المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي(آل عمران)  (زيارة 8050 مرات)

0 الأعضاء و 3 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل ماما هادية

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 15901
  • الجنس: أنثى
  • احفظ الله يحفظك
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97)

** فمن آياته البينات مقام سيدنا إبراهيم، وهو موضع قدميه الغائرتَين بصخرة جعلها مُرتقاه لرفع جدران الكعبة عند بنائه لها بمساعدة ابنه إسماعيل عليهما السلام، بقيت آثار قدمَيه من ذلك اليوم إلى يومنا، وفي ذلك آية وأي آية اختصّ بها الله تعالى هذا البيت العظيم.
يروي جابر بن عبد الله عن حَجّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفاصيل ذكر منها : " حتى إذا أتينا البيتَ معه ، استلم الركنَ فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا . ثم نفذ إلى مقامِ إبراهيمَ عليه السلامُ . فقرأ : واتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [ 2 / البقرة / الآية 125 ] فجعل المقامَ بينه وبين البيتِ..."  -صحيح مسلم-

كما يروي عبد الله بن عمر في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم ركعَ حينَ قضَى طوافهُ بالبيتِ عِندَ المقامِ ركعتينِ.

وإن في اتصال إبراهيم عليه السلام بهذا البيت الأول الذي هو أول ما وُضع للهدى كبير دلالة على حنيفيته وأوليّة العقيدة وأصالتها ... وأصالة ما كان عليه إبراهيم، وهو ذاتُه الذي عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه .

**ومن آياته أيضا أن من دخله كان آمنا، إذ أنها آية من آياته تواضُعُ الناس في الجاهليّة رغم غياب الدين الصحيح على أنّ من يدخل البيت آمن،  حتى إن الرجل ليلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يمسّه بسوء . هكذا توارثوها أبا عن جد .

عن أبي شُريحٍ العدويّ أنه قال لعمرو بنِ سعيدٍ، وهو يبعث البعوثَ إلى مكةَ : "ائذنْ لي أيها الأميرُ، أحدثْك قولًا قام به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الغدَ من يومِ الفتحِ، سمعتْه أذناي ووعاه قلبي، وأبصرتٍه عيناي، حين تكلم به : أنه حمد اللهَ وأثنى عليه، ثم قال : ( إنَّ مكةَ حرمها اللهُ، ولم يحرِّمها الناسُ، لا يحل لامرئٍ يؤمن باللهِ واليوم الآخرِ أن يسفك بها دمًا، ولا يعضدُ بها شجرًا، فإن أحدٌ ترخص لقتالِ رسولِ اللهِ فيها، فقالو له : إنَّ اللهَ أذن لرسوله ولم يأذنْ لكم، وإنما أذن لي فيها ساعةً من نهارٍ، وقد عادت حرمتُها اليومَ كحرمتها بالأمسِ ولْيبلِّغ الشاهدُ الغائبَ ) . فقيل لأبي شُريحٍ : ماذا قال لك عمرو ؟ قال : قال : أنا أعلمُ بذلك منك يا أبا شريحٍ، إنَّ الحرمَ لا يعيذُ عاصيًا، ولا فارًّا بدمٍ ولا فارًّا بخربةٍ . " –صحيح البخاري-

وأبو شريح هذا صحابي، وعمرو بن سعيد والي يزيد بن معاوية على المدينة، وكان معاوية يرسل بالجيوش إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير لما امتنع عن مبايعة يزيد بن معاوية. فأرشده أبو شريح إلى ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ترخّصه بالقتال يوم الفتح خصيصة من خصائصه هو لا عام من الحكم الذي يسري على الناس جميعا .

وردّ عمرو عليه أن الحرم لا يُعيذ عاصيا ولا قاتلا ولا سارقا خائنا . وهذا ما استند عليه الفقهاء في أنّ الاستجارة بالبيت واللَّواذ به لا يوفّر الأمان لأيّ كان .
"فقد اتفق الفقهاء على أن من جنى فى الحرم جناية فهو مأخوذ بجنايته سواء أكانت فى النفس أم فيما دونها .واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم ثم لاذ إليه . فقال أبو حنيفة وابن حنبل : إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لا يقتص منه ما دام فيه ، ولكن لا يجالس ولا يعامل ولا يؤاكل غلى أن يخرج منه فيقتص منه . وإن كانت جنايته فيما دون النفس فى غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه ." –التفسير الوسيط للطنطاوي-

ولسائل أن يسأل، هاتان آيتان قد ذُكِرتا، مقام إبراهيم وأن من دخله كان آمنا، فكيف تكون آيات : " فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ " ؟
لنكمل مع الآية لعلّ في ما تبقى منها جوابا ...
وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97)

ألا يُعدّ تشريع الحجّ آية من آيات هذا البيت ؟ أليس آية من آياته البيّنات أن تصبح زيارته وأداء مناسكه  ركنا من أركان الإسلام ... ؟
هؤلاء المشركون قد دنّسوا حِماه، ومسخوا قَداسته، وأحاطوه بالأصنام، وجعلوا يطوفون به عراة مصفقين مصفّرين في شكل مسخ للإنسانية المكرّمة من رب العزة، فإذا الطائف بالبيت الذي جُعل رمزا للتوحيد وللتوجّه لله الواحد هو أقرب للحيوان منه للإنسان  ...!
أليس في فرض الحج على الناس استردادا لقداسةٍ مُهدَرة وهيبة مُحطّة ... ؟
لقد عُرفت هذه الآية في آل عمران بآية فرض الحج وتشريعه، وكان ذلك حوالي العام الثالث للهجرة ...لقد رُدّت الحقوق لأصحابها، رُدّ للحج مقامه، وللمقدّسات حُرمتها... رُدّ ما كان لإبراهيم وما كان عليه إبراهيم لمتّبعي ملّته، للذين هم أولى به ودينُهم قد جاء يردّ الأمور إلى نِصابها، ويردّ الحال إلى أصله الأول النقيّ الذي كانت عليه أول ما كانت ...

وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
أما من كفر وأنكر فريضة الحج، وجحد هذه الهيبة المردودة للمقدّسات، فإن الله غني عن العالمين .



جزاك الله خيرا كثيرا
ولي ملاحظات:
1- ثمة خطأ تاريخي هنا فيما أظن
فلم يكن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فقط من امتنع عن بيعة يزيد
ولم يرسل سيدنا معاوية رضي الله عنه جيوشاً لمكة لحمله على البيعة أو مقاتلته، وإلا لقاتل عبد الله بن عمر وسيدنا الحسين في المدينة ايضا وقد امتنعا أيضا عن البيعة
وإنما قتال ابن الزبير كان في عهد مروان بن الحكم، لما كان الزبير خليفة المسلمين، ولم يبايعه مرروان بن الحكم، بل اخذ يشتري الولاة بماله وعطاءاته حتى استولى على الأمصار واحدا تلو الآخر ثم انتهى الى الحجاز، وحاصر ابن الزبير في مكة، وقصفها عامله الظالم الحجاج بالمنجنيق
والله أعلم
-------------
2- أيضا لا أظن العزو لتفسير سيد طنطاوي صائبا، لان الرجل عليه ما عليه من مآخذ وزلات غمرت روائحها النتنة الآفاق، فالاستشهاد بآرائه وكتبه يضعف البحث.. وما فيها من صواب ستجدينه بالتأكيد في كتب الأقدمين الموثوقة، وما فيها من خلل لا نريده ان يتسر لبحثك
------------------
3- من الأفضل ان نتجنب عند تفسير آيات كتاب الله الإسقاطات التاريخية، التي تنحرف بالمفسر (خاصة في المحاضرة المسموعة) إلى مواضيع جانبية حساسة يكثر فيها اللغط، وخاصة أحداث الفتنة، التي لا يستطيع أغلب المسلمين هضمها او فهمها، ويتطلب شرحها محاضرات طويلة مستقلة.. فالصواب هو التركيز على معاني الآيات
أنت اردت هنا أثبات الحكم الفقهي من ان الحرم لا يعيذ جانيا او محدثا، فضعي آراء الفقهاء في ذلك او اقوالهم، دون الاسقاط التاريخي الذي يمكننا ان نجادل فيه كثيرا، وندخل في مسألة الخروج على الحاكم، ومن احق بالخلافة، ومن الجاني الحقيقي، وكيف يقال عن صحابي اختلط ريقه بريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حواريي رسول الله وحفيد الصديق، نقول عنه انه محدث لا يجيره الحرم!!...

« آخر تحرير: 2018-12-13, 08:41:08 بواسطة ماما هادية »
*رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ*

غير متصل ماما هادية

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 15901
  • الجنس: أنثى
  • احفظ الله يحفظك
اقتراح

أسماء بما أنك لا تتناولين السور القرآنية بالإجمال، بل تفسرينها بالتفصيل والإسهاب، فأرى الاولى ان تفردي كل سورة منها بموضوع مستقل، وتضعي له عنوانا واضحا (تفسير وتدبر سورة كذا) ليسهل علينا الرجوع لها والاستفادة حين  الحاجة

*رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ*

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
اقتباس



جزاك الله خيرا كثيرا
ولي ملاحظات:
1- ثمة خطأ تاريخي هنا فيما أظن
فلم يكن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فقط من امتنع عن بيعة يزيد
ولم يرسل سيدنا معاوية رضي الله عنه جيوشاً لمكة لحمله على البيعة أو مقاتلته، وإلا لقاتل عبد الله بن عمر وسيدنا الحسين في المدينة ايضا وقد امتنعا أيضا عن البيعة
وإنما قتال ابن الزبير كان في عهد مروان بن الحكم، لما كان الزبير خليفة المسلمين، ولم يبايعه مرروان بن الحكم، بل اخذ يشتري الولاة بماله وعطاءاته حتى استولى على الأمصار واحدا تلو الآخر ثم انتهى الى الحجاز، وحاصر ابن الزبير في مكة، وقصفها عامله الظالم الحجاج بالمنجنيق
والله أعلم
-------------
2- أيضا لا أظن العزو لتفسير سيد طنطاوي صائبا، لان الرجل عليه ما عليه من مآخذ وزلات غمرت روائحها النتنة الآفاق، فالاستشهاد بآرائه وكتبه يضعف البحث.. وما فيها من صواب ستجدينه بالتأكيد في كتب الأقدمين الموثوقة، وما فيها من خلل لا نريده ان يتسر لبحثك
------------------
3- من الأفضل ان نتجنب عند تفسير آيات كتاب الله الإسقاطات التاريخية، التي تنحرف بالمفسر (خاصة في المحاضرة المسموعة) إلى مواضيع جانبية حساسة يكثر فيها اللغط، وخاصة أحداث الفتنة، التي لا يستطيع أغلب المسلمين هضمها او فهمها، ويتطلب شرحها محاضرات طويلة مستقلة.. فالصواب هو التركيز على معاني الآيات
أنت اردت هنا أثبات الحكم الفقهي من ان الحرم لا يعيذ جانيا او محدثا، فضعي آراء الفقهاء في ذلك او اقوالهم، دون الاسقاط التاريخي الذي يمكننا ان نجادل فيه كثيرا، وندخل في مسألة الخروج على الحاكم، ومن احق بالخلافة، ومن الجاني الحقيقي، وكيف يقال عن صحابي اختلط ريقه بريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حواريي رسول الله وحفيد الصديق، نقول عنه انه محدث لا يجيره الحرم!!...



جزاك الله خيرا يا هادية . أسعدني ردك وملاحظاتك، ولقد وددت ذلك... وأتمنى دوام متابعتكم وملاحظاتكم

بالنسبة للحديث الذي في البخاري أحببت الاستشهاد به قبل الاستشهاد بأقوال العلماء لأنني أحب الاستشهاد بها، وحينما عدتُ إليه من إشارة بعض المفسرين إليه وضعته ... إلا أنني فعلا وأنا أكتب راودني الإحساس بالخوض في أمور حساسة ليس هذا مقامها، أو أن تكون الإشارة إليها مقتضبة دون السَّوق إلى أحداث الفتنة . أشاطرك الرأي، وقد عدلت.

أما بالنسبة للطنطاوي فهو واحد من عدد من المفسرين أقرأ لهم، وكنت قد قارنتهم بغيرهم فوجدتهم الأكثر تبحرا... إلا أن تفسيره يتميز بالوضوح، ونوع من التبسيط، فأقرأه مع جملة ما أقرأ لأنوع بين هذا وذاك ... وأنا لا آخذ عنه وحده، بل أجعله بعد عدد ممن أضعهم الأولى بالأخذ عنهم لذلك أغلّب ما يضعون على ما يضع . هدانا الله وثبتنا فهذا من أصعب الأمور ولا حول ولا قوة إلا بالله

بالنسبة لجعل كل سورة منفردة، فكرت بذلك، ولا أستطيع أنا الفصل، أرجو أن يفصل أحدكم آل عمران عن البقرة مشكورين.
أرحب بمتابعتك وبالملاحظات لأن هذا الموضوع يعني لي .
« آخر تحرير: 2018-12-13, 18:53:16 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
كل ما سبق من السورة نلاحظ بقوة أنه يصبّ في مجرى "التثبيت على الهُدى

** فقطاعنا الأسبق (34-63) كان فيه تعليم الحق حتى لا يلتبس على المؤمن بأباطيل أهل الكتاب وأباطيل كل مُبطِل، فيثبت على الحق ولا تتمكّن من نفسه المُزعزِعات.

** كما كان انتقال المؤمن في قطاعنا الأخير (64-99) إلى مرحلة الدعوة إلى العلم الذي حازه، دعوة على بصيرة، يتخلّلها دحض أباطيلهم بما يقابلها من حقٍّ هو من عند الله الذي لا يقصّ إلى الحق، وبيان أساليبهم لإضلال المؤمنين، لتتحقق بذلك الدعوة في ظلّ تبيّنٍ لالتواءاتهم ومعرفة بحِيلهم وأحابيلهم، لا دعوة تغلب عليها العاطفة فيُصوَّر المدعوّ دوما بصورة الحَمَل وإن كان ذئبا ماكرا...دعوة لا تَرَخُّص فيها ولا تنازل عن ثوابت وأصول لاسترضاء المدعوّ...

دعوة صاحبها على يقين من أنه حامل الحق الأصيل الأول الممتدّ عبر سلسلة الأنبياء جميعا وصولا إلى النبي الخاتم المقتفي لآثار الحنيفية السمحة صلوات الله وسلامه عليهم.
وإننا الآن نقف على عتبات آيات جديدة ... في نقلة جديدة ... فلنبدأ ولنرقُب الترابط، ولننظر إن كان هذا القطاع سيدور في فلك محورنا دون تكلّف منا ولا تعسّف  :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ(100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(102) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(104) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ(106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(107) تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ(108) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(109) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ(110) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ(111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ(112) لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ(113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ(114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ(115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(116) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ(118) هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(119) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(120)

وكالعادة ... أقرأ العدد من الآيات فيرتسم لي العنوان العريض الذي تنضوي تحته، فإذا ذلك العنوان هو ما ساق إليه عنوان الآيات السابقة ... تتّحد في معالجة موضوع بعينه ضمن الموضوع العام للسورة، وتكون منها الآيات السائقة والآيات المَسوق إليها على اتساق بديع ...

تُرى ما أول مَلْمح يأخذك في قطاعنا الجديد ؟ ...

حاول النظر بعين فاحصة .. فإنّ مُناي أن تكتشفَه أيها القارئ قبل أن أفصح عنه.
مُناي أن تتعلم النظر في الآيات نظر المتأمّل، المتفحّص لقطعة من المطرَّز الساحر الأخاذ الذي يأخذُكَ خيطُه الأول ونَسْجُه الأول إلى القطعة برمّتها جزءا إثر جزء، وإحساسك بالجمال لا ينفكّ وأنت تستمتع ليزيدك الانتقال إلى الجزء الآخر متعة على متعة، ويزيد الصورة البديعة الساحرة في عينك اكتمالا ... فتُشبِع ناظرَيك وقد انتشت نفسك بالجمال، ولا تملك بعدها إلا أن تقول : ما أروع هذه القطعة ... وإنّ كل جزء منها لرائع قد رُكّب إلى رائع ... !

حسنا ... أليس هو النداء الأول للمؤمنين في عَرَض هذه السورة ؟ : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ "

بلى إنه كذلك ... النداء الأول من الله تعالى للمؤمنين بصفة الإيمان تشريفا لهم وتكريما، وتذكيرا لهم بالنعمة الأتمّ والعطيّة الأجلّ أن كانوا من المهتدين، من الذين آمنوا حتى كان لائقا كل اللياق أن يُنادَوا بالإيمان صفة لازمة وكرامة وشرفا وعزّا ...
ولكنّ القول بالإيمان وحده لا يكفي، بل إن الذي أعلن إيمانه وتصديقه هو الذي سيُكلّف ليُمتحن إيمانه وتصديقُه ... أيسمع أم يُعرض، أيطيع أم يعصي، أيعتبر ويتعظ أم يكون من الذين لا يتعظون ولا يعتبرون، أيثبت أم يتزعزع .

إذن فإننا مع دنيا المؤمنين ... وإننا لو ألقينا نظرة عامة على هذا القطاع من الآيات لوجدناه عن دنيا المؤمنين ...
وعلى هذا أحب أن أتذكر وأذكّر بآخر ما بلغْنا قبله ...

ألم نقل أنّ الآيات قد ساقتنا سَوقا إلى ظلال من حركة المؤمنين بإيمانهم ؟ من حركة المسلمين بإسلامهم ؟ ألم نقل أنّنا كنا مع الإسلام اعتقادا حتى بلغْنا الإسلام تشريعا ؟ أوَتَذكرون ؟
ألم نعش مع أهل الكتاب في ظل دعوتهم للحق ونحن نتعرف إلى ضلالاتهم وشبُهاتهم التي يلقونها في أوساط المؤمنين مشكّكين، عاملين على زعزعتهم، يعلّمنا الله إياها حتى لا نعدّ ذلك على دربنا بِدعا من المعترضات التي لا قِبل لنا بدفعها ... لنجد أنفسنا بعدها مع بيان ما أحلّ القرآن من طعام ادّعى أهل الكتاب أنه كان محرما على إبراهيم عليه السلام  ومع فرض الحج ...

أطللنا من خلالهما على دنيا المؤمنين ... وها نحن الآن قد ولجْنا ...

1- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ(100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(101)

وكنا قد عرفنا قبلها كيف استنكر الله عليهم كفرهم وهم شهداء على الحق وعلى نَعْته، ثم استنكر صدّهم المؤمنين عن سبيل الله : "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ(98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(99) "
فجاءت هذه الآية الموالية مناسِبة كل المناسبة لما كان من استنكار أمرهم...
والكافرون من وضاعة مكانتهم عند الله تعالى ترفَّع سبحانه عن مخاطبتهم بشكل مباشر، وأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم، بيدَ أنّ المؤمنين هنا مخاطَبون من الله سبحانه بشكل مباشر دون واسطة  ! وإنّ في ذلك ما فيه من بيان الفرق بين المكانَتَيْن .
فيا أيها الذين آمنوا... إنكم إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين .
ولقد عرّفنا الله في آيات سابقة كيف : " وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(69)"
كما أنها شبيهة بقوله تعالى : " وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ... " –البقرة:من109-
وجاء التعبير في هذه الآية بــ: "فَرِيقاً" وفي الآية التي ذكرْنا بـ: "طَّائِفَةٌ"، وكلّه من إنصاف القرآن الذي عرفنا. فليس الحال أنّهم جميعا دعاة إضلال وتضليل.

ولأبي زهرة لمحة لغويّة عن مقام "إن" هنا :"  "إن " الشرطية تفيد الشك في وقوع الشرط، وبالتالي ترتب الجواب عليه، بخلاف " إذا " فإنها تفيد وقوع الشرط أو تؤذن بوقوعه وترتب الجواب عليه، كقوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ)، وقوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ)، وقوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) " –زهرة التفاسير-
إنّ ارتدادكم عن الهُدى والحق ليس بالأمر الوارد، فجاءت إفادة الشك لا اليقين، وإنّ هذا الارتداد ليس من ذات صاحبه، حتى أنها لم تكن : "ترتدوا" بل جاءت:  "يردّوكم" دليلا على دورهم في ابتعادكم ولكن أيضا ليس من فراغ دوركم أنتم بل باستجابتكم لهم، إن تحققت منكم أنتم الطاعة .

وأحب ألا أخرج من هذه الآية حتى أنوّه إلى أنّ هذه الطائفة وهذا الفريق ليسا حِكرا على زمان دون زمان، بل هم في كل زمان ... وحتى نتعلم من القرآن الإنصاف، فإننا لن نسوّي بين مَن لا يسعى سعيَه للإضلال والصدّ عن سبيل الله وبين من ذلك دَيْدَنُه...
ولكن في الوقت ذاته لا يجب أن نركن إلى المتنادين بالنفي التام لذلك عنهم، ومنهم دعاة إنكار المؤامرة الإنكار الكليّ... لا يعني هذا أن ننظر للمؤمن على أنه الضحية... ليس ذلك صائبا ولا حقا ... ولكنّ الحق من هذا النبأ القرآني اليقين، أنّ الإضلال لا تقوم له حقيقة في نفوس المؤمنين إلا أن تكون الطاعة والانسياق من المؤمنين أنفسهم ...

وقبسٌ من هذا النور القرآني ما قال به مالك بن نبي في نظريته : "القابلية للاستعمار" إذ لا يرى في الاستعمار قوة تُفرَض على المستضعَفين إلا أن يكون أولئك المستضعَفون أنفسهم قابلين لأن يُستعمروا بما أسلموا به أنفسهم لغيرهم، وبما فتحوا لهم بضعفهم وهوانهم من أبواب...

وطاعتهم تكون بتمكّن شُبهاتهم من نفوس المؤمنين، هذه الشبهات التي لا تجد لها موطنا إلا إذا كانت النفوس خَلوا من العلم الواجب تعلّمه وتلقُّنه من القرآن، العلم الحق الذي يُحصّن عقل المسلم ويحمي قلبَه من عبث العابثين، وشِباك المتصيّدين ...
 
تلك المقوّمات التي علمتنا آل عمران في خطوة سابقة كيف تكون لنا عصا نتوكأ عليها، ونهشّ بها على المُزعزِعات ولنا فيها مآرب ومآرب على الدرب للثبات وتجنّب العثرات، وتجاوز العقبات ...
وإن المتزعزع المتشكك، الذي تعمل فيه الشبهات عملها وهو خَلوٌ من علم مُحصِّن لَيسهل عليه البُعد عن الحق والخروج عن حِمى الهُدى حالا بعد حال والشبهة تأخذه إلى الشبهة إلى الشبهة وصولا به إلى الكفر بعد الإيمان عياذا بالله :" إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ "

وأيّ نقمة هي وأي خسار وأي بوار أن ينقلب المؤمن كافرا ... !!!
فلنحترس ولنحرس ثوابتنا، ومقوّمات ثباتنا على الدرب، ولنكن على بصيرة من كلّ مترصّد للعقيدة فينا بسوء أو بشر ...
« آخر تحرير: 2023-03-09, 08:12:05 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وإنّ لنزول هذه الآية سببا لا نتقيّد به في القرآن فنقول بعدم تعميم مرادها، إذ -كما أسلفنا-  القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.. ولكنّ سبب النزول له أهمية ذات أوجه، من بينها أنه الذي تعيده دورة الحياة في الأرض، يعاد من أشخاص آخرين بأشكال مختلفة، والغاية منهم واحدة ...

إنه اليهودي شاس بن قيس الذي كانت نفسه تنضح حقدا على المسلمين في المدينة، فغاظه أن يرى الأوس والخزرج أعداء الدهر متقاربين متحابين متآخين، فأوعز إلى واحد من اليهود أن يتسلل بينهم ويذكّرهم يوم "بُعاث" تلك الحرب الضروس التي أكلت خيرة رجال الفريقَيْن، فائتمر بأمره وذكّر القوم، حتى ثارت ثائرتهم وكادوا أن يقتتلوا، ونادى كُلّ فريق : يا للأوس ويا للخزرج وأخذوا السلاح، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بينهم وقال :" أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟" وقرأ هذه الآية ، فما فرغ منها حتَّى ألقوا السِّلاح ، وبكوا، وعانق بعضهم بعضاً .

وها هو سبحانه يستنكر على المؤمنين كفرهم وهُم في حظوة ليس كمثلها في الدنيا حظوة :

وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ سْتَقِيمٍ(101)

كيف يكفر من تُتلى عليه آيات الله وفيه رسوله ؟ 

والصحابة أصحاب هذه الحظوة العظيمة. إذ اجتمع في زمانهم تلاوة القرآن عليهم من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم أول نزوله غضا طريا من عند الله...حركتهم وحركة مَن حولهم من الكافرين على الأرض الجزء الأساس من منظومة أسباب نزوله ... 
ولكأني بهم قُبالة عيني وهم يُصبحون على آيات منه يَعُونها ويعملون بها، ويُمسون على آيات جديدة نازلة وخبر نزولها عندهم جديد جدّتها ...
يبلّغهم النبي من فمه إلى آذانهم، ويعظهم ويردّهم عن خطأ أو ذنب أو زلّة .. ويعلّمهم العَيش به حركة على الأرض وهو الذي كان قرآنا يمشي على الأرض... يلوذون به عند الشدائد، ويشتكون إليه ضعف أنفسهم وقلّة حيلتهم، ويسارعون إليه في شُبهة تُلقى إليهم أو شهوة تفتّ من عضد عزيمتهم ... وهذا منهم قد يكون هو ذاتُه سبب نزول آيات تُداوي ما بهم، وتُرشدهم وتبيّن لهم الحق وتُبعِدهم عن الضلال ... وكما يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله : " وإن ساعة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم تغني عن اجتهاد سنين"

وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ

الاعتصام هو الاستمساك بالشيء والامتناع به، من يمتنع بالله سبحانه ويستمسك به يهدِه الله، بل لقد جاءت : "هُدِي" في صيغة الماضي للتعبير عن التحقّق الأكيد لهذه الهداية من الله ...
ولنتأمل ... جاءت "يعتصم"  ولم تجئ "اعتصم" للتعبير عن تجدد هذا الاستمساك وضرورة المداومة عليه، اعتصام دائم متجدد ... وهو الامتناع بالله تعالى عن الوقوع في براثن الشبهة والأباطيل التي تُزرَع ألغاما على الطريق ... ولا يكون هذا الامتناع إلا بالتزود الدائم من هذا الكتاب العظيم .... الذي فيه الهدى " ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ

من يعتصم --------> قد هُدي


أما نحن، فآيات الله تُتلى علينا محفوظة من رب العزة كما نزلت أول مرة،  ولن تنقطع، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم ففينا سنّته :  "قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ  فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(32)" –آل عمران-
قال صلى الله عليه وسلم : "تركتُ فيكم شيئينِ لن تضلوا بعدَهما كتابَ اللهِ وسنتي" –النوافح العطرة: صحيح-
ولو كان الأمر كما يقول دعاة إنكار السنّة، فلماذا لم يقتصر الله سبحانه على آيات القرآن وحدها ؟!

فما بالها آيات الله تُتلى علينا، وسنّة نبيّنا الصحيحة بالغة إلينا، وكثير من بني الإسلام كثير كثير سريعا ما تعمل في نفسه الشبهات فتُنبِت الشكّ والزعزعة والاضطراب أشواكا تملأ دربَه؟!
إننا أخذنا من معنى "التلاوة" الصوت، صوت القراءة بلا وعي ولا سعي لتشرّب المعنى ... متى صححنا فهمنا وعدّلنا، وعرفنا دورَنا مع القرآن، وقدرناه حق قدره، فعرفنا أنه المِشكاة المضيئة على الدرب المُعتِم  كانت التلاوة سببا عظيما في ثباتنا ... ثبتنا الله على الهدى ولا أزاغ قلوبنا .

وها نحن مع النداء الثاني للذين آمنوا ... للذين لن يكفيهم أن قالوا آمنّا ... بل إن التكليف لهم، والأمر لهم قائم ما دامت الدنيا امتحانا لإيمانهم ..

إننا مع ما يجب أن يكون عليه المؤمنون من حال ... ما يجب أن يكونوا عليه من ثبات، ومن طاعة لأمر الله، ومعصية لأصحاب الأهواء والأباطيل ...

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(102) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(103)

2- أمر للمؤمنين بالتقوى، وما التقوى إلا الائتمار بأمر الله تعالى والانتهاء عن نهيه. ولقد عرض المفسرون للأمر بالتقوى في هذه الآية، وللأمر بها في قوله تعالى : " فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ..." –التغابن:من16-  على أنّ الثانية ناسخة للأولى، وكثير منهم لا يقول بالنسخ.
وإنني أيضا ممن لا يرى النسخ، لأنّ حقّ تُقاته لا تُلزم فوق وسع النفس، والله لا يكلف نفسا إلا وُسعها، بل ما أراه هنا أنها تقتضي التقوى الصحيحة التي لا يشوبها اضطراب أو تململ أو أن يكون الإيمان على حرف، فما أن يتعرض صاحبه لشُبهة حتى يهوي ويسقط ...
"اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ"

إنها هنا مناسِبة تمام المناسبة للتثبيت الذي تحثّ السورة عليه في كل مقام، مناسبة كل المناسبة لما جاء في الآية السابقة من تجدّد الاعتصام والمداومة عليه ... بل إن هذا الاعتصام كما رأينا، هو الاستمساك بالقرآن والامتناع به من مهاوي الهوى والباطل ودركات الضلال، وما التقوى إلا الائتمار بأمر القرآن، والانتهاء عن نهيه .
ولقد استبقتُ هذا المعنى في فقرة سابقة هنا حينما قلت: والمؤمن المهزوم نفسيا، المُحبَط الذي لا يرى لأمّته قائمة تقوم، بل هو من نكسة إلى نكسة أكثر عرضة لهذا التشويش ولفعل هذه الشبهات التي نعاين عن كثب كيف نصبح ونُمسي على أخبارها ! وشباب المسلمين الذين يعرفون من القرآن اسمه غافلون عن علم عظيم فيه، كفيل بأن ينجّيهم من مساقط الهوى والضلال إن هم استمسكوا بتدبّر معانيه وجني قُطوفه الدانية... إن هم عاشوا مع الآيات عيش التأمل والتملّي...

نعم ... إن هم استمسكوا بالقرآن: "...وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" أن يكون مع القرآن وقد عدّل معنى التلاوة في ذهنه فلا تبقى تلاوة الصوت، تلكم هي: " اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ "

وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ

سبحان الله ... كفعل وميض نجم ينبّهك في كل حين أنه ميزته، يجعلك تُرجع البصر كرات وأنت تردّد :  "الثبات...التثبيت"... "الثبات...التثبيت"... تومض وتومض في كل مقام ...
فلنتأمل كمّ التأكيد على الثبات في سياق آيتَين متتاليتَين على هذا المخطط :

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
3- وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

أولا :  جاء الأمر للمؤمنين من ربهم وهو يعلمهم على أي حال يجب أن يكونوا ليثبتوا ...
**ألا يطيعوا المُضلين من أهل الكتاب .
**حُسن تقدير كتاب الله وتربية الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم.
**تقوى  الله حقّ تقاته بالعيش بأمره والحركة به على الأرض لا بالقول وحده.

يأتي الأمر بالاعتصام بحبل الله : وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً ...

وقد عرفنا من قبلُ تقدمة لهذا بقوله سبحانه : وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
فجاءت : "يعتصم بالله"  وهنا جاء الأمر بـ : " وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ "

وإنّ لكليهما المعنى ذاته، فالاعتصام بحبل الله هو الاعتصام بالله تعالى، وحبل الله هو الكناية التمثيلية لأمره لعباده الذي أنزله إليهم، وليس ذلك إلا القرآن الكريم . وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه  : "إنَّ هذا القرآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ فتَعَلَّموا مَأْدُبَتَه ما استطعتم وإنَّ هذا القرآنَ هو حبلُ اللهِ وهو النورُ المبينُ والشفاءُ النافعُ عِصْمَةُ مَن تَمَسَّك به ونجاةُ مَن تَبِعَه لا يَعْوَجُّ فيُقَوَّمُ ولا يَزِيغُ فيُسْتَعْتَبُ ولا تَنْقَضِي عجائبُه ولا يَخْلَقُ عن كَثْرَةِ الرَّدِّ" –السلسلة الصحيحة الألباني-

وإننا لو لازمنا الربط الذي يُلزِمنا هو ألا نغادره وله وقع وتأثير كبير في تناسق المعاني واتساقها لوجدنا أن :

التقوى وهي الائتمار والانتهاء-----> الأمر بالاعتصام بحبل الله .

ومادامت التقوى هي الائتمار بأمر الله فقد أمرنا بـالاعتصام فوجب أن يكون ائتمار حقّ وتطبيقٍ لهذا الاعتصام بالقرآن لا التشدّق بمعرفة الحروف، أو بالانتساب لأمة القرآن انتساب عنوان : " اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ "
وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ

و"جميعا" هنا .. معناها أن يرنوا جميعا لهدف واحد على طريق واحد، مستمسكين بحبل واحد. والعادة أن السائرين على طريق واحد متآنسون، متعاضدون متناصحون . متآخون.
لننظر ... فإذا نحن مع دنيا المؤمنين، ومع تكليف المؤمن وأمره وتوجيهه وتحذيره.. نجدُنا ننتقل باللفظ الصريح إلى معنى "الجماعة"  في الإسلام . 


ومن الفرد إلى الجماعة(الأمة):

جاءت : " يعتصم بالله " تخصّ الفرد . وجاءت:  "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ " للجماعة . كلهم لا يمسك بعضهم بعضا ولا يتحقق اجتماعهم وتوحّدهم إلا وهم مستمسكون بالحبل الواحد . جاءت الحبل استعارة تمثيلية للشيء الذي يجمع الأفراد يجمعهم لهدف واحد، على طريق واحد ...

ثانيا : ثم جاءت : وَلاَ تَفَرَّقُواْ   للتأكيد على ضرورة اجتماعهم بالنهي عما ينقض الاجتماع، وما يجعل التشرذم عنوانا . جاءت للتأكيد . فكان الترغيب في الاجتماع والذي يشرّفه أن حبله حبل الله، وكان الترهيب من التفرّق الذي يجعل الجماعة أفرادا متشرذِمين . وهو من دواعي الضعف ومن دواعي تجرؤ العدو المتربص، وإنما يأكل الذئبُ من الغنم القاصية .

ثالثا : وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

أما الثالثة فهي : أن يذكر المؤمنون نعمة الله عليهم، ويأتي تفصيل هذه النعمة بعد "إِذْ" :

ثالثا/أ)  كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً: وهذا ما كان بين الأوس والخزرج الذين دامت الحروب بينهم وهم أبناء عمومة ما يزيد عن مئة وعشرين سنة، كان فيها الاقتتال على أشدّه، هكذا كانت حال يثرب قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، قبل أن يحمل إليهم القرآن هاديا يُتلى عليهم، يأمرهم فيأتمرون، وينهاهم فينتهون .

كان أول ما فعله صلى الله عليه وسلم فور دخوله المدينة المؤاخاة بين الأوس والخزرج، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

وإننا لنذكر من أحداث السيرة المطهرة كيف كان يوم لقائه بمكة صلى الله عليه وسلم بالنفر الستة من الخزرج حينما كان يبحث عمّن يُجيره. استمعوا إليه، وأجابوه فيما دعاهم إليه، وقبلوا منهُ ما عَرضَ عليهم منَ الإسلامِ وقالوا له:  إنَّا قد ترَكْنا قومَنا، ولا قومَ بينَهُم منَ العداوةِ والشَّرِّ ما بينَهُم، وعسَى أن يجمعَهُمُ اللَّهُ بِكَ .
وقد جمعهم الله به حقا. حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يذكّر الأنصار بعد حُنَين حينما قسم الغنائم ولم يُعطِهم منها حتى وجدوا في أنفسهم قال: "يا معشرَ الأنصارِ، ألم أجِدْكم ضُلاَّلاً فهداكم اللهُ بي، وكنتم متفرِّقين فألَّفَكم اللهُ بي، وكنتم عالةً فأغناكم اللهُ بي"

وهذا التأليف بين القلوب لا يخصّ هذه الحادثة المفصليّة في تاريخ الإسلام وحدها، وإنما ينطبق على كلّ مَن كان الإسلام سببا في حقن دمائهم، وإحلال الوئام بينهم مكان الحروب والتقاتل، وقد عُرف العرب قديما بالتقاتل لأتفه الأسباب . وهذا من نعمة الله تعالى أن يصبح المتقاتلون المتناحرون إخوانا .

ثالثا/ب) وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا
الشفا هو الطرف، كنتم على طرف حفرة من النار، ولعلّ القول بأنه الإنقاذ من النار جائز، إلا أنها وقد جاءت "حفرة من النار" يُبعِد نِسبيا عن ذلك المعنى، لأن النار ليست حفرة بل عالم من العذاب، بذلك أرى أنه الإنقاذ من حفرة يهوي في سحيق عمقها مَن هو مشرف عليها لا يبعد عنها إلا مقدار الشّفا، وأي بعد هو بين الشيء وطرفه ؟! حفرة من نار الفِتن في الدنيا ونار الهلاك بالعَيش فيها على الكفر، لا تقوم للعقل ولا للقلب قائمة من حق ... الموت على الكفر وحده حفرة من نار يقع فيها من يصرّ على كفره ما أحياه الله . حفرة من نار تُرديه وتأخذه للنار التي هي العذاب العظيم والقرار السحيق لا الحفرة ...

وأذهب في ذلك مذهب ابن عاشور إذ يقول: " فأرى أن شَفا حفرة النَّار هنا تمثيل لحالهم في الجاهلية حين كانوا على وشك الهلاك والتَّفاني الَّذي عبَّر عنه زهير بقوله : تفانَوا ودَقُّوا بينَهم عِطْر مَنْشَم... بحال قوم بلغ بهم المشي إلى شفا حفير من النَّار كالأُخدُود فليس بينهم وبين الهلاك السَّريع التَّام إلا خطوة قصيرة ، واختيار الحالة المشبَّه بها هنا لأن النَّار أشدّ المهلكات إهلاكاً ، وأسرعُها ، وهذا هو المناسب في حمل الآية ليكون الامتنان بنعمتين محسوستين هما : نعمة الأخوة بعد العداوة ، ونعمة السلامة بعد الخطر ، كما قال أبو الطيب : نَجاة من البأساءِ بعدَ وقوع... والإنقاذ من حالتين شنيعتين. "-التحرير والتنوير-

وتُختم الآية بقوله سبحانه :  كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

أن ينقلب الأعداء إخوة، وأن ينجو من هو مُشارف على حفرة النار فيغدو ناجيا وقد أوشك على الهلاك ... كلتاهما آيتان من الآيات التي يبينها الله لعباده، كلتاهما من نعمة الله على عباده المؤمنين، كلتاهما من فعل الإيمان وفعل الإسلام في النفوس ...

رقيّ بالإنسان، سموّ به إلى الإنسانية الحقة، الإنسانية التي لا يُحققها شيء كما يحققها الإيمان في نفوس أصحابه. هل من السهل أن يغدو القاتل والمقتول له أخوَين متحابَّيْن ؟! هل من السهل أن يسود الإخاء والحبّ والتعاضد والتعاون من كانوا بالأمس القريب أعداء متقاتلين، كلٌّ منهم يحيك للآخر خيوط المكر والوقيعة به لأخذه على غرة، أو للانتقام منه ...

لقد تحقق ما كان صدمة لليهود الذين كانوا يلهبون نار الحرب بين الأوس والخزرج، كلما خبت نفخوا فيها ليشتد لهيبها ويحمى أُوارها ...

أليست آيات من الله يبيّنها لعباده ؟! أليست محسوسات يلمسها المؤمنون في حياتهم التي انقلبت أمنا ودعة ومحبة وإخاء وقد كانت حربا ودما مُهدرا لا يطلب إلا الدم، وكرها وبغضاء لا حدود لهما ... ؟!

وأذكر في هذا المقام من حدّثني مرة أنّ المؤمن ليس له من خصوصية العطاء الرباني شيء في الدنيا، لا ينكر خير الآخرة المخبأ له، ولكنه ينكر عطاء يخصّ به الله تعالى عباده المؤمنين ...
وهذه الآية تعلّمنا من خصوصية هذه العطايا الربانية لعباده المؤمنين في الدنيا ... وهم يرون بأمهات أعينهم كيف تُزهِر حياتهم وترتقي حركتهم ....

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ  .... كلها آيات للهُدى ... ولعلّ أحدا أن يسأل: وكيف يحدّث الله عن هداية من هو مؤمن مُهتد ... أقول إن علامات الهُدى الذي هو على الهُدى لَتلُوح لي في هذه الآيات، إنها الهداية فوق الهداية التي لا غنى للمؤمن عنها .. إنه التثبيت على الهُدى

ألم يقل سبحانه : " ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ  فِيهِ  هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ " –البقرة:02-
ألم يقل سبحانه : " ...إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى " –الكهف:من13-

فهو هدى التوفيق الذي يزيده الله سبحانه لمن آمن واتقى وليس هُدى الدلالة الذي كان من الله لكل عباده دعوة إليه .
وهو بعبارة أخرى التثبيت من الله  لمَن لم تخلُ رحلة حياته من آليات الثبات التي يعلمنا الله إياها. وعلى رأسها الاعتصام بحبله سبحانه :

« آخر تحرير: 2019-01-02, 08:15:44 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وإننا في انسياب تدريجي حتى بلّغَنا الله الجماعة بلفظ : "جميعا" ... وبـ "حبل الله" الوسيلة الحافظة للجماعة من التفرق والتشرذم ...
وبذكر نعمة الأخوة التي صاروا إليها من بعد التقاتل والتناحر والعداوة، وبذكر نعمة إنقاذهم من النار وقد كانوا على شفاها ...وأنما هي آيات من الله تعالى، علامات تزيد المؤمن ثباتا ومعرفة بانقلاب حاله من الكفر إلى الإيمان، ومع صيرورته إلى الإيمان قد صار إلى أمر محسوس تراه عينُه، ويتحسّسه في مجريات حياته وهو الأمن بعد الخوف، والسلام بعد الحرب، والطمأنينة بعد الاضطراب والقلق .

إحساس يتقاسمه أفراد الجماعة المسلمة الذين عايشوا الحروب والتقاتل، ولم يأمنوا على أنفسهم ولا على أولادهم ولا على أموالهم ... ثم هم أولاء اليوم آمنون متآخون، متعاونون، يحب الواحد منهم لأخيه ما يحب لنفسه ...

من هذا نجدنا نتقدّم خطوة أخرى لتتضح لنا الرؤية وسط الجماعة المسلمة ... وكما عرفنا قد بلغناها متدرجين مع الآيات :
وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(104)


أما وقد سمعتم أمر الله تعالى وأطعتموه : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ"
"وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ..."
فإنه سبحانه بما تقدم قد هيأنا لما يجعلنا جماعة واحدة . ثم هو الآن يأمرنا أن تكون منا أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
فما هذا الأمر ؟ أهو أمر يخصّ فئة من المسلمين دون فئة أم أنه أمر عام لهم جميعا ؟
سأحاول تقسيم هذه الآية إلى مسائل ليسهل علينا ترتيب أوجهها، وهي آية جامعة بمرادها للجمع، وجامعة للمعاني العميقة المندرجة تحتها ...
وإنه يجدر بي أن أشير إلى :

أولا: حُسن وبديع المقابلة لما كان من أمر الكافرين (الآيتان 98و99) من كفر في أنفسهم ثم من سعي لصد المؤمنين عن سبيل الحق، مقابلته بما هو في المؤمنين مضادّ مخالف، فهم المنادَون من رب العزة بصفة الإيمان، المدعوّون لتقوى الله حق تقاته، ثم هم المأمورون هنا في هذه الآية بأن يكونوا دعاة للخير، دعاة للحق. بخلاف الضالين المضلّين المؤمنون هنا هم الهداة المهديّون  ...

ثانيا: المعروف هو ما تعارفه أصحاب العقول والفِطر السليمة واتفقت عليه الأفهام وقبلتْه ورضيته، والمنكر هو ما أنكرته. فمن المعروف الصدق والرحمة بالناس، والوفاء، ومن المنكر الكذب والقسوة على الناس وإيذاؤهم والغدر والخيانة وغيرها...

المسألة الأولى :  حول التبعيض والبيان في: "منكم" :
"مِن" اختلف المفسرون بين من يقول بأنها تبعيضية ومن يقول بأنها بيانية، وأرى رأي الجمع بينهما، أي أن تؤدّي الدورَين كليهما... فكيف يتأتى ذلك ؟

" وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ..." إنهما دائرتان :

1 ) دائرة عامة ("من" البيانية):
على مستوى المجتمع المسلم وخارجه:

وفي هذه الدائرة يتجلى دور البيان . فمنكم أنتم أيها المسلمون، بكل فرد فيكم تكوّنون على الأرض الجماعة التي تدعو للخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . منكم تكون هذه الأمة، بكم تتكوّن. دائرة الجماعة المسلمة كلها، بكلّ أفرادها، و"الأمة" لغة تأتي على معان فهي تارة بمعنى الملة، وهي تارة بمعنى المدة الزمنية، وهي أخرى بمعنى الجماعة، كما هي هنا.

الجماعة التي تؤم إلى مقصد واحد، والمسلمون يجمعهم الدين الواحد والاعتقاد الواحد، وقد بيّن الله لهم كيف يجب أن يجتمعوا على المقصد الواحد، حبل الله المتين، كتابه الجامع الموحّد لهم ...

وعليه فإنني أرى أنّ كل الأمة مطالبة بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كلٌّ حسب موقعه من المجتمع المسلم، أن يكون كل واحد منهم داعيا لإقامة الدين في الحياة، فالأم التي تأمر ابنتها بالمحتشم من اللباس وتنهاها عن الخضوع في القول آمرة بمعروف ناهية عن منكر، والأب الذي يأمر ابنَه أن يحترم الكبير ويوقر الصغير، وينهاه عن التفحّش في الكلام آمر بمعروف ناه عن منكر...

والمعلم الذي يأمر تلاميذه بالجدّ والاجتهاد في تحضيرهم للامتحان وهو يؤكّد منعه لأي عملية غش آمر بمعروف ناه عن منكر، بينما المعلم الذي يقوم على حراسة امتحان لتلاميذ زميل من زملائه، ثم يترخّص ويرخّص لهم الغش وتبادل أوراق الغش آمر بمنكر ...

والطبيب الذي يرفض أن يكتب شهادة إعفاء من مادة التربية الرياضية لتلميذ يريد أن يكذب بها على معلمه حتى يُكفى عناء التدريبات الرياضية آمر بمعروف ناه عن منكر إذ يرى في ذلك شهادة زور لا شهادة حق ...

وهكذا لكلّ فرد من أفراد المجتمع المسلم نصيب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلّ حسب موقعه الذي أقيم فيه ....
هذه هي الدائرة الكبيرة التي يعمّ فيها الأمر كل المسلمين.. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يصبّ في هذا المعنى : " كلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعِيَّتِه " وليست هذه المسؤولية في معناها المرادف إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذا عن دعوة المسلم للمسلم ... يدعوه للخير، والخير بكل أوجهه في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر.
ولنعد -ونحن في هذه الدائرة العامة التي جعلتُها عنوانا لأهلية كل المسلمين للدعوة-  إلى ما عرفنا في السورة من ضرورة علم المسلم بالحق، وعلمه بدينه، العلم الضروري الذي ليس حكرا على عالم وعارف بل هو ضرورة لكل المسلمين، ضرورة أن يعلموا الحق من القرآن ليواجهوا به أهل الباطل، فيثبتوا ولا يتزعزع إيمانهم ...

وعلى هذا لا نجد القول بأن الدعوة حكر على أهل العلم ذات حجة وصدى قوي، لأن المسلم مأمور أن يفرّق بين معروف ومنكر، وبين خير وشر، وبين حلال وحرام، بين شبهة وحقيقة، لا أن يُعدّ جاهلا بهذا الذي يجعله المميز عن غيره... وهذه السورة تحديدا جاءت لتثبيت المسلم، جاءت لتعلمنا مقومات الثبات، ولتعلمنا مساعي المضلين المبطلين، ولتلقننا دورنا في حمل رسالة الحق ... ولا يكون هذا إلا بأن يتعلم قارئ القرآن من قرآنه ... ليعلّم ...

وفي هذا أعجبني جدا قول لمحمد رشيد رضا :" وَقَدْ أَشَارَ الْمُفَسِّرُ (الْجَلَالُ) إِلَى الِاعْتِرَاضِ الَّذِي يَرِدُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَأْمُرُ وَيَنْهَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ وَالْمُنْكَرِ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ، وَفِي النَّاسِ جَاهِلُونَ لَا يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ، وَلَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُ مِنَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْمَفْرُوضَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ خِطَابُ التَّنْزِيلِ هُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَجْهَلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْعِلْمِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ يُرَادُ بِهِ مَا عَرَفَتْهُ الْعُقُولُ وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَالْمُنْكَرُ ضِدُّهُ وَهُوَ مَا أَنْكَرَتْهُ الْعُقُولُ وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَلَا يَلْزَمُ لِمَعْرِفَةِ هَذَا قِرَاءَةُ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَى الدُّرِّ، وَلَا فَتْحِ الْقَدِيرِ وَلَا الْمَبْسُوطِ، وَإِنَّمَا الْمُرْشِدُ إِلَيْهِ - مَعَ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ - كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ الْمَنْقُولَةُ بِالتَّوَاتُرِ وَالْعَمَلِ، وَهُوَ مَا لَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهُ، وَلَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا إِلَّا بِهِ، فَالَّذِينَ مَنَعُوا عُمُومَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ دِينًا."-تفسير المنار-

وقال أيضا نقلا عن الإمام محمد عبده : " إِنَّ رُعَاةَ الْإِبِلِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يَدْعُونَ كُلَّ أَحَدٍ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا أَرَادَتِ الدَّعْوَةَ لَا يَقِفُ فِي سَبِيلِهَا شَيْءٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِعُذْرٍ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا."-تفسير المنار-

وتتعالى أصوات الذين لا يرتضون أن يُعبد الله على الأرض بل أن تُعبد أهواؤهم، فينادون بخبث وتحت مسمى "الإنسانية واحدة" بالمساواة بين مؤمن وكافر حتى لا يُبعِدوا المؤمن عن دينه وحسب، بل ليبعدوه عن دوره الريادي على الأرض في الدعوة إلى توحيد الله ...

والقرآن فيما نلمس يوعّي المسلم فيضع له الإطار الذي يجب أن يحوطه. يوعّيه بهذه الألاعيب وهذه الخُطط التي تُحاك صباح مساء، وتنتشر سمومها بين بني الإسلام، وبدعوى الحرية وتقدّم الزمان وسطوة التكنولوجيات وتطاير الصناعات وتقدّم ركب الغرب على ركب المسلمين القاعدين يُنادَى بالمساواة وبالتعايش حدّ التسوية بين مؤمن وكافر، فيغترّ المسلم الغرير الذي لا يعرف من الإسلام إلا عنوانه، ويتّبع الناعق كما يتبع الذي لا يعي ولا يعقل مَن ينعق به عن عمى ...

بينما القاعدة الربانية أنّ المسلم مأمور بأن يتعلم الحق من قرآنه، فلا تنطلي عليه محاولات الساعين في مجتمعه بالتغريب والإبعاد عن هويته ودينه، وهو المأمور  بعدها بالدعوة إلى هذا الحق، بالدعوة إلى هذا الخير... عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : " يا رسولَ اللهِ ، إنا كنا في جاهليةٍ وشرٍّ ، فجاءنا اللهُ بهذا الخيرِ  ... " –صحيح البخاري

والمسلم  مأمور أن يدعو غير المسلم، وقد عرفنا في عرض آيات هذه السورة العظيمة تلقين الله تعالى لنبيه دعوة أهل الكتاب : "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ  فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64)"

مأمور أن يدعو غيره إلى هذا الخير:" وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ" .
 
وصورة الإسلام مشوّهة اليوم من المسلمين القاصرين عن رسالتهم وعن حركتهم بدينهم على الأرض، وإنه قد يعتنق غير المسلم الإسلام من تعامله مع مسلم بسيط في مجال التجارة مثلا، فيعرف فيه الأمانة والصدق، فإذا نقّب عن سرّ أمانته وصدقه أجابه أن دينَه هو الذي يقضي بأن يكون الأمين الصادق في تعاملاته فلا يقدّم مصلحة مادية على ما يراه من نصح واجب بذكر عيوب بضاعته ... وقد حصل من هذا فعلا واعتنق الإسلام من الغرب مَن تأثر بسلوك عدد من المسلمين المخلصين المجسّدين للإسلام حركة على الأرض راقية صادقة عادلة، وليس شرطا أن تكون هداية الكافر على يد عالم من علماء الإسلام . ولا يعني هذا أن كل مسلم قادر على الدعوة الموجّهة التي تُعدّ لها عُدة من معرفة ووسائل مختلفة، بل تكون من اختصاص طائفة بعينها تتأهل للدعوة خارج بلاد المسلمين.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
2 ) دائرة خاصة ("من" التبعيضية):
على مستوى المجتمع المسلم وخارجه:
** أما علماء الأمة والعارفون بأحكام الشرع وبأصول الفقه وبعلوم القرآن والحديث، وبسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وبسيَر العظماء السابقين، فهم الخاصة الذين تنطبق عليهم البعضيّة المُرادة أيضا في هذه الآية، أن يكون من جماعة المسلمين أمة تقوم بدور الإرشاد ووراثة دعوة الأنبياء، والأخذ على يد الظالم إذا ظلم والنصح الواجب لتقويم اعوجاج وتصحيح خطأ وتسديد مسار ..." وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً  فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ "-التوبة:122-

**  كما أنها أيضا تخصّ من يكون لهم درجة أعلى في المعرفة بأساليب إنكار المنكر والأمر بالمعروف، وتكون لهم درجة أعلى من الشجاعة والهمة اللتين تؤهلانه لأن ينكر على حاكم ظالم ظلمه، ويتصدّر لأمره بمعروف، وهذه من مهام علماء الدين والدعاة الذين لا يبيعون الدين للسلطان بل يجعلون من السلطان خادما للدين ...

**  كما تخصّ أصحاب الهمم الذين يتصدرون للعمل الدعويّ التربويّ في شكل جمعيات وجماعات، ويجعلون منه هدف حياة، ويَلقَون في سبيله العَنَت والصدود، ولكنهم يمضون متحدّين تيارات التغريب وتيارات العاملين بالشبهات والساعين سعيهم لمسخ الأخلاق ولتلبيس الدين على الناس، هؤلاء الذين يدعون الناس دوما مذكّرين إياهم بحِمى الإسلام في ظل التكالب على كل ما من شأنه أن يرفع الدين وأهله .. وإنهم في كل زمان ممّن يُضطهَدون ويُسجَنون ويُعمَل على إسكات أصواتهم...

كذلك دعوة الغير للإسلام، أصبحت  في عصرنا تحتاج علما وإلماما بجوانب عديدة، من وجوب العلم التام بحال من تُوجّه إليهم الدعوة، والعلم بالتاريخ لمعرفة أصل الفساد في العقائد والأخلاق والعادات، وعلم النفس وعلم الأخلاق وعلم السياسة وعلم الاجتماع والعلم بلغات الأمم، ومعرفة الملل والنِّحل ومذاهب الأمم فيها...


المسألة الثانية :  حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
هذه الفريضة التي شحّت في مجتمعاتنا الإسلامية إلى حدّ حلّ به الجفاف وتبلّدت  القلوب حتى غدت كحال الأرض القاحلة الجرداء المتيبّسة ... شحّت إلى الحدّ الذي أصبح فيه علماء الدين فتنة للعامة من المسلمين، ونحن نرى العالِم يهوي تلو العالم وهو يبيع علمه بعَرَض من الدنيا قليل زائل، فهو عالم سلطان صنعه السلطان على عينه ليخدمه ويقضي له مآربه باسم الدين وباسم الفتاوى المفصّلة على مقاسات أهواء السلاطين ...! قال صلى الله عليه وسلم : "سيِّدُ الشُّهداءِ يومَ القيامةِ حمزةُ بنُ عبدِ المُطَّلبِ ورجُلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فنهاه وأمَره فقتَله "

هذه الفريضة التي صرنا نفتقدها حتى بين المسلم والمسلم، وصار ثقيلا على القلوب أن يأمر مؤمن مؤمنا بمعروف، أو أن ينهاه عن منكر ... أصبحت روح الفرد مسيطرة على روح الجماعة، وليس عجبا أن يسود هذا في غير المسلمين، ولكن العجب أن يكون ذلك في المجتمعات المسلمة، هذه المجتمعات التي خصيصتُها دون كل المجتمعات التآلف والتآخي والتعاون والتآزر، وأن يكون المؤمن لأخيه المؤمن داعما ومقويا ومذكرا بالله على درب الحياة، يعي كل فرد فيه أن قيام الأمة بالتآخي وبالاعتصام بحبل الله، لا يرتضي الواحد منهم أن يسير على الدرب وقد فارقتْه يدُ أخيه ...

وها هي بلاد الإسلام تتفاخر بموضة الحريات الجديدة، حتى صارت لها هيئات الحريات الفردية، وأقحِمْ أنت ما شئت من هوى ومن شهوة بشرية وبهيمية كلها لأصحابها الحق بالمطالبة بها حرية فردية !! حرية الاعتقاد، حرية الميول الجنسي، فالطبيعي بين جنسَين مثله مثل الشاذ بين الجنس الواحد...! وكله مسخ للأخلاق وإلقاء بها عرض الحائط باسم الحرية ... والبلاد المتحضرة اليوم هي البلاد التي تقرّ بهذه الحريات الفردية التي تُعلن مسفرة ضدّ الدين وضدّ الفطرة وضدّ العُرف ... ! عادي ... إنه عصر الحريات ...البلاد "الإسلامية" التي صارت تضيق ذرعا بأحكام الشريعة وتراها كَبْتا وسجنا ... ! حتى بلغت بها درجات التقليد والاتباع أن تترك لأفرادها الاختيار بين أن تطبّق الحكم الشرعي أو ألا تطبّقه، قانونا يُسنّ ويُعمَل به في ديار الإسلام.. !هو قانون الحريات، قانون تخيير أفراد تلك البلاد المسلمين  بين الشرع وبين الوضع  !!

وهنا نلمس تراكمات تغييب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... اقتفاء خطوات  الغرب، اقتفاء آثار أهل الكتاب من يهود ونصارى شبرا بشبر . وقد تنبأ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "لتتبعُنَّ سَنَنَ من كان قبلَكم ، شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضبٍّ تبعتُمُوهم ) . قلنا : يا رسولَ اللهِ ، اليهودُ والنصارى ؟ قال : فمَنْ " –صحيح البخاري-
قال الله تعالى : " لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79)"-المائدة: -

عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن رأى مِنكُم مُنكرًا فليغيِّرهُ بيدِهِ ، فإن لَم يَستَطِع فبِلسانِهِ ، فإن لم يستَطِعْ فبقَلبِهِ . وذلِكَ أضعَفُ الإيمانِ" –صحيح البخاري-

ملاحظة مهمة :
أود ألا أترك هذا الشأن حتى نتبيّن الفرق بين ما جاء في هذه الآية من أمر للأمة أن تكون آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، وبين قوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ  لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ" –المائدة: 105-
إذ قد قيل بنسخ الثانية للأولى، وقال من قال من المتأولين بالتناقض ... ومن توهّم أن فيها الترخيص بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل لقد حدث ذلك الظنّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

أخرج الترمذي عن أبي أمية الشعباني أنّه قال : "سألت عنها أبا ثعلبة الخشني ، فقال لي : سألتَ عنها خبيراً ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بل ائتمروا بالمعروف وتناهَوا عن المنكر حتّى إذا رأيت شحّاً مُطَاعَاً وهوى مُتَّبعاً وَدنْيَا مُؤثرَة وإعجابَ كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة نفسك ودَعَ العوّام "

ويُروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه  بلغه أنّ بعض الناس تأوّل الآية بسقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " يأيّها الناس إنّكم تَقْرَؤونَ هذه الآية (يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم ) وإنّكم تضعونها على غير موضعها وإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنّ الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيّرونه يوشك الله أن يعمّهم بعقابه ، وإنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعذاب من عنده".

إذن فإن الضال لن يضرّ المهتدي، وعلى المؤمن نفسُه بعد أن يؤدي دوره بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا قبله ...وأزيد فأقول إننا إذا تأملنا سياق آية المائدة، لعرفنا أنها جاءت بعد أمر بمعروف ونهي عن منكر.. كيف ذلك ؟
لنتأمل قوله تعالى في الآية التي سبقتها، ولنجمعها إليها :
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا  أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ(104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ  لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ(105)
لقد سُبقت بدعوة الكفار إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، وذلك رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا ما تمّ الأمر وقام به المسلم، ولم يرَ تجاوبا، ورأى من المدعوّ إصرارا على الضلال وعلى الإضلال، عندها يأتي الإنباء من الله تعالى أن ضلال هذا الضال المصرّ لن يضرّ المؤمنَ وقد اهتدى ...

وبهذا نخلص إلى أنّ مجمل القول في سياق الآيات الأخيرة :
1- المسلم الذي أُمِر بأن يتولى عن طاعة أهل الكتاب حتى لا يكون ذلك سببا في ردّه عن دينه -----> الدعوة للابتعاد عن أسباب الزعزعة .
2- آيات الله وسنة رسوله -----> حصن المؤمن المنيع للثبات على الحق.
3- هو المأمور أن يتقي الله حقّ التقوى وأن يثبت على الإسلام -----> بالاعتصام بكتاب الله وهو حبله المتين الذي يثبّت + ألا يتفرقوا + أن يذكروا نعمة الله عليهم (مقوّمات الأمة ومقوّياتها)
4- أمة داعية للخير آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر -----> مهمة الأمة.

« آخر تحرير: 2018-12-21, 10:07:15 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وتستمر الآيات في بيان مواطن التفرّق والثغرات التي يتسلل من خلالها الضعف إلى كيان الأمة...
فبعد أن بين للجماعة المسلمة ما يحفظ عليها الاجتماع والوحدة من اعتصام بحبل الله وعدم التفرق "واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ..... " أمرها أن تكون أمة داعية إلى الخير آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، ولا يتحقق ذلك منها إلا إذا حافظت على وحدتها  ...

يأتي الآن تحذيرها من التفرّق، لا على وجه النهي المباشر، بل على وجه التذكير بأحوال الذين تفرقوا، حتى لا يكون المؤمنون على شاكلتهم ...
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(105)

إنهم أهل الكتاب الذين جاءتهم البينات فتفرّقوا، كلٌّ يدّعي أنه صاحب الحق، فالنصارى يقولون أنهم هم أهل الحق لا غيرهم، واليهود يقولون أنهم هم أهل الحق لا غيرهم، "وقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ  ..." –البقرة:من113-

والعجب كل العجب أن كتاب الله فيهم، الإنجيل نزل بالحق، والتوراة نزلت بالحق. الحق بين أيديهم وهم متفرّقون متشرذمون لأنهم تركوا الحق الذي من عند الله، وكذبوا وحرّفوا، وجعلوا من أهوائهم الحق الذي يجب أن يُتّبع ...

ثم إن كل طائفة منهم انقسمت فيما بينها إلى فرق متصارعة متناحرة، كل فرقة تكفّر الأخرى، فكان في النصارى الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت... وكلها مذاهب تأولت في أصول الدين بما جعلته هو الحق ... بل لقد تقاتلوا فيما بينهم وسالت دماؤهم ولم يتفقوا على ما يجمعهم ويوحّدهمن لم يتفقوا حتى على صيغة موحدة لما ادّعوه في الألوهية التي جعلوها أبعاضا ...

ولما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن ازدادوا كفرا على كفرهم، وأعرضوا عن الحق وكذّبوا، وكتموا ما جاء في كتبهم من ذكره ...

فالله سبحانه في هذه الآية يحذّر المسلمين من الوقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب... والقرآن بينة البينات كلها بين أيديهم ...

ونعرفهم اليوم متفرّقين منقسمين إلى مذاهب اعتقادية منها ما كان كفرا صريحا، من مثل كفر غلاة الشيعة الذين قالوا بنبوءة علي رضي الله عنه ... وكلها عوامل تفرّق واختلاف لا يحصل به الاجتماع ولا يُحافَظ به على وحدة الأمة . وقد توعّد سبحانه المفترقين في أصول الدين المختلفين والبينات والحق بين أيديهم بالعذاب العظيم، مقابلةَ لما كان من ذكر لفلاح الأمة الموحّدة المتصدرة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

يقول ابن عاشور: "وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يفضي إلى التفرّق والاختلاف إذ تكثر النزعات والنزغات وتنشقّ الأمَّة بذلك انشقاقاً شديداً." –التحرير والتنوير-
ولقد قال صلى الله عليه وسلم : "وستلقَون ربَّكم ، فسيسألُكم عن أعمالِكم ، ألا فلا ترجِعوا بعدي ضُلَّالًا ، يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ " –صحيح البخاري-

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ(106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(107)

لقد توعّد الله المتفرقين المختلفين والبينات بين أيديهم بالعذاب العظيم ... في يوم تبيض فيه وجوه وتسود وجوه، والابيضاض والاسوداد حالتان متضادتان، فأما الابيضاض فهو الاستبشار والنضارة على وجوه المؤمنين الناجين، وأما الاسوداد فهو حالة أهل الكفر والضلال .
فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ

وهذا تفصيل لحال المسودّة وجوههم، وفيه إيجاز من بديع أسلوب القرآن العظيم، وأصلها : "يقال لهم أكفرتم بعد إيمانكم ؟"  ...

والكفر بعد الإيمان هو سِمة أهل الكتاب الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد آمنوا بعيسى وبموسى عليهما السلام، وكذا يُسقَط على حال كل مؤمن يرتدّ ويكفر من المسلمين الذين تفضل عليهم الله تعالى ببعثة نبيه محمد هاديا منيرا، ثم يبيع الهُدى بالضلال كحال من يبيع الهواء الذي يتنفّس والماء الذي يشرب بالكَدَر والسراب ... فهو يبيع حياة قلبه بموتها ... عياذا بالله ...

وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

وأما الذين ابيضت وجوههم فهم أهل الثبات على الحق، الثبات على الهُدى الذي جاءهم، في رحمة الله خالدون، في جِنانه التي لا يفوز بها المؤمن إلا برحمة ربه... في رحمة ملازمة لا تغادره ...
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ  وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ (108)

إنّ الأمة المتلاحمة، المجتمعة على حبل الله تعالى، المستمسكة به لا ترضى عنه بديلا، المطيعة لله ولرسوله، المعرضة عن دعاوى أهل الكتاب وعن دعاوى كل ضال مضل يريد أن يُبعد أهل القرآن عن قرآنهم، التي لا تستأثر بالخير لنفسها بل تعلم أن الدعوة إليه فريضة، الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر هي الأمة التي سيظفر أفرادها بالنجاة وبرحمة الله الملازمة، وغيرها خاسر خاسئ، يلقاه العذاب العظيم يوم لا شفيع من دون الله ولا نصير ...

كلها آيات الله سبحانه التي تلاها على نبيه صلى الله عليه وسلم وتلاها علينا بالتعدّي، علمها إياه، فعلّمناها صلى الله عليه وسلم، تبلّغ بها فبلَّغَنَاهَا ... آياته التي تلاها عليه واضحة مبينة سهلة الفهم لمن يريد الحق ويبتغيه...
وهي شبيهة بما عرفنا آنفا بعد بيان قصص مريم وابنها وزكريا ويحيى في قوله سبحانه : " إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ  وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ  وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "

إنه العلم الذي آتاه الله نبيه، وبلغنا إياه وعلمنا إياه صلى الله عليه وسلم .
إنه تعليم الله لنا بفساد اعتقاد أهل الكتاب، وبفساد طواياهم نحو المسلمين، وبسعي فرق منهم  لإضلالهم، تعليمه لنا بالحق على وجهه لنواجه به أباطيلهم وشُبهاتهم التي يُلقُونها بين المسلمين في كل حين ... تعليمه لنا عن حال الأمة التي يجب أن نكون، بما يقيمها على رأس الناس هادية، داعية لكل خير ... وبما يقوّيها ويقوّي داخلها فلا يكون عرضة للزعزعة والتململ فيستحلّه العدوّ وقد مهّد له استحلاله ...
كلها آيات الله التي تلاها سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم  بالحق ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ

بل يريد بعباده خيرا، وعدلا ... يريد لهم الحق والعدل والخير ... سبحانه الحكيم العليم الذي أقام الوجود بالعدل والحكمة والعلم، لا يكون له أن يظلم عباده، وما خلقهم إلا ليكونوا في الأرض خليفة ... يقومون بمنهج الحق والعدل الذي نزّله سبحانه لعباده مشكاة تنير لهم درب الحياة  ...
" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ  يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" –النحل: 90-
يقول محمد رشيد رضا : " وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ ; لِأَنَّهُ يُنَافِي الْحِكْمَةَ وَالْكَمَالَ فِي النِّظَامِ وَفِي التَّشْرِيعِ، وَمَنْ حَمَّلَ عَبِيدَهُ أَوْ دَوَابَّهُ مَا لَا تُطِيقُ يُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ ظَلَمَهَا، بَلْ قَالُوا فِيمَنْ حَفَرَ الْأَرْضَ وَلَمْ تَكُنْ مَوْضِعًا لِلْحَفْرِ: إِنَّهُ ظَلَمَهَا وَسَمَّوْهَا الْأَرْضَ الْمَظْلُومَةَ وَسَمَّوُا التُّرَابَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَظْلُومُ، وَمَنْ نَقَصَ امْرَأً حَقَّهُ فَقَدْ ظَلَمَهُ قَالَ - تَعَالَى -: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [18: 33] وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي مَعْنَى الظُّلْمِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: " الظُّلْمُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ إِمَّا بِنُقْصَانٍ أَوْ بِزِيَادَةٍ وَإِمَّا بِعُدُولٍ عَنْ وَقْتِهِ أَوْ مَكَانِهِ " فَالظُّلْمُ الَّذِي يَنْفِيهِ - تَعَالَى - عَنْ نَفْسِهِ فِي الْأَحْكَامِ هُوَ مَا يُنَافِي مَصْلَحَةَ الْعِبَادِ وَهِدَايَتَهُمْ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي الْخَلْقِ مَا يُنَافِي النِّظَامَ وَالْإِحْكَامَ." –تفسير المنار-

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ

سبحانه الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهما، الذي خلق كل شيء، وقدّر له حكمة وعملا، وسنّ للطبيعة نواميسها، وللبشر نواميسه، ودبّر الأمر، أنّى له أن يظلم وهو الغنيّ الذي لا يحتاج أن يأخذ من عباده ليزيد في قوته، أنّى للغني المالك الآمر الناهي أن يظلم، والظالم دافعه حاجة ونَهَم في أن يستحوذ على ما لا يملك، ولتحقيق غايته الظالمة لا يعوزه سبيل في الاحتيال والاعتداء والتجنّي على الغير لسدّ حاجة هي وليدة نقص أصيل فيه يريد أن يكمّله بما ليس له. أنّى للمالك -الذي كل شيء بأمره، وكل شيء خلْقُه وما خلَقَه إلا بقدر- أن يظلم ؟!!  ... وإليه سبحانه الرُّجعى... فهو العدل الذي يجزي محسنا بإحسان ويجازي مسيئا بما يستحق ...

وما نزال مع قطاعنا (100-120) هذا الذي انتقلنا فيه إلى مفهوم "الأمة". من بعد ما عرفنا أولا: تعليم الفرد المؤمن أسباب الاهتزاز وعوامل الثبات بتخليصه أول الأمر من الهزيمة النفسية أمام الآخر صاحب القوة المادية، وثانيا :أن رسالة إصلاح الأرض على عاتقه، ومن ثمّ ثالثا: تعليمه الحق الذي لا يكون إلا من عند الله تعالى حتى لا يبقى عرضة لتشويش المشوشين المشوّهين الساعين بالشُّبهات والتشكيكات لإضلال أصحاب الهُدى، ولإبعادهم عن دينهم حتى لا يكونوا أهلا لحمل رسالة الإصلاح ...

رابعا: انتقلنا مع هذا القطاع إلى الأمة ... فكان الأمر لها أن تقوم بمهمتها في نشر الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وذلك لا يتأتّى لها إلا وهي الأمة التي يتوحّد أفرداها مُنضوين تحت لواء القرآن مستمسكين به وهو حبل الله المتين والحصن الحصين دون تشرذمهم وتفرّقهم، وتلكم هي القوة التي يجب أن تتمتع بها الجبهة الداخلية للأمة .

هذه الأمة الحائزة للخير، الناشرة للخير التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر هي الأمة الفائزة المفلحة وعلى عاتقها رسالة إصلاح الأرض بما عندها من حق وبما ينير دربها ومسعاها من هُدى. على غير حال المتفرقين من بعد ما جاءتهم البيّنات والذين يبوؤون بالعذاب العظيم يوم الأوْل إلى رب العالمين ...

وإنني لن أجرّد كلامي هذا عن واقع نعايشه، والقرآن لا يقصّ الخيال، بل يقصّ الحق وما يوافق الواقع، فلا يقضي بهذا العزّ وهذا السؤدد للمؤمنين دون شروط، بل بشروط تبينت لنا وعرفناها، فما أقامتها الأمة قامت لها قائمة وما أبعدتها لم تقم لها من قائمة ...
فلا يحسبنّ قارئ للقرآن، ومطلع على تدبرات متدبّر له أنه سادر في الأحلام، متغنٍّ بالخيال ! بل هو الحق الذي يعلمنا إياه ربّ العالمين، البيان أنّه لا يتحقق حال إلا بشروط...

ولسنا نعرف من هذه الحال العزيزة في أيامنا إلا مِنْ تنكّبنا الصراط السويّ، ومن ابتعادنا عن هَدي القرآن الذي ما عرفنا كيف نعتصم به، كحال المريض الذي يملك الدواء وليس عليه بشحيح ولا ببعيد، ولكنه ما أحسن فتح قنّينته، فما شربه، بل اكتفى بالتفرج عليه، وبالتشدّق بامتلاكه دون غيره ...! فظلّ مالك الدواء العليل ...! العليل الذي صاروا يشيرون عليه بأن دواءه لم يعد ينفع، وهو إذ لم يعرف كيف يأخذ جرعاته صدّق أنّ الصحة اليوم في غيره ...! فطفِق يقلّد وينتحل غير نِحلته حتى ازداد ضعفا على ضعف ووهنا على وهن ...!

ونمضي مع الآيات ... نمضي ونحن نقرأها ونقرأ الواقع ...فإذا هي مشكاة، نتبين بها الدرب، ونضع بها أيدينا على الداء وعلى الدواء سواء بسواء ....

ها هو رب العزة يجيبنا ... أنّ هذا الذي يأمرنا به قد كان يوما ما ... قد تحقق :
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ(110)
إنه لم يكن كلاما يُقال، بل كان عملا وحركة على الأرض... تحققت هذه الأمة، فكانت خير أمة أخرجت للناس... أجل كانت معلمة الناس الخير... كانت الخير محمولا للناس ...
دعت إلى رأس الخير كله، وإلى كل خير دونه، إلى توحيد الله تعالى وإلى طاعة أمره، والانتهاء عن نهيه ...

كنا مع : " ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ... "  والآن نحن مع : " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ...."

و"كنتم" هنا وكما عرفنا من بديع مرامي القرآن بألفاظه وتركيباته الأوجه لا الوجه الواحد:

1- هي هنا تعني الأمة الماضية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خاطبهم القرآن أول من خاطب، وكانوا أول من عايش نزوله، فكانوا أول من حقق أمره على الأرض أتمّ التحقيق ...
قاموا بالأمر حقّ القيام. سمعوا وأطاعوا، وأذعنوا، وعملوا وطبقوا ...
وكما كان صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض صنعهم أيضا على عينه قرآنا يمشي على الأرض، لا يُكتفى بتلاوته وحفظه في الصدور والسطور، بل تحقق وفُعِّل كما أراد الله بإنزاله ماء من السماء يُحيي موات القلوب، وروحا يحيا بها جسم الأرض الحياة الطيبة الحقيقية النابضة باسم ربها الذي خلق ...

عُذّبوا، وشُرّدوا وأُخْرجوا من ديارهم وأملاكهم، فهاجروا في سبيل الله، وآوى مَن آوى فكان يقسم ماله وما يملك في سبيل إعلاء كلمة الله مع الذي جاءه مُجرّدا من كل ما لَه في سبيل الله ... آووا الرسول وأصحابه ونصروهم، فحملوا الرسالة على عواتقهم كأحسن ما تُحمَل، وأدوها، ونشروا دين الله، وجاهدوا في سبيل أن تكون كلمته العليا، وفتحوا الأمصار ونوروا البلاد بنور الإسلام، وقادوا العباد بالعدل والرحمة والحق، فما ظلموا وما اعتدوا وما جاروا، بل أحلّوا السلام والعدل حتى أحبّهم العباد، وأحبوا دينهم الذي حلّاهم بالأخلاق  والشِيم الرفيعة ... وعملوا، وعلموا، وعلّموا، وكان لهم النصر، وكان لهم السؤدد، وطوّعوا علوم الدنيا لأيمانهم، فسبقوا فيها وأبدعوا، واخترعوا واكتشفوا، وبرزوا، فكانوا الأوائل في العلم التجريبي يوم كان غيرهم سادرا في ظلمات الجهل والبدائية ... وشُيّدت في بلاد الإسلام الجامعات، وفُتحت المكتبات، وبُنيت المستشفيات، وكانت غاية أمنيات خيرة أبناء أوروبا أن يحظوا بطلب العلم في ديار الإسلام ...!

2- كما أنّ "كنتم" هنا تعني أيضا "وُجِدتم" لتعمّ المسلمين في كل زمان، خير أمة أخرجت للناس لا في عصر دون عصر بل في كل عصر ما أقامت الشروط التي تحقق هذه الخيرية، فالحق الذي عندها واحد لا يتبدّل، بل ما يتبدّل هو حال أفرادها، حال المسلمين . فإن كانوا على الحال التي يجب أن يكونوا عليها من اعتصام بالقرآن وحرص على الاجتماع وعدم التفرّق، وأن يكونوا يدا واحدة تذبّ عن الدين وتدفع عنه أباطيل المبطلين، وتحرس حِياضه، وتحمي حِماه وهي قويّة بيقينها بما عندها، تعلم أنها صاحبة الرسالة فلا يغرّها غارّ ولا يُبعدها عن دورها كانت الأمة القوية الخيّرة التي تأتي بالخير للعالمين ...

وفي عبارة أخرى أقول :

إنها الأمة التي تحققت خيريتها للناس في زمن مضى، والتي ستتحقق في كل زمن تعمل فيه بشروط حفظ قوّتها وسلامة داخلها .
« آخر تحرير: 2019-01-02, 08:22:38 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وجاء بيان فضلها على الناس، وأنها خير من أخرِج لهم في :" تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ "
وكنا قد عرفنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن قد يسأل سائل ما سرّ تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في هذه الآية ؟

أقول، إنه قد يأمر بالمعروف الذي تتعارفه الفِطر السليمة، وقد ينهى عن المنكر الذي تنكره الفِطر السليمة غير المؤمن، ولكن أمره ونهيه هنا ليس للغاية الكبرى، ليس للغاية الحقيقية، ليس للغاية الممتدة إلى ما بعد الحياة ... بل حدودها الحياة، حدودها الدنيا ...
يتعارف الناس بالفطرة السليمة وبالعقل السليم على أن الخير خير والشرّ شر، فيحب الإنسان  الخير، ويقرّه، ويكره الشرّ ويُنكِرُه ...ولكن دون أن يرنو بفعله إلى الغاية العليا ففعله لن يتعدّى الدنيا، كما أنه سيجعل منه عبدا لها لا يعرف العبودية لما هو أعلى منها، وأدوم منها... للذي خلقها وبرأها فجعلها الفانية وجعلها مِهادا للباقية ...

إن هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غايته الله تعالى، وإقامة أمره، ونشر هُداه ... هُداه الذي هو المنهج المسيّر للعقل البشري، الضابط للأنفس، الحائل دون وقوعها في دركات الأهواء، وفي تخبطات التفاوتات والاختلافات الوضعية البشرية ...

وعلى هذا فإن هذه الأمة هي خير أمة أخرجَت للناس، لأنها جاءت تأمر وتنهى وِفق منهج هادٍ، منير، منهج رباني مُنزِله سبحانه عالم بالنفس وبأغوارها وبتقلباتها، منهج ضابط يؤطّر الخير في إطاره السليم، ويؤطر الشرّ في إطاره السليم...

فهذه المجتمعات اليوم باسم الحرية وباسم الخير تجعل من الحرية مفهوما مطلقا يعني خليطا ممجوجا بين الإنسانية والبهيمية، فلا ضابط لشهوة، ولا منكِر لإسفاف، ولا منظّم لأخلاق ... فالعُري حريّة، والشذوذ الجنسي حرية، والاعتقاد بالحجر والمدر والحيوان ربّا حرية، والخروج عن الفطرة السليمة حرية ... هكذا يصبح حال البشر إذا ما ألغوا من حساباتهم الإله المُستحق للعبادة، والذي يشرّع والذي يأمر وينهى، فيضبط ليُحقّ الحق ويُبطل الباطل ... وضمن هذا المعنى يدخل أيضا ما قاله ابن عباس رضي الله عنه في الآية : "قوله (كنتم خير أمة أخرجت للناس) تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقروا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه و "لا إله إلا الله" أعظم المعروف، والتكذيب هو أنكر المنكر."

وهكذا لن تؤدي الأمة دورها في الدعوة إلى الخير ولن تتحقق خيريتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا إذا حققت شروط ومقومات قوتها من الاعتصام بالله وعدم التفرّق وذكر نعمته سبحانه عليها...

وهذا معنى خصوصية استمدادها لأمرها من الله تعالى لتؤدي دورها في الأرض... إيمانها بالله الذي هو الإسلام لا إيمان أمم أخرى، إن نعق ناعق بأنه الإيمان بالله الذي هو عند النصارى، أو الذي هو عند اليهود، أو الذي هو عند غيرهم ...
وسبحان الله ... وأنا أبلغ من كلامي هذا الذي بلغتُ أجدني منسابة، مُنساقة، منقادة انقيادا سلسا جزلا سهلا إلى قوله تعالى في تتمة الآية :
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ

كما أسلفتُ ... إنه إيمان المسلمين الذي عرفنا تفاصيله في الآيات السابقة، مع القطاعات السابقة، إيمان الذين علمهم ربهم أن يقولوا مع نبيّهم وهو يجمع نفسه إليهم: "آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ "
الإيمان الذي عرفنا كيف تدرجت بنا الآيات حتى أبلغتْنا أنه الإسلام ...أنه الذي عليه محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعه، وأنه الذي كان عليه إبراهيم  وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

لو آمن أهل الكتاب إيمان المسلمين لكان خيرا لهم. ورغم ذلك فالقرآن كعادته مقيم على الإنصاف، يخبرنا أنّ منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون. ومناسِبةٌ كل المناسبة أن يُذكر أهل الكتاب وقد عايشنا أحوالهم في كل ما سبق .

وقد أعجبني في هذا ما أورده الطاهر ابن عاشور رحمه الله : "ولم يذكر متعلق ( آمن ) هنا لأنّ المراد لو اتَّصفوا بالإيمان الذي هو لقب لدين الإسلام وهو الذي منه أطلقت صلة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة ، وهذا كقولهم أسْلَم ، وَصَبَأ ، وأشْرَكَ ، وألْحَد ، دون ذكر متعلّقات لهاته الأفعال لأن المراد أنَّه اتَّصف بهذه الصّفات التي صارت أعلاماً على أديان معروفة ، فالفعل نُزّل منزلة اللازم ، وأظهر منه : تَهَوّد ، وتَنَصّر ، وتَزَنْدق ، وتَحَنَّف ، والقرينة على هذا المعنى ظاهرة وهي جعل إيمان أهل الكتاب في شرط الامتناع ، مع أنّ إيمانهم بالله معروف لا ينكره أحد. " –التحرير والتنوير-

لنتأمل.... إننا كما سبق وأن تدرجنا حتى تعلمنا أنّ إيمان المسلمين هو الحق ... هو الإسلام... نجدُنا مع هذه الآيات في دائرة هذا الإيمان لا غيره مما يُسمّى إيمانا هو لمحرّفين ومبدّلين للحق الذي نزل من عند الله ...
ثم لنتأمل ... فلقد أمر الله المسلمين أن تكون منهم تلك الأمة، ثم علمهم كيف تتحقق خيرية تلك الأمة في الأزمنة المختلفة وِفق الشروط المبيّنة ...
** في الأولى : "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ  وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)"
** وفي الثانية : "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ  وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم  مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ(110)"

الأولى لم يكن فيها ذكر الإيمان بالله، ولكن ترتّب عن سياق الآيات السابقة لها أنّ مصدر العمل المأمور به فيها الاعتصام بحبل الله، بقرآنه، وبسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وفي الثانية كان بيان المصدر في : "وتؤمنون بالله" .

وأضع هنا هذا المخطط التوضيحي  :

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وما دام أكثرهم الفاسقون، فالحال ينبئ عن حلف كبير مخالف للمؤمنين، يتربّص بهم الدوائر، لن يهنأ لهم بال وهم يقولون بغير مقالاتهم.. وعلى هذا يُعلم الله المؤمنين بحقائق جديدة عنهم ليزدادوا معرفة بهم :

لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ(111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ(112)
إنهم وحالهم هي هذه، أنّ أكثرهم الفاسقون، لن يضروكم أيها المؤمنون، حقيقتهم أنّ ضررهم مقتصر على الإيذاء " لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى "  ..

فما الأذى وما الضرر ؟

الأذى أخف من الضرر، هو الضرر غير الجسيم، وهذا هو أذى الفاسقين من أهل الكتاب لكم، فهو إيذاء باللسان بقولهم على الله مقالاتهم الباطلة، وبتأوّلهم في عيسى عليه السلام، وكلّه من الإيذاء الذي لا يحبّ المؤمن سماعه في حقّ الله تعالى... أضف إلى ذلك ما يُلقونه من شُبُهات وتشكيكات في صفوف المؤمنين ...

وعلى هذا فإنّ هذا الأذى منهم غير مُهلِك، وليس له كبير أثر على المجتمع المسلم ...

حسنا... وكعادتنا ...ننظر إلى واقعنا بعين فاحصة، ولا نحبّ أن نأخذ من القرآن خيالات حالمة، ليس لأنه يُملي علينا تلك الخيالات إملاء ...كلا وحاشاه ... بل هو يعلّمنا الحق، ولكن لأنه بدافع من دواخل ونفسيات منهزمة يقرأ مَن يقرأ ما يحب أن يقرأ، لا ما يعطينا إياه القرآن على الحقيقة ... نحبّ أن نقرأ الأحلام والكمالات الخيالية، فنقول ونقرّر أن أمة الإسلام هي القائدة وهي الرائدة وهي التي تحمل همّ الأرض على عاتقها ووو... وليس هذا بالباطل بل هو الحق، ولكن شعرة هي الفاصلة بين هذا الحق وبين أن يقرَّر خيالات ... تلك الشعرة هي الشروط ...

إن هذا لمتحقق وكائن وصحيح، ولكن ليس من فراغ ولا من تشدّق بالكلام، بل بشروط يجب توفّرها أولا، وما لم تتوفر فلا يكون شيء من ذلك ... وكما أسلفت فإن القرآن لا يقول بتحققها جُزافا، بل يبيّن تلك الشروط أيّما بيان، ويضعها الأُوْلى، ويضعها اللبنة الأساس التي يأتي بعدها الأمر للأمة أن تضطلع بدورها وأن تقوم بمهمّتها، فلا يأمرها الله بأن تكون آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر قبل أن يعلّمها شروط تحقق ذلك منها... عدم طاعة أهل الكتاب، الاعتصام بالله، والاحتكام للقرآن وللسنة النبوية، تقوى الله حق التقاة، الإيخاء، التآلف، عدم التفرّق ... لا يأتي شيء من أمرها بالقيام بمهمتها قبل أن يورِد كل هذه الشروط تِباعا ...

فمَن قال بوَرْديّة حال الأمة وقرّر أنها الخيّرة على الإطلاق وتحت كل الظروف، وفي كل الأحوال دون أن يكون تركيزه على تلك الشروط، ودون أن تكون دعوته الأولى لتحقيقها قبل أن تكون دعوته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد حلم، وقد جرّد حقائق القرآن من ثوابتها ومن دعائمها

وها هنا في واقعنا... ونحن على ما نحن عليه من ضعف وهوان وتداعي الأمم علينا، ومن تفرّق وتشرذم، ومن عدم اعتصام بهَدي القرآن، ومن اتّباع للأهواء على أنها الحرية إلى حدّ حبّ الانعتاق من أسر الأمر والنّهي والتكليف الإلهي، ونحن على ما نحن عليه من هزيمة نفسية جعلت ضِعاف الشخصية من المسلمين وأصحاب هويّة العنوان من الإسلام حُثالة تقتات على فُتات موائد الغرب وتتمسّح بأحذيتهم على أنهم في القرار والتقرير سادةٌ وهم لهم العبيد ...!
ونحن على هذه الحال من التبعيّة العمياء لأصحاب القوة المادية... ونحن على هذه الحال من الانبهار بهم وبقوّتهم وبامتلاكهم لأسباب الدنيا ... !

وهي ذي حالنا هل يبقى أذاهم أقلّ درجة من الضرر ؟!

إنّ الآية تقرّر حقيقة حال من أحوال أهل الكتاب إزاء المسلمين ما توفّرت شروط القوة في المسلمين، وما توفرت فيهم الأمة الرائدة بقوة في داخلها معلومة، ذكرها القرآن وعدّد أسبابها التي تحقّقها ... حقيقة أنّ ما يلحق المسلمين منهم وهم في قوة ومَنعة لا يعدو الأذى، الأذى باللسان، بالشُبهة التي لا يتردّد لها صدى ولا يبقى لها أثر بين مسلمين مستمسكين بأسباب قوّتهم...

أما والحال على ما نحن عليه فإن الأذى منهم بوزن الضرر وأكثر .. وهذا ما نلمسه واقعا مُعاشا ... الشُبُهات التي يُلقون، والتي يتلقّفها المسلمون، تترك أثرها في نفوس كثير من شباب المسلمين اليوم، تترك أثرا قويا مُخيفا يُطيح بإيمانهم ويجعلهم كالقشّة في مهبّ الريح ...
وأنّى للقشّة أن تقاوم وهي التي لا تملك من ذاتها قوة ولا تملك من ذاتها مَنعة ؟!
أنّى للمسلم القشّة أن يقاوم عقلُه الشبهات ؟! وأنّى للمسلم القشّة أن يقاوم قلبه الشهوات ؟!
وأنّى لأمة لم توفّر عوامل قوّتها، فداخلها ينخره السّوس وتأكله الأرَضة أن تقاوم الشبهات والشهوات ؟! أنّى لأمّة لم تعرف من قرآنها غير العنوان وغير التشدّق بامتلاك دواء دون معرفة لطريقة تناوله ليخالط الدّم ويسري بين العروق العطشى أن تقوم وتقاوم ؟!

لقد أصبح أذى اللسان منهم داء عُضالا يعاني منه مسلم القشّة الذي لم يُحسن كيف يتعلم من قرآنه، وكيف يكون متكأه وسندَه وسلاحه ضدّ كل شُبهة ... لم يُحسن كيف يرتّب دلالاته ولا كيف ينظّم إرشاداته وتعليماته في عقله ترتيبا وتنظيما يكوّن له قاعدة مُنطلَقه في الحياة ...!

لم يُحسن كيف يجعل منه مشكاته على الدرب، فظلّ خائضا في العتمة يرفُس ويعفس لا يتبيّن حجر عثرة من حجر كريم مشعّ ثمين يزيده على الدرب قوة ونورا... لا يتبيّن حقا من باطل ...!
إنّ جذر علّة الأمة لا يكمن في غياب أو تغييب الأمر بالمعروف فيها والنهي عن المنكر، بل يكمن في عدم استمساكها بالأسباب التي تؤهّلها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك هو الجذر الذي مكمن الداء فيه، وبسببه لم تستوِ شجرة الأمة على سوقِها، ولم تينَعْ لها ثمار ...

إنّ الجذر يفتقد للغذاء من أصل الأرض ومن جوفها، يفتقد للماء المُحيي... ولذلك لم تظهر للشجرة علامات فوق الأرض ... فكيف يكون لها ثمار ولا عود للأغصان على الأرض ؟!
نُدندن أن العلة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأول علتنا ضعف كبير في التنشئة على تربية القرآن التي تؤهل للاستمساك به حبلا متينا منقذا ... تربية القرآن التي تؤهّل للأمر بالمعروف ولتقبّل الآمر بالمعروف، وللنهي عن المنكر ولتقبّل الناهي عن المنكر ...

فكفى ظلما للإسلام وإلصاقا لجُرم السّدر في الأحلام والتّيه في الأوهام والترنّح في عالم الخيال بالإسلام، وهو من ذلك كله براء  ... !

وهو الدين العظيم الذي يجعل العيش في الواقع، ولتبيّن أسباب ما عليه الواقع،  ويدعو لتغيير الواقع، وهو يصف تركيبة الدواء الشافي مركّبا بمركّب... ولا يدعو للسبح في خيالات شجرة السؤدد والعزّ من غير جذر مُغذّى بنور الوحي، ومن غير جذر مُسقى بماء الوحي ...!

نعم ... إنهم لن يضرونا إلا أذى باللسان...بالشُبهات التي يُلقونها لغاية الإضلال، ولكنّ أذاهم كان كجُهد الساعي بلا نِتاج لمّا كانوا يجدون قُبالتَهم جبالا شُمّخا أقامها الإسلام وأعزّها، وأغصانا حُبلى بيانِع الثَّمَر رواها القرآن وغذّاها الرسول صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وحركة بالقرآن على الأرض...

كان جُهدهم وسعيهم هباء عندما كانوا يجدون من اتبع تلك الخُطى النورانية واقتفى أثرها بإحسان ... وسيكون جهدهم وسعيهم بالإيذاء هباء ما وجدوا تلك الأمة القوية القائمة بوحي السماء في كل زمان ... ما وجدوا تلك الأمة التي يعمل فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عملهما، فينكر المُنكِرُ ويأمر الآمِرُ وهو المتقبّل، وقد أنشأت -أولا وقبل كل شيء- بكل منظومتها المجتمعية أسرةً ومدرسةً وشارعاً وسوقاً وهيئةً وإدارةً تربيتُها القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . عندها سيكون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دورهما ... عندها ستقوم الأمة بدورها ... متى وفّرت لنفسها بنفسها السلاح اللازم والقوة اللازمة والعُدة اللازمة ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ(111)

إنهم لن يضروكم إلا أذى ما كنتم تلك الأمة القوية ... وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار ثم لا يُنصَرون ... حتى إذا ما قاتلوكم لن يقووا على مواجهتكم ... نعم تلك حقيقة ... حقيقة وليست خيالا ... وإن الفاصل بين فهْمِنا لها كما هي وتخيّلها بنسج أخيلتنا شعرة كما ذكرتُ ...

شعرة الشروط ... ولهذا نجد اليوم من يعترض، ويجد اعتراضَه قويا وهو يصيح قائلا: ولكن ليس هذا هو الواقع ! ليس الواقع ! أفيقوا إنكم المترنّحون في عالم الخيال ! أي تولية للأدبار منهم اليوم وهم المنتصرون على المسلمين، وهم أهل السلاح والقوة والسطوة ... والمادة وووو ... أي تولية للأدبار هي منهم ؟؟

إنهم إن يقاتلوكم وأنتم أقوياء بخيريّتكم الناشئة عن اعتصامكم بالله وعن طاعتكم لأمره، وانتهائكم عن نهيه، لن يصمُدوا أمامكم ... ليس من سحر ساحر أو شعوذة مشعوذ يحدث ذلك، بل لأنكم إذ اعتصمتم بالله، تعلمتم أنّ الأخذ بأسباب الدنيا سبب لتمكين الأمة، وأن العمل وإتقانه سبب للتمكين وللعزّة، ولتفادي سطوة الآخر وسيطرته عليكم، وأنّ العلم وسيلة من وسائل التمكين، وأنّ التجهّز وإعداد العُدّة من أسباب القوة والتمكين، وفوق كل هذا أنتم على ربكم متوكلون، به مستنصرون، موقنون أن النصر من عنده وحده ... فكيف لا يولّي دبره من يفكر بقتال من هم في هذه القوة ؟!  ولقد تحقّق ذلك في أزمنة ماضية ولم يكن محض خيال ...

هكذا هو الفهم السليم لآيات القرآن لا فهم المسلم القشّة الذي تعوّد أن يتخذ من العزّة والسيادة التي حققها المسلمون الأقوياء قالبا جامدا يريد غصبا أن يجعله على مقاس القشّة ... !الفهم الذي يعرف ترتيب التعليمات القرآنية ترتيبا يجعل منها القاعدة، والتركيبات الدوائية فيه تركيبا يجعل منها علاجا شافيا ...

ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
نعم ثم لا ينصرون ... ولنتأمل كيف بُني الفعل للمجهول إعرابا، ولكنه حقيقة هو من أمر الله تعالى حتى يتأكّد أن النصر من عنده سبحانه لا من غيره، فكيف يُنصَر مَن لا يوحد الله ولا يجاهد في سبيل إعلاء كلمته في الأرض على من هو في سبيل الله قويّ مستعصم به سبحانه، موفّر لشروط القوة الداخلية، آخذ بالتركيب المبيّن في الوحي الإلهي المنير للدرب ...

ولقد عرفنا نصر الله لعباده المؤمنين في مواقع كانت غلبة العدد فيها للعدو، ولكنّ المسلمين بحالهم القوية، وبخيريتهم أمكنهم الله منهم، ونصرهم... حاربوا اليهود مرارا، في غزوات مختلفة، في بني قينقاع، وفي بني النضير، وبني قريظة وفي خيبر ... وكانوا بين إحدى اثنتين إجلاء أُجلوه من البلاد صاغرين أذلة، وبين قتل ...
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ(112)

هكذا جعل الله حالهم... أولئك الفسقة من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا الإيمان الصحيح، الإيمان الذي جاء به القرآن الكريم... والذي بُعِث به محمد صلى الله عليه وسلم ... ضربت عليهم الذلة، إذ الذلّة هي ما يُفرَض على المرء لا من ذاته بل من خارجها، فهي مضروبة عليه بفعل تقوّي أهل الحق ... وبفعل أخذهم بأسباب القوّة اللازمة ... بفعل تلك الأمة القوية الخيّرة التي بها تُعلى كلمة الله في الأرض ... هكذا هو حال المؤمن، وهكذا بالمقابل هو حال الكافر أمامه... إذ أي عزة هي له والعزة من الله ؟!

ولكنّ الاستثناء الواقع هو أنّهم قائمون في الأرض بحبل من الله وحبل من الناس، فأما حبل الله فهو ما يكون من معاهدات أو قوانين يقضي بها الإسلام في تعاملاته مع غير المسلمين سِمتُها العدل والحق، وخاصة الجزية التي كانت تُفرض من ديار الإسلام على غير المسلمين الذين يبقون على دينهم إن اختاروا البقاء عليه، وهم إذ تحميهم الدولة المسلمة وتقضي بحقوق المواطنة لهم، وبعدم التعرض لهم وعدم إيذائهم، وتركهم لدينهم وعبادتهم، يدفعون الجزية لها، وهذا حبل من الله لأهل الكتاب قضى به عَبْر عباده الممكّنين في الأرض ... فالمسلمون يقضون بحبل الله تعالى، وذلك حظهم من حبل الناس، بمعنى أنهم الوسيلة لإنفاذ أمر الله في أهل الكتاب ...

وأما الحبل الذي من الناس، فعرفنا منه ما كان من عامة الناس لا من المسلمين وحدهم مع اليهود الذين شُرّدوا في الأرض، الذين هاموا على وجوههم في بلدان العالم :"وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا" وبنوا لهم مستوطنات فيها، وعملوا هناك وسعوا بالربا وبالإفساد بين أهل تلك البلاد حتى ضجوا منهم، وأنكروا أفعالهم وسوء مساعيهم بينهم بأكل أموال الناس... وتسلقوا في تلك البلاد وتسللوا بين أهلها بالتحايل والتلاعب والمكائد حتى سيطروا على مقاليدها اقتصادا وسياسة. كلّ ذلك بحبل الناس الذين مكّنوهم مما تمكّنوا منه ...وإلى يومنا نعرف مثالا بارزا حبل أمريكا لليهود في العالم  .

وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ

وذلك ما جنوه... الغضب من الله وضرب المسكنة عليهم، والمسكنة -بخلاف الذلّة- هي ما يكون من ذات المرء لا من خارجها. وليس ذلك من فراغ، بل من كفرهم بآيات الله، ومن قتلهم الأنبياء. ولقد عرفنا من قبل : " ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ" .

يقول في ذلك أبو زهرة : " والمسكنة ضعف نفسي، وصغار ينال القلب، فيستصغر الشخص نفسه، ويحس بهوانها مهما تكن لديه أسباب القوة متوافرة متضافرة، والفرق بينها وبين الذلة أن الذلة هوان تجيء أسبابه من الخارج بأن يكون بفرض من قوى، أو يكون نتيجة انهزام حربي، أما المسكنة فهي هوان ينشأ من النفس لعدم إيمانها بالحق، واتباعها للمادة، وإن توارث الذلة قرونا طويلة يورث هذه المسكنة، إن بواء اليهود والنصارى بغضب الله، وضرب المسكنة عليهم، لَا استثناء فيه، بل هو أمر مستمر إلى يوم القيامة ما داموا على حالهم، ولا يغرنك ما عند النصارى وتقلبهم في البلاد، بل انظر إليهم إن أصابت فريقا منهم هزيمة فإنهم يخرون للأذقان يبكون صاغرين، مما يدل على أن المسكنة في طبيعتهم؛ إذ عزة الحق قد فارقتهم." –زهرة التفاسير-


ويعود القرآن العظيم لتقرير إنصافه كما تعودنا منه ...

لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ(113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ(114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ(115)

إنه سبحانه بعدما أقرّ حال: " وأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" ... يأتي الآن على حال المؤمنين منهم ...
فلقد أنصف لما أعلن أنّ "منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون"، ثم جاء بتفصيل حال كل فريق
فهذا الآن تفصيل حال المؤمنين منهم ...
لا يستوون ... منهم أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون .

ولقد قيل بمعنيين لقيامهم هذا، ولإيمانهم، منهم من قال أنهم الذين بقوا على أمر الله منهم، ولم يتركوه كما تركه غيرهم، وقد روي عن ابن عباس أنه قال في معنى أمة قائمة : " أمة مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه " وروي عن قتادة أنه كان يقول في الآية: " ليس كل القوم هلك، لقد كان فيهم بقية ".

ومنهم من قال أنه إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخولهم في الإسلام، ونعرف منهم عبد الله بن سلام اليهودي، والنجاشي والعدد من البطارقة الذين آمنوا لما عرفوا الحق من القرآن، وعند الله تعالى يكفي هؤلاء على قلة عددهم وهو سبحانه الذي لا يريد ظلما للعالمين، يكفي عددهم ليُذكروا في القرآن استثناء، وليُكرّموا بذكرهم فيه ...
وعندي أن هؤلاء هم المعنيون، هؤلاء الذين لحقوا بركب الإيمان الصحيح، والقرائن على ذلك عندي أكثر من واحدة ... فهم :

1- يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ  السجود هنا جاء تدليلا على الصلاة، وهذه خصيصة من خصائص المسلمين، صلاة العتمة، صلاة الليل والتي لا توجد عند غيرهم من أهل الكتاب، وقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " أخَّر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليلةً صلاةَ العشاءِ ثُمَّ خرَج إلى المسجدِ فإذا النَّاسُ ينتظِرونَ الصَّلاةَ فقال أما إنَّه ليس من أهلِ الأديانِ أحدٌ يذكُرُ اللهَ عزَّ وجلَّ هذه السَّاعةَ غيرُكم قال ونزَلَت هذه الآيةُ {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ} حتَّى بلَغ {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} " –صحيح ابن حبان-

2- القرينة الثانية على أنه قيام وإيمان أهل الإسلام الصفات المذكورة لهم في الآية الموالية : يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ(114)

2-أ)إيمان بالله، وليس الاعتقاد بالتثليث لا بتوحيده إيمانا يذكره الله تعالى لأهله ويُشيد به، ويُعلي من شأن أصحابه ... بل إنما هو الإيمان الصحيح الذي فيه الاعتقاد السليم في الله تعالى، إلا إذا كان المعنيون به المؤمنون من سلف أهل الكتاب الذين آمنوا بأنبيائهم واتبعوهم وماتوا على الإيمان الصحيح الذي جاؤوهم به ... وإنّ هؤلاء ليس قويا الشاهد بذكرهم في هذا المقام، لأن الله تعالى بصدد بيان حال الفئة الفاسقة من أهل الكتاب، والفئة المؤمنة منهم للمسلمين حال نزول القرآن، ولقد عرفنا بيان حال الفسقة منهم المعاصرين للمسلمين وكيف أنهم لن يضروهم إلا أذى، وكيف يكونون في حال قتالهم لهم، ويبقى الأقوى أن يتبين حال المؤمنين منهم المعاصرين للمسلمين بالمقابل لا مَن كان قبلهم . والله أعلم.

2-ب)ثم الإيمان باليوم الآخر، هذا اليوم الذي قال الله تعالى في سورتنا هذه : " ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ"
فإيمانهم باليوم الآخر الذي يُثني عليه الله تعالى، يقتضي إيمانا صحيحا، إيمان هو الإسلام لا غيره ...

2-ج) وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وكلها صفات منبثقة عن الإيمان الصحيح .

2-د) القرينة الأخيرة هي إقرار الله تعالى : وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ.

زيادة على ذلك فإن القرآن فيه من ذكر أحوال هؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب إيمان الإسلام، الإيمان الذي جاء به القرآن، للمعاصرين للبعثة النبوية، لا لمَن قبلهم ممن عاصر الأنبياء واتبعوهم اتباعا سليما وماتوا على الإيمان الصحيح ... جاءت تلك الآيات تصف المؤمنين منهم بالقرآن :
يعدّد الإمام الشنقيطي تلك الآيات فيقول :

**ذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا تَتْلُو الْكِتَابَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ وَتُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ" –البقرة:121-
**وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَاشِعُونَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: " وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا" –آل عمران:199-
**وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ" –الرعد:36-
**وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ حَقٌّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ..."-الأنعام: من114-.
**وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ خَرُّوا لِأَذْقَانِهِمْ سُجَّدًا، وَسَبَّحُوا رَبَّهُمْ، وَبَكَوْا، وَهُوَ قَوْلُهُ:" إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا" –الإسراء: 107/108/109-
**وَقَالَ فِي بُكَائِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِهِ أَيْضًا: " وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ" –المائدة:83-.
**وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، تُؤْتَى أَجْرُهَا مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ(52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا..." -القصص-

ومَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ

وهؤلاء الموصوفون بتلك الصفات الإيمانية لن يُكفَروا الخير الذي فعلوه، بل سيجازيهم عليه رب العزة، وسيثيبهم . و" عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ " قرينة أخرى على أنهم أهل الإيمان السليم. أهل التقوى والصلاح الذي جاء به القرآن .
« آخر تحرير: 2018-12-28, 05:39:15 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ولقد شارفنا على نهايات قطاعنا (100-120) . هذا الذي جاءت فيه شروط الأمة القوية الثابتة التي تهابها الأمم، والتي جعلها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس إذا ما حقّقت شروط الخيريّة كما عرفنا ...

وفي الآيات الأخيرة عرفنا إنصاف القرآن لأهل الكتاب وهو يفصل بين الفسقة منهم وبين المؤمنين الذين لن يُحرَموا حقهم من الأجر والثواب عند الله جزاء إيمانهم وتصديقهم بالحق الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم .

أما الآن فهي ذي نهايات القطاع :

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(116) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ(118) هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(119) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(120)

1-إذن وقد أنصف القرآن المؤمنين منهم، فوصفهم بالمسارعة للخيرات، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبتلاوة آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، وأنهم ليسوا والفسقة سواء ... ها هو سبحانه يعود ليذكر خسار الكافرين، في مزيد بيان للبَون الشاسع بين مؤمن وكافر ...

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(116) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(117)
ولقد سبق في هذه السورة أن عرفنا هذا المعنى، بل لقد عرفناه في بداياتها : "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ(10)"

عرفناه والسورة تعالج فينا الهزيمة النفسية التي تراكمت عواملها على النفس المؤمنة بفعل الضعف الذي اعترى الأمة، والسقطات التي مُنيت بها، وما قابلها من تصاعد نجم أهل القوة المادية في الأرض من الكافرين ... بفعل تخلّي الأمة عن ثوابتها، وعن عوامل قوتها، وتقاعسها عن تحقيق شروط خيريّتها لأداء دورها الرياديّ ...

تُعاد ها هنا أيضا ... ومناسبتُها لما قبلها أنّه بعد ذكر حظّ المؤمنين من أهل الكتاب، ونصيبهم المحفوظ من الأجر والثواب عند أَوْلهم إلى الله، جاء ذكر الكافرين منهم ومآلهم يوم الحساب، ذلك اليوم الذي ذكر في آية قريبة سابقة أنه يوم الرُّجعى إلى الله تعالى الذي لا يريد بالعالمين ظلما : " ...ومَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ(من108)"
والإنسان مجبول على التفاخر بمال وبولد، وماذا ينفع مال أو ولد رجلا كفر بالذي أعطاه المال وأعطاه الولد ... ؟!

إنها مخاطبة لنا نحن المسلمين، أن نكفّ عن الانهزاميّة التي تلازمنا من الرأس إلى أخمص القدم ... أن نكفّ عن النظر بعين الإجلال والإكبار إلى الكفار وبعين ذليلة منكسرة إلى حالنا ...
ولنتأمل... فإذا القرآن إذا ما جمعنا أطرافه طرفا إلى طرف، وجدناه يقعّد لنا، يسنّ لنا القواعد التي تُتّبع على درب الحياة، القواعد المُنْجية ... -وكما قلت سالفا- نجمع دلالاته وتعليماته وتركيباته لنتعرّف البلسم الشافي لجراحنا وأدوائنا ...
لقد اتفقنا على أن هذه السورة تعلمنا عوامل الثبات ...

إذ قد عرفنا :
أولا :  كيف عملت الآيات أول الأمر على تخليصنا من الهزيمة النفسية لنتقوّى ولنسير على الدرب على بصيرة واثقين غير مهزوزين ... وهذه قوّة في النفس يزوّدنا بها القرآن لا عن خيال وتخييل بل عن حقيقة أنّ ما معنا يؤهّلنا لأن نعتزّ ونثق ... قوّة في النفس لها أعظم الدور في مضيّنا قُدُما...

ثانيا :وهو المنهج الواقعيّ الدقيق الذي لا يذهب بنا مذاهب الخيال والتخييل والأوهام والإيهام، لا يكتفي بأن يضخّ دم القوة في أوصال أنفسنا المهزومة، بل يكمّل ذلك بإملاء شروط على المؤمن أن يلتزم بها ويعمل على تحقيقها، فيتّحد العاملان كلاهما، العامل النفسيّ والعامل العمليّ التطبيقي .  وهذا من روح واقعيّة القرآن العظيم الذي لا يهمل الجانب النفسيّ بل يعرف له دوره في التقوية والتثبيت، كما لا يلغي الجانب العملي كدأب تلك الممارسات التي يسمونها برمجة لغوية عصبية وتنمية بشرية توهِم بالقوة تخييلا بالإيحاء والعبارات الرنانة وتكتفي بذلك مجرّدا عن العمل، فتُبعِد عن الواقع وتُسدِر الإنسان في عالم الخيال زعما من أهلها أنّهم يبثون القوة في النفوس الضعيفة  ...

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خالِدُونَ(116)

لن تغني عنهم دواعي التفاخر والخيلاء والكبر في الدنيا من الله شيئا ... وأولئك أصحاب النار، أصحابها الملازمون لها –عياذا بالله منها-  هم فيها خالدون ... فأيّ قوة هي تلك التي لا تبقى عزّا ممتدا إلى ما بعد الحياة الدنيا الفانية، إلى الدار الباقية ... ؟! "يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)" -الشعراء-

وليس المال معيار تقييم الإنسان عند الله تعالى، ولو كان كذلك لكان أحقّ الناس به هو أحب خلق الله إلى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أن الكفار واليهود تقوّلوا أنه لو كان محمد على حق لما تركه ربه على ما هو عليه من فقر، وأنّ هذا الذي حُبِي به لَغيرُه من أهل المال والجاه أولى به ! ... حتى نزل في ذلك قوله سبحانه :" وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)." -الزخرف-

وقد يسأل سائل: ولكنّ منهم من ينفق ماله في أوجه الخير، منهم أصحاب قلوب رحيمة، تعطف على المحاويج، وتمدّ يد المساعدة ولا تبخل، فكيف يُعدّ مالهم واعتدادهم به شرا وهم في الدنيا أصحاب عمل ونفع ؟!
فيأتي الجواب في الآية الموالية :

مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(117)
إنّ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صرّ، والصرّ هو البرد الشديد، فهي ريح لا تحمل خيرا كعادة الريح في حملها للقاح مثلا، بل تحمل بردا شديدا، فتصيب حرث قوم ظلموا أنفسهم فتهلكه ...

أتأمل التعبير القرآني الدقيق البديع : " أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ "...  إنها تصيب الحرث، تصيب ما لن يبلغ مبلغا من نموّ، ما لن يبلغ بصاحبه الحصاد ... تصيب الذي بُذر وزُرِع، وقُلبت لأجله الأرض وهيئت، في هذه المرحلة تحديدا يُصاب، فلا يبلغ مبلغا من نموّ ولا كبر ... فكيف بالثمر ؟! لن يحصد صاحبه شيئا، بل سيجده مُهلَكا ...

هكذا هي أمواله التي أنفقها وهو لا يقرّ بالله ربا، وهو لا يقرّ بوحدانيته، بل يخلط في ذاته سبحانه ويخبط فيجعله ثلاثة، ويجعل له ولدا، ويجعل له صاحبة ... إنها في الدنيا قد تبدو لرائيها ذات نفع وفائدة ... ولكنّ النماء المُراد هو الذي يكون عند ربّ العزّة سبحانه وهو يُنميه له، والحصاد يكون يوم الجزاء، يوم الحساب ...

وسواء أأنفقوا في خير أو في شرّ، وهم على ما هم عليه من  كفر فهو عند الله بلا إنماء وبلا حصاد يبلغ صاحبَه ... إنهم قوم ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ بكفرهم 
وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(117)  وما ظلمهم الله تعالى، وقد عرّفهم الحق، وقد دعاهم ... وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فأعرضوا وتصدّوا وصدّوا ... ولكن أنفسهم يظلمون.
وهكذا انتهى بيان حال الكافرين بمزيد بيان لمآلهم وإن كان ظاهرُ أمرهم الدنيوي خيرا حتى لا يغترّ بهم المؤمنون، حتى لا يغتروا بأحوالهم وتقلباتهم في البلاد، فتتعزّز هزائمهم النفسية ويفقدوا الثّقة بما عندهم  ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
2-ليأتي الآن بيان حال فئة أخرى، يريد الله سبحانه أن يُبصّر الأمة بحقيقتها  ...في مجموع الآيات الأخيرة التالية من قطاعنا :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ(118) هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(119) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(120)

2-أ) إنه النداء المشرّف : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ " ...
وهو في قطاعنا هذا يُعدّ الثالث، كما أنه الثالث منذ بدء السورة ...
ولقد عرفنا في هذا القطاع خاصة التوجه للمؤمنين بهذا النداء ... القطاع الذي يخصّ الأمة بالذكر، وبالتقوية، وبالتعليم وبالتثبيت ...
لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ والبطانة  ما يكون لصيقا بالثياب من داخله، فهو ألصق بالإنسان من ثيابه، أو هو الأسبق إلى الجسم من الثياب ذاتها، وهو ما يدلّل على الخصوصية والقرب، والمعرفة بالدخائل، وبما لا يعرفه غيرُ هؤلاء الموصوفين بالبطانة ... إذن فالبِطانة هم الفئة التي يقرّبها الإنسان إلى نفسه فتعلم عنه من خاصّة أمره ودخيلته ما لا يعلمه غيرُه...

فجاء الأمر الإلهي للمؤمنين، للأمة المسلمة ألا يتخذوا بطانة من غير أنفسهم، بل من المسلمين  لأنهم الأولى بأن يعرفوا تلك الدخائل، والأولى أن يطلعوا عليها، إذ هم المستأمنون الذين لا يمكرون ولا يخدعون ولا يغدرون...

ولقد كان من المسلمين إبان البعثة مَن بقي على تواصل مع اليهود، فجاء التنبيه الإلهي لهم، كما جاء للأمة المسلمة في كل زمان أن تحترس فلا تُطلع غير المسلم على خاصّة أمرها، لأنهم في كل زمان متربصون بالمسلمين، يتسللون في أوساطهم، يدّعي منهم مَن يدّعي الإسلام ليتقرّب وليعرف الأسرار ويسبر الأغوار، وليكون عينا للأعداء عليهم، ينفث فيهم سمومه وينقل أخبارهم إليهم ...وهؤلاء هم المنافقون سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم..إنها عامة في كل منافق يتربص بالمسلمين وبالإسلام الدوائر ...

إنها الفئة الثانية التي تأتي الآيات على تبيان حقائقها للمسلمين، لتبقى الأمة التي تحافظ بكل الأسباب على قوة جبهتها الداخلية ...

1- أمة تُدرك أنّها التي على عاتقها رسالة إصلاح الأرض
2- أمة مأمورة ألا تطيع أهل الكتاب بل أن تكون طاعتها لمنزّل الكتاب، واتباعها لسنة رسوله الذي بعثه  بالكتاب.
3- أمة مأمورة بتقوى الله حقّ التُّقى .
4- أمة مأمورة بالاعتصام بحبل الله
5- أمة مأمورة بعدم التفرّق .
6- أمة مأمورة بذكر نعمة الله تعالى عليها.
7- أمة هي خير أمة أخرجت للناس ما حقّقت تلك الشروط النفسية والعملية.
8- أمة عارفة بأحوال أهل الكتاب وبالحدود التي يجب أن ترسمها معهم.
9-أمة محترسة، تعمل على تقوية جبهتها الداخلية وهي تتعلم صفات المنافقين لتتجنّب تقربهم إليها وتتجنب مكرهم بها.

لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ(118)

إنهم لا يألونكم خبالا، والخبال هو الفساد، فهم أولاء لا يقصّرون في إفساد أمركم...
** وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ  أي يحبون ما يُتعبكم، وإن مما يتعبكم تفرّق أمركم، وأن تكونوا شتى...
** قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ  ... تزلّ ألسنتهم، فيصدر منها ما يشي بحقدهم عليكم، وكرههم لوحدتكم وعزّتكم وقوتكم ...
** وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ... وهذا من علم الله تعالى، والذي لا يستطيع أن يعلمه غيره سبحانه، فهو سبحانه يحذّر المسلمين، بأن ما في صدورهم ولا يظهر لكم أمرّ وأدهى .
قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ...وكل هذه التي ذكرتها الآية علامات بينها الله تعالى، فكل عاقل يُعمل عقله يجمعها بعضا إلى بعض، ليميز بها المنافق من الصادق، فكلما لاحت في أحدهم احترس وتعقّل، وتذكّر تعليم الله له هذه الصفات ...

وسبحان الله .. المنافق رغم سعيه الدؤوب أن يُغمَّى أمره على الناس، إلا أن المؤمن وهو يرى بعين الله تعالى، يرى بالقرآن وبما يعلّمه، يستطيع أن يتبيّن المنافق وإن بنِسَب... فيحترس.
ولذلك أستحضر قول عمر بن الخطاب الذي كان ينظر بعين الله، وكان يُعمل عقله، ويفهم الوحي، ويرتّب دلالاته : "لست بالخبّ ولا الخبّ يخدعني"
وهكذا هي التربية بالعامِلَيْن النفسي والعملي على السواء... وعلى هذا المخطط بيان لذلك من خلال الآيات :

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
2-ب) هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(119) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(120)

سبق وأن بيّن سبحانه أهم صفاتهم :
1-أنهم يتمنون ما يُشقي المؤمنين ويتعبهم من تفرّق وتشرذم وخلافات وحروب بينية وسقطات وزلات وضعف.
2-تزلّ ألسنتهم بما يفيض به كأس غيضهم وحقدهم على المسلمين فيحدّثون بما يشي به.
3- ما تخفي صدورهم من ذلك الحقد أكبر وهو ما لا يعلمه إلا الله .
والآن تأتي الآيات على ذكر حال أخرى، متمثلة فيما يكنّه لهم المؤمنون وما يحملون لهم بطواياهم الحسنة مقابل خبث طواياهم تجاه المؤمنين .

** هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ  فأنتم تحبونهم بينما هم لا يحبونكم، أنتم تتمنون لهم الهداية، إذ أنتم خير أمة أخرجت للناس، تتمنون هدايتهم وإخراجهم من ظلمات ضلالهم وفساد اعتقادهم، تحبونهم أيضا وهم يظهرون الإسلام فيما يبطنون الكفر ويضمرون حقدا وكراهية لكم ... تنخدعون بهم فتحبونهم، ولا تريدون بهم غير الخير، بينما هم بالمقابل لا يحبونكم، بل لقد بلغوا أوج كُرههم لكم، وهم يظهرون غير ما يُبطنون، يتسللون بينكم على أنهم منكم وما هم منكم ... على أنهم يؤمنون بما تؤمنون به، على أنهم موالون لكم ومؤيدون لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما يقضي به الإسلام ...
 
إن أمرهم غُمّة على المسلمين لولا تعليم الله تعالى هذا الذي بين أيدينا...

إنهم لولا تنبيه الله تعالى، وتحذيره لعباده المؤمنين، وبيان أوصافهم وأحوالهم لغُمّي على المؤمنين الكثير والكثير، ولعثوا إفسادا وفسادا في أوساطهم بما يمكّن لضرّ لامُتَناهٍ ولهلاك شديد ...
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ... والحال أنكم تؤمنون بكل الكتب السماوية التي أنزل الله، بما فيها الإنجيل والتوراة، بينما هم لا يؤمنون بكتابكم... ولو كان الحال أنكم تكفرون بكتبهم كما يكفرون بكتابكم لكان كرههم لكم مبرّرا وأخفّ وطأ، ولكنّ العجيب في الأمر أنكم مؤمنون بكتبهم ورغم ذلك هم لكم كارهون ... !

**وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ

ها هو ذا كذبهم وادعاؤهم، وتسللهم بينكم ... ها هو المخيف من أمرهم... ها هو ما يجب أن تحذروه وتتقوه، وهم يُظهرون الإيمان بما تؤمنون به... إنه لُباب النفاق، إظهار المرء ما لا يُبطن في كيد ومكر وخداع وكذب...
أما إذا خلوا فيعضوا أناملهم من شدة ما تحمل صدورهم عليكم ... ولقد قال سبحانه في آية سابقة :" وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ "


قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ... إنه أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتعدى لأتباعه أن يدعوا عليهم أن يموتوا بغيظهم ... مادام غيظهم هذا من عزّة يجدونها في المسلمين، ومن علوّ شأنهم، ومن دور للأمة المسلمة عظيم ...
وكما أسلفت ... ليس هذا لمسلم القشّة الذي تهزّه النسمة الرقيقة وتطوّح به ذات اليمين وذات الشمال، بل هو للمؤمن القويّ، للأمة القوية التي أطاعت أمر ربها، وتعلّمت تعاليم قرآنها، فاعتصمت به، واتقت الله، وحرصت على الوحدة ونبذت كل مظاهر التفرّق، وولّت أمر أهل الكتاب الدُّبُر...إنه دعاء يليق بالأمة ساعة تعمل، فتحوز القوة النفسية من تعليم القرآن ، وتحوز القوة العملية من تعليم القرآن ... تحوز كليهما ... فتكون خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فيحسدها كل كاره لسيادة الحق على الأرض، ولإشعاع نوره عليها ... يحقد عليها كل مَن يريد لهواه ولظلمه ولتكبره ولجبروته أن يسود مكان الحق والهُدى ...

تلكم هي الأمة الحقيقة بهذا الدعاء... بل التي تنطق به عن ثقة وعن قوة وعن اعتزاز بما لديها، وعن معرفة بدورها، وبأعدائها المتربصين بها ... لا أن يقعد مَن يقعد ويتقاعس عن دوره مَن يتقاعس،  ويجهل بتعليمات قرآنه من يجهل، ولا يعلم منه غير أنه الكتاب المقدّس الذي يستحقّ  التقبيل والإعزاز وأن نحتفظ به في مكان ما بعيدا عن الأيادي !! ثم يتكئ واضعا رجلا على رجل وهو يحدّث عن تربّص الكفار بالمسلمين، ويحفظ من القرآن كلّه هذا الدعاء خاصة، فيطلقه وهو القاعد المتكئ المتقاعس .... وإنّ ذلك الكافر لو ألقى له بشُبهة لما عرف الردّ عليها، ولما عرف كيف يواجهها ... بل ربما فعلت في نفسه فعلها، فإذا هو القعيد لا القاعد ... ! المهتزّ، الضعيف الذي لا يملك بما يجابه ....

إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ سبحانه الذي أعلمنا أن ما تخفي صدورهم أكبر، يُعلمنا أنه العليم بذاتها ...

**إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(120)
وهي ذي أيضا حالهم، ذي دخائلهم، إنها ذات صدورهم التي يكشفها الله للمسلمين ... للأمة لتعرف عدوها من صديقها ... لتتبصّر، لتعي، لتفهم ... لتعقل ..

إن ينتصر المسلمون، أو يعلو ذكرهم، أو يتوحّد صفّهم، أو يكن منهم الرجال الصناديد الأخيار الواعون، العارفون بأعدائهم وبحقيقة ما يريدون بالأمة ... إن يَكُنْ منهم الثابتون المغاوير الذين لا تفعل الشُبَهُ فيهم فعلها، ولا يضرهم أذى ألسنة الغير، بل يعدّونه الهَمَل من القول والسّفه من الفكر، والعَدَم من الوزن، ويولّونهم الدُّبر وهم المقبلون على طريق الدعوة إلى الخير، على طريق إصلاح الأرض بالعدل والحق...كل هذا في أمة الإسلام يسوؤهم ... وليت شعري ... متى يومُه !

بل إنها : إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ... مجرّد المسّ بخير يسوؤهم، بينما في الشر تُفرحهم الإصابة الثقيلة، يسعدون ويفرحون بالشر الكبير يلحق بالمسلمين: وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ

الصبر والتقوى... معهما لا يضرّ المؤمنين كيد هؤلاء المنافقين ...
ونتوقف عند هذا حتى لا يكون فهمنا ذلك الفهم الذي يستمدّ من السّبح في عالم المعجزات، في عالم يخال من يسمع عنه من أفواه الحالمين أنه عالم صُنِع لأهل الإيمان سواء أعَمِلوا أم قعدوا، أَسَعَوا أم غطوا في النوم العميق، أحققوا الشروط التي علمهم الله أم لم يحققوا ... سواء بسواء، هذا هو عالم المسلمين صُنع لهم ولأجلهم كيفما كانت حالهم ... !!

إن الكثيرين من المسلمين في هذا العصر الذي تأخر فيه المتقدمون، وتراخوا عن دورهم الريادي، وركنوا إلى الدّعة والراحة حتى تداعت الأمم عليهم، يقفز إلى أذهانهم المعنى المهزوم للصبر ... المعنى الذي يحبون أن يلصقوه به ... !

فالصبر عندهم هو القعود وعدم الحركة، الصبر عندهم أصبح مدعاة لمزيد نوم، ومزيد تقاعس ... بينما الصبر هنا تاج يُراد ان يُتوّج به أهل السعي والحركة والعمل ... وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لم تأتِ قبل الأمر بالحذر من المنافقين، وقبل الأمر بألا يُتخَذوا بطانة وأهلَ خاصة ومشورة ومعرفة بالدخائل ... لم تأتِ قبل بيان صفات هؤلاء المنافقين للتحذر والاحتراس منهم ... بل جاءت بعد كل هذا ...  أليست التقوى توخّي الائتمار بأمر الله تعالى والانتهاء عن نهيه ؟ بلى هي كذلك ...

فما دامت كذلك فإن الصبر مقرون بها، مقرون بهذا الائتمار بأمره سبحانه، أن نحذر المنافقين، وأن نتبينهم من سماهم، وألا نتخذهم بطانة ... هذا كله من الائتمار بأمر الله، وهو بعبارة أخرى التقوى ... فالصبر المُراد هو صبر مع عمل لا صبر مع قعود ...
إنها ليست سحرا من السحر ولا قضاء من القضاء في اللوح المكتوب أنّ أمة الإسلام على كل عِلاتها متقبَّلة، مُشاد بها، معترَف بها، يكفيها عنوان الإيمان لتحظى بكل حظوة ...
حاشا وكلا ... إنه الله العدل الحق، الذي يجزي محسنا بإحسان، ويجازي مسيئا بما يستحق ...

ومن عمل لا يبخسه حقا هو له وإن لم يكن مؤمنا، وإنّا لنرى الأمم الكافرة وهي إذ تسعى وتعمل يعطيها الله في الدنيا جزاء سعيها ولا يبخسها حقا ...
وعلى هذا فإنكِ أيتها الأمة المؤمنة إن تصبري مع أخذكِ بتعليمات القرآن وإرشاداته وبياناته لا يضرّكِ كيد الكائدين  شيئا ... بل إنهم سيجدون حصنا حصينا دون كل مكائدهم يردّها عليهم في نحورهم ... ليس ذلك إلا من قوة حقيقية متحققة في هذه الأمة وهي التي تصبر وقد اتقت، وقد سمعت وأطاعت، وعملت بما علّمها ربها ...

تماما كما عرفنا مع "الأذى" الذي يبقى أذى ما قامت الأمة وظلّ حصنها قائما، وينقلب أكبر من الضرر ما سقطت وانخذلت وتهاوى حصنها ....

فلنحذر ثم لنحذر شطحات الأحلام الوردية التي سِمَتها القول والتشدّق بالقول أنّ الأمة منصورة، محصّنة، ممنوعة على كل من يريد بها سوءا ...وليس ذلك من القرآن، ولم يعلّمنا إياه القرآن، وهو بين أيدينا يصدع قويا بإرشاداته وتعليماته المرقومة والمرتبة التي لا يعلو شأن إلا باتباعها ولا يرتكس إلا بالتنكّب عنها ...إننا إن نجدّ نجِدْ ونرشد  وإن نقعد نبعد ونشرد...

وعلى هذا المخطط أضع بيانا :

« آخر تحرير: 2019-01-02, 08:12:24 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وهكذا ينتهي قطاعنا ... الذي أسميه قطاع الأمة ..

انتقلنا فيه بسلاسة لا نكاد نشعر معها بالانتقال من الفرد إلى الجماعة، من المؤمن ومن تعليمه وتزويده بالسلاح المُنجّي للثبات على درب الحياة إلى الأمة التي ما هي إلا مجموع الأفراد المؤمنين المسلمين...

سورة الثبات والتثبيت ... منذ بداياتها جعلت تحضّ على الثبات، ولا تحضّ عليه بالأمر وحده، بل تعلّمنا طرق الثبات، وتزوّدنا بسلاحه ... منذ : "رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً  إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ(8)" وحتى مبلغنا الأخير منها ...

كان الدعاء أن يثبّتنا الله تعالى على الهدى في مفتتحها، وتعلمنا خلال رحلتنا مع الآيات المتتابعة أنّ هذا الدعاء لا يُقال مجرّدا عن علم واجب تعلّمه، علم هو الأول الذي يجدر بنا السّبق إليه وطلبه من حنايا القرآن العظيم ...علم علمه الله صفيّه صلى الله عليه وسلم
ليعلّمنا إياه بدوره : "فمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ... "-من61-

علمٌ هو الحق الذي لا حق غيرُه، ولا يقصّه إلا الحق سبحانه : 

"الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ(60)"
"إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ  وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ  وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(62)"

فأنبأنا نبأ عيسى عليه السلام، ونبأ أمه مريم، ونبأ زكريا ويحيى ونبأ إبراهيم عليهم السلام، زوّدنا بحقائقهم، ولم يكتفِ بذلك سبحانه، بل وضعنا في إطار واقعي من جدل أهل الباطل بأباطيلهم حول هؤلاء... بما تقوّلوا فيهم ... بما اختلقوا، وبما افتروا ... فكان الحق من الله بإزاء أباطيلهم التي هي لا محالة معترضة المؤمن على درب الحياة...

كانت المحاجّات العقلية، وكان حوار العقل للعقل، وكان تبيان الحق من الباطل بأسلوب صاف راق لا تشوبه شائبة ...  كان تعليم المؤمن سُبل خلاصه من تشكيك المشككين، وتشبيه أهل الشُّبَه والضلال والتضليل والأهواء ... كان الأسلوب الجامع النافع الذي ألّف بين الجانب النفسي والجانب العمليّ في توليفة هي الحل الواقعيّ لتقوية المؤمن، ولتثبيته في ظلّ ما يلاقي من متصدّين له متربّصين به يريدون تغييب دوره الريادي في تنوير الأرض بنور الحق وإرشادها بهُدى الوحي ...

ثم جاء بيان الحق في الإسلام، وأنه دعوة الأنبياء الواحدة، وجاء التدرّج في تعريفه وتعريف الإيمان الذي هو حقيقة دين الإسلام حتى يتبيّن المؤمن أصل وجذور اعتقاده، وأنه على ما جاء به الأنبياء جميعا وصولا إلى تمامه وكماله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، زيادةً في تثبيت أصول العقيدة فيه مع بيان جذورها وامتداداتها، وكلها مرسّخات ومثبّتات على الدرب ...
ثم انتقلنا أخيرا إلى الأمة ...

هذه الأمة الحقيقة -بما تحمل من هُدى وحق وبما يحمل أفرادها من علم هو علم الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- ... أن تكون حاملة رسالة إصلاح الأرض بجدارة، وأن ليس لهذه المهمّة  غيرها ...

أمة قائمة ما حققت شروط قوتها وسلامة داخلها... أمة تهابها الأمم ولا تقوى على مجابهتها وهي تجسّد الحق والهُدى متحركا على الأرض ... أمة تَحَقّق مثالها في زمن مضى، وسيتحقق في كل زمان تحترم فيه القاعدة القرآنية وتتبع فيه الإرشادات الربانية ...

وهكذا نلمس التسلسل العجيب من أول السورة إلى مبلغنا هذا منها ... هذا الترابط المدهش الذي يحقق فعلا وحدة الأطراف، وحدة الآيات مجتمعة لتصب في: "الثبات والتثبيت على الهُدى"

وأضع هنا ملخص قطاعنا الأخير في خطوة جديدة على دربنا (100-120) :

« آخر تحرير: 2019-01-08, 08:17:47 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وأجمع هذه الخطوة إلى خطواتنا السابقة ليصبح بين أيدينا :


يعرّفنا سبحانه أسباب الاهتزاز
ويعلّمنا عوامل الثبات
يعلّم المؤمنين ثوابتهم على درب الحياة
ثم يبدأ سبحانه بتعليم المؤمنين الحق :
ويأتي دور بيان تمام الحق الذي مع المؤمن
ومن المؤمن إلى تثبيت الأمة الحاملة للحق
الحقيقة بإصلاح الأرض
« آخر تحرير: 2019-01-08, 08:18:56 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وبعد كل الخطوات التي قطعنا على دربنا هذا الذي يعلمنا الله الثبات عليه، ونحن نسترشد بكتابه مشكاةً، ذلك الذي فيه وحده الهُدى لا في غيره ... نجدنا الآن مقبلين على خطوة جديدة، قطاع جديد، هو أطول القطاعات في هذه السورة ..
قطاع يستغرق تسعة وخمسين آية بدءا من 121 إلى 179 .. وهو كلٌّ مترابط لا ينْبَتُّ بعضه عن بعض بشكل من الأشكال،  -ليس على أنها خصيصة له دون القطاعات السابقة، وقد عرفنا ترابط كل الآيات بعضها ببعض- بل لأنه يحكي تفاصيل قصة حدث من أهم  أحداث الأمة المسلمة، ومرحلة من مراحلها المفصليّة . إنها تفاصيل غزوة أُحُد ...

غزوة أُحُد... ؟! التثبيت... ؟ الثبات... ؟!
ما وجه العلاقة بينها وبين ما درجْنا عليه من هدف للسورة ثابت لا يغادرنا عبر مفاصلها كلها ... ؟! ما وجه علاقة الغزوة بما عرفنا من مقوّمات الثبات، ومن حقائق حول عيسى عليه السلام وقصة أمه ومولده ورسالته بين قومه ورفع الله له، ثم بيان حقيقة إبراهيم عليه السلام وبراءته مما ينسبه له أهل الكتاب ؟ ما وجه علاقة غزوة بمحاجّات أهل الكتاب وبمحاورتهم، وببيان الحق مقابل أباطيلهم ؟!

أجل غزوة أُحُد ...  والعلاقة عظيمة، والرابط قويّ جدا ...
سنعرف أجوبة عن كل هذه الأسئلة، ونحن نعيش مع آيات قطاعنا الجديد التي أعرضها جملة فيما يلي:

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(121) إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ(124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ(125) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ(127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(128) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(130) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(131) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(132) وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135) أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(136) قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ(137) هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ(138) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ(144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ(145) وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(147) فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ(149) بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ(150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ(151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(153) ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ(155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(156) وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ(157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ(158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159) إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ(160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(163) لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ(164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ(166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ(167) الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(168) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ(171) الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(175) وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(177) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ(178) مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179)
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ونبدأ مع التفاصيل القرآنية للغزوة، إذ أن لها تفاصيلا في صحاح الحديث، تزيدنا علما بما لم يرِدْ عنها في القرآن  ...

بل إنني كنت أنتظر بلوغ غزوة أحد من سورة آل عمران، حتى أُدلي بدلوي في شأن الجدل الذي أقامه أعداء الدين حول حجيّة السنة وأنّ القرآن يكفي ولا يحتاج الدين إلى غيره ليقوم، ومضوا في غيّهم يشككون في نقلَتها من الصحابة، ويشككون في صحة ما نُقِل من أجل الدعوة الخبيثة إلى نُكرانها وإلغاء مصدريّة تشريعها في الدين، ولقد وجدوا في كثير من بني الإسلام جُندا خُدّما يطيعون أمرهم، وينقادون لشُبهاتهم بدعاوى مختلفة، فتارة بدعوى سيادة العقل وحكم العقل، وتارة بدافع حبّ التحرر من الدين برمّته تمويها بإنكار السنة وهم يرون ذلك أخفّ من التصريح بالإنكار الكليّ، وتارة بدعوى نقد الموروث ...!

وهؤلاء هُم أهل القول بأنّ القرآن مقرِّرٌ عن نفسه ولا يحتاج تقريرا بقول من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعل فيه حركة القرآن، وفيه تعضيد لآياته ، وكشف لغوامضه ، وإجلاء  لمعانيه ، وشرح لألفاظه ، وتوضيح لمُبْهَمه ، زيادة على ما جاءت به السنّة بأحكام لا توجد في كتاب الله ولم يُنَصّ عليها فيه، بلا خروج عن قواعده وغاياته ، وهم أهل القول بأن طاعة الله تعالى وحده كافية دون الحاجة إلى معنى أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله، وأن معصيته من معصية الله تعالى .. فهم مثلا في قوله تعالى : "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ... "المائدة:من92-  وقوله سبحانه : " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ" –محمد:33-
وقوله : "...ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا....ِ"-الحشر:من7-

يرفضون تفسير كل هذا بأنه الأمر من الله سبحانه بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر، واتباع ما يقول وما يفعل بعيدا عن القرآن ... يرفضون ذلك، وهم يُظهرون حميّة مكذوبة على القرآن ليست منه، ولا ينطق بها، يدّعون حراسة له بما لم يحرسه به أقرب من عاصر نزوله غضا من عند الله... صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يأتمرون بأمره وينتهون عن نهيه صلى الله عليه وسلم وهم يملؤهم اليقين أن طاعته من طاعة الله تعالى وأن معصيته من معصية الله ... يدّعون حميّة على القرآن تغلّف نوايا خبيثة ومرامات لئيمة تريد أن تُبعد المسلم عن دينه فيما تُغرّر الغرير أنه بذلك يستمسك بقرآنه ولا يرضى له منازعا !

أجل...  كنت أنتظر بلوغ غزوة أُحُد من السورة لما أرى من عظيم البيان لمقام التوجيه النبوي والأمر النبوي والقول النبوي والفعل النبوي الذي لا يكون مصدره القرآن ولا الأمر من القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل لقد كان الأمر والفعل والتحرّك والتوجيه والقول منه صلى الله عليه وسلم من قبل أن ينزل خبرُه في القرآن...

ثم جاء خبرُه وفيه العتاب الإلهي على معصية الأمر النبوي الذي صدر من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الغزوة بأن يلتزموا مكانهم ولا يتزحزحوا عنه وإن رأوهم منتصرين غانمين...

أمر لم يكن يعرفه الصحابة فيما يتلون من القرآن، ولا عرفه أحد من المسلمين على وجه الأرض قرآنا يُتلى ...بل كان الأمر النبوي مِن فم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو وحي من الوحي، ولكنه لم يكن قرآنا ... وإنّ ما أُثِر عنه صلى الله عليه وسلم من صحيح الحديث الذي فيه قوله وفعله وتقريره في شأن العقيدة والأمر والنهي والتوجيه والوعظ في شؤون الدين لَهُو وحيٌ من الوحي، ليس شرطا أن يكون في القرآن لنؤمن به ونتبعه .. وقد قال سبحانه:  "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ(3) إنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ(4)" -النجم-

وإنه لَيَرُوق لأصحاب هذه الأهواء المتلاطمة أن يفسّروا حتى هاتين الآيتين من سورة النجم بأنما هو نُطْقُهُ صلى الله عليه وسلم بالقرآن لا بشيء غيره ...!

وها هي بين أيدينا أحداث غزوة أحد التي يذكرها القرآن الكريم، ما كانت إلا أوامر من الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوالا وأفعالا وتقارير يُبيّن الله تعالى مغبّة معصيتها وعدم اتباعها بما كان من نتائج أُحُد، ، فيعاتب الصحابة على عدم العمل بها تامّة تامّة، فإنهم وإن كانوا لم يُعرِضُوا عنها، غير أنهم لم يتمّوها كما أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يتمّوها ... فكانت معصية أمره..

لم تكن قرآنا،  بل كانت منه مباشرة قبل أن تنزل هذه الآيات.
ونزلت الآيات بعد انتهاء الغزوة مُقرّة لأوامره غير القرآنية، ومقرّة لوجوب اتباعها، ومخوّفة لكل من يجعل منهجَه التولّي عن قوله أو فعله أو تقريره الذي ليس في القرآن كحال أصحاب هذه الشُبهة الخبيثة، بدعوى أن في القرآن كفاية !  قاصرين معنى النبوة في حَرْفيّة الكتاب، مُغْفِلين دوام ملازمتها للنبيّ في قوله هو وفعله وتقريره ...في حركته على الأرض، وتفاعلاته وحكمته وتربيته وتوجيهاته، وهي ليست إلا ترجمة للقرآن، وتفعيلا له... وهي ليست إلا من مشكاة النبوة صادرة، تلك المشكاة التي كان القرآن فيها وحيا، كما كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وحيا ...

ولقد تُرك الصحابة في غزوة أحد لامتحان الامتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهه، حتى إذا انقضت وقد كان منهم ما كان نزلت التربية الإلهية تحضّ على وجوب اتباع أمره صلى الله عليه وسلم دون أن يُشترط نزوله في القرآن ... !

ولنتخيّل لو أنّ الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يقرّون ولا يأتمرون بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا عرفوه قرآنا يتلوه عليهم، كيف كان لهم أن يتبعوه في خطة عسكرية، أو في استراتيجية سياسية، أو في تولية أحدهم على شأن ما، أو في تنظيمه لأمورهم، وإدارته لشؤونهم، أو في استشارته وفي محاورته... ؟!

هل عرفنا عنهم مثلا رفضهم لخطة عسكرية يضعها بدعوى أن تفاصيلها لم تنزل قرآنا يتلوه عليه جبريل ؟  فلقد عرفناه يأمرهم بالخروج إلى بيت الله معتمرين من بعد رؤية رآها، وعرفناهم ممتثلين سامعين مطيعين، ولم يشترطوا قرآنا ينزل ليطيعوا ... بل إنّ خبر العمرة وخبر بيعة الرضوان جاءا في القرآن بعد انتهاء الحادثة وعودة الرسول وصحابته إلى المدينة لا قبلها ...  !  هل عرفناهم يعلنون رفضهم لمعاهدة الصلح التي أمضاها مع قريش في الحديبية بحجة أنّه لم ينزل بشأنها أمر في القرآن ؟!

بل لقد قدم عليه جمع من الصحابة يوما وقد استثقلوا آية من القرآن الكريم، كانت عليهم أثقل من الجهاد ذاته، قوله سبحانه : "...وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ  فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ  وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير" –البقرة: من284-   فكان منه التفاعل المباشر أن نهاهم عن استثقال شيء من أمر الله، وأن خوّفهم من طريق أهل الكتاب في ذلك، وأمرهم دون أن يرجع إلى ربه ليأخذ من عنده جوابا ... أمرهم أن يقولوا : "سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" . فما كان منهم إلا أن ائتمروا، ولم يحاجّوه أن يأتيهم بالتخفيف أو بالجواب في شأنهم من عند الله تعالى ... ردّدوها حتى ذلّت بها ألسنتهم " سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " ... فأنزل الله تعالى بعدها لا قبلها خبرهم ذاك : " آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ  كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ  وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا  غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" -285- 

ثم أنزل سبحانه التخفيف من بعد امتحانهم بطاعة أمره والذي منه طاعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان منه الجواب دون عودة إلى ربه ليأتيهم في شأنهم بوحي ...أنزل الآية الناسخة : "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا  لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ  رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا... (286)"

ماذا يريدون ؟! أيريدون أن يجعلوا من أمره صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن قرآنا حكرا على جيل عاصره وسمع منه مباشرة ؟!  أيريدون أن يُقصروا أمة الإسلام التي حققت الطاعة الحقيقية لله بطاعة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك الجيل وحده ؟!
كيف يتحقق إذن أمر الله تعالى ببعثته صلى الله عليه وسلم نورا وهداية ورحمة للأرض كافة في كل زمان ؟  : "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" –الأنبياء:107-

كيف يتحقق إذن أن يكون كل نداء في القرآن بـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا "  عاما لكل مؤمن على الأرض في كل زمان وفي كل مكان ؟ وما جاء هذا الدين وما نزل كتابه العظيم إلا ليكون الكتاب الخاتم بالنبي الخاتم الذي يُحيي شرعُه الأرض في كل زمان ...

أي دعوة خبيثة هي ؟! تجعل من الدين أشتاتا وتجعل منه أبعاضا، فيُؤخذ بشيء منه ولا يؤخذ بآخر، وتُقصِر النبوة على الكتاب دون حركة النبيّ به على الأرض ؟! ودون دوره في تبيين القرآن بتفصيل مُجمل فيه أو بسط مُختصر أو بيان مشكِل : " ...وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"-النحل:من44-
فمن أين لنا بصفة الصلاة وعدد ركعاتها وأركانها وشروطها ونواقضها، وبأحكام الزكاة والصيام والحج والجهاد والربا والغرر والنجش والديّة وعدّة الطلاق وغيرها مما لم يأتِ في القرآن ...
إنها دعوة تُذهِب حقيقة الدين برُمّته، فتذهب بريحه كلها في نفس من يعتنقها ؟!! وكم كثر المتنادون بها كلٌّ ينعق ويكرّر كلاما واحدا وإن تفرّقت دعاواه وأهدافه ...
فلنمضِ مع هذا القطاع ... وسنقف عند كل مقام فيه يُجلي لنا خُبث هذه الدّعوة الماكرة ...
« آخر تحرير: 2021-05-29, 10:14:24 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب