المحرر موضوع: على درب الحياة والقرآن مشكاتي(آل عمران)  (زيارة 8456 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
فماذا تُراها هي فاعلة مريم؟ بمَ تُراها ستردّ ؟ كيف ستكون حالها وقد وَعَتْ ..؟!

قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ(47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ(48)
لقد خاطبتْها الملائكة بأمر ربها إليها، ولكننا نسمعها وهي تنادي ربّها دون واسطة... إنها تعلم أنه سبحانه صاحب الأمر فيمَن أرسل إليها يخاطبها، وأنه سبحانه القريب السميع العليم، فلا نجدها تباشر حوارا مع الملائكة وسطاء أن يبلّغوا الله كلامها، بل تنادي ربّها بلا واسطة ...

"رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَر"

كيف يكون لي الولد ولم يمسسني بشر يا رب؟!

إنها تستغرب، وتستنكر، وتُفجَع وهي تسمع ما لم تسمع أنه حدث لامرأة، بل هو الذي لم يحدث لامرأة من قبلها قطّ ! إنه التفاعل البشريّ، وفيه الرَّوع من هَول الخطب وجَلَله، ولكنه التفاعل المُشبَع بالإيمان الثابت الذي لا يتزعزع رغم الصُّروف ... !
كيف ذلك ؟؟ ممَّ نستشفّه ؟ ... أليست جازعة وهي تسأل هذا السؤال ؟ أليست مفجوعة؟؟
بلى هي المفجوعة ولكنها ليست الجازعة... ولنتأمّل...
إنّها لم تصرخ، لم تولول، لم تندب حظّا، ولم تشقّ جيبا ... حاشاها أن تفعل ... حاشا مريم القانتة الساجدة الراكعة التي اصطفاها ربها بالتّقى والهُدى أن تفعل هذا ... وهو الذي إن فعله غيرُها من النساء وهي تسمع هذا الهول لم تُثْرَب!

ولكن لأنها مريم التقيّة، مريم النقيّة، مريم التي لا يزعزع إيمانَها، ولا يُنقص من جمّ أدبها ورقيّ أخلاقها جَلل لم تفعل هذا ...  بل نسمعها تسأل، تسأل مستعجبة، مستنكرة، مفجوعة ... ولكن بإيمان، برقيّ، بالذي يليق كل اللياق بمريم التي عرفنا ... 
نعم بشريّ تفاعلها، عظيم هو وقع النبأ عليها، عظيم ما ينتظرها، يشقّ على الرجل الجَلد ما ستلاقيه، وتعلم أنها مُلاقيتُه ... ولكنّ رقيّ الخُلُق سابق فيها وسائق ... تعظيمها لربها راسخ في جَنانها، متمكّن من كيانها ...
 
ثمّ إننا لو تتبعنا تفاصيل قصة إلقاء البشرى إليها في سورة "مريم" لوجدناها تقول حين تمثّل لها الملك بشرا سويا : " ... إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا " –مريم:من18- فهي ذي تذكر أول ما تذكر أن تفرّ إلى الله وتستجير بحصنه المنيع وحرزه المكين من كل ما يثير خوفها أو هلعها، وتراه خارج نطاق الأسباب الدنيوية، مما ينمّ عن سلوك تقيّة قويّة ثابتة الجَنان، مستمسكة بعروة الله الوُثقى...

إنها تذكر الأسباب العادية التي تسبب الولد، وتستغرب أن يكون منها مع انعدام الأسباب، ليس عن عدم تقدير منها لطلاقة قدرة الله ووُسع مشيئته، بل عن حكمة أوتِيَتْها تعلم بها أنّ الإيمان بالأسباب وعملها جزء لا يتجزأ من الإيمان بخالق الأسباب ... "رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَر" ...

أَفَالأنبياء أهل المعجزات أم نحن ؟؟ أَفَهُم أكثر الناس معرفة بالله وبتقديره حق قدره أم نحن؟؟
قد يبدو سؤالا عجيبا غريبا ... !! ولكنّ المشاهَد منّا وما نتلمّسه من فكر يَشي بهذا وبما يقاربه ...الأنبياء نعم هم أهل المعجزات، وهم أكثر الناس معرفة بالله، وبتقديره حق قدره، وهم أكثر الناس معرفة بقدرته على كل شيء ....
ولكنهم هم مَن علمنا الأخذ بالأسباب ... وأنّ الصبر لا يساوي القعود، وأنّ الثقة بالله وبقدرته لا تساوي انتظار المعجزة منه تحدث، وأنّ اليقين من أنه على كل شيء قدير لا تساوي أن أقعد مترقبا قدرته على فعل أي شيء دون أدنى حركة مني، أو أخذ بالأسباب ...

لما دعا زكريا ربه أن يهبه ذرية، فاستجاب له، لم يصمت زكريا صمت من يُخيّل إلينا أن ثقته بقدرة الله على كل شيء، ستجعله بهيئة الهادئ الذي لن يزيد عن أن يقول : "الله على كل شيء قدير" ... بل إنه الذي سأل : "أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ؟"
وما هذا إلا سؤال من يعلمنا أن اليقين من قدرة الله على كل شيء لا ينفي التعجب من خرق الأسباب...كذلك لما أن جاءت مريمَ البشرى بعيسى، لم يكن يقين مريم بقدرة الله على كل شيء حائلا دون أن تسأل وتتعجب، وتخاف، وترهب.... لم يكن ردّ فعلها كما قد يُخيّل لمن يعرف أنها أهل اليقين والإيمان العظيم، هدوءا وردّا لا يزيد عن أن يكون : "إن الله على كل شيء قدير" ... بل قد سألت : " رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَر " .... ذكرت الأسباب... وتعجّبت من خرقها لعلمها بدورها ...

وهاجر وقد تركها زوجها صلى الله عليه وسلم في واد غير ذي زرع، وغير ذي ماء مع وليدها الجائع العطشان .... ويقينها الذي كان برهانُه استفهامها من زوجها إن كان همّه بتركهما عن أمر من الله : "آالله أمرك بهذا ؟"   فلما استوثقت ... رضيت بذهابه ... وقد يُخيّل لمن يرى منها هذا اليقين أن يجازيها الله عنه بتفجير الماء لها من فور رضاها بالبقاء ووليدها وحيدَيْن ... ولكنه سبحانه ما فجّر لها الماء إلا بعد سعيها الحثيث بين الصفا والمروة...
فهي ذي ترضى وتصبر... ولكنّ صبرها صبر عمل، وتحدّ وأمل في الله، وأخذ بالأسباب ....  فأعطاها الله جزاء فهمها هذا لا جزاء يقينها المجرّد عن العمل ...!

وهذا يعقوب عليه السلام ... وهو يستعين بالله على ما يصفون، ويصبر الصبر الجميل، لا يقعد كما تصوّرنا طويلا من فهم سطحي لسورة يوسف عليه السلام، لا يقعد للحزن والبكاء وحده ... لم نجنِ من ذلك الفهم إلا أنّه قد ابيضت عيناه من الحزن ... بينما لم نسبر غور الآيات، ولم نغص بها بالقدر الذي يعطينا الصورة كاملة غير منقوصة .... فنرى يعقوب وهو يستعين بالله لا على مصيبته في يوسف وحده، بل على مصيبته في أولاده العشرة أيضا ...
فلا ييأس من عودتهم، ومن انصلاح حالهم، ويعلم أنهم قد مكروا وقد كادوا، وقد سولت لهم أنفسهم، ولكنه لا يهجرهم، ولا يطردهم، ولا يقرر البعد عنهم .... بل يعيش معهم كل تلك السنوات التي عرفنا فيها تقلب يوسف عليه السلام من حال إلى حال نتتبع الصورة من زاويته وحدها .... ونغفل عن زاوية العشرة ... فنغفل عن دور يعقوب معهم ...عن أمل يعقوب الدائم في عودتهم وتوبتهم ... حتى يصل بعد أخذه بأسباب التربية والتوجيه والصبر عليهم إلى قوله : "يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ  إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"...

نعم... حتى بلغ معهم مبلغ التوجيه إلى قمة التوبة وسنامها بأن يصلحوا ما أفسدوه ...بل حتى بلغ أن جاءه البشير بحياة يوسف  الذي كان بالأمس متآمرا مع المتآمرين على قتل يوسف ...!!
وهكذا يكون الصبر ...بلا قعود ... وهكذا يكون بالأخذ بالأسباب ... وهكذا هم الأنبياء أهل المعجزات، وأقرب من تُجاب لهم دعوة .... يقرّون بالأسباب ويعلموننا دوام الأخذ بها ... بل إن الأخذ بها عقيدة، ذلك أنها من الله، وأنّ الله ما جعلها إلا ليأخذ بها الناس لتحقق أمره سبحانه وحكمه ... أما من أغرق في إغفال الأخذ بالأسباب وركن للمعجزة يريدها ويقرنها بيقينه من قدرة الله على كل شيء .... فما أسرع ما يصدّق بالخارقة المختَلَقة .... وما أقرب الخرافة من تصديقه، وما أحبّ ما تتحقق له مُراداته وأمانيه بالقعود مغلّفا بالدعاء ... !!
وما ذاك إلا من فهم زُجّ به ليُنسب للإسلام وللقرآن ... والقرآن منه براء... براء...

إذن فقد سألت مريم، وهذا المَلَك الموكّل من ربه يجيبها بقوله : "كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ " يخلق سبحانه ما يشاء، وقد افتُتحت السورة من بداياتها بقوله : " هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ  لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "، هكذا جاءت استباقا لما فصّل الله في شأن خلق عيسى عليه السلام من غير أب، بخرق للأسباب . يصور كيف يشاء ويخلق ما يشاء...

بالكيفية التي يشاء يخلق ما يشاء ... فمن ذا الذي يتدخّل في مشيئته، أو يجعل لها حدا، أو يتصور أنّ لها حدّا ...
أما في شأن يحيى عليه السلام فقد عرفنا جواب الملائكة بقولهم: " قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ "، بينما جاء الجواب في شأن عيسى عليه السلام بـ : " يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ " يتشابه من حيث خرق الأسباب لا موافقتها كلاهما، بينما يختلفان في الطريقة، فكان يحيى من أب وأم ولكن مع غياب أسباب الإنجاب، وكان عيسى بغياب الأب بالكليّة، وفي هذا خرق أكبر للأسباب المعتادة .

يقول ابن عاشور في فعل "يخلق"  : "وعبر عن تكوين الله لعيسى بفعل يَخْلق : لأنّه إيجاد كائن من غير الأسباب المعتادة لإيجاد مثله ، فهو خلْق أنُفٌ غيرُ ناشئ عن أسباب إيجاد الناس ، فكان لفعل يخلُق هنا موقعٌ متعين ، فإنّ الصانع إذا صنع شيئاً من موادّ معتادة وصنعة معتادة ، لا يقول خلَقْت وإنما يقول صَنَعت"-التحرير والتنوير-

إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ : إن خلقه سبحانه لما يشاء إنما بقوله لأمر يقضيه كُن فيكون... وفي هذا تأييد لما عرفنا من معنى "كلمة" في قوله تعالى: " إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ... "


ويُزاد على إخبار مريم بصفات مولودها المعجزة إخبارها بأن الله يعلّمه "...الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ" . وهو تفصيل لشأنه عند الكبر بتخصيصه بالنبوة . يعلّمه "الكتاب" بمعنى الكتابة والخط، والحكمة والتوراة كتاب موسى عليه السلام، والإنجيل الكتاب الذي بُعث به واختُصّت به رسالته. وللفخر الرازي في هذا الترتيب وهذا التعليم كلام حسن أضعه:

"والأقرب عندي أن يقال : المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة . ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق ، لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، ومجموعهما هو المسمى بالحكمة ، ثم بعد أن صار عالما بالخط والكتابة ومحيطاً بالعلوم العقلية والشرعية يعمله التوراة . وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة ، لأن التوراة كتاب إلهى فيه أسرار عظيمة والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض فى البحث عن أسرار الكتب الإلهية . ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل . وإنما أخر ذكر الإنجيل عن التوراة لأن من تعلم الخط ، ثم تعلم علوم الحق ، ثم أحاط بأسرار الكتاب الذى نزل على من قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله عليه بعد ذلك كتابا آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو العناية القصوى والمرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية ، والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية " .-مفاتح الغيب للرازي-
« آخر تحرير: 2018-11-12, 21:16:05 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
القسم الثالث:(ثانيا): قصة شأن عيسى عليه السلام في بني إسرائيل (49-63)

إذن بهذا نكون قد عرفنا من قطاعنا، قطاع القَصص (33-63) ثلاثة أقسام، قصة امرأة عمران ومجيئ مريم(35-37)، وقصة مولد يحيى عليه السلام(38-41)، وقصة عيسى عليه السلام منقسمة بدورها إلى قسمين، فالأول عن مولده(42-48)، والثاني عن شأنه عليه السلام في قومه(49-63) وهوالذي سنعيش آياته فيما يلي  :

وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(49) وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ(50) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ(51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(53) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(54) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ(56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ(58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ(59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ(60) فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ(61) إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63)

كل هذه الآيات التي بين أيدينا تعلّمنا عن شأن عيسى عليه السلام بين قومه، عن شأنه العظيم فيهم، وهو الذي أنبأنا الله تعالى إذ أنبأ مريم أنه الوجيه في الدنيا، ووجاهتُه فيها النبوّة والرسالة، كما أنبأنا أنه الذي يكلم الناس في المهد وكهلا، وهذا هو تفصيل كلامه الناس كهلا، كلام إرساله من الله لقومه هاديا ومرشدا ومصلحا...وهو كما عرّفنا الله تعالى من الصالحين في أنفسهم الأحقاء برسالة إصلاح الناس...

وبهذا الاتساق نرقب عن كثب الترابط والتسلسل الذي يأخذنا من خطوة إلى خطوة ... داخل القطاع الواحد كما ما بين القطاعات، كما ما بين الآيات، كما ما بين السورة والسورة ...
7-) ولقد انتهينا آخر أمرنا مع ما نُبِّئت به مريم عن وليدها المعجزة إلى قوله تعالى : " وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ(48)" ومنها كان استباق الولوج إلى شأنه بين قومه، ببديع أسلوب القرآن الكريم الذي لا يُشعرك وهو يخرج بك من مكان إلى مكان، ويطوف بك بين زمان بعيد وزمان، ويسوقك من حدث إلى حدث، ولو أنّك قرأتَ وأنت لا تكتفي بالمشي حِذاء السُّور، بل تسوّرتَ ودخلتَ لعرفتَ العجب من بدائع الخبر بين تلافيف الصور، وبعيد المرامي بين طيّات المعاني ... وهكذا يأخذنا من شأن مريم ملبّسا بمعجزة ولدها، إلى شأن عيسى منفردا بين قومه برسالته إليهم مقدّما بإعلامنا أنه الذي يعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ...

ها نحن بين يدَي رسالته ... "وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(49)"

7-أ) إنه رسول إلى بني إسرائيل، وهذا كلامه إليهم كهلا : "قد جئتكم بآية من ربكم" بالمعجزة الدالة على صدقه أنه الرسول المبعوث إليهم من عند الله تعالى، والحامل لشرائعه إليهم، فيفصّل لهم في شأن المعجزات التي بُعث بها، وهو يعدّد ما يفعل بينهم ويرونه وهو يفعله أمام أعينهم، يعدّده لهم، ويحدّد دوره فيه، ويحيل أمره الأعظم وحقيقة تصييره إلى مآله  إلى الله تعالى ... ولقد بعث الله رسله في أقوام، كلٌّ بما اشتُهر في زمانه، وبما تروّض عليه أهل زمانه، فيأتيهم بجنس ما عرفوا، ولكن بما يفوق معرفتهم، حتى يُعجزهم عن الإتيان بمثل ما جاءهم به ... فلما عُرف قوم موسى بالسحر جاءهم موسى بما أبهر السحرة أنفسَهم حتى أُلقُوا ساجدين، مذعنين لما رأوا بأعينهم من آيات بيّنات. ولما عُرف العرب بالبلاغة والفصاحة جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن مُعجزا في أسلوبه وفي موضوعه ورسالته، وفيما حوى من جوامع الكلِم ...
وكذلك عُرف قوم عيسى عليه السلام بالحكمة ونجابة الأطباء فيهم، فجاءهم عيسى عليه السلام بما فاق كل معالِج منهم، وكل طبيب ... ويتدرج نبأ معجزاته في :

** "أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ" يصنع من الطين ما هو على شكل طير، والخلق هنا بالمعنى المجازي الإبداع على غير مثال ولا احتذاءٍ وهو في حقيقة معناه الإنشاء على مثال يُبْدَع. فالفرق بين خلق الله تعالى وخلق الإنسان، أن الله يخلق على غير مثال سابق، ومن عدم، بينما الإنسان يخلق من مادة موجودة، والخلق بمعنى تقدير الشيء الذي سيُصنع، والعرب تقول:  فلانٌ يَخْلُق ثم يَفْرِي أي يقرِّر الأمْرَ ثم يُمضيه.. فعلى هذا أخبرهم أنه يخلق من الطين ما هو على شكل الطير، وهو حتى هذه المرحلة من مقدورات الإنسان وأفعاله، وليس بِدعا من الفعل والصنع، ولكنّ المعجزة تكمن في نفخه في الطين ليكون طيرا بإذن الله .

هو ذا سيّدنا عيسى يحدّثهم بما يَرَوْنه يفعل، فيحدّد دوره البشريّ الذي لا يخرج عن حدود البشرية، ثم ينسب ما تبقى إلى الله تعالى الذي يبعث الحياة في المَوات، يبعث الحياة في الجماد الذي خلقه بيده، أي قدّره وصنعه بيده ... ولنتأمل : "بإذن الله" التي تردِف كل عمل يعلن عيسى عليه السلام أنه ليس من فعله ولا من قدرته بل من قدرة الله وفعله، وبإذنه ... لنتيقّن أنه وهو المبعوث فيهم لم يألُ جهدا، ولم يغادر سبيلا يبيّن به أنه العبد الذي لا يفعل فعل الإله، ولا يدعو لأن يؤلّهوه، ولا يدّعي في الناس خرقا للأسباب ليعبدوه من دون الله ... بل هو الامتحان الذي وُضع فيه بنو إسرائيل أيُفتَنون أم يُستأمنون على ما ينقل إليهم الرسل الصادقون من حقائق يَبْرؤون بها من الألوهية، ومن الدعوة لعبادة غير الله تعالى ...
وسبحان الله ...! سهل أن يُفتَن من يرى خارقة على يد أحد وهو ينسب فعلها لنفسه، ولكن أن يُفتَن مَن رأى الخارقة على يد إنسان يُعلّم الناس أنّها من قدرة الله وبإذنه كانت، فهذا هو الذي اختار أن يغمّي الرؤية على عقله، لا أنه ضحيّة الغَمْي...!

** "وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ". وهذه الآية الثانية من آيات نبوّته عليه السلام، وهي أيضا مما يُعاين قومُه ويعرفونه بها بينهم، إبراء الأكمه (الذي يُخلق أعمى)، والأبرص الذي يُصاب جسده بطغيان اللون الأبيض على جزء منه أو عليه كله، وكلاهما مرض صعب ومستعص حتى على أطباء عصرنا اليوم بَلَهْ اطباء ذلك العصر !
فلقد اشتهر الطبّ في زمانهم، ولكنه لم يرقَ لعلاج هذه الأمراض، ويُعرف أن التوراة جاءت على ذكر مرض البرص في مواقع كثيرة، مما ينمّ عن انتشاره في أزمنتهم، واستعصائه على الطب والأطباء.. فجاء عيسى عليه السلام فأبرأها أمام أعينهم دون خلطه لمواد معالجة ودون احتياجه لأي سبب من الأسباب، بل بإذن الله وحده . كما أحيى الموتى أمام أعينهم، وأعلن لهم أنّما أحياهم بإذن الله لا من ذات قدرته ...

** "وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ". وهذه أيضا آية أخرى من آيات نبوّته التي اختُصّ بها، وهو ينبئ الناس عما يأكلون دون أن يطّلع عليهم، بل وزيادة عما يأكلون ما يدّخرون في بيوتهم.
أليس في كل هذا آية لهم ليؤمنوا، وليصدقوا أنه النبي المبعوث من ربه والرسول المرسَل بشرائعه إليهم ؟ !

ومازال يكلم قومَه عيسى ... كلامهم كهلا كما عرّفنا الله ... فيقول:
وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ(50) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ(51)
ينتقل عيسى عليه السلام إلى بيان دوره مع الكتاب الذي أرسِل به، ومع الكتاب الذي سبق كتابه، وهو التوراة، فبيّن أنه جاء مصدّقا لها، وجاءت "بين يديه" وكأنها تعني قرب زمانه من زمانها، بينما عنتْ الإقامة على العمل بشرائعها ما بين الزمانين وإن تباعدا... وهذا مما يبيّن وحدة ما جاء به رسل الله، فكلّهم يأتي مصدقا لما جاء به مَن سبقه، لأنهم جاؤوا بدعوة واحدة ورسالاتهم من المصدر الإلهيّ الواحد ... ولكنّ الشرائع هي التي كانت تختلف أحيانا بين قوم وقوم، كما يقول عيسى عليه السلام في مزيد بيان لدوره : " وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ "، إذ جاء مُحلا لبعض ما حرمته شريعة التوراة عقابا من الله تعالى لبني إسرائيل لمّا تمادوا في غيّهم وأغرقوا في عصيانهم : "فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ"-النساء:106-

ثم يكرر عليه السلام إعلانه عن آيات نبوته، بقوله : وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ، والطريق إلى تقوى الله طاعة رسله، كما عرفنا في الآيات السابقة وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم : " قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ  فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ "

7-ب) أما قوله : إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ، فهو منتهى كلامه، ومنتهى بيانه، وفيه الدليل الأكبر والحجّة الأتمّ على أنه عبد لله تعالى من جملة عباده، فليس إلها ولا مدّعيا للألوهية، ولا ناسبا أمر الله وقدرته وطلاقة مشيئته له، بل هو رسول بأمر من الله، وهو حامل تشريع جديد وناسخ لتشريعات قديمة بأمر من الله، وهو الذي جاءهم بآيات من الله، وهو الذي يعلن أنه لا يحيي الموتى ولا يبعث الحياة في الجماد ولا يعلم الغيب إلا بإذن من الله، ثم هو القائل بما أمره الله أن يقول : "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ  قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ  إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ  تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ  إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ  وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ  فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ  وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117)"-المائدة- ... إنه عبد الله المقرّ  بعبوديته له، الداعي لعبادته .

 وقد أبان بأنّ هذا هو الصراط المستقيم: " هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ "
وفي مسيرتنا على دربنا، نستحضر من هذه الكلمات الربانية القرآنية التي دعَوْنا بها أول مسيرنا : " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَلنرى عن كثب استجابة الله دعاءنا الذي علّمَنَاه، بينما نخطو خطواتنا والقرآن مشكاتُنا ... أن نعبد الله الواحد الأحد الحيّ القيوم الذي أرسل رُسُله وما هم إلا بشر من البشر، يبلغون رسالة الله إلى الناس، فيدعونهم إلى توحيده، كلّهم سواء بسواء ... هو الذي أوجد عيسى عليه السلام بكلمة منه من غير أب، وما جاء إلا بشرا رسولا نبيا يدعو لعبادة الإله الواحد صراطا مستقيما.

« آخر تحرير: 2018-11-12, 21:38:44 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وحتى مبلغنا هذا من آيات قطاعنا نكون قد أنهينا مرحلة كلام عيسى عليه السلام للناس كهلا، وهو كلام النبوة والدعوة... ونباشر الآن مرحلة جديدة من شأنه مع قومه، إنها مرحلة فيها حكاية عن تلقّي قومه لدعوته :

8-فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(53)
ها هو سيدنا عيسى عليه السلام، وقد أحسّ الكفر من بني إسرائيل، والإحساس هنا هو الإدراك الذي لا شُبهة فيه، إدراك النبيّ المُرسَل من ربه من الحكمة التي أوتِيها :" وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ"، الحكمة التي فيها بُعد نظر، وفهم عميق للأمور، وفيها بَصَر بالأنفس وفهمٌ لتقلّباتها، وفي صفات رجل الدعوة قرأت للشعراوي رحمه الله كلاما حسنا: "إن رجل الدعوة مأمور بأن تعمل كل حواسه حتى يعرف من الذي يجبن ويرتجف لحظة أن تأتي دعوة الخير، ومن الذي يطمئن ويحسن الراحة لدعوة الخير. إن رجل الدعوة مأمور بدقة اليقظة والإحساس ليميز بين الذي تتغير سحنته لحظة دعوة الخير من الذي يستبشر ويفرح"

8-أ) أحسّ الكفر من أكثريّة بني إسرائيل،.فأعلنها صادعة يريد بها الحَسْم في أمر دعوته، فنادى : " مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ " ومن تمام حكمته هنا أيضا أن يحسم وقد أحسّ وفهم ضيق أفُقِهم، وإصرارهم على الكفر ... رغم ما عرفوا من معجزات بيّنات أُيِّد بها، كانوا يرون تحقّقها على يدَيه بأمهات أعينهم، وكان لا يفوّت أن يخبرهم أنّه بإذن الله بُثّت الحياة في جماد خلقه، وفي ميت أحياه، وبإذنه علم غيبا هو من خاصّة شأنهم في بيوتهم ... كلّه رأوه وعاينوه، ولكنهم أصرّوا على الكفر بدعوته إياهم إلى عبادة الله الواحد الذي أذن له في كل ما رأوه من معجزات، كما أنّ كفرهم قد يكون من ناحية تأليه بعضهم له، وتعميتهم على ما أكّد عليه أنه من صنع الله وإذنه وأمره، وكلا الحالَيْن كفر..

أعلَنَها يبحث عن نصير، نصير إلى الله، إلى إفراده بالعبادة، إلى توحيده، إلى إعلاء كلمته سبحانه، وإلى صراطه المستقيم . وإنّ هذا لمِن دأب الأنبياء، أن يبحثوا عن أنصار لدعوتهم، يشدون من أزرهم ويقوّون جانبَهم، ولا يكونون إلا أصحاب الأنفس العالية التي تُقبِل غير هيّابة وتتحمّل الشدائد، وتعين على تأدية الرسالة، وتضحّي في سبيلها بالنفس والنفيس، ذلك لأنهم اقتنعوا بالدعوة وبالداعي، وأيقنوا أنّ نصر الله لهم يكون من نصرهم لله. وقد كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حينما كان دَيْدنه في مواسم الحج استنصاره القبائل : " هل من رجل يؤوينى وينصرنى حتى أبلغ كلام ربى فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي "، وعرفنا دور أنصار المدينة معه في تقوية الدعوة ونشرها.

"قالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ " .. يأتي ردّ الحواريّين عليه بأنهم هُم انصار الله الذين يرنو إليهم، الأنصار إلى الله، فمع: "إلى" إلى دعوته وعبادته وصراطه المستقيم، ومن غيرها : "أنصار الله" لنصر دينه وتأييد دعوته : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ "-محمد:07-
والحواريّ لغةً مأخوذة من الحَوَر، وهو شدة البياض، فهم جماعة في وجوههم سيماء الإيمان مشرقة بالنور من إشراق أنفسهم بالإيمان، ومعناها أيضا النصير .قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لِكُلِّ نبيٍّ حَواريًّا، وحَواريَّ الزُّبَيْرُ "-صحيح البخاري- ونلاحظ بَدْأهم بإعلان الإيمان بالله، ثم تثنيتهم بسؤالهم عيسى عليه السلام أن يشهد لهم بالإسلام. وفي هذا المخطط تفصيل لمقامات ردّهم:


وما يزال ردّ الحواريين لم يكتمل، فيقولون بعد قولهم : " رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ "
لقد أعلنوا موقفهم وتأييدهم القويّ لعيسى عليه السلام، ولم يكتفوا، بل هم أولاء يتوجهون إلى الله بتقرير الإيمان منهم، وباتباعهم لرسوله، يعلنون أن اقتناعهم بما أنزل الله وتصديقهم بما جاء به عيسى من عند الله يقتضي منهم الاقتناع بنبيّه، وتصديقه كل التصديق، ومن ثمَّ اتباعه . ولي في هذا القول منهم نظر...

إنني لأستشفّ أنّ اتباع الرسل هو الترجمة الفعلية لطاعة الله ولتقواه قاعدةً تسري على دعوات كل الرسل. فنرى كيف أنّ المتنادين بألا حجية للسنة، وأنّه مع وجود القرآن لا يقتضي الإيمان اتباع غيره، وبأنّ طاعة الرسول واتباعه اللذَيْن نصّ عليهما القرآن إنما المعنيّ بهما طاعة ما ينقله عن القرآن...كل هذه الأقوال لا أساس متين يُعليها، بل تتهاوى أمام كل هذا التأييد والتصديق من القرآن بعضه لبعض.(العودة إلى تفصيله مع تأملات الآية32 ).

وعلى هذا المخطط توضيح لمعنى الاتباع ...

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
8-ب) انتهى أمر الحواريين الذين هم صفوة بني إسرائيل، صدّقوا بعيسى عليه السلام، وآمنوا بما أرسله به ربه، وأجابوا دعوته إلى نصرته فكانوا أنصار الله، وبقي الآن بيان حال غيرهم، وهم سواد القوم :" وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(54)"

إنهم قد مكروا... يريدون بعيسى عليه السلام سوءا وشرا.. وهذا دأب أعداء الحق، أهل  الباطل وأهل السَّفَه وأصحاب سيادة الخرافة على الحقيقة والعقل، وأصحاب الغايات النفسيّة والمآرب الشخصيّة، المستكبرون في الأرض بغير الحق، الذين لا يحبّون سيادة الحق ولا حكم العدل الذي ارتضاه الله لعباده فيها بما أنزل من شرائع وبما بعث من رسل هُداة لتحقيق المساواة بين الناس ونصر المظلوم والأخذ على يد الظالم ... إنهم أصحاب الزيغ والضلال، الضالون المضلّون الذين يملؤون الأرض في كل زمان وفي كل مكان ...الذين يتصدّون لدعوة الحق ولدُعاة الهُدى، والذين غالبا ما يكونون من عِلية القوم، وأهل الجاه والسلطان، تُعميهم الشهوات المنطرحة بين أيديهم، وتأخذ بألبابهم عظمة السلطان... عُرِفوا من غابر الأزمنة، ومازالوا كذلك إلى يومنا يُعرَفون، ولقد عرّف القرآن كثيرين منهم كانوا عبر أزمنة مختلفة أعداء ألدّاء للحق وللهُدى، وعبّر عنهم في مواقع كثيرة بـ : "الملأ"  .

* في زمن نوح عليه السلام : "قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ"-الأعراف:66-
* وفي زمن صالح عليه السلام : "قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ  قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ(75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ(76)" –الأعراف-
* وفي زمن شعيب عليه السلام : " قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا  قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ"-الأعراف :88- .
* وفي زمن موسى عليه السلام : "وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ..."-الأعراف:من127-

وهم أولاء في زمن عيسى عليه السلام يمكرون بالنبيّ الهادي المبعوث من ربه...
والمكر فعل يُقصد به إلحاق الضرر بأحَد في هيئة تخفى عليه ، أو تلبيس فعل الإضرار بصورة النفع، وينقل الفخر الرازي عن الحرالي تعريفا للمكر يميّز به بينه وبين الكيد. يقول: "والمكر إعمال الخديعة والاحتيال في هدم بناء ظاهر كالدنيا، والكيد أعمال الخدعة والاحتيال في هدم بناء باطن كالتدين والتخلق وغير ذلك، فكان المكر خديعة حس والكيد خديعة معنى "-مفاتح الغيب للرازي-
وهؤلاء الذين مكروا بسيدنا عيسى نستحضر من القرآن ذاته ما يحدّث عنهم، وعن تلقّيهم لدعوته عليه السلام : "...فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ  فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ" –الصف: من14- فهُم الطائفة التي كفرت به، وقد عرفنا الطائفة التي آمنت به وهم الحواريون.

ومقابل مكرهم كان مكر الله تعالى، ومكر الله كما يعبّر عنه القرآن : "...قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا..."-يونس:من21- فهو الأسرع وهو الذي يغلب، وهو الذي بين يدَي آياتنا يعبّر عنه سبحانه بقوله : "وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ". إنه خير الماكرين سبحانه، فإن كان مكر أصحاب الكفر والاستكبار و الشر والدهاء مكرَ سوء وضرّ بدُعاة الحق وأعلام الهُدى، فإن مكر الله تعالى بهم مكر فيه صلاح الناس وخيرُ الأرض، بقهرهم، وجعل كيدهم في نحورهم، وردّ مكرهم عليهم، وإنفاذ مشيئته العليا ودحض أهوائهم السُفلى ...

ولقد قال ابن عاشور في: "خير الماكرين" : " ويجوز أن يكون معنى خير الماكرين :أنّ الإملاء والاستدراج ، الذي يقدّره للفجّار والجبابرة والمنافقين ، الشبيه بالمَكر في أنّه حَسَن الظاهر سَيّء العاقبة ، هو خير محض لا يترتّب عليه إلاّ الصلاح العام ، وإن كان يؤذي شخصاً أو أشخاصاً ، فهو من هذه الجهة مجرّد عما في المكر من القُبح ، ولذلك كانت أفعاله تعالى منزّهة عن الوصف بالقبح أو الشناعة ، لأنها لا تقارنها الأحوال التي بها تقبح بعض أفعال العباد؛ من دلالة على سفاهة رَأي ، أو سوء طوية ، أو جُبن ، أو ضُعف ، أو طَمع ، أو نحو ذلك.". انتهى.

ولن يتركنا الله في معزل عن معرفة هذا المكر الإلهيّ... بل إن الآيات تحمل النبأ اليقين عنه ... "إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(55)"

إن الله تعالى يُعلِم نبيّه بما سيفعل به ... فنعدّد:
1- إنّي مُتَوَفِّيكَ
2- وَرَافِعُكَ إِلَيّ
3- وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذِينَ كَفَرُوا

وها هنا قضية بالغة الأهمية لاعتقادنا ...
إنّ في معرفة حقيقة عيسى عليه السلام وما جرى عليه من أمر الله تعالى لَعِلمٌ من الواجب والضروريّ أن نتلقّنه من المصدر الذي لا شكّ فيه ولا ريب، من كتاب الله عزّ وجلّ الذي أجلى لنا هذه الحقائق التي تمثّل جوهر عقيدتنا في الله، وتحدّد رِكزها وقواعدها وأسُسها التي تُبنى عليها كل فروع العقيدة بعدها .
وإنّ أهمّ منطلقات هذه السورة التي نحن في رحابها، أن تَميز لنا الحق من الباطل، أن تحدّد لنا ثوابت الانطلاق التي تبقى ثوابت طيلة المسير على درب هذه الحياة الدنيا، لقد عرفناها تعلّمنا ثوابتنا ومنطلقاتنا، وتعلّمنا ضرورة الثبات على المنهج الذي أنزل الله لهداية مَن خلق... وإنّ الإنسان وهو على درب هذه الحياة ستَعرِض له المعيقات والمُزِلات في شكل شهوات مبهرات تأخذ بالقلوب والألباب لتسوق أصحابها للشُبهات التي تُضلّ المستمسكين بها، المفتقرين لآليات الثبات...

وكم سمعنا، وكم صرنا نسمع عن عمل الشّبهات فيمَن يعبدون الله على حرف، حتى يُصبح المرء مؤمنا ويُمسي كافرا... حتى أصبحت بلاد المسلمين تغصّ بقضايا التشكيك في كل رمز من رموز العقيدة ومقوّمات الدين..! فهذا صاحب شبهة مشكّك، وذاك محارب للشبهات، داحض للتشكيكات، ساع في إذهاب الشكوك عن الشاكّ، وآخر طاعن في الداحض المحارب وعادُّه رجعيّا متأخّرا متكلّما بكلام القُدامى  ...! وهذه شبهة جديدة قديمة، وتلك شبهة متناقَلة، والأخرى متداوَلة مكرّرة ... وأصوات وأصوات هي رجعٌ لصدى واحد أصيل قديم ينسخ نفسَه في كل زمان نُسخا نُسخا ... وفي هذا الزمان منه نُسَخ ما أكثرها وما أكثر ضروبها وألوانها ...! "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ  فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ  وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ  ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ"

واليوم في عصر باتت فيه وسائل التواصل والاتصال أقرب من أيّ قريب، لم يعد يَبعُد عن شباب المسلمين بعيد من صيحات الثقافات ذات الشطحات الوضعيّة التي تتلون  بتلوّن الأهواء  والشهوات، بتنا نسمع عمّن يُفتَن في دينه من قراءة لشبهة تنتشر عبر مواقع التواصل، أو من منبر بين المنابر التي صار يعتليها كل ناعق بهوى بين الأهواء، يدّعي التجديد ومناهضة الموروث، وكلّه عنده موروث، بما فيه الأصول والثوابت !!

وهذا من ذاك... هذه الأمواج المتلاطمة الهوجاء من قلّة الزاد وشُحّ الوعاء... عقيدة هزيلة قوامها كلمات تُقال بلا ميزان لمقتضياتها، شهادة توحيد لا تُجسَّد في الحياة حركةً وتناسقا مع معانيها، حتى من يعرف لا يكلّف نفسه الحفر والغوص بحثا عن لآلئ الأعماق ... وهيهات هيهات... ! لا نطالب بأن يكون الكلّ بحّاثا، حفّارا، غواصا ... بل ليت شعري.. أمِنْ مسترشد بالقرآن فيرشد، ومِن مستهدٍ به فيهتدي ؟!
إننا الآن مع قضية رئيسة، هي عمود من عِماد العقيدة، تتكفل "آل عِمران"  بتنقيتها وعرضها على صورتها الحقيقية الصافية النقيّة من كل شائبة، البعيدة عن كل تأويل بشريّ لو أنها تُركت له لما كان لحقيقة الإيمان في النفوس معنى، ولما عُرف الله حقّ معرفته، ولأصبح الإنسان هَمَلا سَقطا من سَقط المتاع لا قيمة له ولا وزن، ولا معنى للعقل الذي كُرّم به، بل لا معنى للتكريم الإلهي فيه ...
إنها قضية الألوهية، وبيان حقيقة عيسى عليه السلام جزء لا يتجزأ من بيان حقيقة الألوهية، وذلك لما كان من تأليهه، ومن نَسبه ولدا لله، ومِن تثليث للألوهية التي لا تستقيم إلا بالتوحيد.

لنتأمل... فإنّنا قد قضينا من أعمارنا أحقابا طويلة نكتفي بفهم هو سطح السطح، قضينا أحقابا لا نعرف من قرآننا غير قراءة الحروف، أو تجويد الحروف أو ترتيل الحروف، كله متعلق بالحروف مقترن بها، لا يعدوها ... !!
لنتأمل ... فلكم عشنا مع فهم بعيد ...!
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
1- إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ

يُعْلِمه الله سبحانه أنه متوفّيه، أي أنه ممض هذا الأمر فيه، وهو الذي لا يبدَّل القول عنده.
وأول ما يقفز إلى أذهاننا من معنى "متوفّيك" هو الموت، وهو المعنى الذي ساد وانتشر في الأذهان من فرط تعليق الناس للفظ بحال، وتغليبه عليه دون أحوال أخرى. حتى استبدّ ذلك المعنى وأصبح غيره شاذا عند سامعه وكأنما هو المعنى الخطأ الذي لا يجب أن يُنسَب للفظ ، بينما التوفّي لغةً يعني أيضا أخذ الشيء كاملا بلا نقص : "تَوَفِّى الحَقِّ : أخْذُهُ كَامِلاً ، وَافِياً." توفَّى الشيءَ أي قَبَضه تاماً واستوفاه.  فهنا : "إنّي متوفّيك" قد تعني أنه سبحانه قابضه إليه كاملا لا ينقص منه شيء، بروحه وجسده، ليس أنه قبض روحَه من جسده، بل هو أخذ خاص لسيدنا عيسى عليه السلام أخرجه به من الدنيا.

وتقــــــوّيها:

2- وَرَافِعُكَ إِلَيّ . رفع لسيدنا عيسى بالروح والجسد، ولو كان الرفع بعد الإماتة لما كان له من معنى، ونحن نعلم أن كل شخص –وإن كان نبيا- لا محالة يُقبر، يقول تعالى:"مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ"-طه:55- .

تماما كما كان مولده معجزة، فكذلك خروجه من الدنيا بمعجزة، لقد أخرِج منها بقبض خاص يجعله عند الله تعالى حيا لم تُقضَ فيه الموت بعد . فلنتأمل قوله تعالى : "اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا  فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" –الزمر:42-

وعلى المخطط أدناه في معنى "إنّي متوفيك" حاولتُ أن أفصّل ما ذهب إليه الدكتور فاضل السامرائي المتخصص اللغوي المبرّز، أحد رواد التفسير البياني للقرآن الكريم:


وعلى هذا المحمل اللغويّ، فالتوفّي لا يعني حصرا الإماتة، بل يعني أيضا المنام، كما قد يعني في سيدنا عيسى عليه السلام قبضا عن التصرّف الاختياري في الدنيا.
كما أن هناك من قال بأن معناها قبض الله له وقد استوفى نبوّته، ومما يعضّد ذلك أنه سينزل في آخر الزمان، ولو أنه قد قُبض ولم تُستوفَ نبوّته لنزل نبيا، وهذا ما لا يستقيم مع كون رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيّين والمرسلين، وعندما سينزل عيسى عليه السلام سينزل متّبِعا له ولشريعته .. والدليل على ذلك هو ما نقله أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كيف أنتم إذا نزل ابنُ مريمَ فيكم ، وإمامُكم منكم ." –صحيح البخاري- سيصلّي عليه السلام خلف واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكون مأموما أبدا من كان نبيّا .

ولا نفوّت أن العلماء قد اختلفوا في معنى الآية، فقال بعضهم أنه الإماتة وأيّده، وقال  منهم جمع كبير بأنه القبض بالروح والجسد.   أورد ابن كثير مثلا عن مطر الوراق قوله : "إني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت" وأورد عن ابن جرير قوله أن توفّيه هو رفعه، وقال كثيرون: المراد بالوفاة ههنا النوم كما قال تعالى " وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ... " –الأنعام:من60-

ومما يؤيّد أن توفّيه عليه السلام يعني رفعه كاملا بالروح والجسد رفعا خاصا هو قول الله تعالى : "وقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ"-النساء:من157-  وقوله أيضا : " بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا "-النساء:158-
أي أنّه كان رفعا له من الله، وما استشكل على بعضهم هو ورود "ورافعك إليّ" بعد "متوفّيك"، لا قبلها، مما يعني إماتة ثم رفعا، ولكن هنا في "النساء" ورودُها وحدها يقوّي أنه رفع مع حياة لا رفع بعد إماتة.

كما أن في الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينبئ عن نزوله آخر الزمان، وأنّ موته ستكون بعد نزوله ذاك، وهو عن الذي جاء في القرآن الكريم حول إيمان كل أهل الكتاب به قبل موته، إذ ينزل بحكم الله تعالى مبطلا دين النصارى بكسره للصليب، وبوضعه الجزية.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" والذي نفسي بيدِه ، ليُوشِكن أن ينزلَ فيكم ابنُ مريمَ حكمًا عدلًا ، فيكسرَ الصليبَ ، ويقتلَ الخنزيرَ ، ويضعَ الجزيةَ ، ويَفيضَ المالُ حتى لا يقبلَه أحدٌ ، حتى تكونَ السجدةُ الواحدةُ خيرًا من الدنيا وما فيها . ثم يقولُ أبو هريرةَ : واقرؤوا إن شئتم : {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } . " -صحيح البخاري-

ولنرقب دور السنة في بيان العقيدة، وهذه الأحاديث الصِّحاح تُفصّل لنا ما أُجمِل في القرآن الكريم ... لنرقب دورها وهؤلاء المشككون فيها وفي حجيتها وفي عدالة ناقليها إنما يريدون نقض الدين وهَدْمَه وهم ينقضون مصدره الثاني الذي لا غِنى عنه لعقيدة سليمة .
إذن هذا عن شأن قبض الله تعالى لعيسى عليه السلام  بالروح والجسد ورفعه إلى السماء حيّا حتى يأذن الله في نزوله إلى الأرض كما رأينا، ليموت فيها كما مات وسيموت كل إنسان وكل نبي.
ولا نغادر هذه الآية حتى نستوفي فعل الله في عيسى عليه السلام، فهو سبحانه متوفّيه، ورافعه إليه، ومطهّره من الذين كفروا.

3- وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وهو بإبعاده عن رجس أذاهم، وبإنجائه مما بيّتوه له من مكر . يقول سبحانه : "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ  وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ  مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا" –النساء:157-
لقد بيّن الله مآل عيسى عليه السلام، ومكره الذي مكر، وهو سبحانه أسرع مكرا، فيغلب مكره وإرادته ما أراد الماكرون، وهو خير الماكرين، وفي فعله بنبيّه عيسى عليه السلام هذا الذي عرفنا خيرٌ وصالح عام . وهو سبحانه قد أرسله بالحق من عنده، فمَن آمن به واتبعه فقد نجا وفاز، ومن كفر به ومكر وأراد به سوءا، فإنما قد تحدّى أمر الله وتصدّى للحق الذي بعثه به، وذاك هو الخاسئ الخاسر الساقط في امتحان الدنيا .
« آخر تحرير: 2018-11-15, 08:34:07 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل ماما هادية

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 15901
  • الجنس: أنثى
  • احفظ الله يحفظك
جميل هذا الذي وفقك الله له يا اسماء من معنى ( متوفيك)
وقد كنت اخشى ان تميلي للرأي الاخر فتلكأت كثيرا في ان أقرأ ما كتبت
فاعذريني
بارك الله بك وفتح عليك فتوح العارفين
*رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ*

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
تقبل الله منك يا هادية وجزاك خيرا .
أتمنى أن تتابعي ما أضعه هنا كلما تيسر لك، لأنني بإذن الله وعونه مكملة مع باقي السورة، وإن يسر لي الله تعالى أمشي الهوينى مع السور، لأنني كتبت على كراريس ما مبلغه اليوم سورة النحل، وللأسف لم أكتب على الحاسوب :emo: وعدت الآن لأنقل من كراريسي وأزيد عليها عساني أكمل بعون الله . وأتخذ من موضوعي هذا مكانا أخبئ به . فأتمنى أن أجد من يشجعني على المواصلة .
« آخر تحرير: 2018-11-18, 10:34:37 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ثم بعد بيان مآله وما هو جارٍ عليه، هو ذا يُعْلِمه بمآل الفريقَين، المؤمنين والكافرين به :
وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

هذه الفوقيّة التي سيجعلها الله من حظّ المؤمنين المتّبعين له، وهم المسلمون... فمنهم الذين اتبعوه في حياته، ومنهم الذين آمنوا به أيضا بعد مماته، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قال صلى الله عليه وسلم : "من شهدَ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه ، وأن عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه ، وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه ، والجنةُ حقٌّ ، والنارُ حقٌّ ، أدخله اللهُ الجنةَ على ما كان من العملِ " –صحيح البخاري-  ومنهم الذين يتبعونه عند إنزال الله تعالى له في آخر الزمان . وهي فوقيّة تجعلهم الأعلى في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا فبحيازتهم للعقيدة السليمة الصحيحة، وبسلوكهم درب الحياة بالحجّة الأقوى وبالتصوّر السليم للكون وللحياة، ولدور الإنسان فيها، وأما في الآخرة فبفوزهم وقد آمنوا وصدّقوا بما أنزل الله، وباتباعهم لأنبيائه ورُسُله الأطهار.

والمرجع أخيرا إلى الله تعالى ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، وقد اختلفوا في عيسى عليه السلام، فألّهوه، ونسبوه لله ولدا، وجعلوه ثالث ثلاثة ... وتأتي الآيتان المواليتان مفصّلتَين لهذا الحكم من الله :
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ(56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(57)

وعيدٌ للذين كفروا بالعذاب الشديد، فأما الذي في الدنيا فقد يكون عذاب النفس التي لا تعرف هدفها، ولا تعرف طريقها، فهي عنه تائهة، غارقة تمام الغرق في بحر الدنيا اللُّجيّ، لا تنفكّ لاهثةً خلف متاعٍ هو للجسد، والروح مخنوقة لا تجد متنفّسها ولا دواءها .. هي العليلة الحائرة التي تهرب حتى من عناء البحث عن حقيقتها ...
وفي الآخرة هو عذاب شديد من الله الجبار الذي يمهل ولا يهمل، والذي يوفّي الناس ما يستحقون ولا يظلم سبحانه مثقال ذرة. وكذلك يؤتي الذين آمنوا أجورهم في الدنيا والآخرة، وإنّ للعبد المؤمن من ربه عطاءات دنيوية أعلاها أنه يعلم الغاية من وجوده، ويعلم مُنتهاه، ويعلم أن الدنيا دار عمل ومِهاد لما ينتظره في دار لا فناء بعدها .

وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ... الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وظلموا غيرهم بنشر الكفر وبالصدّ عن سبيل الله، والنصارى قد ظلموا الله بأن أثبتوا له الولد، وظلموا عيسى بأن جعلوه ولدا لله، وألّهوه، وهو ما أتاهم إلا مُعلنا عبوديته لله ربه وربهم.

والآن ... ها قد بينتْ لنا آل عمران قضية عَقَديّة جوهرية ببيان حقيقة عيسى عليه السلام ..
لقد بيّن الله حقيقة مولده، بدءا بالاصطفاء الذي خصّ به آل عمران، من جدّته امرأة عمران التي سألت ربها أن يعيذ وليدتها وذريتها من الشيطان الرجيم، فأجاب دعاءها، وجعل في عَقِب مريم عيسى نبيا من الصالحين، ولقد اصطفاها وخصّها بالتطهير والقُنوت والكمال على نساء العالمين، فجعلها أمّا له بما أمضى من أمره سبحانه فيها، أمرِ خلقه لعيسى من غير أب بكلمة "كن"، ثم أنبأها أنّ من صفاته  اختصاصه بكلام قومه في المهد مقرّا بأنه عبد الله آتاه الكتاب وجعله نبيا، منافحا عن أمّه، واختصاصه بكلامهم كهلا، داعيهم إلى توحيد ربهم وهو ينسب تصييره الطين حيا وإحياءه الموتى، وعلمه بخاصة ما يأكلون وما يدّخرون إلى مشيئة الله تعالى وجعلها له آيات بينات على صدق رسالته، ثم بيّن الطائفة المؤمنة به، والطائفة الكافرة به ومآل كل منهما .

8-ج)  إننا الآن مع مرحلة جديدة، يلتفت فيها المولى عزّ وجلّ إلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بالخطاب،  مؤكّدا له أنّ كل ما سلف عن عيسى وعن يحيى وعن زكريا عليهم السلام وعن مريم وأمها إنما هو :

ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ(58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ(59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ(60) فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ(61) إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63)
إن الله تعالى بما سبق من قَصَص هذا القطاع علّم نبيّه صلى الله عليه وسلم وعلّم المؤمنين الحقائق...

تلك الحقائق التي جعل أهلُ الكتاب يحرّفونها ويُخْفُونها ويطمسون ذكرَها، ويؤوّلونها بأهوائهم وبشطحات عقولهم كما شاؤوا، ولو أننا تُرِكنا من غير أن يعلِّمَناها الله على هذا الوجه الصحيح النقيّ الذي يصوّرها لنا كما هي، لصرنا إلى تَيْه ما بعده هُدى، ولما كانت لنا عقيدة صحيحة في الله، ولقُلْنا بأقوالهم ولوثات ألسنتهم على الله وعلى رُسُله عياذا بالله...
لقد جاء وفدٌ من نصارى نجران -الواقعة على حدود اليمن- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاجّونه، يعرضون عليه اعتقادهم الفاسد في عيسى عليه السلام، ليسمعوا منه قوله فيه. وفي هذا السبب قيل بنزول كل هذه الآيات من سورة آل عمران تُبيّن الحق وتبطل أباطيلهم.
لقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق يتلوه عليه ربه من الآيات والذكر الحكيم، الذكر الحق الذي لا ريب فيه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذكر الذي علّمنا نحن الحق حتى لا تبقى عقولنا نَهْبا لأكاذيب النصارى واليهود المتقوّلين  بشتى الأقاويل كذبا وافتراء على الله وعلى رُسُله .

لقد بُعِث سيدنا عيسى عليه السلام في بني إسرائيل وهم قد أغرقوا في المادية الصّرفة، وابتعدوا كل البعد عن الروحانيات، فلم يعودوا يؤمنون بغيب. وفي تجرئهم على موسى عليه السلام وسؤاله الآية تلو الآية بشروط وإلزامات، وبسؤاله أن يريهم الله جهرة أكبر دليل على إغراقهم في ماديات الأسباب حتى لم يُذعنوا لشيء من المعجزات، بل تطاولوا أيّما تطاول ...!

جاءهم عيسى عليه السلام وهم على ما هُم عليه، فكذّبوا بما جاءهم به، وطعنوا في أمه واتهموها بالزنا، ومكروا ليقتلوه، وحسبوا أنهم قد قتلوه، فجاء القرآن بما بيّن خطأ حُسبانهم، إذ ألقى الله شبَهَهُ على الذي قتلوه ورفعه إليه ونجّاه منهم، بينما غالى فيه آخرون، فجعلوه ابنا لله، قالوا أنّ نفخ الله من روحه في مريم يجعل من الله أبا لعيسى مع غياب الذكورة في إيجاده ..وكان أولى أن يُفتَنوا في آدم الذي نفخ فيه الله من روحه، وأوجده من غير أب ولا أم ..
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
تلك هي المحاجّة العقلية التي تدحض تصوّرهم الفاسد، وتُقنع كل ذي عقل سليم باحث عن الحق إذ يقول سبحانه :" إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ "
كلاهما أوجده الله تعالى بطلاقة قدرته وبمشيئته... بكلمته، فإن كان خلق عيسى من دواعي العَجَب، فماذا عن خلق آدم ؟!
هو الله الواحد الخالق الذي صوّر آدم وخلقه كما شاء،  خلق عيسى أيضا كما شاء.

ولكأنّ الله تعالى يمتحن ويمحّص هؤلاء الذين غالوا وأغرقوا في الماديات والحسيّات والأسباب، فابتلاهم بما خرق كل الأسباب...
فهذا خَلْقه لعيسى عليه السلام بغير الذي يجري على البشر، ثم هذه معجزاته وفيها فعل الإله، امتحانا لهم بما هو أعسر وأقوى، وهو سبحانه يبيّن لنا أيّما بيان أنّ توحيده وعبادته في الأرض لا يحتاج تحقيقهما لأن يتقرّب سبحانه لعباده بما يرضيهم، ويلبّي شروطهم حتى يؤمنوا به... لا يحتاج لاسترضائهم...! 
إنما ذلك حال الإنسان وهو يسعى لنيل رضى مَن حوله حتى يصدّقوا بدجل يأتيه ربما أو كذب يكذبه عليهم ... أو حتى بما يكون صدقا، وفي الحالَيْن يحتاج أن يَرضوا ابتغاء الفوز بأموالهم ليغتني أو بإعجابهم ليشتهر ويلمع نجمُه ...  أما الله سبحانه، فهو الغنيّ عن عباده، العظيم الذي لا يضرّه كفر أهل الأرض برُمّتها، بل هم أهل الحاجة إليه والافتقار له...

وعلى هذا أرسل سبحانه لهؤلاء الماديّين المستكبرين في الأرض ما يزيد في فتنة من يصرّ منهم على الكفر والتكذيب وهم يرون فعل الإله من بشر-رغم أنه يعلن أنه يفعله بإذن من الله وحده- وما يزيد من إيمان الصفوة القلّة التي ستنخلع من مخاضة الكافرين وتنجو بإيمانها، وهم يرون البشر الرسول يعلن أنه يفعل ما هو من فعل الله... فقط بإذن من الله .
وإن كانت فتنتكم في خلق عيسى بلا أب من دم مجتمع في رحم امرأة، فإنه أولى بكم أن تُفتنوا في آدم وقد خلقه بشرا من تراب، لا من أب ولا من أم !

وقد يتبادر للأذهان تساؤل عن سرّ صيغة المضارع في:  "يكون" ، بينما كانت: "خَلَقَه" و "قال" في الماضي :"كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ".. فذلك لاستحضار الصورة كما وقعت، وأيضا لاستمرار إرادته سبحانه بقضائه فيما يشاء من الأمر بما يشاء في أي زمان أو مكان شاء.
وما يزال يقرّر الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم أنّ : الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ(61)

كل ما تُلي عليك هو الحقّ... بل إن "الحق" الحق لا يكون إلا من ربّك.. الذي لا ريب ولا شك فيما أنزله عليك، ومادام الله هو المصدر الأعلى للحق الأعلى فهو سبحانه يأمره ألا يكون من الممترين. وفي هذا الأمر ضمنيّة ما هو عليه حال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوقن أنّ الحق لا يكون إلا من الله، أكثر من كونه أمرا له بابتعاده عن الشك والحقُّ بين يدَيه، لأنّ هذا لا يكون من النبي صلى الله عليه وسلم.  ولولا أنّ هذا الحق لم ينزل، من أين كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجزم بحقيقة أمر عيسى عليه السلام، وبمَ كان سيحاجّ وفد نجران، وبمَ كان المؤمن في كل زمان سيقابل ما عند النصارى من اعتقاد فاسد؟! عندها لن يُلام من اتّبع اعتقادهم وصدّق به، كما لن يُلام من لم يتبعه واختلق غيره...ولكنّ الله تعالى لم يكن ليذر عبده الذي استهداه الصراط المستقيم دون أن يبيّن له الحق من الباطل في هذا الأمر بالغ الحساسية والأهمية، أمر العقيدة في الله تعالى، وبيان باطل كل من ألّه غير الله، أو نسب لله ما لا يليق بعظيم سلطانه وجلال قدره .
لقد علّم نبيه صلى الله عليه وسلم ليعلّم، ليبلّغ عنه ما علمّه إياه، علّمه حتى يقابل المحاجّين بالحجة البالغة والحقيقة الدامغة، فإنّ يقينه صلى الله عليه وسلم وعدم امترائه فيما يلقّنه ربّه هو ما يجعله أهلا لتبليغ هذه الحقائق...

فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ(61)
لنَرقُب سويا هذا الترابط والتناسق البديع ...! فمن التعلّم إلى التعليم، من التبلّغ إلى التبليغ، من اليقين إلى المحاجّة باليقين...بمَ وصف الله تعالى ما جاءه في شأن عيسى وقصة مولد يحيى عليهما السلام، وقصة مولد مريم قبلهما ؟

لقد وصفه بالعلم ...

وهنا أستحضر بدايات السورة، وما جاء من قوله تعالى : " وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا  وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" . إن صفتهم الرسوخ في العلم. الإيمان المؤسَّس على علم إيمان قويّ راسخ، ضارب بجذوره في أعماق النفس، متمكّن منها، صعب اجتثاثه، ثابت صاحبه ...

هذا هو العلم الذي يجعل التصوّر السليم للحقائق الوجودية سببا في راحة الإنسان، بينما أصحاب الزيغ والضلال والهروب من الدين، ضُرب عليهم التَّيْه وأركستْهم الحيرة المغلّفة بالهروب الذي يستدعي الهروب في صورة أكمّة كاتمة لصوت الفطرة فيهم، مما يجعل منهم مَسخا هاربا من الحقيقة نحو الضلال، من الهدى نحو الضياع ...من المعنى إلى اللامعنى ...
العلم بالله أساس العلوم، ورأس العلوم، فمن عرف الله فقد عرف، ومن لم يعرف الله فقد جهل وضلّ وتاه وإن كان عارفا بكل علم ... إنها لَبِناتُ العقيدة وأساسات التصوّر الواضح للكون والوجود والإنسان.

« آخر تحرير: 2018-11-19, 08:58:40 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ها هو صلى الله عليه وسلم يأمره ربّه أن يدعو هؤلاء المحاجّين الذين لا ينفكّون محاجّين في عيسى عليه السلام رغم كل ما تبيّن لهم من الحق، أن يدعوهم بقوله : " تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ "
إنها الدعوة إلى المُباهلة، والمُباهلة هي التضرع في الدعاء لاستنزال اللعنة على الكاذب، فالبُهلة والبَهلة هي اللعنة، تقول العرب : أَبْهَل الناقةَ أي أَهْمَلَها . واللعنة هي الطرد من رحمة الله.

أمِر صلى الله عليه وسلم أن يدعو وفد نجران للمباهلة، النبي وأهله والوفد وأهلوهم ثم يتضرعون إلى الله أن يلعن الكاذب بينهم .
وفعل رسول الله ما أمِر به، ودعاهم للمباهلة، ولكنهم أعرضوا ولم يستجيبوا لدعوته خوفا من أن تحلّ عليهم اللعنة، ولو أنهم كانوا على يقين مما جاؤوا به لما خافوا المباهلة. وهذه واحدة من علامات صدق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عيسى عليه السلام في جملة ما جاء به من الحق، كما أنه علامة من علامات يقينه صلى الله عليه وسلم، إذ لا يُقبِل على مثل هذا إلا موقن من ربه غير مرتاب ولا ممتر.
لقد انتهى قطاع القَصص ... انتهى هذا القطاع الذي أعطانا علما  ... علما يجعل صاحبه على رسوخ من عقيدته، ووضوح من تصوّره لحقيقة وجوده ...   وثبات من أمره... يقول سبحانه في آخره :
إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63)
ولنتأمل تركيب هذه الآية وفيها عن الحق الذي جاء في هذا القَصص، كما فيها توحيد الله تعالى
التأكيد وتقوية الخبر بــ : "إنّ"  وبلام التأكيد "لهو" وبـ "الحق"
التوحــــــــــــــــــــيد بـ : "ما" النافية لوجود إله غير الله و بـ"من" : المفيدة لاستغراق النفي استغراقا مستمرا ثابتا مؤكّدا وبـ "إلا الله" :  وحده الله هو الإله.
التأكيد على عزّة الله وحكمته بـ : "إنّ"  وبلام التأكيد "لهو" .

وهو سبحانه العزيز الذي لا يعجزه شيء، ولا يُغلَب . والحكيم الذي له الحُكم، وله الحكمة التامة في كل أفعاله وأمره وخلقه، المُحكِم لما خلق على مقتضى حكمته. وفي هذا إشارة إلى باطل ما زعموه من أنّ المسيح قُتل أو صُلب وهو عندهم إله، فكيف يكون إلها مَن يُقدَر عليه فيُغلَب حتى يُصلَب، ومن ليس حكيما حاكما بل محكوم عليه.؟!

إذن فهو سبحانه الإله الواحد الذي يقصّ الحقّ، فلا يُغلَب ولا يُعجزه كفر من كفر وإن استكبر وعلا وتجبّر، ولا تقوُّلُ مَن تقوّل وحرّف وبدّل، واتخذ من دونه إلها، فألّه عبده الذي أرسله هاديا وداعيا لعبادته وتوحيده، الحكيم الذي له في خلقه شؤون، فهو يصور في الأرحام كيف يشاء، ويفعل ما يشاء ويخلق ما يشاء، إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، خَلْقُه مُحكم، وأمره مُحكَم وتدبيره مُحكَم لا ينقضه ولا يفسده فساد عباده وكفرهم، حكيم له الحكمة والحُكم إذ خلق بشرا من غير أب، كما خلق أول البشر من غير أب ولا أم، وكما أوجد الوجود من عدم، حكيم وهو يمتحن عباده ويمحّصهم، ويبتليهم ليتبيّن صاحب العقيدة السليمة من العقيدة الفاسدة ...

فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ... عليم سبحانه بمن تولّى من أهل المحاجّة وفد نصارى نجران، وكل محاجّ في كل زمان، رغم كل العلم الذي جاءه والحقّ الذي تبيّن له من كل وجه يصرّ على الباطل، وما ذلك إلا دليل إصراره على الإفساد بعدما فسد حاله، وأي إفساد أكبر من إفساد علاقة الناس بربهم، وعقيدتهم الصحيحة في الألوهية؟!  وفي هذا كله شأنٌ رئيس من شؤون هذه السورة التي نحن في رحابها ... هذه الخطوة التي نخطوها على درب الحياة بإضاءة من القرآن تنير لنا العتمة ...
أمازلتُم تذكرون معي خصوصية هذا المسير الذي نتقاسمه على هذا الدرب ؟ أم أنّ آيات قطاعنا الأخير (33-63) وتفصيلنا في موضوعها قد أنساكم أنّنا نتوقف لنتأمّل موقع أقدامنا على دربنا، نبتغي رسوخا وثباتا ومعرفة بالموقع قبل أن ننتقل إلى خطوتنا الموالية ؟ 
إنّ خصيصة قراءتنا لقرآننا في هذه الرحاب أنّنا نريده زادا للحياة، بل نورا ينير لنا، فنضع أقدامنا حيث يجب، حيث لا خوف ولا ريب... ونتقدم ونحن نتّقي العقبات، فنعرف حجر العثرة، ونتبيّنه، ولا نغترّ ولا ينجح معنا مَن يوهمنا أنه الحجر الكريم الذي سينالنا منه خير ...!
لقد استهدينا الله الصراط المستقيم (الفاتحة)، ولقد أجاب الله دعاءنا، فعرّفنا مصدر الهدى(البقرة)، ولقد علّمنا أن الله الذي نعبد هو الله الذي يجب أن نمتثل لأمره فينا بأن نفعل ما يأمرنا، وننتهي عما ينهانا (المنهج من البقرة) ... وإنه سبحانه يَصْدُقنا، فيعلّمنا أنّه لا يكفينا أن آمنّا واتبعنا واهتدينا، بل إنّ على الدرب امتحانات في رسوخ الإيمان وثبات الهُدى يجب علينا تعلّم اجتيازها برباطة جأش... وإنّ عليه معيقات يجب علينا تعلّم تحاشيها والنّأي عنها...
وفي هذه السورة تحديدا يأتي هذا التعليم..إننا نتعلم كيف نثبت ...

وهذا مجمل خطوتنا الرابعة :


ونلحقها بالخطوات السابقة لنراجع مجموع ما عرفنا حتى الآن :

يعرّفنا سبحانه أسباب الاهتزاز
ويعلّمنا عوامل الثبات
يعلّم المؤمنين ثوابتهم على درب الحياة
ثم يبدأ سبحانه بتعليم المؤمنين الحق :
« آخر تحرير: 2018-11-19, 08:47:15 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
حان موعد دخولنا قطاع جديد من سورتنا العظيمة هذه...

وإني لألمس فيها بقوة وهي السورة المثبّتة معنى "العلم" الذي يجدر بالإنسان أن يتعلّمه، العلم الأساسيّ الضروريّ الذي لا محيد عن معرفته ليكون الإنسان على بيّنة من أمره، من وجوده في هذه الدنيا، فلا تطوّح به الرياح يمنة ويسرة كفعلها فيمَن نراهم اليوم وقد ذاع صيتهم باسم العلم الذي علموه فاكتشفوا واخترعوا وبرزوا أيّما بروز في ماديات الدنيا، وطوّعوها لأيمانهم ولكنّهم ما عرفوا ربّهم، أنكروا وجوده، فقالوا بأن الحياة مادة ولا إله ...!

وقالوا -رغم أنهم يتنفّسون بمنطق الأسباب- بأنّ الكون محض صدفة، وأن الإنسان ما جاء إلا صدفة، وأنّ كل هذه العظمة الناطقة في كل ذرة من ذرات الوجود إنما أصلها صدفة ...!
إنّ هذا الذي يعلّمنا الله إياه هو العلم الذي يرفع به الإنسان رأسه في الدنيا ليقول ملء قلبه وعقله: أنا الإنسان الذي أعرف خالقي، وقد علّمني الغاية من وجودي، وأعلم أنّما الدنيا دار امتحاني أأقرّ فيها بالله ربا أم أكفر...

بلغنا مبلغ تعليم الله تعالى المؤمنين الحق مُمثّلا في القَصَص الذي عرفنا...وكلها جاءت لتكون الحجة الوافية أمام كل محاجّ في عيسى عليه السلام متأوّل فيه، فجاعله إلها، أو ابنا لله أو ثالث ثلاثة في الألوهية ... جاءت لتجعل للمؤمن عقيدة صافية نقيّة لا يستحيي أن يقارع بها أصحاب العقائد الفاسدة، بل إنّ الله قد أوكله بأن يؤدّي الحق الذي بحوزته لغيره، لقد كلّفه أن ينشره، وفي ذلك تتجسّد أكبر مقتضيات الخلافة في الأرض. وذلك شأن الشجرة الراسخة الثابتة، لا تأتي عليها الرياح مهما اشتدّت، بل تعطي من ثمرها وظلّها ورَواحها وهي القائمة باسقة لا تذلّ ولا تخنع ولا تنحني "...كشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ"-إبراهيم: من24-

لذلك فإننا ونحن نغادر قطاع "العلم بالحق" مع ذلك التناسق البديع والترابط الدائم نخرج من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصارى نجران إلى المباهلة وقد حاجوه في عيسى عليه السلام، لنجِدنا بين يدَي آياتٍ مجمل موضوعها حول دعوة أهل الكتاب للحق الذي تعلمناه، مع مزيد بيان لحقائق أخرى سعوا سعيَهم لطمسها وإخفائها وتبديلها ...

وفي كل مرة أحاول أن أعطي صورة عن الطريقة التي أجمع بها القطاع من الآيات تحت عنوان موحّد حتى نتروّض في قراءتنا على تلك النظرة الجامعة التي تضوي الآية إلى الآية من دون شطط ولا تكلّف لما ليس في تركيب القرآن أصلا ... فمن تركيبة نصه الأصيلة نستوحي هذا الجمع لا مِن قدح أفكارنا ... ولا أخفي هنا استحضاري لقول الوليد بن المغيرة في القرآن يصفه وهو يسحره بتناسقه وجماله وبديع تراكيبه: " والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته"
مثمر أعلاه، مغدق أسفله ... هو المثمر من ذاته، والمغدق من ذاته ..
أقرأ الآية فتسوقني سَوقا للتي بعدها ثم للتي تليها.. وهكذا يحيط بي موضوع واحد تعالجه تلك الآيات مجتمعة، فأراه يرسم معالِمَه ويحدّد ذاته ... وهذا الموضوع من قطاع الآيات هو من ذاك في القطاع الموالي، ولكنها مواضيع فرعية كلها تصبّ في مجرى الموضوع الواحد للسورة برمّتها ...

فهلمّوا بنا نلجُ قطاعنا الجديد (64-99):

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(65) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ(68) وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ(70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(71) وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(72) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ(79) وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ(80) وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ(81) فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(83) قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(85) كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(86) أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(87) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ(88) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ(89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ(90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ(91) لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ(92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(93) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(94) قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ(96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ(98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(99)

ومبتدؤه النداء كما نرى : " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ "...

إن الله سبحانه بعد أن علّم نبيّه الحق الذي أخفاه أهل الكتاب وحرّفوه، يتوجه إليه هذه المرة فيأمره أن يدعوهم إلى ذلك الحق .
إنها منهجيّة في الأمر وترتيب، بعد أن تعلّم صلى الله عليه وسلم، هو ذا يعلّم، بعد أن تبلّغ هو ذا يبلّغ... بعد أن جاءه النبأ اليقين، هو ذا يدعو إليه دون شك أو ريب أو تململ ... وكذلك يُسقَط هذا على حال المؤمن، هذا الإنسان الذي خصّه الله تعالى بالخلافة، بأداء الأمانة وتبليغ الرسالة، كما عرفنا فيما سلف من آيات قطاع عوامل الثبات، كيف أنّه الموكّل برسالة إصلاح الأرض بعد أن فشل غيره فأخرجهم الله من تلك المسؤولية، ولم يعودوا أهلا لتحمّلها وقد أفسدوا وضلوا وأضلوا.. لم يعودوا أهلا لريادة الأرض ...
هو ذا دور المؤمن يتجسّد لنا من خلال هذا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبيين الحق وإيصاله، بتعليم ذلك العلم ... إنها المرحلة التي تلي مباشرة مرحلة التعلّم والتبلّغ... إنها مرحلة التعليم  والتبليغ...

1- قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64)

هذا ما أمِر أن يدعوهم إليه صلى الله عليه وسلم .. " تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ "..
إنها مؤانسة لهم ورفع من شأنهم، وترفّق بهم أن يناديهم بتلك الصفة: "أهل الكتاب"...شرف لهم أن كانوا أهل كتاب سماوي، وبذلك عُرِف في القرآن كل من اليهود والنصارى.
ثم هو ذا يناديهم ليُقبِلوا على ما عنده بقوله : "تعالوا" فنلمح في الفعل دعوة  للتعالي من الحضيض الذي هُم فيه إلى العُلا الذي فيه الداعي، بما فيه من علوّ شأن المدعوّ إليه سبحانه، وعلوّ شأن الحق الذي يُدعَون إليه..
فإلامَ هي الدعوة ؟؟   " إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ " .. إلى كلمة تسوّي بيننا وتجعلنا وإياكم على قدم المساواة، كلمة تجعلنا وإياكم سواسية، فنحن وأنتم اليوم على طرَفَي نقيض، إلا أن تتعالوا عمّا أنتم عليه من عقيدة فاسدة وفهم فاسد للألوهية، وتُغيثوا أنفسكم بالحق ... عندها  سنتساوى ...كما يقال في معناها أنها كلمة عدل لا تختلف فيها الشرائع، ولو أنّني أميل إلى أنها الكلمة التي تساوي بين الطرفَين.

ثم يأتي الله تعالى سريعا بتفصيل كُنْه هذه الكلمة:

1- أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ .
2- وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً .
3- وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ .

فأما الأولى فإفراد الله بالعبادة سبحانه، فلا تجب العبادة لغيره، ونتأمل الصيغة فإذا هي صيغة جمع، جاء فيها الفريقان:المسلمون وأهل الكتاب، وهم هنا النصارى لما ذكرنا من وفد نجران ومحاجّته التي كانت سبب نزول الآيات من جهة، وبالنظر إلى سياق الآيات من جهة أخرى، إذ أنّها تأتي بعد بيان حقيقة عيسى عليه السلام وبعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فريقا منهم للمباهلة. فالصيغة في كل الأفعال جاءت على الجمع المتكلم : "ألا نعبد" وفي هذا ملمح من الرفق والإيناس والتواضع مع الدعوة، فلا تشعر أنها صيغة أمر، بل صيغة مشاركة .

وأما الثانية فتُعضّد الدعوة لعبادة الله وحده  بالدعوة إلى ألا يُشرك به شيء، تعضيد تقوية، فلا يُعبد غيره ولا يُشرَك به شيء، لا إنسان ولا حجر ولا شجر ولا أي شيء مهما كبر أو عظم، وفي هذا إشارة إلى إشراكهم بالله عيسى عليه السلام  من قولهم مثلا أنه ثالث ثلاثة في الألوهية، إذ هم أهل التثليث لا التوحيد...

ثم تأتي الثالثة : "ألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" ونلاحظ دوما صيغة الجمع والمشاركة، فلا أنتم تتخذوننا أربابا ولا نحن نتخذكم أربابا، وهي مصداق لقوله تعالى : "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(30) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(31)"-التوبة-
« آخر تحرير: 2018-11-20, 12:41:12 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
لقد قالوا أنه ابن لله، واتخذوه من دون الله ربا ... ولنتأمل هنا، ونحن نعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يخاطبهم بهذا، فيجمع نفسه مع غيره ويدعوهم ألا يتخذوه ربا ضمن مَن يتخذونهم أربابا، وهي دعوة الرسُل التي لا تتبدّل، كلهم أبرياء من دعوة الناس لعبادتهم، كما كان من ذلك عيسى عليه السلام بريئا كل البراءة.

وكما أشرت مرارا، أحبّ أن أسقط مما نحن فيه على واقع حياتنا، فأستحضر مع هذه الآية حادثة من حادثات عصرنا القريب، مؤتمر حوار الأديان الذي  دعا إليه عدد من علماء الأمة، وكان سبب الدعوة إليه الرد على تطاول البابا "بندكت السادس عشر" بطريرك الكنيسة الكاثوليكية أكبر الطوائف المسيحية في العالم، والذي طعن في الإسلام مقتبسا كلمة لإمبراطور بيزنطي من القرن الرابع عشر قال فيها : "أن الإسلام لم يجلب سوى الشر إلى العالم وأنه انتشر بحد السيف وهو ما يتنافى والعقلانية وطبيعة الله."
مؤتمر حوار الأديان حمل اسم "كلمة سواء" استنباطا من الآية التي بين أيدينا، وكانت الدعوة فيه حسب نصّ أهدافه المسطّرة إلى ما يلي:

**ترسيخ قيم الحوار والتفاهم والتسامح والاحترام المتبادل بين المسلمين والمسيحيين
**تحقيق السلام العالمي والتعايش بوئام بين سائر البشر والاحترام المتبادل للرموز المقدّسة للأديان.

وسأنظر إلى الآية وتركيبها وإلى روحها التي بها حياة معناها، مقابل هذا الذي هدف إليه المؤتمر...
فأما التفاهم، فلأيّ تفاهُم يكرّسون بين مَن يوحّد وبين من يثلّث ؟!  أهو إسقاط سليم من تلقينه سبحانه لنبيه أن يدعوهم إلى كلمة سواء على مَن لا يحبون إلا أن يكونوا على غير الكلمة السواء ؟
تعالوا إلى كلمة سواء.. -كما أسلفت- إنها دعوة لأن يبدّلوا ما هُم عليه، إنها دعوة صاحب الحق إلى الحق، دعوة الهادي المهتدي للضالّ المضلّ.
نعم -كما رأينا- هي دعوة فيها تواضع ومؤانسة وترفّق بالمدعوّ بما جاء فيها من صيغة جمع ومشاركة، وبما جاء من تشريفهم بلقب أهل الكتاب تذكيرا لهم أنهم أمَمٌ نزلت فيهم الكتب السماوية، ولكنها بالمقابل دعوة صريحة، دعوة فيها أنّ الداعي يعي تمام الوعي أنه هو صاحب الحق وأنّ دعوته هذه واجب من واجباته في الأرض... وأنه الرائد الذي يرود الناس نحو الحق والصواب، والوارد الذي يسوقهم حيث الماء والسُّقيا ...إنه يعي تمام الوعي أنّه الذي يحمل الحق وعليه نشره في الأرض وتنوير أهلها به...
إنه يدعوهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يجعلهم والمؤمنين سواء، إلى ما يصيّرهم إلى هدف واحد، وهم من دونه مختلفون كل الاختلاف.

يدعوهم ليُخرجهم مما هم فيه من ظلمة ومن ظلم لأنفسهم... بينما هذا المؤتمر يساوي منذ البدء، يجعل المسلمين والمسيحيّين في كفة واحدة، فيدعو للتفاهم والاحترام ولا يدعو لأن يكون الحق هو الأعلى، لا يدعو أهل ضلال وزيغ إلى الحق الذي قرّره الله تعالى بألا يُعبد غيرُه، ولا يُشرك به شيء، بينما هم يقولون بالتثليث، ويقولون ببنوّة عيسى لله، ويقولون أنه الله، وكل هذا في ميزان مؤتمر "كلمة سواء" هو مدعاة للتفاهم  ؟!

أي تفاهم يكون بين الموحّدين والمثلّثين ؟؟
تفاهم على حركة الدنيا ؟ على احترام لمعتقدهم ؟ على احترام لتثليثهم للألوهية ؟ على تأليههم لعيسى عليه السلام ؟ على تحريفهم لكتب الله، وعلى تحريفهم لما جاءهم به الرسل من دعوات حق ؟؟

إن الآية صريحة وقوية في إعلانها أنّهم لو تعالوا عن حضيضهم إلى سموّ تلك الكلمة، كلمة التوحيد، توحيد الألوهية في : " أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ " وتوحيد الربوبية في : " وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ " فسيكونون سواء ... 

أما المؤتمر فهو يدعو فريقَيْن إلى التفاهم والاحترام، كأنّ كليهما على الحق...
 
إلى احترام أرضيّ دنيويّ يتجرد من معنى الحركة على الأرض وِفق الاعتقاد والعقيدة، يتجرّد من علاقة الإنسان بربه وبمعرفته لربه، وبتجسيده للخلافة التي ما خلقه إلا ليحققها بتطبيق منهجه عليها... هذا هو الاحترام الذي يُراد بين مختلفين في الاعتقاد، هذا هو التفاهم الذي يتحقق بين ثرى وثريا، بين حق وباطل، أن يتجرّدوا من معاني الاعتقاد والتصوّر السليم للكون وللحياة، فيتجلّى أيّما تجلٍّ تنازلُ صاحب الحق (المسلم) وهو يساوي ابتداء بينه وبين أصحاب الباطل النابذين للحق، المحرّفين له...

هذا بالنظر للآية وحدها بعيدا عن النظر إلى سياقها، إذ يبيّن سياقها كل بيان أنّ المؤمن علّمه ربّه الحق(كما عرفنا في قطاع (33-63)) ومن ثمَّ أمره أن يُعلّمه، كما هو الحال في آيتنا، فهو المعلّم وهو المبلّغ عن ربه وهو الهادي الذي ينشر الهُدى ويدعو إليه.
ثم نأتي إلى الهدف الثاني الذي سطره هذا المؤتمر الذي استند دُعاته على هذه الآية لإقامته:  تحقيق السلام العالمي والتعايش بوئام بين سائر البشر والاحترام المتبادل للرموز المقدّسة للأديان.

ما الذي سيحقّق هذا السلام العالمي مع ما في الاسم من فخامة ؟ أهو هذا المؤتمر الذي سيُبيّن ما استشكل على المسيحيين من فهم أنّ أهل التوحيد وأهل التثليث سواء ؟! أم أنه السلام الذي يتحقق على كل مستوى بدءا بالأخصّ سلام النفس مع نفسها، وصولا إلى سلام كونيّ تسبّح فيه كل الموجودات بحمد مُوجِدِها، والذي كان أسمى غايات القرآن بما جاء فيه كله من آيات الدعوة إلى توحيد الله تعالى وإعلاء أنه الواحد الأحد الفرد الصمد  ؟!

ثم هذا التعايش بوئام بين سائر البشر أيكون على حساب العقيدة السليمة، فنتعايش بوئام وحب ورضى بسيادة الكفر والإشراك بالله وتصيير العبد إله ؟!
وكأننا نقول لهم مستجدِين مستعطِفين : اتركونا فقط نعيش وسالمونا، فنحن نقبل كل ما يكون منكم، نقبل أن تكفروا وتنشروا الكفر، وتعملوا بكل قوتكم وبكل أموالكم على نشره باسم "التبشير"... فاقبلونا رجاء... اتركونا نعيش معكم على قطعة من الأرض، فقط نعيش...

حدّدوا لنا أيّ قطعة نعيش عليها وإن كانت فُتَاتاً من الفُتات.. راضون نحن بأن تسلبوا ثرواتنا، وتقتّلوا نساءنا وأبناءنا، وتستضعفونا، وتحتقرونا، وتعدّونا هَمَلا بين الهَمل ... راضون بأن نسلّم لكم بكل شنائعكم وجرائمكم فينا وافتكاككم لأراضينا، واستغلالكم لخيراتنا، ومؤامراتكم وتآمراتكم ... فقط اتركونا نعيش ... وتستحقون منا كل التجلّة وكل التبجيل، فها نحن ندعوكم لنتعايش... لتقبلوا أن نعيش على قطعة من الأرض تتصدّقون بها علينا رغم فساد اعتقادكم في رب السماوات والأرض ! ورغم نَهْبكم لكل ما نملك، ورغم فسادكم وإفسادكم، ومسخكم للإنسان بالغرق في لُجّ المُجون والعهر والفجور، والإلقاء بكل الأخلاق عرض كل حائط، وبتحليلكم لكل ما حرّم الله  وبتحريمكم لكل ما أحلّ ... !

لا ... لا وأكثر من هذا ...سنريكم من أنفسنا بِدْعا من السلام، سنريكم كيف أنّ قمّة السلام الاستسلام انتبهوا لقد جئناكم نعلنها : والاحترام المتبادل للرموز المقدّسة للأديان. سنحترم صليبكم، وسنحترم قولكم أن الله هو عيسى، وأنه المصلوب، وأنه تجلّي الإله في بشر ليؤنس عباده وأنّه وأمّه إلاهَان ... سنحترم أيّما احترام أن تبشّروا أهل الأرض بمقدّساتكم المحترمة، وإننا نحترمها ... نقرّ لكم في مؤتمرنا هذا أننا نحترمها ...!!

وبهذا يكون المتنازلُ هو صاحب الحق وحامله لصاحب الباطل والزيغ ... ! لا العكس..

ونعود لروح الآية التي تُنبي عن حياتها كل الحياة، وهي التي يزعمون أنهم عليها استندوا في تسمية مؤتمرهم .. تُنبي عن معنى لا يتبدّل وعن قول لا يتغيّر، وعن عزّة لله وللمؤمنين لا تُساوَم وفي آخرها :" فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ "
إنّ هذه الصيغة في الخطاب صيغة عزّة، صيغة شرط لا بالإلزام أو الغصب أو الاستكبار، بل بالإقناع والتعليم والتواضع الذي لا ينفي العزّة والثبات عليها وعلى الحقّ الذي نحمل، وأننا لا نساوَم ولا نحتاج أن نسترضي ليرضوا عنا ... إنها صيغة الشرط، ولا يكون الشرط إلا للامتثال لأمر... سنكون سواسية، ولن نكون مختلفين، ولن نكون على طرفَي نقيض وتلك الكلمة تجمعنا: " أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ "

هذا هو شرطنا ... فإن تولوا عن هذا الذي من شأنه أن يجمع ويوحّد ولا يفرّق، ولم يقبلوه، فقولوا لهم  بكل عزّة ورِفعة وعلوّ بالإيمان : " اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ " اشهدوا بأنّا مختلفون عنكم وأنكم مختلفون عنا، اشهدوا بأنه لا يجمعنا بكم ولا يساوينا بكم شيء وقد تولّيتم عما دعوناكم إليه من الحق. اشهدوا بأننا عليه ثابتون .

هي ذي روح هذه الآية... العزّة بالإيمان، واليقين بالحقّ الذي نحمل، وثباتنا عليه... ولقد قمنا بدورنا في دعوتكم إليه لنجتمع ونتساوى إن قبلتم، فأما إن أعرضتم فإننا على طرف وأنتم على طرف مناقض لا يجعلنا على قدم المساواة ....

إنها الدعوة، دعوة صاحب الحق للضال ليهتدي، دعوة الطبيب الآسي العليلَ إلى العلاج الشافي، دعوة الذي يبيّن لمدعوّه ما يجمعه به ويجعله وهو سواء، وليست دعوة لجلسة يعلن فيها صاحب الحق ابتداء أنه وجليسه سواء رغم كل ما لا يجمعه به من أساسيات الاعتقاد ...
« آخر تحرير: 2018-11-20, 12:50:01 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ثم نتقدم مع الآيات، ونحن نسمع بعدُ مخاطبة أهل الكتاب، ودعوتهم إلى الحق... 
هذه المرة يواجَهون بشأن إبراهيم عليه السلام...
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(65) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ(68)

لقد عرفنا في سورة البقرة مباشرة بعد عرض النموذج الفاشل في الاستخلاف ممثّلا في بني إسرائيل، الانتقال إلى إبراهيم عليه السلام صورةً للنموذج الناجح في الاستخلاف، وأنّ المسلمين على خطاه أهل الرسالة الإصلاحية في الأرض ...
كذلك هنا نلاحظ مواجهة أهل الكتاب بشأن إبراهيم عليه السلام لتصحيح تصوّر خاطئ مشوّه عنه يقولون به مع ما يقولون من فساد اعتقاد وتصوّر..
يبدو أنهم يحاجّون في إبراهيم عليه السلام، ولعلّنا لا نبتعد كثيرا عن موقعنا هنا لنتعرّف إلى سبب محاجّتهم فيه، ما الذي يقولون به في شأنه حتى يواجههم الله تعالى ويستنكر عليهم هذه المحاجّة ؟... .
نلقي نظرة سريعة على الآيتَين المواليتين(66و67) لنسمع استنكار الله لمحاجّتهم فيما ليس لهم به علم، وهو ينفي عنه عليه السلام أن يكون يهوديا أو نصرانيا :" مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" ..

فسريعا نفهم أصل هذه المحاجّة... إنّ النصارى يدّعون أنه نصراني، واليهود يدّعون أنه يهودي، الآيات تعطينا الجواب، ولذلك كثيرا ما نجد عند اقتطاع الآيات من سياقها سوءا في الفهم، ونقصا في الإلمام بالحيثيّات والتفاصيل ..
هذا وفي البقرة أيضا عرفنا ما يؤكّد أنّ تلك هي محاجّتهم فيه، وذلك في قوله تعالى : "أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ  قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ  وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ  وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" –البقرة:140-
نتساءل قبلا... ما وجه الربط يا ترى بين الآية السابقة وهذه الآية؟
لقد انتهت الآية64 والله سبحانه يلقّن نبيّه والمؤمنين أن يُشهدوا أهل الكتاب المعرضين عن دعوة الحق أنهم مسلمونوهذه العبارة تحديدا هي حلقة الربط بين آية الدعوة إلى كلمة سواء وبين هذه الآية عن المحاجّة في إبراهيم عليه السلام.
لقد جاءت " اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ " مع ما سبق في الآية معرِّفة بمعنى الإسلام : " أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّه ". وفي هذا السَّوق من الإسلام ومعناه إلى إبراهيم عليه السلام تلميح قويّ جدا إلى حقيقة إبراهيم عليه السلام.

هذا الله سبحانه يقيم عليهم الحجة البالغة بقوله :" لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُون " ... كيف يقول كل فريق منكم بأن إبراهيم منه، بينما لم تنزل التوراة ولا الإنجيل إلا من بعد زمان إبراهيم عليه السلام ؟ كان سابقا لنزول كل منهما، فكيف يكون نصرانيا أو يهوديا ؟ وفي هذا محاجّة عقلية تُفحمهم.

ولقائل أن يقول أنّ إبراهيم كذلك كان سابقا للقرآن، فكيف للمسلمين أن يقولوا بأنّ إبراهيم مسلم ؟

هنا ... هلمّوا نقوم بجولة نحدّد فيها الفرق...

اليهودية والنصرانية تسميتان لم يقرّهما الله تعالى لأصحابهما... ليس الله من أسماهم كذلك. بل هما تسميتان مختَرَعَتَان، واختُلف في أصل اختراعهما، فمِن قائل أنّ "اليهود" نسبة إلى يهوذا أحد أبناء يعقوب عليه السلام، ومِن قائل أن معناها من: "هدنا إليك" أي تبنا إليك، ومن قائل بأنها من التهوّد أي تحريك الرأس عند التعبد، وأما "النصارى" فقيل بنسبتها إلى مدينة الناصرة التي سكنها حواريو عيسى عليه السلام، وقيل أنها من معنى نصرتهم له أي أنصار الله.وكيفما كان الأصل فإنها تسميات بشرية.

وقد جاء كل أنبياء الله تعالى بالإسلام. كلهم جاء يدعو لتوحيد الله وإفراده بالعبادة وألا يُشرك به شيء، وألا يُتخذ رب من دونه سبحانه، تماما كما عرفنا تعريف الإسلام في (الآية64) . إلا أن الاختلاف بينهم كان في الشرائع، فكانت تنزل شريعة من مثل شريعة التوراة فيها تحليل وتحريم، ثم تنزل أخرى بعدها قد تنسخ شيئا مما قبلها وتزيد عليه، كما نزل الإنجيل على عيسى عليه السلام وفيه تحليل بعض ما حُرِّم على بني إسرائيل في التوراة، وهكذا وصولا إلى آخر شريعة نزلت، وهي شريعة القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون مهيمنا على الكتب كلها وتكون شريعته هي التي لا يُقبَل العمل بغيرها إلى قيام الساعة : "وأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ  فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ  وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ  لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا  وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ  فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ  إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" –المائدة:48- لو شاء سبحانه لجعل الناس أمة واحدة، ولكن في تفريقهم أمما مختلفة ابتلاء وامتحان من الله ليرى عملهم فيما آتاهم من شرائع وكتب، ونحن نرى كيف تلاعب اليهود والنصارى بكتبهم.

واليهودية ميّزت طائفة قالت باتباعها لموسى عليه السلام ولما جاء في التوراة وحدها، والنصرانية ميّزت طائفة قالت باتباعها لعيسى عليه السلام ولما جاء في الإنجيل وحده، بينما الإسلام هو حقيقة ما عليه كل أنبياء الله من لدن آدم إلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليهم جميعا. وليتهم إذ قالوا بالتسمية أبقوا على الكتب السماوية كما أنزلها الله تعالى، بل لقد حرّفوا وبدّلوا وكتبوا بأيديهم ما نسبوه لله تعالى كذبا وبهتانا : "فوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا  فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ"-البقرة:79-

فقالوا فيما قالوا بما حاجّوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام: "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً(88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً(89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً(90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً" -مريم-
وقالوا أيضا أن الله هو عيسى، وأنه ثالث ثلاثة : " لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَم..." –المائدة: من17-    "لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ... "-المائدة:من73-
وتلك هي عقيدتهم  المحرّفة التي يستمسكون بها، وبريئ هو سيدنا عيسى عليه السلام منها، كما نجد بيان حقيقته وحقيقة دعوته بين يدَي آيات سورتنا هذه، والتي تُبطِل كل تخرّصاتهم فيه، وهو ما جاء إلا مسلما داعيا للإسلام... إلى الكلمة السواء : " أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّه ". 
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ثم تجرؤوا وادّعوا أنّ إبراهيم عليه السلام على عقيدتهم تلك ! على تأليه عيسى عليه السلام، أو جعله ثالث ثلاثة، أو نسبه لله ولدا ! فأنّى يكون هذا من نبيّ دعوته كدعوة سائر الأنبياء جاءت بتوحيد الله وعدم الإشراك به، وأنّى يكون منه اعتقاد في الألوهية مخترَع جاء بعد انقضاء زمانه بقرون متوالية... ؟!

فيتصدّى القرآن لأباطيلهم وادّعاءاتهم ويبرّئ أنبياء الله مما نُسِب إليهم زورا وبهتانا ...

وهنا هو الفرق...

فالإسلام أصل أصيل في الاعتقاد، هو القول الذي لم ولن يُبَدّل، والذي جاء به كل الأنبياء عبر كل الأزمنة. هو تلك الكلمة السواء التي لا اعوجاج فيها، الصراط المستقيم، ولقد عرّفها سيدنا عيسى عليه السلام بقوله : " إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ  هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ".

وعلى هذا فإن القول بأن إبراهيم مسلم ليس بِدعا من القول، وليس ادّعاء. والأصل أن كل أنبياء الله تعالى مسلمون ... إنّما جاء بيان إسلامه بصفة خاصة وتكرّر في القرآن لادّعاءات أهل الكتاب بانتسابه إلى اعتقادهم الفاسد المحرَّف من جهة، ولأنّ ملّة رسولنا  هي ملّة إبراهيم صلى الله عليهما وسلم من جهة أخرى.
فإننا لو تأمّلنا قول سَحَرة فرعون مثلا : " وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا  رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ " –الأعراف:126-
بل إنّ فرعون نفسُه لما أدركه الغرق قالها بعد أن لم تعد نافعته: "...حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ" –يونس:90-
وبلقيس  لما عرفت الحق مع سيدنا سليمان عليه السلام قالت: " قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين "

وهذا قول المتّبعين المهديّين، فكيف بالأنبياء الدعاة الهُداة ؟
يُضاف إلى هذا أنّ الله أقرّ في القرآن إسلام إبراهيم عليه السلام، فلم يكن ذلك عنه من قول أحد أو اختراعه، كما هو الحال فيما بين أيدينا : " مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(67)"
ولقد أقرّ القرآن إسلامه في أكثر من موضع، أولها ما جاء على لسانه عليه السلام:" إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ  قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ" –البقرة:131-

ثم ما جاء على لسانه ولسان إسماعيل من دعاء، ضَمَّنَاهُ الدعاء بأمة نبينا محمد عليهم جميعا الصلاة والسلام :" رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ..."-البقرة:من128-
وكثيرة هي مواضع تقرير إسلامه عليه السلام.
وأكثر من هذا، أن نبينا صلى الله عليه وسلم مأمور من ربه أن يتبع ملة إبراهيم، فالمسلمون تَبَع له في الملة: " قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا  وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"-الأنعام:161-

وهكذا يتبيّن الفرق الشاسع بين القول كذبا بيهودية إبراهيم أو بنصرانيته وهما اعتقادان في الألوهية محرّفان مُفتَرَيان، وبين القول بإسلامه، والإسلام معنى أصيلٌ أولٌ قائم منذ بدء الخلق، منذ أن كان آدم عليه السلام داعيا إلى عبادة الله وحده، مرورا بكل أنبياء الله تعالى الذين ما كانوا إلا مسلمين، وصولا إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
والآية السابقة(64) وتعريفها للإسلام بالكلمة السواء التي دُعُوا إليها، قدّمت إلى حقيقة إبراهيم عليه السلام الذي كانت تلك الكلمة اعتقاده ...

ثمّ يزيد الله تعالى في بيان الأمر بقوله : "هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(66)"
لكم العلم بأن عيسى كان فيكم، والإنجيل بين أيديكم، وإن كان على غير حاله التي نزل عليها، إلا أنه نزل فيكم حقا، فحاججتم في عيسى وإنْ بالتصوّر المختلَق منكم، الذي فيه الكذب عليه وعلى الله إلا أنّكم حاججتم فيما ترون أنفسكم عالمين به، ولكن أن تحاجّوا فيما ليس لكم به أدنى علم عن حال إبراهيم عليه السلام، وعما كان عليه، وعما جاء به، فهذا ما لا يكون لكم حقّ فيه.
فلنتأمّل كيف قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم محاجّتهم له في عيسى، واستمع إليهم، ثم قارعهم بالحجّة ودعاهم إلى الحق الذي عرّفه ربّه... أما في إبراهيم فالحاصل أنه لا مستَنَد لهم لا من عقل ولا من نقل، فلا حقّ لهم بالمحاجّة فيه، وإنما النبأ اليقين عنه هو ما جاء به الله تعالى: "وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ " ... هو سبحانه الذي يعلم الحق فيعلمه لعبده صلى الله عليه وسلم، ومن ثمَّ يبلّغه للناس، فمن شاء آمن ومن شاء كفر..فأما المؤمن فيتبلّغ ويتعلم حقّ العلم  كما نجدُ حالنا مع الآيات، نستمع، ونتأمل ونتلعم ...

ثم يأتي التقرير الأخير، يأتي التقرير الذي فيه علم الله تعالى المحيط بكل شيء، علمه الذي هو الحقّ الذي يريد منا سبحانه أن نثبت عليه، وذلك بتعليمنا كيف نحاجج بالعقل، وبالدليل القاطع من المصدر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبالكلمة السواء التي لا عوج فيها ...
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ(68)
وكما ادّعى النصارى واليهود نصرانية إبراهيم عليه السلام ويهوديته، كذلك كان العرب المشركون يدّعون أنه منهم، وهم على إشراكهم وخلطهم وخبطهم بأهوائهم، فبرّأه الله تعالى مما هم عليه " وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " .


ثم يُختَم بيان الحق في شأن إبراهيم عليه السلام بذكر الأولى والأجدر باتباعه عليه السلام، فليس كون اليهود من ذريّته مما يُفضي إلى يهوديته، ولا كون النصارى من ذريته مما يجعله نصرانيا، بل هو مسلم قد أسلم وجهه لله رب العالمين، والأخوة والبنوة في العقيدة ليست بالنسب ولا بالدم، بل بالعقيدة الواحدة الجامعة في الله تعالى، إذ أنّ من ذريته مَن لم يحافظ على المحجّة التي جاء بها بيضاء، بل لطّخها وشابها بشوائب هي منها براء، ثم يريد أن يبقى الانتساب، هكذا لمجرّد التباهي الكلاميّ بعيدا عن الامتثال الفعليّ ... لذلك يقرّ الله تعالى أن الأجدر باتباعه هم :
** لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ... من مثل إسحاق ويعقوب عليهما السلام ومن تبعهم من ذريتهم : " وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" –البقرة:132-
إضافة إلى من ظلّ على الحنيفية من العرب، والذين اشتهروا بعدّهم على أصابع اليد في لُجّ انحراف العرب عن الجادّة، ومنهم مثلا زيد بن عمرو بن نفيل، وقد جاء عنه في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " أنَّ زيدَ بنَ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ خرجَ إلى الشَّأْمِ،يسألُ عنِ الدِّينِ ويَتْبَعُهُ، فلقيَ عالمًا منَ اليَهودِ فسألهُ عنْ دينهِمْ،فقال: إني لعَلِّي أنْ أدينَ دينَكمْ فأخْبِرْني، فقال: لا تكونُ علَى دينِنا،حتي تأخُذَ بِنَصيبِكَ منْ غضَبِ اللَّهِ، قال زيدٌ :ما أفِرُّ إلا منْ غضَبِ اللَّهِ، ولا أحْملُ منْ غضَبِ اللَّهِ شيئًا أبدًا، وأنَّى أسْتَطيعُهُ ؟فهلْ تَدُلُّني علَى غيرِهِ؟ قال: ما أعلَمُهُ إلا أنْ يكُونَ حَنيفًا، قال زيدٌ: وما الحنيفُ؟قال: دينُ إبْراهيمَ،لمْ يكُنْ يَهوديًّا ولا نصْرانيًّا ولايعبُدُ إلا اللَّهَ. فخرجَ زيدٌ فلَقيَ عالمًا منَ النَّصارَى فذكر مثلَهُ، فقال: لنْ تكونَ على ديننا حتَّى تأْخُذَ بنَصيبِكَ منْ لَعنَةِ اللَّهِ، قال: ما أفِرُّ إلا منْ لَعنَةِ اللهِ، ولا أحْمِلُ مِنْ لَعنَةِ اللهِ، ولا منْ غَضَبِهِ شَيئًا أبدًا، وأنَّى أستَطيعُ؟ فهل تَدُلُّني علَى غيرِهِ؟ قال :ما أعلمُهُ إلا أنْ يكونَ حَنيفًا، قال :وما الحَنيفُ؟ قال: دينُ إبراهيمَ لمْ يكنْ يَهوديًّا ولا نَصْرانيًّا، ولا يعبُدُ إلا اللهَ. فلمَّا رأى زيدٌ قوْلهُم في إبْراهيمَ عليْهِ السَّلامُ خرجَ، فلما بَرَزَ رفَعَ يدَيْهِ، فقال: اللَّهُمَّ إني أشْهَدُ أني علَى دينِ إبراهيمَ."

** وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون هم مِن أجدر من يقول بأنّ إبراهيم منهم وهم منه. يقول ابن عاشور: " وعطف النبي على الذين اتبعوا إبراهيم للاهتمام به وفيه إيماء إلى أنّ متابعته إبراهيم عليه السلام ليست متابعة عامة فكون الإسلام من الحنيفية أنّه موافق لها في أصولها"
ويقول أيضا: "ووجه كون هذا النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا أولى الناس بإبراهيم ، مثل الذين اتبعوه ، إنّهم قد تخلقوا بأصول شرعه ، وعرفوا قدره ، وكانوا له لسان صدق دائباً بذكره ، فهؤلاء أحقّ به ممّن انتسبوا إليه لكنهم نقضوا أصول شرعه وهم المشركون ، ومن الذين انتسبوا إليه وأنسوا ذكر شرعه ، وهم اليهود والنصارى ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سَأل عن صوم اليهود ، يوم عاشوراء فقالوا : هو يوم نجّى الله فيه موسى فقال : «نَحْن أحقّ بموسى منهم» وصامه وأمر المسلمين بصومه." -التحرير والتنوير-

وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ... وليّ هؤلاء المؤمنين الذين والُوا إبراهيم، فكانوا أولى به من غيرهم وقد حافظوا على الإسلام الذي يقضي بـ : " أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ "

ولن يكون سبحانه وليّا لمن أعرض عن هذا القول الذي لا يتبدّل، الذي جاء به الأنبياء بلا اختلاف بينهم، جاؤوا جميعا بدعوة واحدة، وبكلمة سواء، ساوت بينهم جميعا، فكانوا على هُدى من ربهم، جاؤوا هُداة الناس إليه ...

وهكذا  .... ها نحن نتعلم ...
ها هو المؤمن يتعلم من ربه الحق ... ها هو سبحانه يبيّن أباطيل أهل الكتاب، ويقرّ الحقّ الذي يجب أن يُتَّبَع ويُتَّخذ اعتقادا ثابتا راسخا ...

هذا هو الاعتقاد السليم في إبراهيم، وقد بيّنه سبحانه كما بين الاعتقاد السليم في عيسى من قبل... هذه تبرئة إبراهيم من تقوّلاتهم أنه على ما هم عليه، كما جاءت تبرئة عيسى مما تقوّلوه عليه، عليهما الصلاة والسلام...
في هذه السورة التي رأينا أنّ أول ما عالجته ونوّهت به الثبات على الهُدى الذي علمتنا البقرة أنه في هذا الكتاب ... يعلّمنا الله تعالى كل هذه الحقائق مع ذكره لما حوّره أهل الكتاب وما تقوّلوه فيها، حتى نتعلم الثبات، وألا ننخدع بما يقصّون علينا، وبما يطرحون علينا من شُبهات، وهو عملهم القديم الجديد في كل زمان ... يعلّمنا بهذه الحقائق التي تُزهق أباطيلهم أن نكون على بيّنة وثبات، وأن نحاجج بالحق، وألا نكون خاليي الوِفاض حتى إذا ما ألقوا إلينا بشُبُهاتهم وقعنا وقعة الذي هو على شفا جرف هار، وقعة الذي يعبد الله على حرف ...!
يعلّمنا بمخاطبة أهل الكتاب ليصوّر لنا المحاجة على قواعدها وأصولها، ويعلّمنا بتقرير الحق في الشأن مقابل الباطل الذي يتقوّلونه فيه، فنرى الحقّ صادعا بقوته يعلن عن نفسه، ويتهاوى باطلهم سريعا أمامه، ونحن نتأمل ونجمع الأطراف بعضها إلى بعض، ونحن نجد القرآن يصدّق بعضه بعضا ...

بالعقل حقا نعقل قرآننا ... ولا نخشى قول كل من يدّعي أنه النصّ الذي لا يجوز أن نمرّره على العقل هكذا على الإطلاق دون قيد، بل إنه النصّ الذي يرود العقل، فلا خوف من استخدام العقل فيه لنعقله ونتبيّن معانيه ومراميه ...

ونكون قد عرفنا من 64إلى 68 : 
1-الآية64 : بداية دعوة أهل الكتاب ببيان ما يجعل الناس سواء في العقيدة . والتقدمة بمعنى الإسلام لما سيأتي عن شأن إبراهيم تلويحا بأنه حقيقته.
2- (65-68)بيان الحق في شأن إبراهيم عليه السلام أمام باطل اعتقاد أهل الكتاب فيه.
« آخر تحرير: 2018-11-21, 18:24:42 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
2- ونبقى مع أهل الكتاب وما يوجَّه لهم من خطاب فيه بيان الحق من الباطل، باطلهم الذي ينشرونه بين المؤمنين. يبين الله لنا حتى لا نضلّ ولا يتزعزع الإيمان في قلوبنا من فعل شبهاتهم التي يلقونها ... يعلّمنا سبحانه الثبات ..

وهذا قطاع من الآيات من قطاعنا الكلي (64-99)، وفيه الحديث عن خططهم لإضلال المؤمنين ...فلنرَ :

وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ(70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(71) وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(72) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(74)
كنا قد عرفنا أعلاه دعوتهم إلى الحق كمقدمة لبيان الحق في إبراهيم عليه السلام الذي جعلوا يحاجّون فيه هو أيضا ... فكانت المخاطبة عقلية بأسلوب الإنكار عليهم وفضح تصوّرهم الباطل، ومن ثمَّ بيان التصوّر السليم ...
أما هنا، فنرى أسلوب الخبر عنهم بمخاطبة المؤمنين وإعلامهم بأساليبهم ونواياهم ...

2-أ) ودّت أي أحبّت طائفة منهم أن يضلوكم، وهذا من إنصاف القرآن للناس وعدم بخسهم حقهم، فلا يجمع كل أهل الكتاب بل يحدّد أن طائفة منهم تمنّت إضلال المؤمنين، والإضلال هنا هو فعل إخراج المؤمنين عما هم عليه من نور الهُدى والحق إلى ظلمات الضلال والباطل...

وهذا الإضلال نلمحه جليّا وهم ينشرون اعتقاداتهم الفاسدة بين المؤمنين، فيلقون بالشبهات في نفوسهم بما يذكرون من تأليههم لعيسى عليه السلام وجعله لله ولدا، وبما يتقوّلون على إبراهيم عليه السلام من أنه منهم وعلى اعتقادهم تلبيسا عليهم وإمعانا في تشكيكهم في دينهم ... وكذلك كانوا يطعنون في صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي صدق ما نزل عليه ...

ولقد عرفنا أنّ الشبهات هي ما تعمل هذه السورة على تخليص المؤمنين من لوثاتها وسعي أصحابها ببيان الحق كما هو على وجهه الصحيح، وبدحض أباطيلهم ... وهذا التمني في قلوبهم لم يكن في زمان معين دون غيره، بل هو قائم في كل زمان، ولقد حذرنا الله منه في قوله سبحانه : "ولَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ  قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ  وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ  مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ  " –البقرة:120-

وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ: إنّ إضلالهم الذي يسعون به إنما هو في حقيقته إغراق لأنفسهم في الضلال..

كــــــــــــيف ذلك ؟
إن الضال الذي لم يهتدِ، له مندوحة للبحث والتثبّت والنظر فيما هو عليه وما عليه غيرُه من أهل الهُدى، له فسحة للنظر والتفكّر وأرجحة أمره حتى يستقر على أحد طرفَين، فإما البقاء على ضلاله وإما التفكير الجدّي في الحال المغايرة مما قد يسوقه للهُدى سَوقا بالبحث والنظر والفكر، وإن هو صدق في رنوّه للحق ...
أما المضلّ فهو الساعي بضلاله يريد أن ينشره ويعمّمه، داعية من دعاة الباطل الذين نجدهم في كل زمان، من الأخسرين أعمالا كما عرّفنا القرآن : " قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)"-الكهف-
وعلى هذا فإنّه يُغرق نفسه في سُبُل الإضلال والبحث عن الحِيل ورسم الخُطط، وفتل أحابيل المكر والخديعة، وتحيّن الفرص المناسبة لبثّ سمومه وأباطيله ... كل هذا يستغرق منه جهدا ووقتا يجعله لا ينصرف إلى البحث والنظر في فكر الآخر واعتقاد الآخر، بل يجعله عاملا مثابرا على طريق الإضلال يكرّس الوقت والجهد لتحقيق مآربه المسمومة، وهذا كلّه مما يزيد في ترويض النفس على حبّ هذه السبيل والمضيّ فيها قُدُما والبذل لها ... وعلى ضوء هذا نفهم كيف يضلون أنفسهم وهم يظنون أنهم يضلون غيرهم، غيرهم المستنيرون بنور الحق، المستهدون بهُدى الله والمسترشدون بضوء قرآنه الذي نرى عن كثب كيف جاء ينوّر درب الإنسان عموما، وينوّر درب المؤمن به في كل خطوة... هؤلاء هُم الذين لن يقعوا في شِباكهم ولن تفوز بهم مصائدهم ...

أما مَن كان على شاكلة شباب لا يعرف عن دينه إلا القشور التي لا تجعله مؤمنا إلا بالعنوان، فهو صاحب شهوة سريعا ما ينبهر بأهل الرَّفاه والعيش الرغيد، فتأخذه الشهوة إلى الشُّبهة في دينه، وهو لا يرى خيرا إلا في مظاهر الدنيا وزُخرُفها، وسريعا ما تعبث بعقله شُبهات المضلين العابثين فتستزلّه وتأخذه حيث تريد راميا دينه خلف ظهره. ذلك هو المهزوز الذي تهزّه الشبهات، وينجح معه المضلّون ...
وهنا أحبّ أن أذكر معنَيَيْن تحيّر مَن تحيّر في التوفيق بينهما، وهما عدم تحمّل إنسان وِزر غيره من جهة، وحمل آخر لأوزاره مع أوزار غيره، وذلك في قوله تعالى: " وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى" - فاطر: 18-
وقوله جل شأنه : " لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ" - النحل: 25-

يقول الشعراوي رحمه الله : "وهكذا نعرف أن الوزر في آية فاطر هو وزر الضلال في الذات والأوزار في سورة النحل هي لإضلال غيرهم فهؤلاء الضالون لا يكتفون بضلال أنفسهم، بل يزيدون من ضلال انفسهم اوزاراً بإضلال غيرهم فهم بذلك يزدادون ضلالا مضافا إلى أنهم يحملون أوزارهم كاملة"
2-ب) وتسوقنا الآية إلى التي تليها : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ(70)
نداء ثالث من جملة النداءات الموجهة إلى أهل الكتاب، كان أولها " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ... "، وثانيها : " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ... " وهذا الثالث استنكار لكفرهم بآيات الله ..

وماداموا متمنّين إضلال المؤمنين بأباطيلهم كما عرّفتنا الآية السابقة، فهم أولاء كافرون باللفظ والوصف الصريح، يستنكر الله تعالى كفرهم بآياته وهم يشهدون أنّهم أهل كتاب، وأنّ الكتب السماوية نزلت فيهم، وأنّ الأنبياء بُعِثوا فيهم ... ولكنهم ليسوا على الاعتقاد السليم في الله، وليسوا على ما أمرهم الله أن يكونوا، وليسوا حفظة لدينه ولكتبه، بل لقد حرّفوا وبدّلوا، وكذبوا رغم ما يشهدون به من أنّ الكتب والرسل جاءتهم ... ولقد حرّفوا وأخفوا ما شهدوا عليه في كتبهم من ذكرٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه النبي الخاتم، وأنه الذي سينزل في العرب.

لقد كان اليهود يقولون للعرب أنهم سيغلبونهم ويظاهرون النبي القادم عليهم، إلا أنهم نكصوا على أعقابهم لما بُعث صلى الله عليه وسلم : " وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكَافِرِين" –البقرة:89-

2-ج) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(71)
وهذا النداء الرابع، وهو استنكار أيضا متضمّن بيان قبح أفعالهم وشناعة جرائمهم، وقد جاء فيه عن خلطهم الحق الذي أنزل الله  بالباطل الذي اختلقوه.
وأرى في هذا التعبير بـ "تلبسون" ما يصوّر أنهم يُلبسون الحق لباس الباطل فيظهر الباطل على أنه هو الحق. وتلك هي الشبهات التي يُلقونها ليتركوا الضعفاء من المؤمنين في حيرة من أمرهم لا يتبيّنون الباطل من الحق، بل يتراءى لهم الباطل حقا ... وهم لا يخلطون وحسب بل يكتمون الحق أيضا، يخفونه وهم يعلمون... يتعمدون ذلك مدّعين أنهم ينقلون رسالة الله كما هي، ورأس هذا الحق الذي خلطوا به باطلهم حقيقة الألوهية التي جاءت توحيدا في الكتب السماوية كلها، فجعلوا العبد إله، جزء منه ناسوت، وجزء منه لاهوت، وجعلوا الله ثالث ثلاثة وجعلوا العبد ابنا لله، وأما الذي كتموه وأخفوه، فهو ما جاء في كتبهم من ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ومما يزيد في تقوية معنى أن ما كتموه هو ذكره في كتبهم، قوله تعالى : "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ  وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"
« آخر تحرير: 2018-11-24, 12:26:53 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
2-د)
وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(72) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(74)

إننا ونحن نمشي الهُوينى بين الآيات المحدّثة عن أهل الكتاب، سنجمع أطرافا إلى أطراف لنرى نَظما بديعا يختصّ به القرآن. يعطينا صورا مجسّدة عن أحوال هؤلاء وعن صفاتهم، وكأننا نرى إعراضهم بأعيننا، وكأننا نتتبّع خطاهم وهم يتسللون بين المؤمنين، يشيعون أكاذيبهم وأباطيلهم وغاية أمنياتهم أن يضلوهم عما جاءهم من الحق ...
ولكأني ألمحهم وهم يعضّون أنامل الغيظ من الحسد والغيرة ... فهم يسعون سعيهم بكل سبيل بإلقائهم الشُّبهات، وتصيّدهم لما يوقع المؤمنين في شِراك الشك والتململ والاضطراب ...

تمهّلوا ...! فسنجمع هذه الأطراف التي تجعلنا نتحرك حيث يتحركون، ونبصرهم وهم يتحيّنون المكان والزمان لردّ المؤمنين عن الحق ...

أين نحن الآن ؟؟

إنّنا نسمع الله تعالى وهو يخبرنا عن مكرهم الذي يمكرون، وكيدهم الذي يخطّطون له بليل، يخططون له خفية عن أعين الناس جميعا، ولكنّ الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية يفضحهم ويُعلِم المؤمنين بما يحسبه أولئك المجرمون يخفى على العليّ سبحانه !
ولكأني بهم يُتمتمون في ليل مُرخٍ سدوله على الناس فهُم في غيابات النوم والسكون، بينما هُم يظنّون من إجرامهم وانعدام إيمانهم وتقديرهم لله تعالى أنّهم يُسِرّون فلا يدري عن سرّهم حتى عالِم سرّ الأسرار، الذي يعلم دِقّ النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء ...
أراهم مجتمعين... تقدح أعينهم شرا ومكرا وتنضح قلوبهم حقدا على رسول بُعِث بالحق فكان سبب انفضاح حالهم وقد لبّسوا على العرب زمنا طويلا أنهم أهل الكتاب الذين نزلت فيهم الكتب من السماء، والذين بُعث فيهم الأنبياء ...

أطِلّ من نافذة كلمات الآية ... فألمح رؤساءَهم وأسيادهم الآمِرين، وهم الذين وصفهم الله تعالى في الآيتَيْن السابقَتَيْن بـ : "وَأَنْتُمْ تَشْهَدُون" " وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " ...
الذين يحملون لواء العلم بينهم، ويحملون راية الشهادة على ما أنزل الله تعالى ...
هؤلاء الذين يُفتَرض بهم أن يقودوا الناس إلى هُدى الله، ويبلّغوه لهم وهم ورثة الأنبياء، هم أنفسُهم مَن يسعى حثيث السعي لإضلال الناس ...! وتلك الطامة الكُبرى ...!!

لنستمع إلى ما يقولون... لنستمع إلى ما يأمرون به مَن هُم دونهم لينفّذوه ...

إنّ الآيات ليُصدِّقُ بعضها بعضا ... إني لأرى كيف هُم أولاء أربابٌ آمرون بغير الحق، يأمرون بغير أمر الله، ويتخذهم المأمورون أربابا من دون الله، وهذا ما جعله الله بَندا من بنود الكلمة السواء التي تساوي بين الكلّ وتجعلهم على عقيدة واحدة صافية نقيّة ...
"آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"

هذا قولهم الذي قالوا ... هذا ما حسبوه مستترا عن عالِم السرّ والعلانية، هذا ما ظنوا أنهم يُخفونه ويتسارّون به ولا يعلمه غيرُهم، بينما يكشفه الله تعالى في كتابه، ويصبحون بعد ليل مكرهم ذاك وهم يسمعون المؤمنين يتداولونه فيما بينهم، يتْلُونه قرآنا نازلا حديثاً من ربّ السماوات والأرض ...عالم الغيب والشهادة  ...

هم أولاء يأمرون : اذهبوا، وتسللوا بين المؤمنين، وادّعوا إيمانكم بما آمنوا به، ادَّعوا أنكم منهم، وأنكم مصدّقون بما صدّقوا به وجه النهار أي أول اليوم، ثم عودوا آخره وأعلنوا كُفركم بما هُم عليه لعلّ ذلك أن يكون دافعا لهم ليرتابوا ويشكوا، وينظروا في أمركم وأنتم أهل الكتاب المعروفون بينهم من أزمنة بعيدة، الذين اختصّكم الله بالكتب السماوية قبلهم، وتُعرفون بينهم بالعلم... 

سيقولون ما كان لهم أن يؤمنوا أصلا إن كان الحسد دافعهم في إعلان كفركم، بل لقد آمنوا ثم هُم أولاء يكفرون، ولو أنهم وجدوا الحق الذي عرفوه قبلنا من كتب نزلت فيهم لما رجعوا كافرين بما آمنوا به وقتا ...! لا بدّ أنهم قلّبوا في هذا الدين نظرهم الفاحص وأعملوا فيه علمهم الراسخ ... ولذلك قد تركوه ... !!

وهكذا سنحقّق مأربنا ... سنحقّق أمنيتنا بأن نجعلهم في حيرة من أمرهم وشكّ من دينهم...
إنها الحيلة المُحاكة المحبوكة التي لن تجعلنا موضع اتهام عندهم، بل ستجعلنا أصحاب قرار مُتَّخذ عن علم وعن بحث وعن نظر، وأصحاب نوايا حسنة. حتى أننا دخلنا معهم ولم نستكبر، ولم يكن إعراضنا هكذا من غير معرفة بما عندهم ...!
إنهم بهذا سيضطربون، سيشكّون ... وليس أقرب للتراجع عن أمر من الشك فيه... وهذا ما نبتغي... سيرجعون ...
ألم تخبرنا آية قريبة سابقة أنهم يتمنون إضلال المؤمنين ؟

فلنتأمل ...

أليس في هذه الآية الآن تفصيل لسبيل من سُبُل إضلالهم ؟؟ أليس في كشف الله لخُططهم معنى أنهم يحسبون أنفسهم الناجحين وهم الفاشلون في الإضلال : "وما يشعرون"
لنتأمل هذا المخطط :

ويتراءى جليّاً أنّ هذا إخبار عن غيب لا يعلم به أحد، وهو لو كانوا على غير حالهم المركوسة دافعٌ من دوافع إيمانهم وتسليمهم لهذا الحق والإذعان له... ولكنهم كما وصفهم القرآن كالحجارة بل أشد قسوة ...
ومازالوا يُتَمْتِمون، ويُسارّ كبراؤهم صُغَراءَهُم، ويعتدّون بهذه الخطط الشيطانيّة منهم وهم يرون فيها غاية المكر والدهاء والانتصار لباطلهم...
مازلت أستمع إليهم يكملون توصياتهم :
وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(73)

احذروا أن تؤمنوا لهم، احذروا أن يأخذوكم في دينهم... لا تؤمنوا إلا لمن كان تبعا لدينكم...
فيكون معناه نَهْيُهُم عن الإيمان بما عليه غيرهم، وهنا نلاحظ كيف أنها " لــمن" مسبوقة بلام، وهناك فرق بين  "آمن بـ" و"آمن لـ"  (آمَنَ بِهِ : وَثِقَ بِهِ وَصَدَّقَهُ آمَنْتُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) (آمَنَ لَهُ : اِنْقَادَ لَهُ وأَطَاعَهُ) .
فتأتي هنا : "لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم" مزيد تحريض على ألا يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يطيعوه، ولا ينقادوا له، على اعتبار ما كانوا يرونه من أنّ شريعة التوراة لا تُنسَخ، ولا يتأتّى لأحد أن يأتي بشرع غير شرعها لأنّ ذلك عندهم يُعدّ من البداء أي تبديل الله لكلامه ... تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ..

وفي هذا حضّ لهم على الثبات على ما هم عليه لأداء مهمتهم كاملة كما خُطّط لها، وتحسبا لئلا ينقلب السحر على الساحر...
يأتي ما لقّنه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم مقابلة لمكرهم وكيدهم وحِيَلِهم الشيطانية ...
"قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ"... الهدى الحق هو هدى الله لا غيره، لا ما يدّعونه دينا وأنهم أتباعه.. ويَدْعون إليه بهذه الحِيل والأحابيل .. وفيها إيماءة إلى أنّ مَن لم يكن من حظه هُدى الله تعالى فلا قدرة لأحد على هدايته .
"أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ"  ولقد اختُلِف في هذا الكلام، أهو من تمام ما يلقنه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، أم أنه من تمام توصية رؤساء أهل الكتاب لمرؤوسيهم ..

والغالب والأقرب أنه  من تمام كلام رؤساء أهل الكتاب لمرؤوسيهم. فإن "قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ " جملة معترضة يأتي بعدها تمام كلامهم ..
وفي التركيب اللغوي لهذه الآية ما أحب أن أضع فيه كلاما لابن عاشور :" فتقدير الكلام لأن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وحذفُ حرف النفي بعد لام التعليل ، ظاهرةً ومقدّرةً ، كثيرٌ في الكلام ، ومنه قوله تعالى : { يُبين اللَّه لكم أن تضلوا } [ النساء : 176 ] ، أي لئلاّ تضلوا."-التحرير والتنوير-
لئلا يتحقق في أذهان المسلمين أنهم أهل كتاب حقيق بأهل الكتاب أن يتبعوه ويتبعوا دعوته وشريعته، أو أن يحاجوكم عند ربكم بأنّكم وقد اتبعتم فقد أقررتم بصحته .

وفيه تحذير ضمنيّ من أن يطلعوا غير أهل دينهم على ما في كتبهم من ذكرٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولنبوته، لئلا يعلم المسلمون أنهم قد أوتوا ما جاءت كتب أهل الكتاب ذاكرة له ومقرّة بحصوله، أي أنه يتأكد لهم أنهم أوتوا كتابا من الله كما أوتي أهل الكتاب، وأنهم بذلك سيحاجونهم يوم القيامة، منكرين عليهم كفرهم بما جاءت كتبهم مبشرة به مقرّة له ... وفي هذا مزيد تأكيد وتحريض منهم على كتم الحق الذي في كتبهم ...
فيأتي ردّ الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم أنّ الفضل بيد الله، ولذلك آتاهم سبحانه من فضله بمشيئته الواسعة وبعلمه بمَن يستحق هذا الفضل وهذا التخصيص ...

يقول ابن عاشور في "واسع" : " و { وَاسع } من صفات الله وأسمائِه الحسنى وهو بالمعنى المجازي لا محالة لاستحالة المعنى الحقيقي في شأنه تعالى ، ومعنى هذا الاسم عدمُ تناهي التعلقات لصفاته ذاتتِ التعلق فهو واسع العلم ، واسع الرحمة ، واسع العطاء ، فسعة صفاته تعالى أنها لا حدّ لتعلقاتها ، فهو أحقّ الموجودات بوصف واسع ، لأنه الواسع المطلق.وإسناد وصف واسع إلى اسمه تعالى إسناد مجازي أيضاً لأنّ الواسع صفاتُه ولذلك يُؤتَى بعد هذا الوصف أو ما في معناه من فعل السعة بما يميز جهة السعة من تمييز نحو : وَسِع كل شيء علماً ، ربنا وسعت كلّ شيء رحمةً وعلماً."-التحرير والتنوير-
ويقوّي أنّه من تمام كلام رؤساء أهل الكتاب قوله تعالى : " وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ  أَفَلَا تَعْقِلُونَ"-البقرة:76-

وينتهي هذا الجزء بقوله تعالى : يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(74)
لقد اختصّ برحمته سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم، وهو ذو الفضل العظيم.

ونخلُص من هذه الآيات الأخيرة  إلى أنّ هذا من الغيب الذي أنبأ به القرآن المؤمنين، فيحصل أنّ إضلال أهل الكتاب لهم أمنية تذهب أدراج الرياح مع ما يتصدّى به القرآن لهم من فضح وكشف لأخصّ أسرارهم، ولأكثر أحابيل حِيلهم حياكة وحبكا...
وأي غباء عليه أهل هذه الحيلة وهم لا يعرفون لله قدره، فيرون أنّ محاجّة المسلمين لهم يوم القيامة عند ربهم سيمنعها ويدفعها كتمُهم الحق الذي جاء في كتبهم، والذي أمِروا أن يبلّغوه ...! بينما يقوم القرآن بدور الكاشف لتلك الحقائق لأنه من عند الله الذي لا تخفى عليه خافية، والذي ينزّل على عبده أنّ الكتب السماوية جاء فيها هذا الذكر ...لقد أخفوا ما أنزله الله عليهم، فأبداه الله فيما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم.
وكما تعوّدنا في قراءتنا وتأملاتنا أن نرقُب الترابط الحاصل بين الآيات، وإنها لمترابطة أيما ترابط، متّسقة أيّما اتّساق !!
بعد أن أنهينا إطلالنا على تآمرات أهل الكتاب، وتخطيطاتهم وحِيلهم والله سبحانه يُطلعنا على غيب من الغيب، وهم مستترون بالجدران، ملتحفون بدَمَس الليل الصامت الساكن ... نلاحظ كيف أن هذه الآيات (72-74) جاءت تفصيلا للآية 71 : "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ"


وأضع تفصيل ذلك على المخطط التالي:

« آخر تحرير: 2018-11-25, 21:17:51 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
ونكون قد عرفنا من 69إلى 74 : على مستوى العقيدة (الشُّبُهات) على مستوى اتصالاتهم الدينية:
1- إضلال المؤمنين عما هم عليه من الحق أمنيةٌ من أمنيات أهل الكتاب التي لا تتحقق مع مَن عرف الحق وتمكّنت دلائله الساطعة من نفسه.
2- تفصيلٌ بشيء من حِيَل أهل الكتاب ونواياهم تجاه المؤمنين لتشكيكهم في دينهم.
3- التصريح بكفر أهل الكتاب رغم شهادتهم على ما أُنزِل عليهم من الحق، وبأنهم الكاتمون له، والمُلْبِسون له بالباطل.
4- التنويع في الإخبار عنهم بين التوجّه لهم بالدعوة، والإنكار عليهم، والإخبار عن نواياهم تجاه المؤمنين .
*-*-*-*-*-*-*-*-*-**-*-*-*-*-*-*--*-*-*-*-*-*-*-*-*
3- ننتقل الآن إلى جزء جديد من قطاعنا الكليّ (64-99)، وفيه أيضا عن أهل الكتاب وعن مزيد من باطلهم الذي يُظهر الله ما يقابله من الحق، ومزيد من كشف لحالهم مع المؤمنين ومع عقيدتهم

ويستمرّ بيان أحوال أهل الكتاب، وأهمّ ما نستبينُه من حالهم بين حنايا هذه الآيات هو ما يتصل منهم بالمؤمنين، من محاجّات كما رأينا، مرة عن عيسى ومرة عن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، ومن أمنيتهم إضلال المؤمنين في تفصيل لما يخططون ويمكرون لزرع بذور الشك في نفوس المؤمنين وجعلهم على اضطراب من أمر عقيدتهم ...

وهو ما درجْنا في السورة على تبيّنه من موقع إلى آخر وهي تسعى لتثبيت المؤمنين في كل زمان، ولجعلهم على بيّنة مما يَعرِض لهم على درب الحياة، فهم لا محالة سامعون من أهل الكتاب ومن أهل إنكار الدين بالكليّة ما يُلقونه شُبهة يريدون بها زعزعة إيمانهم وإبعادهم عن نور الهُدى الذي تفضل الله به عليهم من واسع رحمته . يعلّمنا سبحانه في خضمّ ما سيلقى المؤمن من مزعزعات أن نَثبت وأن نكون على يقين مما عندنا، ليس عن يقين تسليم أعمى، بل عن يقين علم وتعليم، وعن محاجّات عقلية، وعن أدلة واضحة بيّنة تصدع بالحق . فيكشف لنا سبحانَهُ الحقائق، ويذكر قُبالتها أباطيلهم، والعقل الحرّ السليم المجرّد عن سَموم الأهواء يشعر بالإشباع والاقتناع من هذا الكشف المُنَزَّه عن كل تعصّب أو تغمية أو تحيّز ...

3-أ) إننا الآن بإزاء آيات تنبئنا عن حالة من حالات تعاملاتهم الدنيوية مع المؤمنين، بعدما عرفنا اتصالهم بهم في مجال الدين .

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75)

إنه إنصاف القرآن، الصفة اللازمة له، يعرض الحقائق مجرّدة عن التعصّب والتغمية والانحياز لأنّ موضوعه في غنى عن كل هذه الدوافع وهو يعرض الحق للحق، فمن شاء أن يكون عقله حرا عرف، ومن شاء أن يستعبده الهوى أو العصبية أو الانحياز لم يعرف.
يُنصف فيذكر أول ما يذكر الفئة التي إن استأمنها المؤمن على أمانة أدّتها، وكانت الأمينة عليها، وإن كان المستأمَن عليه قنطارا تدليلا على الكثرة ...

وإننا إذا تأملنا عرفنا هذا الإنصاف في القرآن في مقامات كثيرة، حتى فيما كنا بصدده من قبل، ذلك في قوله مثلا : " وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ..." "وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ..."
طائفة على وجه الإنصاف لا التعميم .وهو القائل سبحانه : " لَيْسُوا سَوَاءً  مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ"

ولننظر إلى الآية السابقة، لنرى كيف أنّ هذا الكتاب الذي سعى أهل الكتاب حثيث سعيهم لنفي استحقاقه الاتّباع، حتى كانوا يقولون أنه لا ينبغي أن يُؤتى غيرهم مثل ما أوتوا، هو ذاتُه الكتاب الذي ينصف وهو يحدّث عنهم، فلا يعمّم بل يذكر على وجه الدقة والحقيقة أنّها فئات  ... فلقد برّأ من لم تكن تلك صفاته منهم ...
وهنا وجه الربط بين هذه الآية وما سبقها . فهم يخطّطون ويمكرون ويكيدون، والحق سبحانه في عُلاه وهو يعلم عن كل مكرهم ودسائسهم ونواياهم لا يعمّم، لا يظلم.. هم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق، وهذا الكتاب يذكر الحق على وجهه كما كان دون زيادة أو مبالغة أو انحياز أو باستنفار دواعي التحيّز ...

ومنهم من لا يكون أمينا على دينار إذا استأمنه عليه مؤمن إلا مادام صاحبه قائما عليه، طالبا له
فما حجّتهم في ذلك ؟ حجّتهم هي ما ذكرته الآية : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
قالوا أنّ التوراة تقضي بأنه لا إثم ولا حرج ولا مؤاخذة عليهم في خيانة أمانات الأميين، والأميون هم العرب عُرفوا بأنه لم تنزل فيهم كتب سماوية، وهذا الذي قالوا من تحقيرهم لغيرهم، ومن استعلائهم عليهم ... وسريعا يبرّئ الله تعالى كتابه من ادّعاءاتهم، ويكشف تقوّلاتهم وأكاذيبهم بقوله :" وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" .

أهذه هي التوراة التي تقولون بأنها الكتاب الذي لا تقبلون بغيره وتستمسكون به وحده، وتؤمنون به وحده، وأن شريعته لا يجوز لأيّ كان القول بمجيئه بشرع بعدها ؟! وأنّ أحدا لن يُؤتى مثلها ؟!  أهذا ما جاءت به توراتكم ؟؟  قريبا غير بعيد في الآية السابقة عرفناكم تقولون بهذا ...

الحمد لله الذي جعل في القرآن براءة لكتبه من تحريفات أيديهم، وبراءة لرسله من لوثات تقوّلاتهم فيهم ... الحمد لله الذي حفظ القرآن حاملا للحق مبينا ...
أيّ حق هذا الذي يُحابي فالنصراني أو اليهودي أمين على وديعة من يواليه في اعتقاده،  وأما غيرهم فليس عليهم فيهم من سبيل ... خيانة الأمانة معهم دين من الدين !! قضى به كتابهم وقضت به شريعتهم !!
أما هُم فقد كذبوا على كتب الله، فجعلوا كذبا وافتراء شريعة أهوائهم شريعة الله، وعلى ضوء هذا يقوى صدى قوله تعالى الذي عرفنا : " قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ ". جعلوا خيانة الأمانة مع غيرهم دينا منصوصا عليه !
وأما القرآن فيُنصفهم فلا يعمّم حتى ورؤساؤهم وكبراؤهم هم رؤوس مناصبة العِداء لله تعالى وللقرآن وللذي جاء به صلى الله عليه وسلم ولأتباعه...
وهذا عرض من العرض، نشر من النشر، وهذا العقل بالمقابل يقرأ ويرى ويسمع ...فأيّهما أحق بأن يكون الحق ؟ أيهما أحق بأن يكون العدل ؟ أيهما أقرب للفطرة والسلامة والنقاء ؟
« آخر تحرير: 2018-11-27, 08:42:25 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
وفي استثنائه سبحانه بـ: "إِلّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِما " صفة ذكرتني بما عليه كثير من المؤمنين مع المؤمنين إذا ما استأمنوهم على شيء من أشيائهم، أو إذا ما أقرضوهم...يستسهلون الإبطاء عليهم، متحججين بالحجة الواهية خلف أختها أنها معجزتهم عن الأداء، وعن ردّ الأمانة لصاحبها، وما هُم إلا الكاذبون اللامبالون، الذين لا تقدير عندهم لجسامة الأمانة ولعِظم مقامها عند الله...

أوليس هذا من ذاك ؟ أليس هذا من المؤمن بُعدٌ عن الحق الذي في منهجه وكتابه، واتباع منه لهواه ؟ أوليس دُربةً على نهجهم الهوائيّ واقتفاء لأثرهم الملتوي ؟؟ أوليس داعيا للخوف من أن نكون على شاكلتهم ؟؟
هذا حتى لا نغفل عن إسقاطات من واقع عليل نعايشه مردّ العلّة فيه غفلتنا عن منهجنا الأصيل ...

يجيب الله تعالى على كذبهم : " لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ "بقوله : بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(76)
أما " بَلَى "  فهو حرف جواب مختص بإبطال النّفي. هو هنا لإبطال قولهم :"لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ" . أي بمعنى بلى عليكم سبيل. ثم تُردَف بـ :" مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ".

قيل في هذا الجزء من الآية أنه عن أداء الأمانة إذ هي أصلا وفاء بعهد، ولكنّني أرى الأقرب إلى معناها هو ما يسوق إلى الآية التالية لهذه في قوله سبحانه : "إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ..." وفيه ترابط وتناسق بيّن.
وعلى هذا يكون "العهد" في: " مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ " هو الذي عاهدوا الله عليه من أخذ الكتاب بقوة، ومن الإيمان به سبحانه وبما أنزله، ومن الإيمان بالنبي المبشَّر به في كتبهم صلى الله عليه وسلم واتّباعه . فيُحقق هذا المعنى صلة بما كان قبله (أنه لا سبيل عليهم في الأميين-75-)وصلة بما يأتي بعده (الذين يفرّطون في عهد الله-77-).

فمن أوفى بهذا العهد مع الله تعالى لن يكون من الذين يقولون على الله الكذب... لن يكون من الذين يكتبون بأيديهم ما ينسبونه إلى الله تعالى... لن يكون من الذين يشرّعون بأهوائهم ويدّعون أنه شرع الله ... بل سيكون من الذين يتّقون فيحبّهم سبحانه...

من الذين يستمسكون بالهدى... هدى الله . من الذين يثبتون
إذن ...هؤلاء أحباء الله ..
الذين يوفون بعهدهم + يتقون ----> يحبهم الله.

3-ب)أما غيرهم فهم الذين لا يوفّون بعهدهم مع الله ولا يتقون ...ترى ما مكانتهم عند الله تعالى ؟
لنتأمّل هذا السَّوْق ...
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(77)

أولئك :
**لا نصيب لهم في الآخرة ولا حظ.
** لا يكلمهم الله.
** لا ينظر إليهم.
**لا يزكّيهم .
**لهم عذاب أليم.

أي همّ هو همُّهم وأي غمّ هو غمُّهم ؟!! وأي مصيبة وأي كارثة وأيّ رُزْء هو حالهم !!!
إنهم الذين يشترون بعهد الله وبأيمانهم التي حلفوا بها وأقسموا أنّ ما يتقوّلون به هو من قول الله.. أو بأيمانهم التي حلفوا بها على أن يوفّوا بعهد الله...
فبمَ هم يشترون وماذا هم مشترون ؟
لنتأمل ...
لقد اشتروا ثمنا قليلا .. فهل يُشتَرى الثمن ؟!

إننا إذا دققنا وجدنا أنهم قد خرجوا كما يخرج المشتري يحمل ما سيتركه ليأخذ مقابله ما يريد أن يمتلكه... وبالتعبير عن فعلهم بالاشتراء فإن نيتهم نيّة المشتري الذي سيترك ما بين يديه لقاء ما يتمنى أن يمتلكه، فما سيمتلكه لا محالة أكبر في نفسه مما سيتركه وهو هنا عهد الله تعالى وأيمانهم أي حلفهم بالله تعالى على أنّهم الموفّون بعهد الله أو على أنّ ما يتقوّلونه هو من قول الله، ذلك ما خرجوا به يريدون تبديله وتعويضه بما يرونه خيرا منه...! وكذلك كان البائع والمشتري يستبدل كل منهما شيئا بشيء. كلاهما يكون مشتريا ويكون بائعا في آن ...

يصف سبحانه هذا الذي سيشترونه ب:" ثَمَناً قَلِيلاً " اشتروا الثمن، بمعنى أنّ أصل ما فعلوه وحقيقته بيع لا اشتراء، لأنّ قيمة ووزن ما جعلوه قيمة للاشتراء مقابل سلعة -هي عندهم مرغوب فيها بينما المشتَرى به مرغوب عنه- ليس هناك على الحقيقة ما يقابله قيمة ووزنا... أيّ شيء هو أعلى قيمة وأثقل وزنا وأغلى من عهد الله ومن الأيمان بالله ؟!
إذن فإنهم يبيعون وهم يحسبون أنهم يشترون ...!

لقد باعوا عهد الله تعالى وأيمانهم المغلظة على التوفية به بعَرَض من الدنيا قليل، هو الجاهُ الذي لا يريدون له زوالا، والحظوة التي كانوا يتمتعون بها كونهم أهل كتب سماوية وأهل بعث الأنبياء فيهم ... هو تمكينهم لأهوائهم على أنها شرائع الله سبحانه ليعيثوا في الأرض فسادا باسم الدين، وليملؤوها ظلما وتجبرا باسم الدين، وليبقوا على تسلّطهم وتفرْعُنهم لا تقوم لغيرهم قائمة.. ولا يسودهم غيرهم ولا يقودهم غير أهوائهم ...
وإنّ هذا دَيْدنهم ودأبهم  لا يتبدّل عبر الأزمنة، تواصوا به واصطلحوا عليه جيلا بعد جيل... يتشدّقون بأنهم شعب الله المختار، وبأنهم أبناء الله وأحباؤه كذبا منهم وافتراء واستعلاء على عباد الله تعالى الذين لا فرق بين فريق منهم وفريق إلا بالتقوى ...

كما أنّ هذه الآية أيضا تذكّرنا بمُروق يمرقه كثير من المؤمنين بالله وبرسوله عن ربقة الدين مستسهلين متمادين، وأنت تسمع مَن تسمع منهم يغلظ الأيمان ويقسم بالله على كذب غير هيّاب ولا مقدّرا لعظمة اليمين باسم الله تعالى، لا لشيء إلا ليحوز عرضا من الدنيا مهما كبر في نفسه فهو أدنى وأقل وأصغر من أيمان بالله كانت في كذب ... وكثيرا ما يكون ذلك في التجارة ..
ونجد في الصحيح من الحديث عن نزول هذه الآية فيمَن حلف كذبا ... وهذا ما يعلّمنا دوما أنّ تربية القرآن لا تُقيَّد بخصوص السبب بل تعمل عملها بعموم اللفظ، فهي هنا مناسبة تماما لعمل أهل الكتاب، كما أنها أيضا مناسبة لكلّ من هذا فعلُه ...

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :" ( مَنْ حلَفَ على يمينٍ يستَحِقُّ بهَا مالًا ، لَقِيَ اللهَ وهوَ عليهِ غضبانُ ) . ثمَّ أنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلكَ : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ - إلى - عَذَابٌ أَلِيمٌ} . ثمَّ إنَّ الأشْعَثَ بنَ قيسٍ خرجَ إلينَا ، فقالَ : ما يُحَدِّثُكُم أبو عبدِ الرحمنِ ؟ فحَدَّثْنَاهُ بما قالَ ، فقالَ : صدَقَ ، لَفِيَّ أنْزِلَتْ ، كانَ بينِي وبينَ رجلٍ خُصُومَةٌ في شيءٍ ، فاخْتَصَمْنَا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، فقالَ : ( شَاهِدَاكَ أو يَمِينُهُ ) . فقلتُ لهُ : إنَّهُ إذنْ يحلفُ ولا يبَالِي ، فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : ( مَن حلَفَ على يمينٍ ، يسْتَحِقُّ بهَا مالًا ، وهوَ فيها فَاجِرٌ ، لَقِيَ اللهَ وهوَ عليهِ غضبانُ ) . فأنزَلَ اللهُ تَصدِيقَ ذلكَ ، ثمَّ اقتَرَأَ هذهِ الآيةَ ." –صحيح البخاري-
« آخر تحرير: 2018-11-26, 17:01:34 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
3-ج) وما يزال القرآن يصفهم، ويعدّد من شنائعهم، ولقد عرفنا من تعاملاتهم المستعلية على المسلمين باسم الدين كذبا وافتراء... والآن ...
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(78)
ومازال القرآن منصفا وهو كذلك في كل مقام ... فيحدّد بـ : " وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً " دون تعميم..

إنّ هذه الآية تفصيل لرضاهم بالثمن القليل من عرض الدنيا مقابل عهد الله تعالى وأيمانهم، فهم أولاء يحرّفون كلام الله...
يلوون ألسنتهم بالكتاب، زاعمين أنّ ما يقرؤون منه هو الذي نزل من عند الله وهو كما أنزِل، بينما هم يلوُون ألسنتهم فلا ينطقون الحق، بل ينطقون باطلهم الملتوي والذي هو على غير الاستقامة التي نزل عليها الحق من عند الله، ليلبّسوا على المؤمنين فيحسبونهم منهمكين في تلاوة كتاب الله...
يبدّلون حروفا مكان حروف ليتبدّل المعنى الذي نزل بالمعنى الذي يريدون بأهوائهم من مثل قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "راعِنا" يريدون بها مسبّة له صلى الله عليه وسلم: " منَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ  وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا" –النساء:46-حتى علّم الله المؤمنين ألا يقولوا له بمثل مقالتهم: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا  وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ "-البقرة:104-

ثم زيادة على بيان أنّهم يلوُون ألسنتهم وهم يقرؤون بغير ما أنزل الله على أنه الذي أنزله الله، يخبر سبحانه عنهم أنهم يزيدون فيقولون أنه من عند الله وما هو من عند الله ...
وإني لا أرى في الغاية من هذا التكرار منه سبحانه مجرّد التأكيد على تحريفهم مرة بأنهم يلوون ألسنتهم عند القراءة، ومرة بقولهم أنه من عند الله ...
لا أرى في هذا التكرار تأكيدا وحسب، وإنما أرى أنّه البيان فوق البيان على أنهم بكل سبيل قد حرّفوا، فهم :
1- يقرؤون من الكتاب، وهذا يدلّ على كتابتهم لتحريفاتهم بتبديلهم لآيات الله بكلامهم الذي أصبح مكتوبا يُقرأ من كتاب على أنه كتاب الله، تداولته الأجيال متتابعة مكتوبا موثّقا متناقلة الباطل دهرا عن دهر..
2- يُشيعون أنّ هذا الذي حرّفوا وبدّلوا ووثّقوا  كلام الله لإتمام حَبْك جريمتهم الحبك اللازم إذ يُعلنون الكذب وهم يعلمون أنه الكذب ليُكرَّس لباطلهم على أنه الحق .

ونكون بهذا قد عشنا مع آيات القطاع الجزئيّ (75-78) ما علّمنا عن تعاملاتهم الدنيوية التي هي أيضا من وحي أباطيلهم التي سموها دينا وتشريعا إلهيا .. إنهم على تلك الجبلّة التي لا تتبدّل ولا تتحوّل، هذا حالهم، فما نفعهم كتاب سماوي ولا أثمر فيهم خير نبيّ مبعوث من الله، ولا هذّبهم الاصطفاء بكثرة الأنبياء ... لقد تطاولوا كل تطاول، وتمادوا كل تمادٍ حتى جعلوا منهج حياتهم أهواءهم وأكاذيبهم وأباطيلهم، وليتهم جعلوها لهم منهجا معلنين نُكرانهم للإله جملة وتفصيلا !   لكان ذلك خيرا من نسب افتراءاتهم إلى الله كذبا عليه سبحانه قبل أن يكذبوا على أنبيائه وعلى غيرهم  ...!

ونكون قد عرفنا منه :
1-ادّعاؤهم أنّ شرع الله يحابي فخيانة غير أهل الكتاب دين من الدين .
2-الإنصاف صفة لازمة للقرآن إذ يحدّد أنّ منهم من يفعل تلك الشنائع ولا يعمّم، وفي ذلك تمام البيان على صدق القرآن وهو ينصف ألدّ أعدائه الذين تصدوا لرسالته بكل سبيل.
3-الموفي بعهده على الحقيقة هو الذي يكون رأس التوفية منه توفيته بعهده مع الله تعالى على الإيمان والتصديق ومن ثَمَّ الائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه.
4-الله يحب المتقين الذين كان أساس تقواهم التوفية بعهد الله، بينما يُحلّ غضبه وسخطه وعذابه على الذين يبدّلون العهد بعرض الدنيا الزائل. فهم محرّفون مبدّلون لما أنزل الله متقوّلون كذبا أنه من عند الله.

وأجمِل في هذا المخطط من الآية 64 إلى الآية78، وفيها دعوة أهل الكتاب ومحاجّتهم وبيان باطلهم والحق مقابل باطلهم .

« آخر تحرير: 2018-11-27, 08:33:24 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6546
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
إذن فقد عرفنا منهجيّة في التوجّه لأهل الكتاب لغاية جعل المؤمنين على بيّنة من الحق وعلى بيّنة من أساليب المضلّلين الذين يسعون حثيث السعي لإخراج أهل الهدى عن هُدى الله، وهي تلك الغاية السامية لهذه السورة التي تعمل على تثبيت أهل الهُدى على الهُدى...
وإننا فقط لو عدّدنا ما عرفنا حتى الآن في السورة من إلقاء أهل الشبهات لشبهاتهم لسلّمنا ببالغ أهمية العمل على التثبيت... حقا وصدقا أحَسِبَ الذين آمنوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتَنون ؟

المنهجيّة التي عرفناها من 64إلى 78 تبيّن كيف بُدئوا بالسلام وإرادة الخير والصلاح بهم بدعوتهم إلى الحق،  ثمّ نتبيّن حقيقتهم شيئا فشيئا في عَرَض الآيات، لنعرف عن إصرارهم على باطلهم، واستكبارهم به، وهنا لا يبقى مجال للمداراة والمداهنة على حساب الحق، بل الحق هو الأعلى... وهو الذي يستحقّ الإعلاء، ولا تساوي الدنيا بما فيها إعلاء كلمة الله وتوحيده في الأرض، ولذلك خلقنا سبحانه...

وعلى هذا فإنّ المؤمن مطالَب بالاعتزاز بالحق الذي يحمل، ومطالَب بأن يجعل إعلاءه بُغيته وغايته، وليس لعلوّ شأن الكفرة الدنيويّ من مقام يعلو على كلمة الله وتوحيده ... ولذلك نلمح في ظل هذه المنهجية وهذا التدرج معهم ما يبيّن التصريح بكفرهم وقد تبيّن إصرارهم على الباطل بل والدعوة إليه بتمني إضلالهم للمؤمنين، ثم يزوّد الله المؤمنين بأساليبهم الملتوية ويكشف صفاتهم وتقوّلاتهم ...

وكل هذا من عمل السورة على التثبيت ...
وإننا ما نزال في رحاب آيات القطاع (64-99). فلننظر فيما هو آت أمازالت سلسلتنا مترابطة أم أنّ هناك انفكاكا سيحصل .... :
4-
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ(79) وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ(80)

إنّ الله سبحانه يحدّثنا هنا عن الأنبياء، نافيا عنهم منسوبا إليهم من القول ...
ما كان لبشر من البشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يدعو الناس لعبادته من دون الله ...
ما علاقة هذا الجديد بما مضى يا ترى ؟
ألم نكن قريبا بين يدي آيتين أخيرتَين علمتانا أنّ غضب الله تعالى وسخطه حالّ على مَن يفرّطون في عهد الله وأيمانهم على أخذ الكتاب بقوة، وعلى التوفية بعهد الله ؟

ألم يفصّل لنا الله تعالى أن منهم فريقا يلوُون ألسنتهم بتحريفات من محض أهوائهم ناسبين إياها إلى الله تعالى كذبا وبهتانا ؟؟
ألم يعلّمنا أنهم القائلون أنه من عند الله وما هو من عند الله ؟؟

بلى ... عرفنا ذلك .... وإنّ هذا الجديد من ذاك ...

أليس رأس تقوّلهم وكذبهم على الله، ورأس ليّهم ألسنتهم بالكتاب أن قالوا بألوهية عيسى عليه السلام، وأنه ابن الله، وأنه ثالث ثلاثة ؟
أليس أخطر تقوّل وأشنع قالة ما كان منهم في جنب الله تعالى بقلب توحيده سبحانه وهو الواحد الأحد الفرد الصمد إلى تثليث، وإشراك غيره به في العبادة ؟!

وهذا ما جاءت به هذه الآية، جاءت بشأن ما افتروه على سيدنا عيسى عليه السلام، من أنه هو الذي قال لهم أن يعبدوه من دون الله، اتهموه بالتقوّل أنّه جاء داعيا لعبادته من دون الله.
والجميل هو هذه المحاجّة التي لا تغادر مخاطبة العقل السليم، العقل الحرّ الذي كرّم الله به الإنسان، فجعله وعاء يوافق ما أنزل الله تعالى كلّ موافقة، بل يشبع ويرتوي منه أيما شبع وأيما ارتواء ...

فلنتأمل ...

1-4/ نلاحظ أولا خصوصية الوصف الأول للذي يؤتيه الله سبحانه الكتاب والحكم والنبوءة : "لبشر"
وفيه بيان لكون عيسى عليه السلام بشرا من البشر، ليس في تكوينه ما يفرّقه عنهم، بل هو بشر، وهم قد لوّنوا وحوّروا، فجعلوه كائنا –على كلماتهم- منقسما إلى لاهوتية وناسوتية، فأما الناسوتية فهي صفة البشرية فيه، وأما اللاهوتية فهي صفة الألوهية التي أضفوها عليه. كائن مختلط، جعلوه إله متجسدا في بشر، وجعلوه بشرا إله ... تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا ... ليس كمثله شيء سبحانه، يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار.

2-4/ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ : الذي يؤتي هذا البشر هو الله سبحانه، يعطيه من عطائه، يتفضل عليه من فضله، فهو سبحانه الأعلى وهذا عبده الأدنى المتفضَّل عليه. يؤتيه الكتاب من عنده، ويؤتيه الحكم من عنده، وبأمره، الحكم الذي يَحتمِل هنا معنى العلم والفهم، من مثل قوله تعالى : " يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ  وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا "-مريم:12- كما يحتمل معنى الحكم أيضا بما أنزل عليه في هذا الكتاب، يقول سبحانه : "إنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ  فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ..." –المائدة:من48- ويؤتيه النبوّة مع الكتاب والحكم. كله من عطاء الله تعالى.

3-4/ كيف يكون لهذا المتفَضَّل عليه، والذي اصطفاه الله من خلقه، فخصّه بهذه العطايا، وقد أخلصه له بأرفع الخُلق وأكمل الصفات وهيّأه لأن يكون لذلك العطاء أهلا، كيف يكون له :" ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ." ؟

لقد اتهموا عيسى عليه السلام بهذا القول، اتهموه أنه الداعي إلى عبادته، وأنه ابن الله ...  حرّفوا الكتب السماوية على هذا، فملؤوها بهُراءاتهم ...
وهذا القرآن الذي تعهّد الله بحفظه يحفظ لنا هذه الحقائق ... ينقل لنا براءة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من هذه الاتهامات .

4-4/ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ هذا هو الذي كلّفهم الله تعالى بتبليغه، وهذا ذاتُه الذي بلّغوه للناس، أن يكونوا ربانيين . قال الفخر الرازي : " قال سيبويه: الرباني المنسوب إلى الرب، بمعنى كونه عالما به، ومواظبا على طاعته، كما يقال: رجل إلهي إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته وزيادة الألف والنون فيه للدلالة على كمال هذه الصفة، كما قالوا: شعراني ولحياني ورقباني إذا وصف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة "–مفاتيح الغيب-

فأما سبب أن يكونوا ربانيين، فبما يعلمون من الكتاب، وبما يدرسون . إذن فمصدر علمهم بالله وبتوحيده وبتقديره حقّ قدره، وبتعظيمه وإجلاله وطاعة أمره والانتهاء عن نهيه هو الكتاب وما حوى، وبما يدرسونه من هذا الكتاب، أي ما يدأبون على تعلّمه منه بحفظه وبتدبره وبالعمل به، وهذا معنى دراسته . عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ ، يتلون كتابَ اللهِ ، و يتدارسونه بينهم ، إلا نزلتْ عليهم السَّكينةُ : وغَشِيَتْهم الرحمةُ ، و حفَّتهم الملائكةُ ، و ذكرهم اللهُ فيمن عندَه" –صحيح الجامع-

وعلى هذا فإن اجتماع العطايا الثلاث جاء مرتبا ومترابطا، فهو أولا:الكتاب مصدر الهدى ومصدر المعرفة بالله، ثم ثانيا: الحكم. ولا يكون إلا بالكتاب سواء كان العلم أو الحكم الذي هو الفصل، وهو أيضا بأمر الله، وثالثا:النبوة التي هي كمال الخُلُق البشريّ السويّ رائد الناس إلى الهدى، وقائدهم على سبل الخير في الدنيا والآخرة، وكلها من الكتاب الذي فيه كلام الله وأمر الله والعلم بالله ... فأنّى يكون لأحد هذه صفته وهذه العطايا الربانية التي حُبِي بها أن يدعو لعبادة غير الذي حباه وأعطاه واصطفاه وأمره وأرسله ليهدي الناس إلى هُداه سبحانه ؟!
« آخر تحرير: 2018-11-28, 20:59:00 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب