ... إنها هشّة، بل إنها لقشّة من القشّ تزدهي وتنتشي بقوة في الجسم وقوة في المادة، ولكنها خاوية، خاوٍ جوهَرُها، تُقرقِر قلوبها من الخواء ... !

سبحانه يلقي في قلوبهم الرّعب(وهو شدة الفزع) جزاء وفاقا لإشراكهم بالله ما لم ينزّل به سلطانا... !
إنكم لو تثبتون -سواء في نصركم أو في هزيمتكم- فتكونوا عند الهزيمة صُبُرا، ثابتين، غير متزعزعين، لا تُمسّ فيكم نخوة الإيمان ولا العزّة بالله، وتكونوا عند النصر شاكرين حامدين، متواضعين لله، لا تغتروا بالدنيا وهي تُفتَح عليكم ... عندها ستكون قلوب الكافرين محلا للرعب والفزع منكم ... فزع الظُّلْمة من النور إذا حلّ فإذا هي منقشعة ذاهبة لائذة بالعَدَم ...!
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
9- وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(153) ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ(155)

ومن بعد بيان أنّ الهزيمة في معركة ليست النهاية، وأنّما هي مَحَكّ للثبات، وأنّ الخسار والبَوار في التذلل للكافرين إذا ما لمع نجمُهم بنصر أو بأي مظهر قوّة، وأنّ النصر الذي لا يُؤتاه المؤمنون من الله في جولة، لن يُؤتوه إلا منه وحده لا من غيره .

بعد هذا، ها نحن الآن مع تفاصيل ما كان من أمر غزوة أحد ... فلنُمعِن النظر، ولتُصغِ آذانُنا ولنأخذ الدرس...

مدرســــــــة أُحُد :

9-أ) مواجهة المؤمنين بأخطائهم وتعداد أسباب الهزيمة:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(152)

إنّ هذه الآية مُجملة شاملة، نراها مقدّمة لما سيأتي من تفصيل ما كان من شأن الغزوة ...

تبتدئ بصدق الله وعده للمؤمنين، وعده إياهم بالنصر، ولقد نزل الإذن لهم بالقتال، والذي كان مُحرّكَهم الأول للجهاد في سبيل الله، وجاء فيه الوعد: "...وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ  إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ"-الحج:40-

فكيف صدقهم الله وعدَه ؟

"وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ "  ما داموا ناصرين لدين الله، ما داموا مطيعين لله ولرسوله، ولقد بدؤوا أُحُد طائعين، مطبّقين لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ
لازَم تلك الطاعةَ منهم توفيق الله لهم، فحسّوهم، والحسّ هو القتل الذريع .

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " ما نصَر اللهُ تبارك وتعالى في موطنٍ كما نصَر يومَ أُحدٍ قال : فأنكرْنا ذلك فقال ابنُ عباسٍ : بيني وبينَ مَنْ أنكر ذلك كتابُ اللهِ تبارك وتعالى إنَّ اللهَ عز وجل يقولُ في أُحُدٍ : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } يقولُ ابنُ عباسٍ والحَسُّ : القتلُ ..." –مسند الإمام أحمد: إسناده صحيح -

ولنتأمل كيف أنّ " بِإِذْنِهِ " هنا جاءت مبيّنة لمعنى : " وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ " ولكون العون من الله، والتوفيق والنصر من عنده سبحانه.

حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ

لقد دام ذلك الحَسُّ من المؤمنين للكافرين حتى جاء عليهم حينٌ كان  منهم :

1- فشِلْتُمْ : والفشل هو الوهًن الذي يصيب النفس، فتخمد نار الحماسة، وتتضاءل القوّة، وتضعف العزيمة، وذلك كله يحدث في النفس بدافع يبيّنه الله تعالى بعد أن يذكر  ما صار إليه حال المؤمنين.

2- وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ : وهو التنازع الذي نشب بين الفئة والفئة من المؤمنين، هم الرُّماة بشكل خاص -وكانوا خمسين رجلا- الذين أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم عبد الله بن جُبير أن يلتزموا مكانهم ولا يبرحوه وإن رأوا أصحابهم تخطّفهم الطير، وإن رأوهم هزموا الكافرين. فما أن رأوا الكافرين مهزومين، حتى قالوا:  "الغَنيمةَ أيْ قومُ الغَنيمةَ، ظَهَر أَصحابُكم فَما تَنتَظِرون؟" فَقال عبدُ اللهِ بنُ جُبيرٍ: أَنَسيتُم ما قال لَكُم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم؟ قالوا: واللهِ لَنَأتينَّ النَّاسَ فَلَنُصيبنَّ مِنَ الغَنيمةِ" . وذاك كان التنازع في الأمر، فئة هرعوا للغنيمة، وفئة جعلت تردّهم، وما ثبت منهم على جبل الرُّماة إلا قليل مع عبد الله بن جُبير الذي استَشهد في مكانه منه رضي الله عنه وأرضاه.

3- وَعَصَيْتُم : والمعصية هي ثالث العوامل التي نحّتْ عن المسلمين النصر، مجتمعة مع فشلهم وتنازعهم ... إنها معصية أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أكّد عليهم ألا يبرحوا مكانهم حتى لا يُؤتى المسلمون من قِبَلِهم ...

إذن فهي : الفشل + التنازع في الأمر + المعصية .

وإننا لنراها مرتّبة ترتيبا يسوق منها السابق التالي : فيحدث الفشل أول ما يحدث، وهو الذي يؤدّي إلى تكوّن فئة ضعيفة تتنازع مع الفئة التي لم يُصبها بالفشل، ثم تنتج معصية الأمر من ذلك الفشل وذلك التنازع.
كلها مجتمعة سبّبت حرمان المسلمين من النصر.

ولنتأمّل لنعرف كيف يأتي الدافع لكل هذا منهم بعد تعداد الأحوال الثلاثة، وذلك في قوله تعالى : مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ
إنه ما يحبّون وقد أَرُوه، أراهم الله إياه ... ولنتمعّن في قوله سبحانه : " أَرَاكُم " فلم تأتِ "رأيتم" ليُلازمنا الفهم أنّ كل هذا من الله تعالى امتحان وابتلاء يوضَع فيه المؤمنون ليُعرف ثابتهم من متزعزعهم، وليُعرف منافِقهم من مؤمنهم ...
وإنه : " مَّا تُحِبُّونَ " ... أجَل إنه ما يحبّ الإنسان .. الغنائم، ولم تأتِ في صيغة الماضي، فيُفهَم أنه حبّ كان ومضى، بل جاءت في صيغة المضارع، ليُعلَم أنه حبّ مغروز في جبلّة الإنسان، متجدّد. حبّ الشهوات ... وسيبقى الإنسان على حبّه لها ... ولكنّه بهذا الحبّ ممتحَن ... وإنّنا لنجد تصديق هذا الحبّ الجبلّي في الإنسان في أولى آيات هذه السورة : "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ...."-آل عمران: من14-
وإنّ ذلك التنازع الذي حصل يدلّل على انقسام المؤمنين فئتَين فئة تمكّن منها الفشل، وفئة ثبتت، ويأتي بيان أكبر لذلك في تتمّة الآية :
مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ
عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ : "ما كنتُ أرى أنَّ أحدًا من أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يريدُ الدُّنيا حتَّى نزلت فينا يومَ أُحُدٍ : مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ " –الدر المنثور: إسناده صحيح-
فمن هرع للغنائم وترك مكانه الذي أمِر أن يلزمه قد أخذ بلُبّه بريق الغنائم، وما هو إلا بريق الدنيا، ومن ثبت بمكانه فقد قدّر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حقّ قدرِه. 
يقول ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للرماة:" فإنْ رأيتمونا نُقتلُ فلا تنصُرونا وإنْ رأيتُمونا قد غَنِمْنا فلا تَشْرَكونا فلمَّا غنِم النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأباحوا عسكر المشركين أَكَبَّ الرُّماةُ جميعًا فدخَلوا في العسكرِ يَنْهَبون..." –مسند الإمام أحمد-
والذي ثبت على أمره صلى الله عليه وسلم مقدّم لله ولرسوله وللدار الآخرة على كل بُهرُج ...

فلننظر ولينظر أهل إنكار السنة وإنكار حجّيتها ...
لنتأمل مدى أهمية طاعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هي منجاة وفوز بخير الآخرة، وهذا الله سبحانه يؤكّد هنا على أهمية أمره ذاك للرَّماة، والذي لم يكن قرآنا نزل عليه، بل كان أمرا شافهَ به أصحابه منه إليهم ... فلما عصوه جاء القرآن ينوّه بخطورته ... لكل من يقول أن ما نزل من أمر في القرآن وحده هو الفيصل ...!
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ

إذن فبِفعل ضعف تلك الفئة من المؤمنين، وتمكّن بريق الدنيا من أنفسهم، كانت منهم معصية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك المعصية التي أدّت إلى تقوّي الكافرين عليهم، وكَرِّهم عليهم، وأن صارت الدائرة لهم... التفّ خالد من بعد انكشاف ظهر المسلمين وقد نزل الرماة عن الجبل ... وبهذا صُرِف المسلمون عن الكافرين ...
ولقد جاءت : " صَرَفَكُمْ "  ولم تأتِ : "انصرفتم"  لنفهم جيدا أنه العقاب من ربّ العزة ...
وأحبّ هنا أن أفصّل أمرا دقيقا ... ودُعاة الأسباب وتقديس الأسباب بعيدا عن إرجاعها إلى المُسبب سبحانه كُثُر، بل لقد كثروا في أوساط المسلمين اليوم، سواء منهم مَن كان مُرادُه إيقاظ المسلمين من سُبات الرّكون إلى الإيمان عنوانا يحسبون به وَحْدَه النصر والغَلَبة والخيريّة على غيرهم،  فلا ينفكّ أولئك الموقظون دُعاة للأخذ بالأسباب، وللتحرّك في الأرض، من أجل إثبات الوجود، وهم يرون أهل الكفر أهل هذا الفهم بما حقّقوا في الأرض، وإنّ الإسلام لم يكن إلا داعيا إليه... وإنه لا وجه لإنكار هَيَمَان جُلّ المسلمين بالعنوان بعيدا عن العمل.

سواء أكان منهم مَن هذه دعوته، أو مَن كان من هؤلاء مغاليا فهو يدعو إلى تقديس الأخذ بالأسباب حتى يصل به الأمر إلى أحد حالَيْن إما إنكار المسبّب سبحانه بالكُليّة، أو إنكار طلاقة قدرته وهو المصرّف للأسباب، متى شاء أنفذها على ناموسها الذي جعلها عليه، ومتى شاء سبحانه خرقها، -من مثل ما أوتِي الأنبياء والمرسلون من معجزات فيها خرق الأسباب-  ومتى شاء جعلها سببا ظاهرا خلفيّتُه إرادة الله تعالى عقابا أو جزاء بعباده في تدبير مُحكَم هو تدبير العليم الخبير.

وإنّ بضاعة كثير من المسلمين من أصحاب هذه الدعاوى مُجزاة في شأن السبب الذي قد يكون ظاهرا، وهو في حقيقته سبيل لإنفاذ إرادة الله تعالى بجزاء أو عقاب.وهذا الاعتقاد مما يختصّ به المؤمن دون غيره، وهو ليس مما يُخجِل في عصر الغرق في لُجّ الماديات والطبيعيات...
سبب طبيعيّ يظهر للعيان، وهو نَعَم السبب الذي نؤمن به، ولا ننكره، ولكن لا يجب أن ننكر أيضا أن لله تعالى غايات من تسبيب هذا السبب، إذ يجعله سبحانه سبيلا لإنفاذ إرادته بعقاب أو بجزاء ...

كما لا يجب أن يُتخذ هذا الاعتقاد جُزافا، فيُلقى به في كل حال، أو يكون الإلقاء به إلقاء انحياز لعنوان الإيمان دون نظر في عمل عامل أو قعود قاعد، فأهل الكفر أهل العقاب أبدا، وأهل الإيمان أهل الجزاء أبدا ...!
وبهذا غالى كثيرون ممّن انبرى لإيقاظ المسلمين من قعودهم ودعوتهم للعمل والحركة والأخذ بالأسباب، حتى لم يعرفوا موازنة تُبقي على الإيمان بطلاقة مشيئة الله تعالى وتدبيره في إنفاذه للسبب الطبيعي الظاهر والخلفيّة من ورائه جزاء أو عقاب ...

وغيرَ بعيد عن مقامنا هذا من السورة، هنا تحديدا في هذه الآية نلمس هذا لمسا في قوله تعالى : ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ
السبب الظاهر أن نزولهم عن الجبل كشف ظهورهم، فالتفّ خالد عليهم، فهُزموا بعدما كانوا منتصرين، ولكن الحقيقة أن هذا السبب الظاهر مسخّر من الله تعالى المُسبِّب، ليكون ابتلاء: " ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ " فيكون من الله الابتلاء والعقاب في صورة سبب طبيعي.

أما المغرقون في الطبيعة فسيقولون، نزلوا عن الجبل، فوجد خالد بن الوليد ثغرة، فالتفّ عليهم. وبذلك صُرِف المسلمون عن المشركين، لم يعودوا يقدورا عليهم، وهذا نعم بتدرّج الأسباب والسياقات صحيح، ولكن حقيقته أنه ابتلاء للمؤمنين. انصرافهم عنهم عقوبة. بل إنّ نسب الصّرف إلى الله تعالى : " ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ " لدقيق كلّ الدقّة في بيان أنّه الابتلاء...

ويزيد ذلك بيانا : " ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ "
لذلك وجب أن يكون للمؤمن هذا الفهم، وهذا الخوف، أن يفهم السياق السببيّ الطبيعي وهو لا ينكره، ولكن أن يتفكر بالمقابل في العقوبة والابتلاء من وراء السبب الظاهر...
كما لا أحبّ أن أفوّت كيف بيّن الله تعالى انقسام المؤمنين إلى فاشلين عصوا أمر رسول الله، وثابتين ثبتوا على ما أمرهم به،  ولكنّه سبحانه حينما انتقل إلى ما كان منهم إزاء الكافرين، جمع الكلّ في قوله :" ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ "  مما يدلّ على تضرّر الجيش كله من فعل خطأ عدد من الجنود...
وهذا ما يجعلنا نفهم كيف تتضرر الأمة كلها بتقاعس المتقاعسين، وبانخزال المنخزلين عنها، في حالٍ رزِئت به من اجتماع القاعدين عليها مع الذين أصبح كل الأمر عندهم سواء، أنكروا الحال أم لم ينكروا... يئسوا من القيام، فكان يأسُهم انهزاما نفسيا أصاب الأمة في مقتل. فتضررت الأمة كلّها ... لأنّها خُصّت دون غيرها بضرورة اجتماع كلمتها، وتوحّد أفرادها... ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :"انصرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا ، إنْ يكُ ظالمًا فارْددْه عن ظلمِه ، و إنْ يكُ مظلومًا فانصرْه".

ولذلك عرفنا فيما سبق من آيات كيف أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أساسيات أدوراها،  مؤهَّلة لهما من استمساكها بأمر الله وبطاعته وبطاعة نبيّه صلى الله عليه وسلم. وذلك مما يجعل كلمتها واحدة، وقلبَها واحد ...

وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
وهذه نهاية الآية ... ختامها فضل من الله تعالى رغم كل ما كان من المؤمنين، سبحانه يعلم ضعف النفس البشرية، ويتجاوز عن ضعف مَن يبقى الإيمان مركوزا في نفسه، ولكن يطفو على السطح ما يجعله يضعف، ويفشل، ويخطئ ... الإيمان باق، والنفاق بعيد عنه، ولكنّه الضعف ... فهو سبحانه الذي كتب على نفسه الرحمة، يعفو عنهم، يعفو عن تلك الفئة التي فشلت، فانهزمت، وانهزم بسبب انهزامها الجيش كلّه ... يتفضل عليهم بهذا العفو ...
وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أجل... إنها خصيصة للمؤمنين دون غيرهم، هذا الفضل العظيم من العليّ القدير سبحانه، أن يعفو عن إساءة المؤمن، ويصفح عنه... ولولا فضله هذا لهلك المؤمن مع مَن هلك، ولكن لأنه مؤمن بالله فإنّ الله يتفضل عليه ... ويختصّه بفضله.
"ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم ، ما داموا سائرين على منهجه ، مقرين بعبوديتهم له لا يدعون من خصائص الألوهية شيئا لأنفسهم ، ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم ، ولا موازينهم إلا منه .. فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة .. فيتلقاهم عفو اللّه بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص .." –في ظلال القرآن-

وهكذا...
لماذا تُرانا يستعصي علينا أن نفهم ونستيقن أنّما صرنا إلى ما صرنا إليه من تركِنا أنفسنا للعوامل الثلاثة مجتمعة، فلقد فشلنا ونحن تُفتّح علينا زهرة الحياة الدنيا، فشلنا والدنيا ملء أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وعقولنا قبل الآخرة ...

فشلنا ونحن ننبهر بتفتّح زهرة الدنيا وتمثّلها في أكمل زينتها، فصارت قضيتنا الفوز ببتَلاتِ الزهرة ...!

فشلنا ونحن نتناسى ونغيّب من أفهامنا أنّ قضيتنا الأولى إصلاح الأرض بهذا الدين، ونشر نورِه، ونرى الدنيا بأعينهم وحدودُها الدنيا وملذّاتها وصيحاتها وشهواتها وكأنها الباقية أبدا ...!

صرنا نراها بأعينهم حتى فقدنا الوعي بدورنا، وحتى لم نعد نرى إلا التكالب على الدنيا معنى ومغزى وهدفا لوجودنا الذي لن يدوم ....
وليْت شعري...! هم على الأقل يعملون ويصنعون ويبتكرون، أما نحن فنستهلك، ونستهلك وندفع لهم ثمن تغييب وَعْيِنا بدورنا كمسلمين، ندفعه باهضا من أفهامنا ومن اعتقادنا ومن هدفنا والغاية من وجودنا في هذه الدنيا ...!
وهكذا... أصبحنا العبيد وأصبحوا الأسياد، ونحن من قعودنا عن سدّ حاجاتنا الأساسية نخشى الدوائر، ونتّقي أن نجانِبهم لئلا نجوع ونظمأ ونعرى ...! ولم يبقَ الأمر في حدود المعاملات التي تكون بين الناس بحكم تقاسمهم الأرض، بل أصبحنا نواليهم ونوادّهم ونرضى بما يرضيهم ونسخط لما يُسخطهم ...

وأي فشل ...! أي فشل...!
ثم ها نحن من بعد الفشل أشتات متفرّقون، متنازعون...
يُعادي الأخ أخاه للُعاعة من الدنيا، ويبيع الأخ أخاه لسَقط متاعها وليسترضي بخيانته وبضُرّه صاحب السلطان الذي يدّعي في الأرض ربوبية وألوهية، والذي ما تسلّط إلا من غطّ النائمين في نومهم ... !

وإننا لما فشلنا وتنازعنا عصينا، وصرنا نَدين لأهل الكفر بالولاء والطاعة والامتثال للأمر منهم والنّهي، ونعصي بطاعتهم أمر القاهر فوق عباده الذي حذّرنا : " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ"...
نطيعهم ونحن نرى الهزيمة والسقطة موتا لا حياة بعده : " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ "
ولقد بؤنا بالخَسار والبَوار، وها نحن لقمة سائغة سريعا ما يزدردُها كل مُزدَرِد... ولن نعود للحياة إلا إذا استمسكنا بأدوية القرآن لأدوائنا ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
إن هذه الآية لغنيّة كل الغِنى، شاملة جامعة، لفظها قليل ومُرادُها كثير...

1- بدأت بصدق الله وعدَه للمؤمنين ما أقاموا على الطاعة، طاعة الله ورسوله، والتي هي نصرٌ منهم لدين الله : " وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ "
2- ثنّت بذكر أسباب الهزيمة متدرّجة من أول ما بُدئت به أنفُسهم وهو الفشل، إلى تنازع الفئة التي فشلت مع الفئة الثابتة، وصولا إلى معصية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم "
3- ثم بيّن سبحانه السبب الرئيس فيما اعتراهم من فشل أدّى إلى معصيتهم : " مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ".
4- بيان أن مَن قدّم الدنيا هو من فئة الفاشلين الذين عصوا، وأنّ من قدّم الآخرة هو من فئة الثابتين: "مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ".
5- تضرّر الجيش كله، وتضرر كل المسلمين من مخالفة عدد من الجند لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت الهزيمة من نصيب الجميع ابتلاء وعقابا : " ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ "
6- تقرير العفو الإلهي عن المؤمنين في صورة فضل من الله عظيم:" وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ".

ثم يأتي تفصيل ما قُدّم له في هذه الآية، التي أجملت فذكرت أنّ سبب هزيمة المسلمين نابع  من أنفسهم، وكيف أنّ إنفاذ الله تعالى وعده المؤمنين بنصرهم مرهون بصدقهم، وبثباتهم ونصرهم لدينهم : " إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ"، أما فشلهم وتنازعهم ومعصيتهم فهي المُهلِكات المُذهبات للنصر... وهذا غيرُ مقيّد بسبب الغزوة وما كان فيها، بل عامّ ..
وإننا في هذه التقدمة، نعرف عفوا من الله تعالى أظلّ المؤمنين في أُحُد فضلا منه سبحانه، ليستمعوا إلى ما نزل من قرآن في شأنهم، ويعوا الدروس وهُم في أهبة من نفوسهم لتلقّيها وتقبّلها، لا أن يكونوا في حالة من اليأس والحزن الذي يحول دون أن يستوعبوا ...

وتأتي التفاصيل مقيمة للحجّة:

9-ب) تفاصيل ما كان في أُحُد من أحوال:
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(153)
ها هو التصوير القرآنيّ للمؤمنين وكأننا نراهم رأي العين...
ها هُم أولاء مضطربون، منهزمون، من بعد ما اعترى أنفسَهم من فشل ووهن جعلهم يتنازعون ويعصون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فيُهزَمون وهم تهدُّهم فوق الهزيمة شائعة مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
هزيمة مع مقتل نبيّهم صدمة عظيمة تنزل بهم، فتصيّر أنفسهم أشلاء متناثرة...
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ

والإصْعاد هو الذهاب في الأرض لأنّ الأرض تسمّى صعيداً، فهم هائمون على وجوههم لا يدرون أين يذهبون، ولا ما يفعلون ...لم يعد لهم من مقصد يقصدون... عمّت الفوضى وساد الفزع ... لا يلوون على أحد ... لا يلتفت الواحد منهم للآخر... يفرّون فرارا ...!
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ
وهم على هذه الحال... رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم من خلفهم، يثبّتهم ويُسمِعهم صوته حتى يثوبوا إلى رُشدهم، ويعودوا إلى مواقعهم، صلى الله عليه وسلم في ثبات عظيم يعلّمهم كيف يكون الثبات... وهو الذي يذوق الهزيمة معهم، وهو الذي ولّى الجميع عنه فِرارا، يثبت على دوره، فيناديهم ليجتمعوا ... وحتى لا تفعل الهزيمة فيهم فِعلها ... يقاوم ويعمل ويجاهد لآخر لحظة ...!

يُروى أنه صلى الله عليه وسلم جعل يناديهم :"إليَّ عبَادَ الله إليَّ عبَادَ الله، أنا رسولُ الله، من يكرُّ فله الجنة "

فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ

تأتي "أَثَابَكُمْ" هنا، والأصل فيها المُجازاة على خير، بينما هنا الأمر غير ذلك، فهو سبحانه خلّف في قلوب المؤمنين غمّا جزاء ما قدّم عدد منهم من أنفسهم مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي جرّت عليهم الهزيمة بعد النصر الذي برقت أماراته أيّما بريق،  ثمّ اضطرابهم وتزعزعهم من سماعهم شائعة مقتله، ثم إصعادهم مولّين عنه صلى الله عليه وسلم هائمين على وجوههم ...
فأمّا هذا الغمّ الذي جُزوا به، فهو حزنهم على ما كان منهم من معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما فاتهم من الثبات على أمره ... فهو في أنفسهم الآن أثقل وأشدّ من الهزيمة ...
وإذا تأملنا عرفنا موقع "أثابكم" لأنّ حقيقة هذا الغمّ الجديد الذي يغشاهم هي التيقظ والإفاقة وتبيّنهم ما صنعت أيديهم...

إنّ صورة فِرارهم ليس لهم وجه، ولا يلوون على أحد، والرسول يصيح بهم أن يعودوا لَهي صورة مُخزية لمَن في قلبه إيمان، صورة تجعلهم يثوبون إلى رُشدهم، ويلومون أنفسهم أن كان منهم ما كان وهم يرون نبيّهم وقد انزوى عنه الناسُ وتُرِك وحيدا ... هنا يعود شاهد العقل منهم ليركُزَوا ويتبيّنوا حقيقة ما هم عليه...
لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ
وهكذا ... وهم يتيقظون ويفيقون لن يبقى حزنهم على ما فاتهم من غنائم ومن نصر، ولا على ما أصابهم من قتل وجراحات، بل سيصبح أكبر حزنهم على ما كان منهم من مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
وعلى هذا ...فإنّ هذا الغمّ مثوبة من الله لما فيه من إفاقتهم، وإنّ منتهى المصيبة أن يبقى الإنسان على غيّه، وعلى خطئه، أما الانتباه للخطأ  فهو بداية على طريق التصحيح والعودة ...

نعود هنا إلى ما سبق وأن أشرتُ إليه في سياق ما ذكره لنا الله تعالى من دعاء المؤمنين السابقين عند الحروب... أنّه لا غاية لهذا الدين في النفوس أسمى من أن تثبت على الحق، فيكون ذلك منها النصر الأكبر الذي يتحقق، بحيث تثبت الأمة، وتقوى شكيمتها، ويشتدّ عودُها، فلا تعمل فيها المُزعزِعات عملَها وإن باتت وظلّت تعمل ...
ويصدّق ذلك ما هو هنا من أنّ أكبر الغمّ وأكبر الحزن هو على ما يصيب النفوس من اضطراب وزعزعة عند الشدائد، وما يفوتها من طاعة لأمر الله ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.


وتجدر بي الإشارة إلى أمر بالغ الأهمية...
ففي خضمّ هذه المعمعة، ومع الخطاب الإلهي العامّ لكل المؤمنين، قد يفوتنا تذكّر أمر دقيق... أنّ المؤمنين لم يكونوا جميعا على الحال ذاتها من التململ والاضطراب، ولكن سبق وأن عرفنا أن خطأ العدد القليل عمّ الجميعَ بلاؤُه ... فكان الخطاب عامّا والعتاب عامّا، والتربية عامّة، وهذا من تمام مفهوم "الجماعة" في الإسلام، الجماعة التي يضرّها فساد العدد القليل، ليس بمعنى تحمّل أحد وِزرَ أحد، ولكن من باب التأكيد على دور التلاحم، والتوحّد وعدم التفرّق، والحرب شأن عامّ، والدولة المسلمة شأن عامّ، شأن كل المسلمين، يهزّ الصفوفَ أن يُزرَع فيها المنافقون المُرجِفون أو الأفراد المخالفون لأمر القائد....

فلقد عرفنا انقسامهم إلى فئتَين تنازعتا، فئة ثبتت على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل عبد الله بن جُبير قائد الرماة وقليل ممّن معه، وفئة لم تثبت ومثّلهم الرّماة الذين سارعوا للغنائم، وأولئك الذين نادوا باللجوء إلى ابن أبَيْ عند إشاعة مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
والقرآن لا يفوته أن يعطي لكل ذي حقّ حقّه وهو يشير بقوله سبحانه : "مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ" .
بل لقد عرفتْ ساحة أُحُد في تلك الأثناء الحرِجة مدارس في الثبات، من مثل  أنس بن النضر رضي الله عنه الذي أقبل على الموت غيرَ هيّاب ولا فارّ، وهو يلاقي جموع الجنود مولّين هاربين ينادون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل...

لقد كان على غير ما كانوا عليه، و ظلّ عليه، أقبل وهو يقول : "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المسلمين - . وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المشركين – " ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ . فقال : يا سعد بن معاذ!! الجنة وربّ النضر إني لأجد ريحها من دون أحد، يروي أنس بن مالك أنهم وجدوا به بضعا وثمانين ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وقد مثّل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه .

كما كان من أوائل مَن ثبت الأنصار السبعة، دافعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في وضع بالغ الصعوبة والحرج، يُقتَل الواحد منهم دونه، فيتقدّم الآخر فيُقتَل، حتى قُتلوا عن آخرهم مفتدين رسول الله بمُهَجِهِم ...
ثم كان بعد سقوطهم شهداء، طلحة بن عُبيد الله وسعد بن أبي وقّاص اللذان كانا صقرَي أُحُد، بثباتهما وذوْدهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ قاتلا دونه ببسالة منقطعة النظير، حتى لم يتركا سبيلا لخُلوص المشركين إليه صلى الله عليه وسلم. 
قاتل طلحة حتى ضربت يده فقطعت أصابعه... روى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ "رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏.‏" وكان أبو بكر رضي الله عنه يقول إذا تذكّر أُحُد : " ذلك اليوم كله لطلحة "  . أما سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقد رمى دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فنيت نبلُه، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وهو يقول: "ارمِ فداك أبي وأمي".

وما كاد الصحابة الذين استماتوا بقتال العدوّ  وكانوا بعيدين عن موقع رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعون صوته ينادي: "إليّ عباد الله"  حتى أقبلوا إليه، وقد كان أصابه ما أصابه من الجراحات، يقيه طلحة وسعد ضربات العدو، فاجتمع إليه عِصابة من أصحابه أربعة عشر رجلا، منهم: أبوبكر، وعمر، وعلي، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو طلحة، والحارث بن الصمّة، ومالك بن سنان، وأبو دجانة، وشمّاس بن عثمان، وقتادة بن النعمان، وأم عُمارة.
كل هؤلاء كانوا ممّن ضرب أروع الأمثلة في الثبات، وفي الدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وافتدائه ...
وقد أوذِي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، فكُسِرَتْ رَباعيتُه، وشُجَّ في رأسِه . فجعل يسلُتُ الدمَ عنه ويقول ( كيف يُفلحُ قومٌ شجُّوا نبيَّهم وشجُّوا رَباعيتَه ، وهو يدعوهم إلى اللهِ ؟ ) .

يروي أبو بكر رضي الله عنه أنّه قد دخل في وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم حلقتان من حَلَق المغفر، فأزَمَ(أي عضّ) أبو عبيدة بن الجراح بأسنانه على إحدى الحلقتين فنزعها، فسقطت ثنيّته، وأزم على الأخرى كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تحوّلت، فنزعها وسقطت ثنيّته الأخرى، فكان ساقط الثنيّتَيْن.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل ماما هادية

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 15901
  • الجنس: أنثى
  • احفظ الله يحفظك
والقرآن لا يفوته أن يعطي لكل ذي حقّ حقّه وهو يشير بقوله سبحانه : "مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ" .
بل لقد عرفتْ ساحة أُحُد في تلك الأثناء الحرِجة مدارس في الثبات، من مثل  أنس بن النضر رضي الله عنه الذي أقبل على الموت غيرَ هيّاب ولا فارّ، وهو يلاقي جموع الجنود مولّين هاربين ينادون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل...

لقد كان على غير ما كانوا عليه، و ظلّ عليه، أقبل وهو يقول : "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المسلمين - . وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعنى المشركين – " ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ . فقال : يا سعد بن معاذ!! الجنة وربّ النضر إني لأجد ريحها من دون أحد، يروي أنس بن مالك أنهم وجدوا به بضعا وثمانين ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وقد مثّل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه .

كما كان من أوائل مَن ثبت الأنصار السبعة، دافعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في وضع بالغ الصعوبة والحرج، يُقتَل الواحد منهم دونه، فيتقدّم الآخر فيُقتَل، حتى قُتلوا عن آخرهم مفتدين رسول الله بمُهَجِهِم ...
ثم كان بعد سقوطهم شهداء، طلحة بن عُبيد الله وسعد بن أبي وقّاص اللذان كانا صقرَي أُحُد، بثباتهما وذوْدهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ قاتلا دونه ببسالة منقطعة النظير، حتى لم يتركا سبيلا لخُلوص المشركين إليه صلى الله عليه وسلم. 
قاتل طلحة حتى ضربت يده فقطعت أصابعه... روى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ "رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏.‏" وكان أبو بكر رضي الله عنه يقول إذا تذكّر أُحُد : " ذلك اليوم كله لطلحة "  . أما سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقد رمى دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فنيت نبلُه، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وهو يقول: "ارمِ فداك أبي وأمي".

وما كاد الصحابة الذين استماتوا بقتال العدوّ  وكانوا بعيدين عن موقع رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعون صوته ينادي: "إليّ عباد الله"  حتى أقبلوا إليه، وقد كان أصابه ما أصابه من الجراحات، يقيه طلحة وسعد ضربات العدو، فاجتمع إليه عِصابة من أصحابه أربعة عشر رجلا، منهم: أبوبكر، وعمر، وعلي، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو طلحة، والحارث بن الصمّة، ومالك بن سنان، وأبو دجانة، وشمّاس بن عثمان، وقتادة بن النعمان، وأم عُمارة.
كل هؤلاء كانوا ممّن ضرب أروع الأمثلة في الثبات، وفي الدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وافتدائه ...
وقد أوذِي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، فكُسِرَتْ رَباعيتُه، وشُجَّ في رأسِه . فجعل يسلُتُ الدمَ عنه ويقول ( كيف يُفلحُ قومٌ شجُّوا نبيَّهم وشجُّوا رَباعيتَه ، وهو يدعوهم إلى اللهِ ؟ ) .

يروي أبو بكر رضي الله عنه أنّه قد دخل في وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم حلقتان من حَلَق المغفر، فأزَمَ(أي عضّ) أبو عبيدة بن الجراح بأسنانه على إحدى الحلقتين فنزعها، فسقطت ثنيّته، وأزم على الأخرى كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تحوّلت، فنزعها وسقطت ثنيّته الأخرى، فكان ساقط الثنيّتَيْن.

رضي الله عن صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم وحشرنا في زمرتهم
*رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ*