المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي(آل عمران)  (زيارة 8457 مرات)

0 الأعضاء و 2 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ثم تأتي الآية الموالية بزيادة نفي لما يُنسب إلى الأنبياء :
وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ(80)
لا يكون للنبي أن يأمركم بعبادته من دون الله كما لا يكون له أن يأمركم باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا من دون الله...
ولقد خلط الناس وخبطوا فألّهوا الملائكة، وجعلوها بنات لله. تعالى عن ذلك علوا كبيرا...
هكذا كانوا وهكذا ما يزالون ... كفعل من يفرّ من النقاوة والصفاء إلى الكدر والدّرن ... وسبحان الله لكَمْ جهول هو الإنسان، ولكم هو ظلوم !!
ونلاحظ تكرار الأمر بالنسبة للأنبياء، مرة في الآية السابقة حينما نفى سبحانه عن أي نبي أن يدعو لعبادته هو من دون الله تعالى، ومرة هنا في :" وَالنِّبِيِّيْنَ " . وهكذا يُنفى عن كل نبيّ الدعوة إلى عبادته بالتكرار للتأكيد على براءته من ذلك، وكذلك تُنفى عنه الدعوة لعبادة غيره من الأنبياء.

وإني لأرى فيها إشارة قوية إلى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن مبرئا عيسى عليه السلام مما نُسب إليه من أمره لهم بعبادته، كما جاءت لتؤكّد أيضا أنه ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقِرّ ما اختلقوه من تأليه عيسى ، ما كان له أن يدعو لاتخاذ النبيين أربابا من دون الله، ولقد جاءه وفد نجران بهذا الاعتقاد في جعبته، ولا ريب في أنهم أحبوا أن يجيبهم إلى اعتقادهم الباطل ...! فيأتي القرآن بما يحقق نفيا يعمّ كل الأنبياء، ونفيا يخصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعايش ويواجه هذه الاختلاقات ...

أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ

وهذه من المحاجّة العقلية وقد عرفنا في دعوة أهل الكتاب إلى الكلمة السواء ما يعرّف بالإسلام في قوله تعالى : " أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ..." –آل عمران:من64-
وأستحضر مع هذه الآية عبادة العرب للملائكة مع ما عبدوا، مع ما جاء به أهل نجران من اعتقاد باطل في عيسى عليه السلام، فأرقُب عبارة " بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ " فأراها تحتمل أن تكون موجّهة إلى المسلمين ليبيّن لهم الله تعالى في مزيد تعليم لمعنى إخلاص العبادة له وحده ما ينفي العبادَتَيْن الباطلتَيْن، فلا جاء محمد صلى الله عليه وسلم بما يرسّخ عبادة الملائكة مع ما عبد العرب، ولا جاء ليداهن أهلَ الكتاب -فيقول بألوهية عيسى عليه السلام- وإن عُرِفوا بين العرب لدهور بسلطان العلم، وإن تعوّدوا النظر إليهم على أنهم أهل العلم الذي لم يُؤتَوه هم من قبل...  بل جاءهم داعيا إلى الكلمة السواء، فلا يُعبَد غير الله، ولا يُشرَك به شيء، ولا يُتخذ ربّ من دونه سبحانه وإن كان نبيا من الأنبياء، وإن كان هو ذاتُه صلى الله عليه وسلم.
أفيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ؟؟ بعد أن جاءكم داعيا لإسلام وجوهكم لله وحده فأسلمتم ...؟! 

لا ... لقد جاءكم بالقول الواحد الذي لا يُبدَّل ...

فإن الإسلام الذي هو : "أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِيقابله الكفر الذي هو: "أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً"

كما تحتمل هذه الآية أن تكون موجّهة أيضا لكل أتباع الأنبياء، لأنّ الدين الذي جاؤوا به جميعا هو الإسلام، الكلمة السواء جاؤوا بها جميعا على حد سواء ... الكتب السماوية كلها جاءت تدعو إليها... فجاؤوا يبلّغون أقوامهم الإسلام، أفيأمرونهم بالكفر بعد أن غدوا بدعوتهم مسلمين ؟!

لنتأمّل، ولنتدبّر ...
ألسنا في معرض الانسياق نحو ما يبيّن وحدة الدعوة، ووحدة ما جاء به الأنبياء جميعا من لدن آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعا ؟
« آخر تحرير: 2018-11-28, 21:11:58 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
سبحان الله ...!!

لَكَمْ يأخذني أسلوب القرآن، ولكم يُنعشني... ولكم أجد فيه الرَّوح والرّواح، وأتلمّس فيه الجمال وهو موحّد الأطراف، مترابط التركيب، متسلسل المعاني، متّسق الموضوع...!
فلكأنّ الذي يَطَّوَّف برِحابه الطاهرة ويتنسّم أجواءه العليلة النقيّة يتملّى الكمال في الجمال والوحدة في البنيان ...
إنه ذلك الكتاب العظيم ....
إنه تلك النافذة النورانية التي نُشرف منها على الحقيقة والحق، وعلى الهُدى والرشاد، وعلى النور والضياء... وعلى أصل الكون وأصل الإنسان وأصل الوجود وأصل الخلق ...

هذا الكتاب الذي تَطبع منه الدول والهيئات والمنظمات والشخصيات ذات الطَّول ملايين النسخ لتُوزّع على أسقاع الأرض، شمالها وجنوبها، وشرقها وغربها ليقرأه الناس في كل مكان ...
هذا الكتاب الذي لا يخلو بيت من بيوت المسلمين منه...
هذا الذي تُرجِم إلى لغات الدنيا...
هذا الكتاب الذي كثيرا ما يُتَّخَذ هدية للإهداء، ويُتّخذ معها القول باللسان أنه أغلى ما يُهدى! فقط لتثمين الهدية ...!

وكثيرا ما يُهجَر في بيت من بيوت المؤمنين، يغفل أهله عن نداءاته : "يا أيها الذين آمنوا"... فلكأنّه المنادي الذي يُكتَم صوته بأياد كاتمة ... إذ هو لا ينفكّ مناديا، ولكنّ صوته لا يُرفع ببيت ما ظلّت أيادي أهله له كاتمة ...!
ما أكثر ما يُطبع بالكلام الواحد الذي لم يُبدّل، وبالحروف ذاتها التي تنتظم انتظام الدُّرر في العقد الموثّق المُحكَم الذي لا تنفكّ حبّاته ... ما أكثر ما يُتداوَل، ما أسهل ما يقع مؤمن على النسخة منه والنسخة...

هو الغالي الذي لا يُفتَقد، وهو الثمين الذي يُقدَر عليه، وهو النفيس الذي لا يُبذَل لأجل حيازته نفيس لا من جهد ولا من مال ... هو العظيم الذي لا يعسُر على طالبيه ... هو الأعلى الذي لا يستعصي على ناشديه، وهو النور الذي لا يحتكره أحد، وهو الحق الذي لا يُحابي عربيا على أعجميّ ولا أسود على أبيض ... !

هو أغلى ما في الوجود وهو أيسر ما يوجَد ... بينما يستعصي على المرء شيء من أشياء الدنيا ومن عرَضها الزائل لمجرّد أنه الذي تنادى الناس بأنه الثمين ...!!

ولكــــــــــــــــــن .... !

رغم يسر اليسر في حيازته، وتمام السهولة في قراءته، فإن تقلّبنا في الحياة، وحركتنا على الأرض لا تُسمِع منه صدى ولا تترك منه أثرا  ... ولقد كان النبي الذي جاء به قرآنا يمشي على الأرض ...!

وربما ستتعالى الأصوات أمام كلماتي، وكأنها أصوات المنبّهين الموقظين لنائمة مغيّبة ضُرب على أذنيها فهي الذاهبة في نومها عن الحياة ... !  يا هذه ...! أليست مساجد المسلمين تمتلئ بالمصاحف وتغصّ بالقراء ؟ أليست مدارس القرآن تُخرّج كل عام مئات الحافظين والحافظات الموسّمين والموسَّمات بشارات الحفظ والترتيل .. ؟! ويْحكِ أما ترين أم أنكِ فقدتِ ما به ترين؟!

أجل أيها اللائم الموقظ لي من نومي ... أدري ...
أدري أن الحفّاظ كُثُر كما أدري أنّ القراء كُثُر، وأدري مع كل هذا أيضا أنّ المؤمن كسيح ما لم يتحرك بقرآنه على الأرض... كسيح ما لم يجعله مِشكاته على دربه ... كسيح ما جعله حروفا تُحفَظ لا يزيد على الحروف إلا تخريجها من مخارجها ..!!

معذرة... فإنّ جمال العيش مع القرآن نعمة حقيق بي أن أحدّث بها  ...
وأعود من الحديث عنه إلى حديثه ....
« آخر تحرير: 2018-11-28, 21:14:34 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
لنـــــــــــــــتأمّل ...

ها نحن نتقدّم نحو معنى يسوق له المعنى السابق، لنستوثق منه ولنتعلّمه كما تعلّمنا ما قبله ...
هؤلاء الأنبياء وقد نفى القرآن عنهم أن يدعوا لعبادة غير الله،  ها هو ينقلنا إلى مشهد عظيم، يوغِل بنا في الأغمار النورانية، ويُشهِدُنا على خاصّة من أمره سبحانه، بينه وبين أصفيائه من عباده، ها هو يدعونا لنَحْضر ولنستمع إلى الملأ الأعلى، إلى زمان بعيد موغِل في البعد...
إلى بداية الإنسان والإنسانية والأرض والدنيا ... إلى بداية العهد الذي لأجله قامت الدنيا، ولأجله ستقوم الحاقّة ... !

وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ(81) فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(83)
إنه ميثاق ... وأي ميثاق ! ذاك الذي أخذه الله تعالى على أنبيائه ...
فما الميثاق أصلا ؟
الميثاق مأخوذ من الوثاق، وهو ما يشد به الأمر، ويثبت ويؤكد. وهو هنا العهد. عهد بين الله وبين أنبيائه. 
يقول أبو زهرة : "عهد موثق بين العبد المختار، والرب الذي اختاره، كمن يرسل رسولا، فإنه يكون ثمة عهد بين الرسول ومن أرسله، بأن يقوم بواجب الرسالة على الوجه الأكمل."-زهرة التفاسير-

إننا في حضرة نورانية تجمع الله تعالى بأنبيائه، وهو يأخذ عليهم العهد، العهد الذي لأجله خلق الله الدنيا ولأجله جعل الآخرة وفيها الجزاء لمن وفّى بهذا العهد والعقاب لمن لم يوفِّ...
فلنأخذ معانينا من الآية ذاتها ولا نستبق ... نتقدم فنلمح التفصيل ...
"لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ " ... نأتي أولا على التركيب اللغوي حتى نتبيّن المراد منه، فأما اللام هنا فدورها التوطئة لأخذ الميثاق كما تقوم بدورها للتوطئة للقسم، لأنّ الميثاق هنا بمعنى الاستحلاف . و"ما" متضمنة معنى الشرط، فيكون المعنى: "مهما آتيتكم من كتاب وحكمة" والكتاب هو الذي يؤتيه سبحانه النبيَّ من أنبيائه، والحكمة هي الفهم والعلم بما في الكتاب وبالحكم به والدعوة إلى ما فيه...
"ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ "

هذا هو الميثاق الذي أخذه الله على أنبيائه، أنه إذا ما جاء النبي أن يؤمن به الذي سبقه وينصره على أعدائه، على هذا يعاهد اللهَ كل نبيّ من أنبيائه.
وهنا أدقّق في معنى أراه مهما :
إننا بإزاء الإله الخالق العليم الحكيم، وبإزاء أنبيائه الذين هم بشر من البشر ولا علم لهم إلا بما يعلّمهم ربهم ... فهم لا يعلمون الغيب ولا يعلمون عن أمر الله ما لم يعلمهم الله ..
وعلى هذا فإنني أرى في هذا العلم ضرورَتَين اثنَتَين:

أولا/ ضرورة علم النبيّ أنه ليس الوحيد المبعوث من عند الله:
هو سبحانه يعلّم النبيّ منهم أنه لا يبعثه وحده لدعوة الناس إلى توحيده وإفراده بالعبادة، بل إنه باعث غيره، أي أنه يعرّف الأنبياء بعضهم ببعض، فأستحضر من القرآن :
**"رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ  إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" –البقرة:129-
**"وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ  قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا  قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي"-البقرة:124-


** وجاء عن زكريا عليه السلام : "قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)"-مريم-

**وجاء عن يعقوب عليه السلام : "وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)"-يوسف-

**كما جاء عن سيدنا موسى عليه السلام:" قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)" -القصص-


كانت كبرى أمنيات النبيّ منهم أن تبقى الدعوة إلى الله وإلى عدم الإشراك به وتتجدّد عبر الأجيال، وكان النبي يعلم أنه بشر من البشر والموت حق لا يستثنيه الله منه، فكان من تمام إيمانه وإخلاصه لربه تمنّيه أن يرث النبوةَ غيرُه، وأن يحمل رسالةَ التوحيد غيرُه ما دامت الأرض وما بقيت الدنيا... فكان لا يوصي النبيّ ذريته بشيء من أشياء الدنيا، بل كان يوصيه بالدين، بالإسلام : "وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ"-البقرة:132-

وإننا لو فرضنا أنّ النبي الواحد منهم لا يعلم أن الله سبحانه يبعث أنبياء غيره وِفق اختياره ووِفْق حكمته، لعرفنا من النبيّ تعصبا لنفسه وتكذيبا لغيره ممن يبعث الله، لا تكذيب عناد أو كفر معاذ الله، ولكن تكذيب حرص على دعوة الله، وعملا بحدود ما يعلم إن كان اقتصر علمه على أنه النبي وكفى دون أن يعلم أنه واحد من الأنبياء، ضمن سلسلة من الأنبياء الذين يُبعثون بالدعوة الواحدة وبالدين الواحد... تكذيب من يحمل على عاتقه الدعوة ويحميها، ولا يقبل ادّعاء من أحد أنه بُعث نبيا، وعلى هذا المحمل كان النبيّ أولى من يُعلِمه ربُّه أنه واحد من الأنبياء، وليس النبيّ الوحيد، وكان علمه بذلك ضرورة يقتضيها الحفاظ على وحدة الدين مع تعدّد الأنبياء، وتصديق دعوة النبيّ لدعوة غيره منهم.

يأتي النبيّ من بعده النبيّ، كلّ مصدّق بمَن سبقه، مؤيّد له، سواء عاصره في زمانه أو جاء بعد موته. وقد كان من الأنبياء من تزامنت بعثتهم من مثل إبراهيم ولوط، ومن مثل موسى وهارون وشعيب، ومن مثل عيسى ويحيى عليهم جميعا صلوات الله وسلامه.
وإن هذا العلم لم يبقَ في حدود العلم وحسب، بل لقد وُثّق وأحكِم ليصبح ميثاقا وعهدا يأخذه الله تعالى على أنبيائه بأن يصدّقوا بغيرهم من الأنبياء، وأن ينصروهم : " لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ "

وهناك تساؤل لا أحب تفويته، لأنه قد يَعرض للكثيرين ويحبون تبيّنه، عن النبي الذي يُبعث في زمن نبي آخر معه، هل شرعه ناسخ لشرع النبي الذي سبقه وهو يعاصره ؟

أضع ها هنا جوابا من الإمام محمد عبده نقله عنه محمد رشيد رضا في كتابه (تفسير المنار): "وَسُئِلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ عَنْ إِيمَانِ نَبِيٍّ بِنَبِيٍّ آخَرَ يُبْعَثُ فِي عَصْرِهِ هَلْ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نَسْخَ الثَّانِي لِشَرِيعَةِ الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَلَا يُنَافِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَصْدِيقُ دَعْوَتِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى مَنْ يُؤْذِيهِ وَيُنَاوِئُهُ فَإِنْ تَضَمَّنَتْ شَرِيعَةُ الثَّانِي نَسْخَ شَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ وَجَبَ التَّسْلِيمُ لَهُ وَإِلَّا صَدَّقَهُ بِالْأُصُولِ الَّتِي هِيَ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ، وَيُؤَدِّي كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ أُمَّتِهِ أَعْمَالَ عِبَادَتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَتَفَرُّقًا فِي الدِّينِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ يَأْتِي فِي الشَّرِيعَةِ الْوَاحِدَةِ كَأَنْ يُؤَدِّي شَخْصَانِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ أَوْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ الْآخَرُ هَذَا بِالصِّيَامِ وَذَاكَ بِإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ اخْتِلَافُ حَالِ الشَّخْصَيْنِ فَأَدَّى كُلٌّ وَاحِدٍ مَا سَهُلَ عَلَيْهِ .

أقُولُ: وَلَنَا أَنْ نَضْرِبَ لِلْمَسْأَلَةِ مِثْلَ عَامِلَيْنِ يُرْسِلُهُمَا الْمَلِكُ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ إِلَى وِلَايَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا تَصْدِيقُ الْآخَرِ وَنَصْرُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُتَّفِقَيْنِ فِي الْأُصُولِ الْعَامَّةِ لِلسَّلْطَنَةِ أَوْ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ بِالْقَانُونِ الْأَسَاسِيِّ، وَمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ الْوِلَايَتَيْنِ اخْتِلَافٌ فِي طِبَاعِ الْأَهَالِي وَاسْتِعْدَادِهِمْ وَحَالُ الْبِلَادِ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ كَأَنْ تَكُونَ الضَّرَائِبُ قَلِيلَةً فِي إِحْدَاهُمَا كَثِيرَةً فِي الْأُخْرَى، وَكُلٌّ مِنَ الْعَامِلَيْنِ يُؤْمِنُ لِلْآخَرِ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعَمَلِهِ، وَكَذَلِكَ يُؤْمِنُ كُلٌّ مِنَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الْآخَرُ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي الْأُصُولِ دُونَ جَمِيعِ الْفُرُوعِ. وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُنْسَخَ مَا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ آخَرَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ.

وَأَمَّا إِذَا بُعِثَ الرَّسُولَانِ فِي أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُمَا يُكُونَانِ مُتَّفِقَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَنْسَ مُوسَى وَهَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَأَمَّا مَجِيءُ النَّبِيِّ بَعْدَ النَّبِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ مُعْظَمَ فُرُوعِ شَرْعِهِ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ لَكَ مَعْنَى تَصْدِيقِ نَبِيِّنَا بِالْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَلِمَنْ جَاءُوا بِهَا مِنَ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ شَرْعُهُ التَّفْصِيلِيُّ مُوَافِقًا لِشَرَائِعِهِمْ، وَلَا أَنْ يُقِرَّ أَقْوَامَهُمْ عَلَى مَا دَرَجُوا عَلَيْهِ.
"-تفسير المنار- 
« آخر تحرير: 2021-01-01, 10:29:45 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
طيب.. وهل يقتصر هذا الميثاق على الأنبياء ولا يتعدّاهم ؟
الجواب على هذا السؤال هو ما سأرقمه ضرورة ثانية :

ثانيا/ ضرورة تعليم النبي لقومه بِعْثة غيره ووجوب الإيمان بهم:
إنّ توفية الأنبياء بهذا العهد لا تقتضي أن يصدّق كلّ منهم بالنبيّ الآخر وينتهي الأمر، إذ أنّ الأنبياء وهم أكثر عباد الله علما بالله وطاعة لأمره لن ينكص أحدهم عن الطاعة ولن يرتكس وهم وعاء الأرفع من الخُلق والأخلص من العبادة. الأمر لا يقتصر على ما بينهم بل إنّنا لو دققنا لعرفنا أنّ في : " وَلَتَنصُرُنَّهُ " والتي معناها نصر النبيّ على أعدائه، وما أعداؤه إلا الذين كفروا به وبدعوته، تتضمّن معنى أن يبلّغ ذلك النبي الناصر قومَه عن النبيّ المنصور، أن يبلّغهم أنه نبي من الله وأنه مصدّق لما معه، وأنه وهو على دعوة واحدة وعلى دين واحد، وأنّ عليهم أن يؤمنوا به هو أيضا وأن ينصروه .

ثم نستكمل ما بقي من الآية لنتبيّن ثنائيّة غاية هذا الميثاق الذي أخذه الله على أنبيائه، بأن يكون:
1- عهدا منهم لله أن يصدّق بعضهم بعضا وينصر بعضهم بعضا.
2- وأن يكون من توفيتهم بهذا العهد وهذا الميثاق أن يبلّغوه لأقوامهم ...
لننظر سويا في قوله بعدها:" قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ "
هذا الله تعالى يسأل أنبياءه بعد أخذ العهد عليهم : " أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي "
والإصر في اللغة هو الميثاق الثقيل المؤكّد ومنه الإصار وهو الذي يُعقَد به، فهو زيادة تأكيد على الميثاق بـ :

1- سؤالهم الإقرار بأخذ العهد وتوثيقه :" أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي "
2- فأجابوا : " أَقْرَرْنَا " لقد أقرّوا التوفية بهذا العهد، وهم أولى وأحقّ وأصدق من يوفّي ... 
3- فقال سبحانه :" فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ" : ومع هذا المقطع من الآية تحديدا يتبين ما كُلِّف به الأنبياء من تبليغ هذا الميثاق، وجَعْلِه ميثاقا متعدّيا من ميثاقهم مع الله تعالى إلى ميثاق بينهم وبين أقوامهم، بأمر الله تعالى لهم : " فَاشْهَدُواْ " . أستحضر في هذا قول الله تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا "-الأحزاب:45-، وقوله أيضا : "إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولًا"-المزمّل:15- "مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ  وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ..." –المائدة:من117-

أمرُ الله لهم بأن يشهدوا هنا يتضمّن أخذ الأنبياء على الناس ميثاقا بضرورة أن يؤمنوا بالنبيّ اللاحق، والشهادة على مدى توفيتهم به . وعلى هذا جاء كل أنبياء الله دعاة للتصديق بمن يأتي بعدهم، كما عرفنا مثلا ما جاء من ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة." إِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ" –الصف:06-
"الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"-البقرة:145-

أمِروا أن يشهدوا على أقوامهم، والله معهم شهيد عليهم، شهيد لا تنقطع شهادته ما بقيت الدنيا، ويوم تقوم الساعة. شهيد على من أدّى ومن لم يؤدّ، على من وفّى ومن لم يوفِّ من الذين بُعث فيهم الأنبياء .
وبالتالي فإنّ أهل الكتاب مخاطًبون بهذا، وهم الذين أبلغهم رسلهم وأنبياؤهم هذا الميثاق وأخذوا عليهم العهد أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وتأتي الآية الموالية مؤكّدة لتعدّي هذا الميثاق وثنائيّة غايته في قوله تعالى : فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(82)
الذين يتولّون عما أبلغهم أنبياؤهم من ضرورة التصديق بغيرهم من الأنبياء ونصرتهم، أولئك هم الفاسقون الذين مرقوا وخرجوا عن الدين بخروجهم عن التوفية بهذا العهد، وبنكرانهم لهذا الميثاق .

و قبل أن ننهي مع هاتين الآيتين أحب أن أتعرض لتساؤل مَن يتساءل عن مضيّ النبيّ، فكيف تُتصوّر منه النصرة لنبيّ يأتي بعده ؟

يقول في ذلك أبو زهرة : "إن تصور الإيمان منهم ممكن باعتبار أن الله تعالى مخبرهم بمبعثه، ولكن النصرة غير متصورة، والجواب عن ذلك: أن الكلام بالنسبة للأنبياء فرضي، وبالنسبة لأتباعهم واقعي؛ وكان المراد أن هؤلاء الأنبياء لو كانوا أحياء في عهد الرسول الذي يجيء مصدقا لما معهم، لآمنوا به، ولاتبعوه ونصروه وآزروه، لأن ذلك ميثاق الله الذي ربط النبوات بعضها ببعض، فهي متلاقية عند غاية واحدة، وإذا كان النبيون لَا يفرض فيهم إلا ذلك فاتباعهم يجب عليهم أن يفعلوه إن كانوا متبعين لهم."-زهرة التفاسير-
لقد أحببت الإسهاب في الآية السابقة، لأنّ فيها عن العهد والميثاق الأعلى في هذه الدنيا، بل الذي على أساسه قامت الدنيا، ولأجل التوفية به  جعل الله الإنسان في الأرض خليفة.
فخلُصتُ إلى أنّ هذا الميثاق أخذه الله على أنبيائه، وفيه أخذ الأنبياء له على أقوامهم تعدّيا، وأنّ كل نبي شهيد على مَن بُعث فيهم، والله شهيد على كل الأقوام... وأنّ من تولّى عنه إنما هو من الفاسقين المارقين عن رسالة الله إلى عباده وعن دعوته لهم .

منها نخلُص إلى أنّ دين الله واحد، ودعوة الأنبياء واحدة ...
**بدءا بدعوة أهل الكتاب إلى الكلمة السواء التي جاء فيها إفراد الله بالعبادة وألا يُشرك به أحد، وألا يَتّخِذ بعض الناس أو بعض الفرق بعضا أربابا من دون الله. (64)
** ثم إلى بيان براءة إبراهيم عليه السلام من نصرانية ومن يهودية ومن إشراك وأنه الحنيف المسلم(67)
** ثم إلى نفي دعوة الأنبياء مدعوّيهم إلى عبادتهم أو إلى عبادة نبي منهم من دون الله (79-80)
** وصولا إلى هاتين الآيتين الأخيرتين (81-82)
« آخر تحرير: 2018-11-30, 14:27:49 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
دعوة واحدة بها جاء الأنبياء جميعا، إلى الكلمة السواء، إلى الإسلام ... ولقد دُعي أهل الكتاب إليها، ولقد علّم الله نبيّه والمؤمنين أن يقولوا والعزّة تملؤهم لمن تولّى عن الدعوة إليها : "اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون" ...

ولقد برأ الله الأنبياء من تقولات المتقوّلين عليهم أنهم جاؤوا ليدعوا لعبادتهم من دون الله، أو لعبادة واحد منهم...

ولقد أطلعنا الله على نورانية الميثاق الذي كان بينه وبين أصفيائه صلوات الله وسلامه عليهم، وكيف أنه الميثاق ذو الغاية الثنائية، فهو يتعدّى إلى ميثاق بين الأنبياء وبين مدعوّيهم ...

بأن يؤمنوا بكل الأنبياء، وخاتمهم جميعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أقرّ كل الأنبياء فآمنوا به، ودعوا أقوامهم للإيمان والتصديق به ... فمن تولّى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ...

والآن ... ها هو الله تعالى يزيد في تفصيل عن هذا الإيمان وهذا التصديق، ينتقل بنا درجة إثر درجة حتى يبلّغنا سنام الأمر كله ... فلتشرئبّ أعناقنا لنرى ما سيلوح في الأفق القريب ....

أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(83) قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(85)

هؤلاء الفاسقون، الذين تولّوا عن ميثاق الله تعالى، عن الميثاق الذي أخذه الأنبياء عليهم وقد أقرّوا هُم وأخذوا إصر الله عليه ... هؤلاء المارقون ... عمّ يبحثون ؟؟ ماذا يرومون ؟

5- أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(83)
استنكار من العليّ سبحانه، استنكار لما هم عليه من الإعراض والظلم لأنفسهم، والظلم لغيرهم بإصرارهم على باطلهم وبسعيهم لنفث سُمِّه الناقع بين الناس ...

ماذا يريدون ؟؟ أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ  ؟!... 

أجل... إنهم يريدون أديانا من صنع أخْيِلتهم ومن اختلاقهم، تماما كما ألّهوا عيسى عليه السلام، وكما ادّعوا أنه ابن الله، وكما قالوا أن الله ثالث ثلاثة لا واحد ... وكما عبدوا الحجر والشجر والخشب والنار، وكما عبدوا الملائكة، وجعلوا بين الله وبين الجنّة نسبا وصهرا... وكما ما يزالون إلى يومنا مارقين، يصنعون بوذا من ذهب ويُلبسونه الحُليّ والدّباج وينثرون عليه الورود، ويبنون له القصر المشيد، ويشعلون الشموع من حوله، ليدخلوا فيسجدوا بين يديه الذهبيّتَين خاشعين ساكنين... ! 

وتماما كما يعبدون البقر! فهي المُبجّلة في الطرقات المقدّمة على البشر ...

وكما يعبدون الفئران والجرذان...! وكما يعبدون صورة لرئيس بين الرؤساء العُدول الأسوياء!!! وأنّى لسويّ أن يأمر فيُسجَد له من دون الله ! ... وكما يعبدون ما يُسمّى وما نستحيي أن نسمّيه ... !! كلها آلهة يقدمون لها آيات الطاعة والولاء ... !

لكَم جَهول هو الإنسان ....!! أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ  ؟!... 
دين الله، هذا الذي عرفنا أنه دين كل الأنبياء، أنه الكلمة السواء، أنه الذي جاء الأنبياء يصدّقون به بعضهم بعضا، هذا الذي جاؤوا جميعا دعاة إليه... إنه الإسلام ...

ونُسب إلى الله تعالى نسبة تشريف وتعظيم لمقامه ...
الله الذي : وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
من في السماوات والأرض، كلهم أسلموا لله ... هكذا بهذا التعبير، أسلموا له، وكذلك جاء اسم دين الله: "الإسلام" ... التسليم  والخضوع الكامِلَين له، والائتمار بأمره وطاعته وحده (أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ) وألا يُتّخذ من دونه إله ولا معبود (وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) ولا يُتّخذ ربّ من دونه (وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ) .  فإما هذا وإلا فهي الأهواء، إما هذا الحق، وإلا فهو الباطل .

كل من في السماوات والأرض أسلم لله طوعا وكرها، فأما من في السماوات فعمومهم وهم الملائكة الذين لا اختيار لهم بين إيمان وكفر، كلهم أسلموا لله طوعا، وأما من في الأرض فمنهم من أسلم طوعا بإرادته المختارة بعد تبيّن الأدلة لعقله، وبقي منهم من أسلم كرها ...

فكيف تُراه يكون إسلام الكره ؟

هو ليس الإسلام تحت سطوة السيف كما قال به عدد من المفسّرين، لأنه حتى على افتراض صحّة ذلك، فإنّ من سيسلم بفعل الخوف من حدّ السيف لن يحقّق عموم :"من في الأرض"، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن حروب الإسلام لم تقم ليدخل الناس في الدين كرها، بل لوضع حدّ للمتصدّين لدعوة الله ولإقامة دين الله، وللذين يمنعون مَن اختار الإسلام من اعتناقه . ولم ينتشر الإسلام يوما بحدّ السيف كما يروّج لذلك المغرضون من أعداء الإسلام في كل زمان، ولو أن العاقل أعمل عقله لوجد أنّ البلاد التي فُتحت للإسلام لا يستقيم أن يبقى فيها نصارى أو يهود -وهو ما  نعرفه إلى يومنا فيها- على اعتبار هذه الضلالة من القالة  .

أسلم له سبحانه من في السماوات والأرض طوعا وكرها ... كيف لنا أن نفهم هذا ؟ ...

فهل للكافر اختيار في قهر المرض له ؟ من ذا الذي يُمرضه ؟ هل له اختيار أمام الموت ؟ من ذا يُميته ؟ من يستطيع أن يعارض مشيئة الله تعالى بقبض روح فلان أو علان في الحين الذي حدّده الله سبحانه نهاية لأجله، من ذا سمّى أجلَه وحدّده ؟هل له اختيار في سريان الأقدار وما يجري عليه وعلى الكون كله ؟ من له القدرة على تسيير الأقدار وتسخير الأسباب ؟ من ذا يتحكّم بما يكون وبما سيكون ؟ من ذا يعلم من أمره ما سيُقبِل ؟ بل من علم بما استدبر منه إلا ساعة أن وقع ؟!

أليس كل هذا إسلاما لله تعالى من المؤمن والكافر  ولو كره الكافرون ؟!

فإسلام الكره هنا متعلق بالتكوين والإيجاد والإعدام أكثر من تعلّقه بالتكليف.

ولقد أعجبني كلام للفخر الرازي أنقله : "أن كل ما سوى الله سبحانه ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه فإذن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه، وهذا هو نهاية الانقياد والخضوع، ثم إن في هذا الوجه لطيفة أخرى وهي أن قوله {وله أسلم} يفيد الحصر أي وله أسلم كل من في السماوات والأرض لا لغيره، فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه ولا يفنى إلا بإفنائه سواء كان عقلا أو نفسا أو روحا أو جسما أو جوهرا أو عرضا أو فاعلا أو فعلا، ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والأرض} (الرعد: 15) وقوله {وإن من شىء إلا يسبح بحمده} (الإسراء: 44). "-مفاتيح الغيب-

وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ  ... إليه سبحانه الرجوع، والرجوع إليه سبحانه من قهره لعباده، كما يقهرهم جميعا بما ليس لهم فيه اختيار، بالموت، ثم بامتثالهم بين يديه ليحاسبهم .

إنه دين الله، الإسلام لله ... الكلمة السواء ...

وعلى هذا ... فقل يا محمد ... قل ما الله به آمرُك ... تلقّنه ولقّنه ...
قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(84)
ها هو التلقين الإلهيّ لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأتباعه ...

ها هو الهُدى الذي من عنده سبحانه... ها هو الإيمان الذي عرفناه من قريب في الآيات السابقة، إيمان النبي بما يُؤتاه نبي غيره، هذا هو الميثاق الذي أخذه الله على أنبيائه، من هذه الشاكلة هو تلقين الله تعالى لكل أنبيائه هذا الميثاق ... من شاكلة التلقين الذي في هذه الآية ...  ولقد عرفنا أنه الميثاق المتعدّي، فلا ينحصر في الأنبياء وحدهم، بل يمتدّ إلى المدعوّين ...

« آخر تحرير: 2018-11-30, 08:31:36 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
فلــــــــــــنتأمل ....

قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا

لم تأتِ : "قل آمنتُ بالله وما أنزِل عليّ"  ... بل جاءت على صيغة الجمع، مبيّنة انصهار النبي صلى الله عليه وسلم في جماعته، عن دوره معهم، وعن رسالته إليهم، عن قيادته لهم إلى هدى الله، فهذا الأمر بالقول له بصيغة المفرد، ثم ما تفتأ أن تنقلب الصيغة جمعا ...
هكذا هي رسالة النبيّ، أن يعلّم الناس، أن يكون رائدا لهم على طريق الهُدى ...
وكأنّ استجابته لأمر: "قُلْ" من الله هي أصلا استجابة جماعته، استجابة الناس : " آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا" ...
ها هو صلى الله عليه وسلم يُلقَّنهم بنود الميثاق، ها هو يقرّ أنه قد آمن بما أنزل على غيره من الأنبياء، مع الإيمان بما أنزِل عليه، بل ويعلّمه من توّه ومن فوره المؤمنين ليجيبوا به، وليستجيبوا له، وليوفّوا به أيضا بالتعدّي ...
وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ

هذه الآية تشبه إلى حدّ كبير التي في البقرة، إلا أن هذه جاءت بالإنزال "على"، وتلك جاءت بالإنزال "إلى" : قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ "-البقرة:136-
يقول اللغويّ الدكتور فاضل السامرائي عن الفرق بين "على" و"إلى"  أنّ "على" للأمور المستثقَلة، تأتي بمعنى الاستعلاء، :" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ " "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ" "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا"-المزمّل:5- 

فعندما يكون المبتغى هو بيان التبليغ كمهمّة مسنَدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الإنزال بـ: "على" من مثل قوله تعالى : "ومَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ... "
بينما عندما يكون الأمر خاصا به صلى الله عليه وسلم وحده، تأتي بـ "إلى" من مثل قوله تعالى: " إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ  "-الزمر:02-

ونلاحظ هنا أنّ التلقين مردِف للميثاق العظيم الذي أخذه الله على أنبيائه، ووجب أن يأخذه الأنبياء على أقوامهم. فالمقام بيانٌ لما على المؤمنين من توفية بعهد الله الذي هو أمر الله وتكليفه،  فالإيمان بما أنزل الله يجب أن يكون إيمانا بعمل، يصدّقه العمل توفية لما أمر الله وقياما بما كلّف سبحانه.

وتُختتم الآية بقوله سبحانه :
لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
يتأكد بهذا المقطع من الآية الإيمان الحق، والذي هو إيمان أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، لا يفرّقون بين أحد من الأنبياء، كلهم عندهم سواء، جاؤوا بالكلمة السواء... كلهم اصطفاهم الله، وبعثهم الله، واختارهم لتأدية الرسالة، وللتبليغ عنه ولهداية عباده .

وتمام كلام الجماعة المؤمنة :" وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ "... نحن لله مسلمون ...كما أسلم له سبحانه من في السماوات والأرض طوعا وكرها ... نحن أولاء مسلمون له طوعا ...
إسلام...انقياد... طاعة... عمل بأمره الذي يأمر، عمل بالتكليف الذي يكلّف به سبحانه عبادَه.
وهكذا، ونحن نتقدّم مع الآيات، ببيان وحدة الدين عند كل الأنبياء عبر كل الأزمنة، ووحدة الدعوة، ووحدة الرسالة السماوية يتدرّج الله تعالى ليبلّغنا معنى "الإسلام" ليبلّغنا الاتصاف بصفة الإسلام، ليبلّغنا بنود الإسلام ...

ابتُدئ أولا: بما يوافق ما عليه أهلُ الكتاب من افترائهم على عيسى عليه السلام، وتبرئته مما نسب إليه من دعوة لعبادة غير الله، وثانيا: ببيان دأب كل الأنبياء على الدعوة لله وحده، ثم ثالثا: الميثاق ثنائيّ الغاية، وصولا إلى: إعلان الإيمان بكل ما جاء به الرسل مجسّدا للإيمان بالدين الواحد الذي بعث به الله كل أنبيائه... وذلك هو الإسلام حركة في الحياة تترجِم تصديق القلب.

ولا أنفكّ مذكّرة بدأبنا في حنايا الآيات وفي تطوافنا بها أننا نتتبّع الترابط، ونراقب عن كثب إن كان كائنا أم أنّنا نتكلّفه  ... فإذا نحن في سورة محورُها التثبيت ... وإذا الله تعالى علّمنا عوامل الثبات وسبيل الثبات متدرّجا معنا :

** أنه الحيّ القيوم الذي لا إله إلا هو العزيز الحكيم .. (02)

** أنه الذي يصوّر في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم(06)

** أنّه الذي نلجأ إليه سائلين التثبيت على الهُدى الذي عرّفَنَاهُ في سورة البقرة (08)

** أن الهزيمة النفسية من قوة الكافرين من أهم دواعي الضعف وعدم الاعتزاز بالدين (10)

** أن الشهوات والشبهات معيقات على طريق الثبات، فيعلمنا الله طريق الخلاص من إسارها (14)

** ومن طرق التثبيت التزويد بالمقوّمات اللازمة وأولها أن الدين عند الله الإسلام "إنّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ..." (19)

**  أن من أوجه الاعتزاز بالدين إعلان الإسلام لله أمام كل محاجّ وإن كان حائزا لأقوى أسباب الدنيا : "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ..." (20)

**  أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من تمام طاعة الله ومن موجبات حبّه سبحانه لعبده. "قلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ..."(31)

**  أن القصص الحق والنبأ اليقين بشأن عيسى عليه السلام ميلاداً ورسالةً وخروجاً من الدنيا هو ما قصّه الله تعالى علما يعلمه المؤمنين ليكونوا على بينة من الحق، فلا يغتروا بتقولات أهل الكتاب وأكاذيبهم، ولا يضطرب إيمانهم ولا يتزعزع يقينهم، وليتبيّنوا أن الأنبياء دعاة لله وحده . وكلهم على الدين الواحد "قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" (52)

**  أن الدعوة من المسلمين إلى أهل الكتاب قائمة على أن الكلمة التي تسوي بينهم هي : "ألَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ"  وأما التولي عنها فهو تولٍّ عن الإسلام "فإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" (64)

**  أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا مشركا : " ولَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"(67)

** التقدمة لمعنى الميثاق الذي بين العبد وبين ربه ووزن التوفية به: " بلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ "  (76) "إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ..." (77)

** تبرئة الأنبياء من الدعوة لغير الله "...أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ" (80)

** الميثاق الذي أخذه الله على أنبيائه وتعديته تبليغا من الأنبياء ليصبح ميثاقا للأنبياء على أقوامهم " أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ" (83)

** إعلان إيمان المسلمين بكل الأنبياء وعدم التفريق بين أحد منهم وأنّ الإيمان بهم وبما جاؤوا به هو تجسيد عبادة الله وحده وطاعته وعدم الإشراك به وعدم اتخاذ رب من دونه "...لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " (84)
« آخر تحرير: 2018-11-30, 14:30:04 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
فلنتأمل ورود "الإسلام" بمشتقاته فعلا واسما وصفة خلال هذه الآيات ... فإن دلّ ذلك على شيء، فإنما يدلّ على تمام بيان وحدة الدين عند كل الأنبياء وأنه الذي يقبله الله، وأنّ مقتضاه الإيمان بكل الأنبياء وبكل ما أنزل عليهم وبكل ما أوتوه .

وعلى هذا يقرّر الله تعالى في الآية الموالية أنّ :

وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(85)
لأن الدين عند الله الإسلام ... الإسلام الذي عرفنا أنه الكلمة السواء: " ...أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ" ، وعرفنا عيسى داعيا إليه: " إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ  هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ" ، وعرفنا إبراهيم داعيا إليه ومُتّبَعاً عليه: " إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا  وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ"
بل وعرفنا أن كل أنبياء الله تعالى صلوات الله وسلامه عليهم جميعا عليه وعلى الدعوة إليه : "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ  قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي  قَالُوا أَقْرَرْنَا  قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ".
وعرفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم داعيا إليه : "...وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"

وهو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين:"مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ  وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا"-الأحزاب:40- .

وهو الذي جاء بالكتاب المصدّق لما جاء في الكتب السابقة، المهيمن عليها: " وأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ..."-المائدة:من48- المحفوظ من ربّ العزة: "إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"-الحجر:09-

والإسلام الحق الذي لا تحريف في كتابه ولا تبديل هو ما عليه صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الذي جاء كل الأنبياء مصدّقين به، وجاء ذكره في كتبهم، وقد أمّهم جميعا ليلة الإسراء والمعراج. ولذلك فإن ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عليه المسلمون هو ما يجب أن يُتَّبَع .

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ مَثَلي ومَثَلَ الأنبياءِ من قبلي ، كمَثَلِ رجلٍ بنى بيتًا ، فأحسَنه وأجمَله إلَّا موضِعَ لبِنةٍ من زاويةٍ ، فجعَل النَّاسُ يطوفونَ به ، ويعجَبونَ له ويقولون : هلَّا وُضِعَت هذه اللَّبِنةُ ؟ قال : فأنا اللَّبِنةُ ، وأنا خاتمُ النَّبيِّينَ"-صحيح البخاري-

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "جاء عمرُ بجوامعَ من التوراةِ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال يا رسولَ اللهِ جوامعَ من التوراةِ أخذتُها من أخٍ لي من بني زُرَيْقٍ فتغيَّرَ وجهُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال عبدُ اللهِ بنُ زيدٍ الذي أُرِي الأذانَ أَمَسَخَ اللهُ عقلَكَ ألا تَرَى الذي بوجهِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال عمرُ رضينا باللهِ ربًّا وبالإسلامِ دينًا وبمحمدٍ نبيًّا وبالقرآنِ إمامًا فَسُرِّيَ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ثم قال والذي نفسُ محمدٍ بيدِه لو كان موسَى بينَ أظهرِكم ثم اتبعتموهُ وتركتموني لضللتمْ ضلالًا بعيدًا أنتم حَظِّي من الأممِ وأنا حَظُّكُمْ من النبيينَ"-السلسلة الصحيحة-

« آخر تحرير: 2018-12-13, 07:56:42 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
والآن ... لم يبقَ الكثير من قطاعنا (64-99).. إننا نشرف على نهايته ...
ولقد تبيّن لنا الكثير مما سلف...

قطاع علّمنا هذه المرة أحوال أهل الكتاب. تارة بخطابهم، وتارة بالإخبار عنهم، وتارة باستنكار ما هم عليه، حتى بلغْنا بمنهجيّة وبتدرّج بديعَيْن ليسا إلا من إله عليم خبير حكيم أن الدين الذي يقبله الله تعالى هو الإسلام، لا دين غيره، لا شيء مما يدعيه أهل الكتاب في كل زمان بَلَهْ ما يدّعيه غيرهم من أصحاب الديانات البشرية الوضعية والوثنية، ومما يهذي به غيرهم من أصحاب الأهواء وإنكار الله جملة وتفصيلا ...

هذا زمان نعيشه... كل هذه الأصناف تعترض طريقنا ... بما يحملون من فساد اعتقاد، كلهم يسعى لنشر فساده، منهم من يحسب أنه يحسن صنعا، ومنهم مَن يعلم أنه الباطل وأنه الهُراء ولا يرنو إلا لتعميم الفساد ولإبعاد الناس عن هدى الله ...
وعلى هذا نعرف عن كثب مع ما نُلامِس من حياة وحركة في الآيات الدورَ العظيم لهذه السورة ... نسمع يوميا عن شُبهات قديمة تتجدد وأخرى من ابتكار المتأخرين، موضة الشبهات تلقي بأحابيلها صباح مساء في ظلّ التواصل العالمي الذي صيّر الأرض كرة صغيرة لا يلعب على سطحها لاعب إلا وسُمِع للعِبِه صوت ... !

ومع كثرة الأصوات وتعاليها واختلاطها، ومع تنادي الناعقين بالأهواء المطوِّحة، أنّى للمؤمن أن يعيش في معزل عن مقوّمات الثبات، وعوامل التثبيت ؟!
أنّى للمؤمن أن يقول آمنتُ وهو آمِنٌ من كل فتنة ؟!

أنّى للمؤمن أن يكون على الهامش بدينه وبالحق الذي أوتيَه، وأن يكون فريسة بين الفرائس السهلة في غابة من السّباع الأكَلَة التي تتصارع لا على شيء إلا على ما تأكل وعلى ما به تسود ؟! فيسهل على الأسد فيها أن يُبرِز أنيابه لا أكثر ليظنّ به الحمقى ابتساما!!

ونعود إلى مزيد علم من علم الله تعالى، علم اليقين، علم الحق، علم الهُدى والتثبيت على الهُدى...
كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(86) أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(87) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ(88) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ(89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ(90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ(91)

6- بعد كل هذا العلم من الله، بعد كل هذا البيان وهذا التمييز بين الحق والباطل، بعد كل هذه المحاجّات العقلية، والمواجهات المسفِرة لأهل الكتاب، ماذا يبغي مَن لا يُذعِن ؟!
ماذا يبغي من يتولّى مصرّا مستكبرا ؟! أين يجد الإنسانُ نورا يهديه كهذا النور الإلهي الهادي؟ ماذا يريد مَن يُعرض عن الهداية ويأبى إلا أن يسير معتما مظلما ؟!
ولقد قالها سبحانه : "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ"
هذا ما يبتغيه المُعرض عن الحق الواحد الذي هو في هذا الكتاب المبين ... وعلى هذا يأتي بعدها مباشرة ما يوضّح أكثر أن ابتغاء غير الإسلام يعني الكفر، إنه الاستفهام الاستنكاري الإلهي من رب العزة : كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
لنتأمل تعدّد وبُعْد أطراف هذه الآية، ولقد تحدّث المفسرون عن معنيّين بها، ولكنهم غفلوا عن بُعْد جوهري وبالغ الأهمية فيها، سأجعله

أولها جميعا بين ما أرقُم أدناه :
« آخر تحرير: 2018-12-04, 09:02:28 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
أولا : إنها تخاطبنا... تخاطب مسلم اليوم...

لندقّق في "مسلم" ... حيث أننا ومع خطواتنا قد تقدّمنا وصرنا نفهم جيدا ونعي أنّ هذا الإيمان هو الإيمان الذي عليه المسلم لا أحد غير المسلم ...
المسلم الذي عرفنا فيما سلف أنه الذي أُمِر من رَبِّه أن يُعلن مع نبيّه عن إيمانه بالله وبما أنزل عليه، وما أنزل على الأنبياء من قبل صلوات الله وسلامه عليهم، وبأنّهم جميعا جاؤوا بدعوة واحدة لا ثاني لها، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، وألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ...  الدين الذي عليه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين  والذي عليه أصحابه وأتباعه ...

مسلم اليوم يخاطبه الله تعالى، ويستنكر عليه أن يكفر بعد إيمانه الذي أعلنه، وبعد شهادته أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق وبعد ما جاءه من البينات، هذه البينات التي هي كالنجوم الهادية تصطفّ لنا واحدة تلو الأخرى في معرِض خطواتنا على دربنا هذا ...
 
مسلمو اليوم الذين لا يخلو بيت كل واحد منهم من مصحف بين دفّتَيْه هذا النور وهذا الهُدى العظيم ..

مسلم اليوم الذي عالج كتابُ الله تعالى أحوالَه المتقلّبة على الأرض وعبر الأزمنة المختلفة وصولا إلى زماننا هذا، ففَحْواه يوائم كل المواءمة ما يعترضنا، ما نستشفّ منه أنه العلم الإلهي العظيم المحيط بكل ما كان وبما هو كائن وبما سيكون ... فعرّفه سبحانه بأعدائه، وعرّفه بنواياهم، وبباطلهم وبدأبهم على إضلاله ...

مسلم اليوم الذي نعرف مع بدايات هذه السورة كيف يعلم عنه ربُّه مدى تمكّن الهزيمة النفسية منه وهو يرى علوّ أهل الباطل وتهاوي أهل الحق والحق معهم وهم ليسوا معه ...!

مسلم اليوم وهو ينبهر ويؤخذ بأسباب الدنيا التي سخّرها الكافر وجعلها طوع يمينه على كفره، ويظلِم ولا يُنصِف وهو يرى السبب في تقهقره وتأخره دينه لا هو ولا تقاعسه ! يرى السبب في تأخّره دينه لا سوء فهمِه لدينه...!

مسلم اليوم الذي يتذمّر من حاله ومن تنكّبه عن ركب الحضارات، فيجعل من الدين مِشْجبا يعلّق عليه أخطاءه وارتكاسه ...!
مسلم اليوم الذي لا يعرف من قرآنه إلا أنه الكتاب السماويّ المقدّس، فمن يجوّد حروفه كثيرٌ ما هم ... وكثير كثير من لا يعرف منه إلا النزر القليل حفظا لا فهما ووعيا وتشربا لمعانيه وعيشا بها ...

اليوم والأرض مفتوحة على مصراعَيها، كل ما عليها في حينه مسموع منظور...
وهذه الشبهات التي يلقيها أهل الباطل بكَلّهِمْ وكَلْكَلهم ألوانا وأشكالا، وهذا الطعن في مقدّساتنا صار مضغة أسنان بني الإسلام أكثر مما هو مضغة غيرهم ... طعن في السنة، وطعن في الصحابة، وطعن في صحة ما وصلنا من صحيح الحديث ... طعن في الأصول بدعوى الموروث والتمرّد على الموروث ... وبدعوى العقل وإعمال العقل، وما هو إلا إعمال الهوى وشطحات الهوى والانسياق خلف كل ناعق يُبهِر ويغرّر بالتجديد وبالعقل وبسيادة العقل، والعقل من كل تلك الشطحات براء ... والعقل أكثر ما جاء القرآنُ يستنهضُه ويستنفره ليعمل وليس عن الإسلام غريبا ليأتي من ينصره اليوم نُصرة مكذوبة تُطيح بالأصول وتستسهل الطعن فيها بانحياز للحرب عليها لا بنظر وبإعمال فِكر ...

وكل هذه الانسياقات، وكل هذا الضعف والشحّ في المؤونة من أكبر مقدّمات تخلي المؤمن عن دينه، وتشبّثه بعرض الدنيا الزائل بديلا عنه !
إنّ هذه الآية تخاطب المسلم اليوم... المنبهر، المنهزم نفسيا، ضعيف الحجة في دينه، فاقد الهويّة ومضطربها... ولقد أعرض المفسرون عن هذا البعد في الآية، وهو واحد من أهم أبعادها، ونعايشه في زمنٍ حالُ شبابِ المسلمين فيه كحال المتفرّج على زهرة الدنيا تتفتح بين أيدي غيرهم وتغدق عليهم بألوانها، يُشبعون شهواتهم كيفما كان من غير رادع من دين ولا من خلق، فيرنو المتفرّج لِما يستمتع به الآخر، ويرى نفسه المحروم المكبوت الذي يحكمه الدين فهو حابسُه عن هوى يصبح به وعن شهوة يمسي فيها ... 

هؤلاء من السهل جدا أن يبيعوا دينهم... وإنّا لنغتمّ في كل حين بأخبار شاب مسلم من هنا ألحد وقد غدا يرى نفسه الحرّ المتحرّر من كل قيد، أو العقلانيّ الذي لا يؤمن بإله آمرٍ ناه،  وتَلُوح لنا علامات من شاب آخر هناك تنذِر بشكّ يسكنه ليس شكّ الباحث عن الحقيقة بل شكّ ضعيف المؤونة شحيح الزاد الذي فعلت فيه شبهة قرأها على النّت فعلها فجعلته متخبطا تائها مسوقا لبحر من الشبهات متلاطم الأمواج تهزّه موجة وتُلقي به أخرى، حتى لم يعد يعرف من نفسه قرارا، وصار نَهب الشكوك التي ضيعته وضيّعت دينَه ... !

ونُفجَع بآخر يخوض مع الخائضين فهو المتحرر من الموروث ومن المُملى عليه، يعارض أصول الدين وينتقدها، لا يريد إلا الهوى دينا وحاكما  ...
وحدّثْ عن المتصدّرين لصفحات التواصل الاجتماعي ولا حرج وهم قد صاروا المفتين والمُلقين بالخلط والخبط على أنه تحرّر العقل ونظر العقل في الدين، وليته كان حقا...!

فأيّ عجب في أن يُستخدم العقل مع الدين ؟! بل هو اللامنطق والهوى والكذب في شكل تقريرات ومراسيم من رسمهم يُضفون عليها صبغة التحرّر، والمتابعون المصفّقون أعداد وأعداد، وكلّهم لا يكلّف نفسَه عناء النظر في قرآنه وفي سنة نبيّه نظر الباحث المتدبّر المتأمل المتبحّر، ولكنه يجد سهلا ومُحبّبا أن يتجرأ متجرّئ ويحمل راية النقد العشوائية الناسفة للأساسات والقواعد، وأنّى لمثله أن يكون تصفيقه عن وعي وهو لا يعرف عن المطعون فيه شيئا ... ؟!

وكم انقلب حال كثيرين من النقيض إلى النقيض، ناصبوا السنة العِداء وتنادوا بالانتساب للقرآن وحده حاملين شعار تصفية الدين من الأكاذيب والخرافة ... ! وكأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أبكما لا يتكلم ! منعزلا لا يُخالِط ! 

وغيضٌ هذا من فيض الشبُهات المقدِّمة للتخلّي عن الدين في نفوس من وجدت فيهم مرتعا وملعبا  ...

فـ : كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

أبَعْد كل هذا البيان، وكل هذا العلم وبعد بديع هذا النظم والتدرج والمنهجية أيها المسلم تكون أول من يغفل عن كتابك ؟ تكون أول من يزهد في تعلّم مقوّمات الثبات على درب حياتك ؟ أبَعْد أن جاءتك كل هذه البينات ؟؟ !

ظلموا أنفسهم بتركهم الحق ساطعا بين أيديهم وحُسبانهم أنفسهم أبطالا تحرّروا من إسار قيد عظيم...!

ظلموا غيرهم بأن أحبوا لهم الوقوع كما وقعوا، وأوقعوهم ...

ظلموا دينهم بأن جعلوه سبب التأخر ...

ظلموا هذا الكتاب العظيم الذي ينير في العتمات، وما عرفوا حفرا للظّفر بكنوزه النفيسة ...
« آخر تحرير: 2018-12-04, 09:12:33 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ثانيا : وكعادة روعة القرآن وتعدّد محامله، تعني الآية أيضا أهل الكتاب ومناسبٌ هذا كلّ المناسبة ونحن بصدد أحوالهم.
أعلنوا إيمانهم برسلهم، وعرفوا في كتبهم نعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم،  فلما بُعث حسدوا العرب أن بُعِث فيهم فأنكروه وكفروا بعد أن شهدوا أنه حق، وهنا الشهادة تعني المعاينة، وقد عاينوا مجيئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا في كتبهم. وهؤلاء هم المحرّفون المبدّلون، الكاتمون للحق ...

ولكأني بسائل يسأل لماذا لم يهدِهم الله ؟ لماذا تُركوا لضلالهم ؟

فيأتي الجواب من الله تعالى أنْ كيف يهديهم وهم ظالمون ظلما كبيرا بتحريفهم كتب الله، وبقولهم عما حرفوه أنه من عند الله وما هو من عند الله، وبنشرهم الضلال بكل سبيل ... ؟  لم يظلمهم الله، وما كان ظلاما للعبيد سبحانه، بل ظلموا أنفسهم وناصبوا الله ورسُلَه العِداء وتصدوا لرسالاته ... فكيف يهديهم  وهم بهذا الظلم والتعنّت والإصرار ؟! 

ولقد عرفناه سبحانه يلقّن نبيه صلى الله عليه وسلم دعوتهم ومحاورتهم ومحاجّتهم، وكل ذلك ابتغاء هدايتهم، أفئن استكبروا وأصروا، وسعوا سعيهم لإضلال المؤمنين يهديهم الله ؟؟  ولقد قال سبحانه فيهم : "وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)." -البقرة-

ثالثا: قيل بنزول الآية في جماعة من العرب أسلموا ثم ارتدّوا، ثم كان منهم من تاب وعاد وحسن إسلامه  وهو الحارث بن سويد .

وكل هذه أوجه تحتملها الآية، وهذا هو معنى عموم اللفظ ودورُهُ في القرآن لا خصوص السبب، وهو الذي نجد به ذهاب الآية إلى معاني أكثر من معنى سبب نزولها، وكذا أكثر من خصوص أحوال زمان النزول .
وتأتي الآية الموالية مبيّنة مآلهم :أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(87)

أولئك الذين ارتضوا التفريط في دينهم، ارتضوا ظلم أنفسهم بخروجهم من أنوار الهدى والرشاد إلى ظلمات الضلال والفساد ... جزاؤهم لعنة من الله، وهي حلول سخطُه سبحانه عليهم، وإخراجهم من رحمته التي بها توفيقهم لسبل الهُدى، بل وكذلك الملائكة تلعنهم بالدعاء عليهم، والناس أجمعون.
وقد يقف أحدهم عند هذا التعميم بـ: "والناس أجمعين"، فنذكر أنّ ذلك يكون في الآخرة من الكافر على الكافر بعدما يوردهم ضلالهم المهالك، كما يكون من المؤمن على الكافر...
يقول سبحانه : "قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ  كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ " –الأعراف :38-

كما أن الآية اللاحقة تؤيّد معنى اللعنة التي تكون من الناس جميعا كافرهم ومؤمنهم في الآخرة، وذلك في قوله سبحانه :خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ(88)

إذ يتراءى من : "فيها" الخلود في النار، وإن لم تُذكَر إلا أن متعلقاتها واضحة، وأهمها تلك اللعنة العامة . كما تحتمل معنى أن يكون الخلود في اللعنة . يقول الفخر الرازي: "أن اللعن يوجب العقاب، فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن، ونظيره قوله تعالى: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ [طه: 100- 101] "-مفاتيح الغيب-
ويستثني سبحانه من هذا الوعيد الذين تابوا وأصلحوا: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ(89)

نتقدم، فنعرف فئة ثانية غير الأولى :

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ(90)
حالة هؤلاء تختلف عن الأولى، هؤلاء فوق  كفرهم بعد إيمانهم : "ازدادوا كفرا" وهو ما يوحي بإمعانهم في الكفر وتماديهم فيه، وعدم بقاء منفذ في قلوبهم لتوبة صادقة نابعة من القلب ... هؤلاء لم يسارعوا للندم الذي يفتح بابا للعودة ...
وهنا أستحضر قول الله تعالى في الآيات السابقة يصف طائفة من أهل الكتاب : "وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(69) "

فهؤلاء كما عرفنا ضالون مضلون، لا يبقى لهم من مندوحة للنظر والتفكر في حالهم بل يبذلون قصارى جهودهم وأوقاتهم لخدمة ضلالاتهم . فأي توبة تكون من أمثالهم ؟ إلا أن تكون ادعاء وكذبا وتلبيسا لقضاء مأرب من مآربهم ...

وهي كذلك تعني فيمَن تعني كل من ارتد عن الإسلام من بني الإسلام كما أسلفتُ، وأيضا تعني أهل الكتاب، اليهود منهم لما آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا لما أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك النصارى الذين آمنوا بعيسى، ثم حرّفوا وكذبوا وكتموا بشارته به، فأنكروا أن يكون محمد نبيا صلوات الله وسلامه عليهم جميعا... فهو كفر متصاعد بالدعوة الواحدة التي جاء بها الأنبياء إذ جعلوها دعوات متفرقة .

وهنا نلمس التأكيد على أن الإيمان الصحيح هو الإيمان بكل الأنبياء سواء بسواء ..
أما هذه الآية فلكأنها تعرّف  بمآل الذين كفروا وازدادوا كفرا ... بحالهم في اليوم الآخر...

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ(91)

وهذا يوم القيامة ... لن يقبل منهم فِدى حتى وإن أمكنهم، وهو ليس بإمكانهم أصلا ..
فأي عذاب، وأيّ هول ينتظرهم ؟!  أجارنا الله من سخطه وعذابه

ولو أننا أمعنّا وتفكرنا لعرفنا أن الإعراض عن كل هذا الهدى والحق البيّن الذي يفصّله لنا الله تعالى ويعلمنا إياه ليس إلا من العناد واللّجاج الباطل الذي يورِد أصحابه المهالك...

فهو سبحانه يمهل في الدنيا، ويفتح باب العودة والأوبة، ويقبل التوبة الصادقة، ويرحم ويفصّل الهُدى، وأنزل النور من عنده هاديا وما ضنّ به على عباده، وما ظلمهم ولكن كانوا أنفسَهم يظلمون ... ثم بعد كل هذا هو سبحانه الذي يأخذ أخذ عزيز مقتدر، فلا يُنظِر من لم يعرف حسن استغلال وقت الإنظار... الدنيا...

وعلى هذا المخطط أضع المنهجيّة التي نجدها في بيان مآل الذين تعمل فيهم المزعزعات ... مآل الذين لا يتزوّدون للثبات


ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وننتقل إلى جزء من أواخر قطاعنا ...

7-
لَنْ تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ(92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(93) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(94) قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ(96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97)

ولقد توقفنا عند:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ(91) "

هذا كما عرفنا مآل الذين كفروا وماتوا وهم كفار، لو أنّهم كانوا ليفتدوا أنفسهم فينجّوها من النار ومن عذاب الله الأليم بملئ الأرض ذهبا لفعلوا، وإنهم وإن أمكنهم وفعلوا فلن يُقبل منهم ... !

إنه ملء الأرض ذهبا ...! ما لا يكون ولا يتحقق لأحد في الدنيا، بَلَهْ بعد الخروج منها وكلّ خلق الله بين يديه ذليل صاغر...! وحتى إن افترضنا إمكانه، فإنّ الله تعالى لن يقبله من أحد . قُضي الأمر، وانتهى الامتحان وآن أوان الحساب والجزاء ...
فلنرَ ... ونحن مع هذا المعنى الذي خُتم به الجزء السالف من القطاع ... أتُراه يسوقنا هو أيضا إلى الجديد من الآيات، أم أنّنا سننقطع عنها .. ؟

7-أ) لَنْ تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ(92)

أليس ما كنّا فيه أخيرا من خُسران مبين لمَن مات على الكفر ومِن هوان الدنيا بما فيها في عينه لو كان بمَلكه أن يفتدي بها نفسه... أليست هذه الآية تقابله ؟
أليس يرشدنا سبحانه إلى أنّ الدنيا ساحة العمل وفرصة العمل، وأنّه فيها هو المنجّي ؟ أليس ينبّهنا سبحانه إلى أن نسارع لتنجية أنفسنا ما دام العمل فيها يُقبَل وهو ميزتها وسَمْتُها؟ مادام أوان الجزاء وتوقّف العمل لم يئن بعد ؟؟ أليس سبحانه يدعونا لأن نستغل زمن الدنيا أحسن استغلال ... ولأن ننتهز الفرصة كما يجب أن تُنتهز قبل فوات الأوان ؟!

أليس يعلّمنا ونحن نقرأ قرآننا في الدنيا أن نعمل بما جاء فيه قبل أن يأتي أجلنا ويُقضى الأمر وندخل مرحلة الجزاء ولا عمل ... ؟ جاء رجُلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يسأَلُه عنِ السَّاعةِ فأجابه بقوله : ماذا أعددتَ لها ؟

فلننظر ... إن الاستعداد لإنفاق الدنيا وما فيها يوم القيامة من ذاك الذي مات على الكفر لن يُجديه نفعا... لن يُقبل منه... إنّ الله قد قضى أن الدنيا هي دار العمل والامتحان، ولا يجوز لممتحن أن يجيب بعد أن يدقّ جرس انتهاء ساعة الامتحان ... !

وبهذا ألسنا مَسُوقين من آية إلى آية أخرى تتمّم معناها وتبلّغ الموعظة منتهاها ؟
ألسنا في السياق ذاته ؟ 
كنا مع الذين كفروا ومآلاتهم، ونجدنا مع المؤمنين وإرشادهم إلى ما يُجديهم من العمل وينجّيهم...

ما دمتَ في الدنيا فانتهز... لنْ تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ(92)
لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون ... نَالَ مَطْلُوبَهُ : بَلَغَهُ وأدركه
لن تبلغوا البرّ ولن تدركوه حتى تنفقوا مما تحبون .  إننا على دربنا هذا نستذكر من خطواتنا السابقة ما يكون لنا عونا على اللاحقة ...
لقد عرفنا البرّ في سورة البقرة، عرّفتنا معناه : "ليْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا  وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ  أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا  وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ "-القرة: 177-

البرّ هو أوجه الخير، بل هو أساسات الخير كله، فهو الإيمان بالله واليوم الآخر والكتاب والنبيين كمنطلق لما بعدها، فكل ما ينبثق منه ويتفرّع من خير هو من هذا المنطلق وهذا المعتقد السليم
تبيّن آية البقرة أن من البرّ : وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ

إيتاء المال من أهم انبثاقاته، وهو عمل وِفق ذلك المعتقَد الأساس. ومن كان بارّا كان من الصادقين ومن المتقين: " أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا  وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ "
إذن فالبر هو التقوى وهو كمال الخير، ولقد جمع الله بينه وبين التقوى في قوله سبحانه : " وتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ "-المائدة: من02-

فإنكم لن تدركوا ولن تبلغوا كمال البرّ ومنتهاه وسنام التقوى إلا بأن تنفقوا مما تحبون ...
هذا من وجه، ومن زاوية رؤية البرّ كسبب موصِل.. كعمل يُعمل، ويبقى وجهٌ آخر تحتمله الآية ويحتمله المعنى، بل يجتمع مع الأول ويكمّله ويجعل من الآية درّة من دُرر جوامع الكلِم ...

ذلك عندما ننظر من زاوية الغاية الموصول إليها، على أنّ البرّ هو غاية تُبلغ، وهو وِفق ذلك بمعنى تمام الإحسان من الله تعالى لعبده المؤمن، وقد أعجبني في هذا قول الرازي : "بر الله أولياءه وإكرامه إياهم وتفضله عليهم، وهو من قول الناس: برني فلان بكذا، وبِرّ فلان لا ينقطع عني، وقال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} إلى قول: {أن تبروه" –مفاتيح الغيب-

"إنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا"-الإنسان:05-
"إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ(23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ(24) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ  وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ(26) " -المطففين-
والبرّ من الله تعالى لعبده المؤمن هو تمام إنعامه سبحانه عليه . فيكون المعنى متّحدا مع المعنى الأول:

لن تدركوا تمام البرّ من الله حتى تبلغوا تمام البرّ من أعمالكم ، وتمامها أن تنفقوا مما تحبون.  إحسان من العبد يقابله إحسان الله تعالى له ويؤيّد ذلك قوله سبحانه :"هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ"-الرحمن:60-
« آخر تحرير: 2018-12-05, 21:20:06 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وإنه لإعجاز من من إعجاز أسلوب القرآن العظيم أن تحمل الآية المعنيين  :
** البرّ كفعل من العبد **والبرّ كجزاء من الله ..
** الحديث عن سوء استغلال الدنيا  من الكافر** يقابله حُسن استغلالها  من المؤمن
وكالعادة دأبي في عَرَض حياتنا على هذا الدرب أن أتبيّن التسلسل والتناسق فلا يُغمّيه عليّ شيء، سائلة الله أن يرزقني بصيرة لذلك من عنده... فأين الانقطاع وما تكلّفْنا الترابط بل هو الناطق عن نفسه بنفسه ... ؟!

وما أزال أتملّى جمال الآية وتعدّد أوجهها ... حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ

لعلّ أحدا أن يرى الإكثار على المؤمن بهذه الدعوة للإنفاق مما يحب، من أكثر شيء يحبّه في الدنيا، لعلّه يقول بأنه التعسير والتضييق ...

أقول ... بل إنه على حقيقته التخفيف ... أجل التخفيف بما تؤتيه الكلمة من معنى ...
ألم نعلم ونفهم، بل ألم نُفجَع بصورة ذلك الكافر يوم الهول الأعظم وهو يودّ لو يفتدي نفسه بملئ الأرض ذهبا، والأمر أنّ أمنيته هباء من الهباء وسراب من السراب والله لا يقبلها منه ؟

أي إكثار بالإنفاق مما يحبّ العبد في الدنيا أمام صورة ذلك الكافر الذي لن ينجّيه من عذاب الله ملء الأرض ذهبا ؟! بل إنه التخفيف وإن الذي يقرأ لليوم الآخر قراءته السليمة، وينظر بعين المؤمن به وبحلوله لن يستكثر تكليفا من ربه، ومن لا يحسن إلا قراءة ظاهر من الحياة الدنيا فسيستثقل كل تكليف  ...

وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ(92)

عليم سبحانه بالنية من إنفاقه، سواء كان الكثير أو القليل، ورُبّ قليل مخلصٌ صاحبه لوجه الله وهو ينفقه، خير من  كثير ينفقه صاحبه رياء ...! ولا يعزب عنه سبحانه مثقال ذرة، وحتى لا يظنّ ظانّ أنّ: "مما تحبون" تقتضي الكثير والنفيس، بل هي مما يحب كلٌّ بما هو مُيسَّر له، فمَن ينفق بما يتناسب وبسيط إمكانياته وهو مما يحب أدرك البرّ، ومن أنفق مما يحب متناسبا مع إمكانيات أكبر هي في متناوله قد أدرك البرّ أيضا .إلا أن الشرط  اللازم لكليهما أن يكون لوجه الله تعالى خالصا ... ولذلك جاءت: "من شيء" لأن قليلا خالصا لله خير من كثير لا يُتوِّجُه الإخلاص.

وسبحان الله والحمد لله على كلام الله بين أيدينا جمالا وجلالا وكمالا يجعلنا نسبح في عالم من الإعجاز الذي يزيد العبد يقينا على يقين ... رزقنا الله اليقين .

إذن فبعد ما كان من بيان أحوال أهل الكتاب، وبيان أن الدين الحق هو الإسلام وهو ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه على خطى كل أنبياء الله دينا واحدا، وبيان أن ما عداه من اعتقاد كفر تكشّفت لنا في الآيات الأخيرة مآلات أصحابه ...
بعد كل هذا نلاحظ كيف أنّ الله تعالى توجّه للمؤمنين بهذا الخطاب الأخير دخولا إلى جوّ من العمل بمقتضى الدين وبمقتضى اعتقاده، وفي معنى نوال "البرّ" ما يدلّل كبير دلالة على أن هذا الدين ما جاء إلا ليسمو بالعبد بدعوته إلى خير العمل الذي يقابله خير الجزاء.

ماذا بعدُ... ؟  فلــــــنرَ ...

7-ب) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ  فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(93) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(94) قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(95)

لقد أرشد الله تعالى المؤمنين إلى البذل من أكثر ما يحبون ابتغاء نوال البرّ درجةً سامقة في الثواب والجزاء، وحتى يوقَى شُحّ نفسه فيبلغ منها درجات العطاء العُليا... وإنّ هذا الذي يترك مما يحبّ في سبيل الله وفي سبيل جزائه يقابله في هذه الآيات تطبيق من تطبيقات الأنبياء قادة الناس إلى أوجه البرّ ...

كيف ذلك ؟ وأين ؟
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(93)
سنمشي مع هذه الآية خطوة بخطوة ... فإنها تبدو لي بحاجة إلى فهم دقيق لتشرّب معناها ووجودها في هذا السياق، وعليه فسأرتب أبعادها في نقاط :

أولا :  إنه إسرائيل وهو الاسم الثاني ليعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.. حرّم على نفسه بعض الأطعمة مما يحب نذرا لله تعالى عندما شفي من مرض أصابه . ورد ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في مجيئ وفد من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه في خِلال لا يعلمهنّ إلا نبيّ، فكان حوار بينه وبينهم جاء فيما جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم لهم:
"هل تَعلَمون أنَّ إسرائيلَ يعقوبَ عليه السَّلامُ مرِضَ مرَضًا شديدًا وطال سَقَمُه، فنَذَرَ للهِ نذْرًا، لَئِنْ شفاهُ اللهُ تعالى مِن سَقَمِه ليُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرابِ إليه، وأَحَبَّ الطَّعامِ إليه، وكان أَحَبُّ الطَّعامِ إليه لُحمانَ الإبلِ، وأَحَبُّ الشَّرابِ إليه ألبانُها؟ قالوا: اللَّهمَّ نعَم. قال: اللَّهمَّ اشهَدْ عليهِم. " –مسند الإمام أحمد-

وهذا هو وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها من حيث سلوك سيدنا يعقوب عليه السلام سلوك البرّ بأن حرّم على نفسه أحبّ مأكل إلى قلبه وأحب مشرب، لحم الإبل ولبنَها نذرا عن طيب خاطر متقرّبا به لله تعالى، زاهدا في أكثر ما يحبّ لينال من الله ما يحبّ. برَّ وبلغ البِرَّ لينال بِرّ الله تعالى وإحسانه .
وهذا التعبير بـ: " حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ " يبيّن لنا تمام البيان كيف أنه لم يشرّعه لقومه تحريما، وذلك ليس له بل لله تعالى المحلل والمحرم سبحانه، ولكنه حرّم على نفسه على وجه التقرّب لله والشكر له على نعمه. وهذا ما يُسمّى تحريم المنع ، وغيرُه يسمى تحريم الشرع

ومن أمثلة تحريم المنع قوله تعالى : "وحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن ..." –القصص:من12- ومن أمثلة تحريم الشرع : " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ... "-النساء:من23-

ثانيا : ما يريده الله تعالى من أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا الذي حرّمه إسرائيل على نفسه هو ذاك الذي حاجّت فيه يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإننا بهذه الآية نعود إلى سابق الآيات التي حكت عن أحوال أهل الكتاب، وعن الحوارات التي كانت معهم، وعن محاجّاتهم ... يعود بنا الله تعالى إليها استكمالا، وفي مزيد بيان للحجة الدامغة لباطلهم الذي يتمايلون به ذات اليمين وذات الشمال ...

ولقد عرفناهم يحاجون في إبراهيم عليه السلام  على أنه اليهودي أو النصراني(66-68)، وعرفنا التلقين الإلهي لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، وعرفنا زيادة على ذلك أن أولى الناس بإبراهيم هم الذين اتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم .
ولكأنّ الله تعالى يعود بنا إلى تكملة تلك المحاجة، وهم قد لغَوا في القول بأهليّة المسلمين لإبراهيم لا بأهليّتهم هُم وهم يفترون على اعتقاده الكذب ... فقالوا لرسول الله لو أنك كنت على ما كان عليه إبراهيم لكانت هناك مطاعم محرّمة عليك وعلى من اتبعك كما كانت محرّمة على إبراهيم وعلى من جاء من بعده  ...

إنهم هنا قد افتروا على إبراهيم فرية جديدة بأن ادّعوا أنّ لحوم الإبل وألبانها كانت عليه محرمة كما هي محرّمة عليهم، وليس هذا منهم إلا تعزيزا لقولهم بأنهم الأولى بإبراهيم، وما أولويتهم به إلا بمزيد افتراء عليه، وأنّ ما عليه محمد وأتباعه ليس ما كان عليه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
وقبل أن أستطرد ... أحب أن أتأمل أولا موضع تكملة هذا الحوار ... لماذا لم تكن في سياق الحوارات والمحاجات ؟  بل جاءت متأخرة عنها  ....

لقد تبيّن الآن حقيقة ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه من اعتقاد مع ما رأينا من تدرّج في تعريف الإسلام وصولا إلى أنه الدين عند الله الذي لا يُقبل من أحد دينٌ غيرُه... دين الفطرة والأصل، الدين الذي عليه كل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، بالدعوة الواحدة والاعتقاد الواحد .

ولندقق بالمخطط أدناه :

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ثالثا: جاء الجواب الإلهي أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة، وقد عرفنا أنما سبب تحريمه لتلك الأطعمة على نفسه -لا على غيره- التقرّب لله وشكره سبحانه ..
مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ

وعليه فإنها لم تكن محرّمة على آبائه لا تحريم منع من أنفسهم، ولا تحريم شرع .. زمن يعقوب عليه السلام وحده  كان فيه  تحريم المنع منه . وبعيدٌ هو عن زمن التوراة التي نزلت على موسى عليهما السلام .

وعندما نزلت التوراة جاءت وفيها تحريم شرع على كل بني إسرائيل لتلك الأطعمة التي حرّمها إسرائيل على نفسه.
انتقل التحريم في عهد التوراة من منع إلى شرع، بمعنى أنها جاءت معمّمة لذلك التحريم الذي كان تحريم شكر وتقرّب إلى الله، ليصبح تحريم شرع، وهو في حقيقته جاء عقابا لبني إسرائيل على ظلمهم ومعاصيهم .

ولنلاحظ الفرق بين تحريم إسرائيل على نفسه، وتحريم الله على بني إسرائيل :


إذن فلقد أحبوا أن يلاجّوا لجاجا باطلا مصرّين على ضلالاتهم وأكاذيبهم أنّ ما هو محرم عليهم من المأكل والمشرب إنما كان محرما من قبل على إبراهيم وعلى من بعده من أنبيائهم، فكيف يأتي محمد صلى الله عليه وسلم ويستحلّه ولا يحرّمه شرعُه ثم يقول أنه أولى الناس بإبراهيم... ! عندها جاء النبأ القرآني الحق المبين أنه لِجاجٌ باطل، وأنّ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرمه يعقوب على نفسه من قبل نزول التوراة ..

فلما أن نزلت التوراة جاءت مقرّة لتحريمٍ كان عن قُربة وشكر لله من عبده المنيب يعقوب عليه السلام ...تحريم جاء عقابا لهم على ظلمهم وصدّهم عن سبيل الله، وكان واحدا من تحريمات مأكل أخرى نزلت عليهم، وهم أحبوا كتمان ذلك عن المؤمنين وتصييره تحريم شرع قديم ليس لهم يدٌ في نزوله بهم .

رابعا:    قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(93)

هذا تبكيتٌ من الله سبحانه لليهود من أهل الكتاب يلقّنه نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يأتوا بالتوراة فيتلوا منها ما يدلّ على أنّ تحريم تلك الأطعمة كان من عهد إبراهيم عليه السلام .
يقول الفخر الرازي : " وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم عليه السلام فعجزوا عن ذلك وافتضحوا فظهر عند هذا أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على إبراهيم عليه السلام." –مفاتيح الغيب-

7-ج) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(94)

من افترى الكذب على الله من بعد حجة الدعوة إلى تلاوة التوراة واستخراج ما يؤيّد ادعاءاتهم منها فأولئك هم الظالمون ... وإنه لا يُستبعد منهم المداومة على الكذب والتلفيق والكتم والتستّر ... ولذلك يأتي قوله سبحانه :
قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(95)

هم الكاذبون والله سبحانه هو الذي يقول الصدق والحق. فكن على يقين من قول الله ونبأ الله وتعليم الله، واحذر من بدّل دين الله وحرّفه، وتقوّل على أنبيائه وناصب الله وأصفياءه العداء...
ويأتي أمر باتباع ملّة إبراهيم عليه السلام خاتما في بيان اتباع المسلمين له، وأنهم على خُطاه، وأنهم الأولى به ...

إنه من بعد ما جاء بيان نقاء ما يتبع أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الإيمان الحق عندهم في كتابهم وفي تصديقهم بكل الأنبياء وبكل ما أنزل عليهم، وبكل ما أوتوه وأنهم سلسلة منتظمة الحبات للدعوة الواحدة في الدعوة إلى الله الواحد ...

ومنها إلى التأكيد على أصل هذه الملّة ومنبعها وأنها كما بَدأت بُعث بها محمد صلى الله عليه وسلم نقيّة واحدة متسلسلة متصلة غير منقطعة ... نسخُ الشريعة فيها للشريعة لا يعني اختلاف الدعوة بل يعني إنزال أحكام بما يناسب أهل كل زمان ...
« آخر تحرير: 2018-12-06, 04:51:02 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وما يزال التسلسل والترابط قائما ... فينقلنا الحديث عن أصل الملّة الحنيفية التي هي ملّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه إلى :

 إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ(96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97)

8- إن أهم ما عُرف عن أبي الملّة الحنيفية عليه السلام منسك الحج، ولقد بقي في العرب أثرا عن أثر، فكانوا يحجّون ويعرفون قداسة المنسك وقداسة المكان وإن أدخلوا على الحنيفية ما أدخلوا من الوثنية والشرك بالله والطقوس المختلَقة من أهوائهم ...

قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
ما كان من المشركين عليه السلام، بل كان موحدا حنيفا قائما لله لا يدعو غيره ولا يدعو إلى غيره ...

نلاحظ بالمقام الأول أن الله تعالى نفى عن إبراهيم أن يكون من المشركين ثم ذكر بعدها  البيت والحج حتى  يتبيّن أنّ الحجّ في الشرع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم منسك قائم، وأن قداسة البيت قائمة، ولكن ليس على ما عليه المشركون، بل على ما كان عليه إبراهيم عليه السلام بعيدا عن الإشراك كل بُعد، نقيّا خالصا لله تعالى ...

حتى يتبيّن أن هذا الدين وأن هذا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه جاء ليعيد الحنيفية لنقاوتها ولمعناها السليم، وليعيد للأنبياء مقامهم وقدرَهم الذي ينبغي لهم  ... 
ما كان إبراهيم من المشركين، ولكنّ الحج منسكه وعبادتُه التي عُرِفت عنه، وتوارث الناس ذكره به ولكنهم ما حفظوه كما أمر الله به وكما ائتُمر بأمره إبراهيم عليه السلام، بل كانوا يقولون بالله ربا خالقا مدبرا رازقا، ولكنهم كانوا يُشركون في عبادته وثنا وصنما:  "قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ  فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ  فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ" –يونس:31-

وكانوا يدّعون حول البيت طوافا مما أثروا من  بقايا حكايات عن الحنيفية شابوها بخرافاتهم، فكانوا يطوفون عراة يصفقون ويصفّرون: " وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ " –الأنفال:35-

وهكذا نجد تمام المناسبة لما قبل هذه الآيات في نفي الله تعالى الشرك عن إبراهيم، ليأتي بعدها على ذكر الحج قائما أمرا من أوامره سبحانه، وقداسة من قداسة المكان والزمان مع تطهيره من دنس الإشراك وخرافات المشركين كعادة هذا الدين الذي جاء ليقرّ ما يقرّ مع تطهير وتصحيح وإرجاع للأصل الأول الذي قضى الله به.

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ(96)

الذي ببكة هو أول بيت وضع للناس، فأما بكة فهو اسم لمكة، وفيما يقال عن معناها أنه البكّ وهو التمزيق والكسر كناية عن كسر عنق من يريد بها سوءا، إلا أنّ ابن عاشور ذكر معنى جديرا بالاهتمام، أورِدُه هنا : "فيكون أصله من اللغة الكلدانية ، لغة إبراهيم ، ألا ترى أنَّهم سمّوا مدينة ( بعلبك ) أي بلد بَعل وهو معبود الكلدانيين ، ومن إعجاز القرآن اختيار هذا اللَّفظ عند ذكر كونه أوّل بيت ، فلاحظ أيضاً الاسم الأوّل ، ويؤيّد ذلك قوله : { ربّ هذه البلدة } [ النمل : 91 ] وقوله : { ربّ اجعل هذا البلد آمناً } [ إبراهيم : 35 ]."-التحرير والتنوير-

أول بيت وُضع للناس هو بيت الله الحرام، الكعبة، و "أوّل" هنا تعني أوليّته في هداية الناس وأنه المعلم الحسي الذي يؤمّونه لعبادة الله وتوحيده، فهي هنا لا تعني أوليّة بناء البيوت على إطلاقها، بل أولية بقيد الهدى والبركة . روي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلا سأله : "أهو أول بيت؟ فقال عليّ : لا قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة" –عمدة التفاسير: إسناده صيح-

كما أنّ أبا ذر الغفاري رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا رسولَ اللهِ ، أيُّ مسجدٍ وُضِع في الأرضِ أولَ ؟ قال : ( المسجدُ الحرامُ ) . قال : قلتُ : ثم أيٌّ ؟ قال : ( المسجدُ الأقصى ) . قلتُ : كم كان بينهما ؟ قال : ( أربعونَ سنةً ، ثم أينَما أدرَكَتكَ الصلاةُ بعدُ فصلِّهِ ، فإنَّ الفضلَ فيه ) "
وإننا كالعادة ... كلما أكملنا أجزاء الآية أو ربطنا آيات السياق الواحد وجدنا التفصيل والبيان عما قد يقفز للأذهان سؤالا ينمّ عن حاجة العقل للمزيد .. وهذه تتمة الآية تفصّل عن الأوليّة :
مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ...

أولا: البركة والهدى صفتان له لازمتان، فأما البركة فهي زيادة الخير وفيضُه، ولقد عرفنا من دعاء إبراهيم عليه السلام لمكان البيت : " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ..."-البقرة:من126- كما قال سبحانه ردا على المشركين وتذكيرا لهم بما تفضل عليهم : "...أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا... " –القصص:من57-
ولقد أجرى الله ماء زمزم لإغاثة هاجر وابنها اللذَيْن تركهما إبراهيم وحيدَين بواد غير ذي زرع امتثالا لأمر ربه : "ربَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" –إبراهيم:37-   والناس تأتيه من كل حدب وصوب، فتفيض عليه من الخيرات، ورغم قحالة أرضه وحرارة مناخه إلا أنّ الثمرات فيه على ضروب وألوان، وجزيل الثواب الذي يظفر به من يتعبّد فيه ويطوف بأرجائه، كل هذا من بركته...

بل إن رأس بركات بناء هذا البيت ورفع قواعده بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان استجابة دعوة أبيه إبراهيم وهو يرفع القواعد وابنه إسماعيل عليهما السلام : " رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ  إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "-البقرة:129-

ثانيا:أما صفة الهدى فلكونه أول بيت كان مَعْلما لتوحيد الله تعالى ولاجتماع الناس على إفراده بالعبادة، يقول ابن عاشور: " وصفه  بالمصدر في قوله : { وهُدى } مبالغة لأنَّه سبب هدى."
ويقول أبو زهرة : "أي هو بذاته مصدر هداية للعالمين أي للناس أجمعين؛ ففي وسط الشرك كانوا يلتحمون ويتقاتلون حوله، فإذا جاءوا إليه كان الرجل يلقى قاتل أخيه أو أبيه فلا يمسه بسوء لعظم حرمة البيت في قلبه، وإن مس الشرك نفسه. والذين أرادوه بسوء ما إن جاءوا إليه حتى ارتدوا على أدبارهم خاسئين؛ وبذلك ثبتت حرمته، وأشع نوره لغير العرب، كما امتلأت قلوب العرب بحرمته، وبعد الإسلام كان قبلة المسلمين في كل العالمين ومزارهم وموضع مؤتمرهم الأكبر، وإلى البيت الحرام يَأْرِزُ الإسلام، فكون هذا " –زهرة التفاسير-
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97)

** فمن آياته البينات مقام سيدنا إبراهيم، وهو موضع قدميه الغائرتَين بصخرة جعلها مُرتقاه لرفع جدران الكعبة عند بنائه لها بمساعدة ابنه إسماعيل عليهما السلام، بقيت آثار قدمَيه من ذلك اليوم إلى يومنا، وفي ذلك آية وأي آية اختصّ بها الله تعالى هذا البيت العظيم.
يروي جابر بن عبد الله عن حَجّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفاصيل ذكر منها : " حتى إذا أتينا البيتَ معه ، استلم الركنَ فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا . ثم نفذ إلى مقامِ إبراهيمَ عليه السلامُ . فقرأ : واتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [ 2 / البقرة / الآية 125 ] فجعل المقامَ بينه وبين البيتِ..."  -صحيح مسلم-

كما يروي عبد الله بن عمر في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم ركعَ حينَ قضَى طوافهُ بالبيتِ عِندَ المقامِ ركعتينِ.

وإن في اتصال إبراهيم عليه السلام بهذا البيت الأول الذي هو أول ما وُضع للهدى كبير دلالة على حنيفيته وأوليّة العقيدة وأصالتها ... وأصالة ما كان عليه إبراهيم، وهو ذاتُه الذي عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه .

**ومن آياته أيضا أن من دخله كان آمنا، إذ أنها آية من آياته تواضُعُ الناس في الجاهليّة رغم غياب الدين الصحيح على أنّ من يدخل البيت آمن،  حتى إن الرجل ليلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يمسّه بسوء . هكذا توارثوها أبا عن جد .

"إلا أن الإجماع انقعد على أن من جنى فيه لا يؤمَّن، لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان، فبقي حكم الآية فيمن جنى خارجاً منه، ثم لجأ إلى الحرم‏.‏ وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أحمد في رواية المروذي‏:‏ إذا قتل، أو قطع يداً، أو أتى حداً في غير الحرم، ثم دخله، لم يقم عليه الحدُّ، ولم يقتصَّ منه، ولكن لا يبايع، ولا يشارى، ولا يؤاكل حتى يخرج، فإن فعل شيئاً من ذلك في الحرم، استوفي منه‏.
‏ وقال أحمد في رواية حنبل‏:‏ إذا قتل خارج الحرم، ثم دخله، لم يقتل‏.‏ وإن كانت الجناية دون النفس، فإنه يقام عليه الحد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه‏.‏ وقال مالك والشافعي‏:‏ يقام عليه جميع ذلك في النفس، وفيما دون النفس‏.‏
" –زاد المسير لابن الجوزي-

ولسائل أن يسأل، هاتان آيتان قد ذُكِرتا، مقام إبراهيم وأن من دخله كان آمنا، فكيف تكون آيات : " فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ " ؟
لنكمل مع الآية لعلّ في ما تبقى منها جوابا ...
وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97)

ألا يُعدّ تشريع الحجّ آية من آيات هذا البيت ؟ أليس آية من آياته البيّنات أن تصبح زيارته وأداء مناسكه  ركنا من أركان الإسلام ... ؟
هؤلاء المشركون قد دنّسوا حِماه، ومسخوا قَداسته، وأحاطوه بالأصنام، وجعلوا يطوفون به عراة مصفقين مصفّرين في شكل مسخ للإنسانية المكرّمة من رب العزة، فإذا الطائف بالبيت الذي جُعل رمزا للتوحيد وللتوجّه لله الواحد هو أقرب للحيوان منه للإنسان  ...!
أليس في فرض الحج على الناس استردادا لقداسةٍ مُهدَرة وهيبة مُحطّة ... ؟
لقد عُرفت هذه الآية في آل عمران بآية فرض الحج وتشريعه، وكان ذلك حوالي العام الثالث للهجرة ...لقد رُدّت الحقوق لأصحابها، رُدّ للحج مقامه، وللمقدّسات حُرمتها... رُدّ ما كان لإبراهيم وما كان عليه إبراهيم لمتّبعي ملّته، للذين هم أولى به ودينُهم قد جاء يردّ الأمور إلى نِصابها، ويردّ الحال إلى أصله الأول النقيّ الذي كانت عليه أول ما كانت ...

وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
أما من كفر وأنكر فريضة الحج، وجحد هذه الهيبة المردودة للمقدّسات، فإن الله غني عن العالمين .

« آخر تحرير: 2018-12-13, 18:45:47 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
إذن فإننا في معرض الآيات (93-97) عرفنا أمرَين اثنَين كلاهما له علاقة بإبراهيم عليه السلام .حاجّ أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في :
1- شأن عدم تحريم شرعه لما هو محرم على اليهود، وجعل ذلك مطعنا في نبوته وفي مصداقية شرعه مدّعين أنه يستحل ما كان محرما على إبراهيم عليه السلام بينما يقول بأولويته به وبأهليته لاتباعه .
2- اتخذوا من ذلك ذريعة لدفع النسخ الذي يتنادون بأنه لا يمسّ بشريعة التوراة، ليطعنوا بشرع القرآن .
3- كان لهم صيحات معروفة حول تحويل المسلمين للقبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، فقالوا أنّ بيت المقدس أكرم وأعظم وهو في الأرض المقدّسة التي هي مُهاجَر الأنبياء وأرض المحشر، كما عرفنا في سورة البقرة سعيهم بالتشكيك بين المسلمين حينما قالوا أنه شرع يقول بتبديل الله لكلامه.

**وجاءت الآيات بالمقابل داحضة لهذه الشبهات، ببيان أن المحرم على اليهود من المطاعم لم يكن محرما على إبراهيم، ولذلك فإن شرع القرآن يقرّ ما كان عليه إبراهيم والأنبياء من قبل فلا محرّم عليهم في المطاعم بل كلها كانت حِلا لهم....(1)

**كما جاءت تبيّن بعد ذلك أحقيّة المسلمين بالحج وبمناسكه وبمقدساته بتشريعه فرضا عَودا به إلى أول حاله مع إبراهيم عليه السلام يوم كان عبادةً موجّهة لله وحده على غير ما عليه المشركون، وذلك ببيان مقامه وأنه البيت الأول المتخذ لعبادة الله وتوحيده، وبذلك كان بيان أفضليته وأولويته على بيت المقدس ...(2)

من (1) ------ إبراهيم لم يكن على ما عليه اليهود ولا النصارى : "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا ..."
من (2) ------ إبراهيم لم يكن على ما عليه المشركون : "...وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"

(1)  +     (2)  = إبراهيم كان على ما عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه (3): "ولَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا..."
(3) = محمد ومن معه متبعون لملة إبراهيم الحنيفية : "قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"


ومن كل هذا يزداد بيان أن المسلمين على الحال التي بُدِئ بها هذا الدين، على الإسلام الصحيح، الكلمة السواء التي جاء بها الأنبياء منذ بداية الأرض...

إنهم على الأصل الأول، و"أول" تدلّل على عراقة هذا الدين الذي يتخذ من البيت الحرام قبلة، هذا البيت الأول، الأصل ... إنهم امتداد لإبراهيم وللأنبياء من قبله، امتداد للدعوة الواحدة والعقيدة الواحدة والملة الواحدة ...إنهم على الأصل الذي خلق الله لأجله السماوات والأرض تشهد بما فيها أنّه الإله الواحد.

إننا بهذا قد دخلنا إلى جوّ المسلمين وحركتهم بالإسلام ... لقد بدأنا ندخل حِياض الإسلام والمسلمون يحيَون به ... طعام حلال حلّله الله، وشرع فريضة حرّم بها عبث المشركين بالمقدّسات معيدا لها هيبتها وحرمتها..
شريعة نقيّة منقيّة ...
لقد كنا مع الإسلام اعتقادا وإننا مع الإسلام شريعة
« آخر تحرير: 2018-12-13, 07:55:23 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
أما الآن فنأتي على نهاية قطاعنا (64-99) . إنهما الآيتان الأخيرتان منه  :
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ(98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(99)

ابتدأ القطاع بقوله تعالى : "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64)"

بدعوة أهل الكتاب إلى الكلمة السواء، إلى الكلمة الحق.. ابتدأ بتلقين النبي صلى الله عليه وسلم كيف يدعوهم ..

ثم ها هو ينتهي بتلقينٍ آخر له صلى الله عليه وسلم أن يستنكر عليهم كفرهم بآيات الله تعالى، فكانت الآية الأولى والآية الأخيرة حاضنَتَيْن لما عالجه القطاع معالجة منهجيّة متدرّجة فيها تتجسّد خطوات الدعوة الرصينة التي ليس فيها ذلك الانهزام أمام أصحاب القوة الدنيوية حدَّ الترخّص في الأصول والمنطلقات العقدية عندنا استرضاء لهم باسم التعايش المزعوم الناسف للعزّة بالله وبالدين الحق ...

فعرفنا بيان باطلهم وباطل محاجّاتهم وما يقابله من حق هو من عند الله تعالى تعليما للمؤمنين على درب الحياة أن يتصدّوا لمن يترصّد لهم بألوان الشبهات والتشكيك والتغمية على الحق والسَّوق إلى أباطيلهم لإضلالهم .
 لم يُبخَسوا حقا هو لهم كما هو لسائر خلق الله، أن يُدعوا إلى الهُدى من أهله الذين نزل فيهم خاتما لكل ما نزل من كتب سماوية حاملة للحق والهدى ومهيمنا عليها ... فدعاهم إلى ما يجعلهم والمؤمنين عند الله سواء.

ثمّ جاءت الآيات مبرّئة للأنبياء من أباطيل ألصقوها بهم حاجّوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما بيّن سبحانه سعيهم بين المؤمنين بالإضلال والإفساد والتشكيك ...

وكلّ ذلك والإيمان الحق بقواعده السليمة، والإسلام وهو الدين الواحد الذي يقبل الله يتّبيّنان ويتّضحان لنا صُعُدا من مقام إلى مقام، وأنّ المسلمين على الأصل الأول للدعوة الواحدة التي جاء بها كل أنبياء الله، أصيلة عريقة ضاربة في أعماق وأغوار الزمن الإنساني منذ بدايته ...

ولقد بلغْنا أخيرا دفعا لشُبهَتَين عمل أهل الكتاب على بثّ سمومهما بين المؤمنين، مبتغاهم من الأولى نفي أن يأتي من يقول بشرع ينسخ شرع التوراة، مدّعين أن إبراهيم عليه السلام كان محرَّما عليه ما هو محرّم عليهم من الطعام وأن استحلال القرآن لها بُعد عن الأصل الأول، ومبتغاهم من الثانية أن يجعلوا قبلتهم أفضل وأولى من قبلة المسلمين. وصولا إلى آية تشريع الحج وجعله ركنا من أركان الإسلام، وفرضا من فرائضه بأحقيّة من يعبد الله لا يشرك به شيئا، وردا لحُرمته من عبث أيدي المشركين، وبيانا للآيات البيّنات التي فيه ..وانتهى بأن الله غني عمّن جحد حرمته وكفر به تشريعا من التشريع ...
يُلقَّن صلى الله عليه وسلم أخيرا أن يسائلهم ويبكّتهم بما يعرفون وبما يعلمون ويدّعون ألا علم لهم به :
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ(98)

تأتي مباشرة بعد : "... وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97)"
وأنتم يا أهل الكتاب تكفرون بالحج، ولا تؤمنون به منسكا أصله ومُبتدؤه من عهد إبراهيم عليه السلام، وتدّعون أنه كان على ما أنتم عليه، بينما تُنكرون أهم ما يتصل بإبراهيم ... بالحج  .. تكفرون بعباداته وشعائره وحُرمته وبالبيت أصلا وبحُرمته ومكانته ...

فلمَ تكفرون بآيات الله التي في هذا البيت ...
هذا في مناسبة الكفر بالحج لهذا الاستنكار من الله ...

كما أنّ الآية تحتمل أيضا وَجه كفرهم بكل آيات الله، بآيات القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهم يكفرون به نبيا، وبكتابه كتابا سماويا وبشرعه ناسخا لما كان من الشرائع قبله .. بل ويكتمون الآيات التي جاءت في كتبهم تدلّل على بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيا خاتما جاء كل الأنبياء من قبله دعاةً للتصديق به ولنصره كما عرفنا في الميثاق ثنائيّ الغاية الذي أخذه الله تعالى على أنبيائه، وأخَذَهُ بالتعدّي الأنبياء على أقوامهم ...
كنتم من قبلُ تُعلنون إيمانكم بنَعْتِه الذي جاءت به كتبكم بدليل قول الله تعالى عنكم : " ولَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ  فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ"

فلما أن جاءكم جحدتم، وكتمتم، وكذبتُم ونفيتُم النبوة عنه حسدا من أنفسكم أن يُبعَث نبي في غيركم، وإيغالا في الكفر والتولّي عن الحق، خوفا على سلطانكم من الزوال وعلى هيبتكم المُصطنعة المزوّرة من الاضمحلال ...
تكفرون بآياته والحال أنّه سبحانه : "شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ "

تكفرون بآياته التي جعلها  دلائل قائمة على صدق ما يبعث وما يرسل، وما ينزّل وما يأمر وما به يحكم .
وإنكم لا تكتفون بالكفر، بل  إنكم :
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(99)

إنكم تعملون عملا دؤوبا وتسعون سعيا حثيثا لصدّ مَن آمن عن سبيل الحق والهُدى التي اختار، تسعون لجرّ المؤمنين إلى ضلالاتكم، وقد عرَّفَنَا الله بذلك فيكم :
"وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ..."   
"وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(72) "
كانوا يمكرون، ويكيدون ويخططون بليل ليُمضوا كيدَهم، ولينفثوا سُموم تشكيكاتهم، ولينشروا شُبُهاتهم

وإنكم تبغون لهذه السبيل المستقيمة التي عليها المؤمنون، هذا الصراط المستقيم الذي جاء كل أنبياء الله يدعون الناس إليه، كما عرفنا ذلك من عيسى عليه السلام : " إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ"
تبغون له عِوجا ... تريدون أن تجعلوه معوجّا بتشكيك المؤمنين، وبإضلالهم وبتعرّضكم لهم بالشُبُهات حتى يُغمّى على بصائرهم فيرون المستقيم أعوجا ...

وذلك –عياذا بالله-  حال مَن تُظلِم بصيرته فيرى الحق باطلا والباطل حقا ! وإنّ كثيرا من الضالين ليرون في ضلالهم هُدى، وأولئك الذين وصف الله تعالى في قوله : " قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)"
هكذا يريدون بالمهتدين ... إضلالا وصدّا عن سبيل الله ...
وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

وأنتم أيها المضلون معاينون للحق، شهداء عليه، تعرفون أنه الحق وتعرفون أنكم على الباطل ولكنكم تصرّون ... تُحادّون الله وتُحادّون رُسُله ... تُحادّون رسالاتهم في الأرض ...
وأغلب مساعيكم تخططون لها بليل لتُلبسوا الحق بالباطل، لتُلبسوه الباطل وأنتم على علم تام وفي وعي كامل بالحق من الباطل ... وإنكم لتحسبون الله غافلا عما تعملون !!
وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

ملاحظة :

في الآية السابقة : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون---(1)

وفي الأخيرة : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ---(2)

(1) جاءت " شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون " لأنه عن أمر ظاهر منهم يُعرف فيهم، وهو كفرهم " لِمَ تَكْفُرُونَ "
(2) جاءت " وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " لأنها تناسب تخفّيهم بخططهم التضليلية وبتشكيكاتهم التي يُحكِمون حَبْكها للتشويش على عقيدة المؤمنين .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وهكذا انتهى القطاع الذي تعلّمنا فيه عن أباطيل أهل الكتاب، وتجرئهم على المحاجّة بها، وسعيهم لنفث سمومها تشكيكا للمؤمنين ابتغاء إضلالهم وإبعادهم عن الهُدى ... وكل هذا متضمّن لمعنى محور السورة الذي عرفْنا، كل آياتها نجوم هادية تدور في فلك التثبيت على الهُدى الذي هو هُدى الله كما عرّفتنا السورة، للتثبيت على الإيمان الذي عرّفتنا بمقوّماته آيات من هذا القطاع، للتثبيت على الإسلام الذي ما انقضى القطاع حتى بلّغنا معناه وركائزه .

وما انقضى القطاع حتى بلّغَنَاهُ اعتقادا، ثم أوْلَجَنَا دنيا الإسلام والحياة والحركة بتشريع الإسلام بما أحلّ من طعام وبفرض الحج .

ولنتأمل ... فإننا بعدما عرفنا علما علَّمَناه الله تعالى عن حقيقة عيسى عليه السلام بدءا من جدته أم مريم، إلى مريم إلى زكريا ويحيى وصولا إليه عليه السلام، عرفنا فيه اصطفاء الله تعالى لآدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين في سلسلة من الاصطفاء تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا تنطلي أكاذيب الكاذبين المضلّين على المؤمن المتزوّد بالعلم الصحيح من عند الله تعالى لا من عند غيره ... سبحانه الذي يقصّ الحق وما من إله إلا هو ..

بعد هذا العلم الذي هو زاد المؤمن على درب الحياة ليثبت على الحق، تقدّمنا على دربنا خطوة جديدة فيها بيان أن المؤمن كحامل حق وصاحب حق على الأرض -وهو الذي عرفنا دوره في تحمل رسالة الهدى والإصلاح في الأرض- لنعرف عن كثب كيف تكون دعوة الآخر إلى الكلمة السواء... في هذا القطاع الأخير انتقلنا من التعلّم إلى التعليم ... وفي خضمّ التعليم وفي زخمه نتعلم عن أباطيل أهل الباطل لنكون على بيّنة منها، ولنكون على ثبات من أمرنا وعلى علم بمدى سعيهم لإضلالنا ...

وإني لأجد أن مؤمن هذا الزمن الصعب لأحوج ما يكون إلى سورة آل عمران، إلى العلم الذي فيها، إلى مقومات الثبات التي نتعلمها منها، إلى أساليب أهل الباطل والمغرضين في التعرض لأهل الحق بأباطيلهم ليصيّروها باسم السيادة المادية في الأرض حقا ... والمؤمن المهزوم نفسيا، المُحبَط الذي لا يرى لأمته قائمة تقوم، بل هو من نكسة إلى نكسة أكثر عرضة لهذا التشويش ولفعل هذه الشبهات التي نعاين عن كثب كيف نصبح ونُمسي على أخبارها، وشباب المسلمين الذين يعرفون من القرآن اسمه غافلون عن علم عظيم فيه، كفيل بأن ينجّيهم من مساقط الهوى والضلال إن هم استمسكوا بتدبّر معانيه وجني قُطوفه الدانية... إن هم عاشوا مع الآيات عيش التأمل والتملّي...

مؤمن اليوم الذي يشنّف آذُنَيه لكل ناعق بهواه وبشطحاته وبإنكاراته باسم التحرر الفكري وتحت راية التشدّق بالعقل الذي لا ينقص عن أصحاب العقول الأولى التي تلقّت الهُدى فعاشت به حركة على الأرض فتحت بها مغاليق البلاد للحق وأضاءت بنورها عتمات الأرض ... ذلك الناعق بالهوى وهو يقول : هم رجال ونحن رجال ... وليته فعل فِعل الرجال وهو يتخذ القانون الرباني والدليل الرباني للحياة مشكاة تنير الدرب المُعتِم ... بل إنه ليأخذ من"فلاسفة الأنوار" ما يقارع به نور الله تعالى ! وكله تحت مسمى التحرر والعقل .... !

أما أن يشنّف أذُنيه لكلام رب العباد يريد فهمه وتشرّب تربياته وتوجيهاته، وترتيب معانيه في  حُجُرات عقله، ومراقبة اتساقاته ... فذلك عصيّ عليه، بعيد عن تفكيره....!  كتب "التنويريين" أولى من النور المبين !! تلك ثقافة وفِكر وهذا ثابت قديم لم يعرف كيف يرى فيه نفسه  لو أنه كان قائما بين يديه على درب الحياة يقتبس من نوره لتبيّن الطريق المستقيم ... !

فيا أيها المؤمن متى عرفتَ في القرآن بُعدا عن العقل وعن إعمال العقل والتعقّل وهو لا ينفكّ مناديا بكل هذا، داعيا إليه ... لا يخشى من تعقّل الإنسان وما أنزِل إلا لإشباع عقله ولتنوير قلبه ... أما إن كنت تريد إلصاق ما شُوِّه من فهم للدين بالدين فأنت المُبطل لا المحق، وأما إن كنت تتباكى وترى نفسك ضحية من يُملي عليك الدين إملاء ويحجر عليك أن تمسّ القرآن بعقلك فذلك منك تباكٍ وادّعاء ولا أحد يُملي على أحد هذا الابتعاد ... وأما إن اتبعت الهوى تريد أن تجعله فوق قانون ربّ العقول والقلوب فأنت المبطل لا المحق، وأما إن كنت تريد أن تجعل من إرضاء الآخر المتنعّم بأسباب الدنيا غاية من أجل تحقيقها تترخّص وتتنزّل ولا تُبقي لك من الثوابت ثابتا ولا من الأصول أصلا فأنت المُبطل لا المُحق ...

وأعود إلى قطاعنا لأقول... نعم هذا هو الوعي القرآني ... أن أعي وأتعلم وأعرف وأتبصّر بسعي قديم متجدّد لأهل الباطل وأصحاب الأباطيل لإضلال المؤمنين، ولست أعيب هنا على الذئب أن يرتع في قطيع غنم بلا حارس ولا مُحترس ولكنني أعيب على صاحب الغنم وهو يغطّ في نوم هو مَسَرّة الذئب وفرحه العظيم ...

الوعي القرآني الذي يفرّق بين حامل الحق وحامل الباطل، ولا يجعلهما سواء، بل يبيّن لصحاب الحق أنه صاحبه ، بل وأنّ تنوير الآخر دوره ورسالته، وأنّ تقبله للآخر ومسالمته وموادعته لا تعني بحال من الأحوال استسلاما وترخّصا وتنزّلا حتى يتساوى الحق بالباطل...

شيء واحد يوحّد بينهما ويجعلهما سواء ... إنها الكلمة السواء ... كلمة التوحيد، كلمة الإسلام ... تفريق ليس هو التفريق العنصري الذي يتباكى أهل التعايش المزيّف أنّه لا يجوز وأن الإنسان إنسان لا فرق بين من ينوّره الهُدى وبين من يُعتمه الضلال!! لا يتوقفون عند المساواة الإنسانية في حقوق الإنسان على أخيه الإنسان، وواجبات الإنسان تجاه أخيه الإنسان ...بل يتقدّمون في حنان فيّاض ورقة متناهية ليجعلوا دين الحق والأديان الوضعية سواء، ودين الحق والمحرّف من أيادي المتقوّلين على الله وعلى رُسُله سواء، وليجعلوا الثقافات سواء، وليجعلوا الحق الواحد ذا أوجه متعددة حتى لا يقول إنسان بأن أحدا من الناس على باطل، فكلٌّ يعمل وِفق حقّه الذي يراه حقا !!

هكذا يريدون للمؤمن أن تُمسخ خصوصيته، أن تذهب عزّته بربّه وبهُداه ... أن يجعل من التنزّل والتنازل والترخّص في الثوابت والأصول عملا بطوليا يحقق التعايش بين الحق والباطل ... ! فيتحقق السلام المنشود !!
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وهذه محاولة تلخيص لنقاط هذا القطاع (64-99) كخطوة خامسة من خطواتنا مع السورة ...
من خطواتنا على درب الحياة ...


وأجمعها إلى الخطوات السابقة لنبلغ من مخططنا الكلي للسورة القدر التالي :


يعرّفنا سبحانه أسباب الاهتزاز
ويعلّمنا عوامل الثبات
يعلّم المؤمنين ثوابتهم على درب الحياة
ثم يبدأ سبحانه بتعليم المؤمنين الحق :
ويأتي دور بيان تمام الحق الذي مع المؤمن
« آخر تحرير: 2018-12-12, 09:34:33 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل ماما هادية

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 15901
  • الجنس: أنثى
  • احفظ الله يحفظك
ثالثا: جاء الجواب الإلهي أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة، وقد عرفنا أنما سبب تحريمه لتلك الأطعمة على نفسه -لا على غيره- التقرّب لله وشكره سبحانه ..
مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ

وعليه فإنها لم تكن محرّمة على آبائه لا تحريم منع من أنفسهم، ولا تحريم شرع .. زمن يعقوب عليه السلام وحده  كان فيه  تحريم المنع منه . وبعيدٌ هو عن زمن التوراة التي نزلت على موسى عليهما السلام .

وعندما نزلت التوراة جاءت وفيها تحريم شرع على كل بني إسرائيل لتلك الأطعمة التي حرّمها إسرائيل على نفسه.
انتقل التحريم في عهد التوراة من منع إلى شرع، بمعنى أنها جاءت معمّمة لذلك التحريم الذي كان تحريم شكر وتقرّب إلى الله، ليصبح تحريم شرع، وهو في حقيقته جاء عقابا لبني إسرائيل على ظلمهم ومعاصيهم .

ولنلاحظ الفرق بين تحريم إسرائيل على نفسه، وتحريم الله على بني إسرائيل :


إذن فلقد أحبوا أن يلاجّوا لجاجا باطلا مصرّين على ضلالاتهم وأكاذيبهم أنّ ما هو محرم عليهم من المأكل والمشرب إنما كان محرما من قبل على إبراهيم وعلى من بعده من أنبيائهم، فكيف يأتي محمد صلى الله عليه وسلم ويستحلّه ولا يحرّمه شرعُه ثم يقول أنه أولى الناس بإبراهيم... ! عندها جاء النبأ القرآني الحق المبين أنه لِجاجٌ باطل، وأنّ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرمه يعقوب على نفسه من قبل نزول التوراة ..

فلما أن نزلت التوراة جاءت مقرّة لتحريمٍ كان عن قُربة وشكر لله من عبده المنيب يعقوب عليه السلام ...تحريم جاء عقابا لهم على ظلمهم وصدّهم عن سبيل الله، وكان واحدا من تحريمات مأكل أخرى نزلت عليهم، وهم أحبوا كتمان ذلك عن المؤمنين وتصييره تحريم شرع قديم ليس لهم يدٌ في نزوله بهم .

رابعا:    قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(93)

هذا تبكيتٌ من الله سبحانه لليهود من أهل الكتاب يلقّنه نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يأتوا بالتوراة فيتلوا منها ما يدلّ على أنّ تحريم تلك الأطعمة كان من عهد إبراهيم عليه السلام .
يقول الفخر الرازي : " وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم عليه السلام فعجزوا عن ذلك وافتضحوا فظهر عند هذا أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على إبراهيم عليه السلام." –مفاتيح الغيب-

7-ج) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(94)

من افترى الكذب على الله من بعد حجة الدعوة إلى تلاوة التوراة واستخراج ما يؤيّد ادعاءاتهم منها فأولئك هم الظالمون ... وإنه لا يُستبعد منهم المداومة على الكذب والتلفيق والكتم والتستّر ... ولذلك يأتي قوله سبحانه :
قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(95)

هم الكاذبون والله سبحانه هو الذي يقول الصدق والحق. فكن على يقين من قول الله ونبأ الله وتعليم الله، واحذر من بدّل دين الله وحرّفه، وتقوّل على أنبيائه وناصب الله وأصفياءه العداء...
ويأتي أمر باتباع ملّة إبراهيم عليه السلام خاتما في بيان اتباع المسلمين له، وأنهم على خُطاه، وأنهم الأولى به ...

إنه من بعد ما جاء بيان نقاء ما يتبع أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الإيمان الحق عندهم في كتابهم وفي تصديقهم بكل الأنبياء وبكل ما أنزل عليهم، وبكل ما أوتوه وأنهم سلسلة منتظمة الحبات للدعوة الواحدة في الدعوة إلى الله الواحد ...

ومنها إلى التأكيد على أصل هذه الملّة ومنبعها وأنها كما بَدأت بُعث بها محمد صلى الله عليه وسلم نقيّة واحدة متسلسلة متصلة غير منقطعة ... نسخُ الشريعة فيها للشريعة لا يعني اختلاف الدعوة بل يعني إنزال أحكام بما يناسب أهل كل زمان ...


جزاك الله خيرا
استفدت كثيرا
وارسلت رابط هذه المشاركة لمحمد
*رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ*