عرفنا ضمن "تناقضات الإلزام" عنصر الوحدة والتنوع.. هل يكون نموذجا واحدا ثابتا غير قابل للتغيير، أم ينزل إلى ساحة الحياة التي تتسم بالحركة والتبدّل والجدة ؟
والآن يعرض دراز إلى عنصر ثان هو من تناقضات الإلزام :
2- سلطة وحريــــــــة :
الإلزام يجمع طرفين بإرادتني مختلفتين :
** المشرّع الحريص على
أمره وسلطته.
** الفرد الذي يعمل وهو
يدافع عن حريته .
القوانين التي يسنّها المشرّع تحافظ على بقائها ما احتفظت بمعناها كاملا، دون أن تخضع لوطأة الظروف. وبالتالي يصبح القانون مسيطرا يسلب حريّة المطبَّق عليه، ويكون منه الخضوع التام . فأي جدوى لضمير كهذا ؟
من ناحية أخرى إن مُتّع الفرد بالحرية الكاملة، فسيصبح الأمر الملزم مجرد نصيحة، يأخذ بها من يأخذ، ويُعرض عنها مَن يُعرض.
فما الحل ؟؟ الانحياز لطرف دون آخر ؟ أم التوفيق ؟؟ وإن كان الجواب "التوفيق" فكيف يتحقق؟؟
الحل القرآني قد حقق التوفيق بخلاف النظريات الوضعية التي انحازت لطرف دون آخر ...
--------------------
أحب هنا أن أشير إلى أهمية المقارنة التي يُجريها دراز بين النظرية الأخلاقية القرآنية والنظريات الوضعية، إذ هو هنا عقليا ومنطقيا وبرهانيا يوضح الفرق بين هذه وتلك، هو هنا يحلل النظريات الوضعية، فيُنصف ويبين الحسن فيها، ثم يحلل فيبيّن العَوار فيها والنقص والسلبيات، وعدم صلاحيتها للتطبيق العام من منطلق منطقي.. يناقشها في ذاتها، وينقدها من ذاتها، ثم يَعرض بالمقابل للنظرية القرآنية، وكيف حققت سد الثغرات التي لم تتمكن النظريات الوضعية من سدّها .... والقارئ بإزاء هذا العرض لا يُقهَر بالعاطفة الدينية مثلا ليُصدر حكما، بل هذا العرض مُقنع حتى لصاحب الدين الآخر، أو لصاحب اللادين بالكلية ...
هنا دراز سيعرض نظريتين مختلفتين، إحداهما للفيلسوف "كانت" والأخرى للفيلسوف "روه"، وهما على طرفي نقيض في عملية الانحياز للطرف المشرّع أو للفرد المتلقي للتشريع ...
وقد مشيتُ معه الهُوينى مع عرضه لنظرية كانت حول الواجب الأخلاقي وكيف يعرّفه، وكيف يصيغ تعريفه. الأمر فلسفة، ولكن لنحاول مع دراز الوصول إلى ما وصل إليه كانت ... لنتعرف إلى جهد العقل البشري المحض، وأين يصل به ...
--------------------------------
نظرية كانت(بين سلطة المشرع أو حرية الفرد؟)
يعرف كانت الواجب بالطريقة التالية : (ا
لواجب قانون شامل لجميع الإرادات، هو كل سلوك يمكن أن يُصاغ في قاعدة عامة دون أن يكون عرضة لنقد العقل أو تسخيفه .)
** يقيّم كانت العمل بأنه أخلاقي أو غير أخلاقي بمقياس عمومية تطبيقه، بمعنى أنه إن كان يصلح للتطبيق العام فهو أخلاقي، ولا يقيمه بمقياس النتيجة حسنة كانت أم سيئة .
** يتلخص فِكره في نظرية الواجب في ثلاث مراحل :
1- إثبات حدث أولي بالنظر في السلوك الذي يصدر من الإنسان .
2- تحليل السلوك للارتقاء به إلى العمومية.
3- هبوط لوضع القواعد الأساسية للأخلاق.
طيب كيف يعمم كانت السلوك كقاعدة وقانون عام... نمشي معه مرحلة بمرحلة ؟؟
1- إثبات حدث أولي بالنظر في السلوك الذي يصدر من الإنسان .
يقول بأنه قبل أن نكيّف قاعدة السلوك وأحوالنا الشخصية نقيسها على ما نتطلبه من الآخرين ..
وفي الحقيقة هذه الإدانة للأنانية هي التي استخرج بها الضمير الإنساني مبدأ شمولية الواجب وتبادليته . وهذا حسن، والقرآن ينصّ عليه مثلا في قوله تعالى : "لَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ ". وبينها صلى الله عليه وسلم بيانا دقيقا في قوله : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"
كانت انطلق من الإدراك العادي في تعريف الواجب، وتعميمه ... يقول مثلا : "سلْ نفسك إذا هممت بعمل هل يمكن أن يحدث في قانون الطبيعة التي تعيش فيها ؟"
مثلا إن كنت تسمح لنفسك بالخداع، فهذا ليس حتما أن يقع من غيرك، إن كنت لا تبالي ببؤس الناس، فليس حتما ألا يبالي غيرك ...
2- تحليل السلوك للارتقاء به إلى العمومية.طيب ... من أين يأتي هذا العمل المثالي الذي لا يوجد في التجارب ؟؟
** يجعله كانت مستقلا عن القانون التجريبي . يستمده من عالم ذهني صرف.
** لا يجعله مستقلا عن قانون الطبيعة وحسب بل يجعل الإرادة مستقلة عن أي مؤثر لتضع هي قانونها.
** يجعله قانون عقل محض.
** يجعلها عمومية مطلقة.
** يجعله حكما جازما ضروريا وقبليا .
وهذا منه قمة قمة التجريـــــــــــــــــــــدثم يبدأ دراز بنقد النظرية مرورا بمراحلها الثلاث...
السؤال : هل فعلا التعميم، أن يصبح قانونا عاما يستلزم أنه أخلاقي ؟؟؟
السؤال : هل ما أرى أنني لا أحب أن يُفعل بي يرتقي إلى قانون عام ؟؟
مثال : من يُجاري أهواءه البريئة التي لا حرج في إرضائها، ماذا سيصنّف ؟؟ سيعمّم حسب كانت، وهنا :
1- سيتساوى الحَسَن أخلاقيا بالمُحايد أخلاقيا .
2- سينحصر الواجب بهذا في حدود "المُباح" والذي عرفناه في تقسيماتنا الإسلامية .
3- هنا يحدث خلط بين : هذا
يمكن أن يكون عاما و هذا
يجب أن يكون عاما .
وليس هذا وحده الالتباس الحاصل، بل يحصل ما هو أخطر حسب قاعدة كانت، سيُطلق وصف الخير الأخلاقي على كل سلوك يرتقي ليصبح قانونا عاما وإن كان أكثر الأعمال تهمة .
كيف ذلك ؟؟** الطبيب الذي يخدع مريضه ليشفيه .
** الإنسان المرهَف الذي يؤثر الانتحار على تحمل العار .
هنا هل يُعمّم على كل من وُضع بظرفه ؟؟؟** التبتل أي الإعراض عن الزواج وهذا لو عُمّم فإن النتيجة البدهية أن ينقرض جيل بأكمله !! ولا نستطيع تجريم عمل من يتبتل .. فهل يُعمّم ؟؟ !
** وأبعد من كل هذا ... من ينادي بأن الفسق، والدعارة والعُري أخلاق، وينادي بالعتراف بها، وتُقنّن كما نعرف اليوم، فهل هذا قانون يعمّم ؟؟ وأخلاقي ؟؟؟ !!
وبهذا تبطل المقابلة بين الأخلاقي والعام
أيــــــضا :** كانت يجعل من القانون الأخلاقي شاملا بشكل بالغ التجريد، ذلك بالنظر إلى القيمة الأخلاقية التي لا تكمن في النتيجة ولا في التوافق مع ميولنا، يقول أنه يبتعد عن المذهب الأمبيريقي الذي يحصر الخير في النتائج، ويبتعد عن النزعة الصوفية التي تتوه في العالم العلوي، فيرى المنهج العقلي الأنسب للقانون الأخلاقي.
ويضيف : (
تجريده يعتمد على استقلالية الإرادة عن كل الدوافع الحسية، وأن عمومية القانون هي محرك الإرادة)
** من ناحية كيف له أن يصل إلى شكل محض وهو لم يستنفذ كل الحلول باستبعاده لكل الدوافع الحسية، أي الظروف .
** ما يراه كانت أن كل عام واجب، والصحيح أن كل واجب عام، ولكن ليس كل عام واجب.
** ليست كل القيم بإمكانها أن تُعمّم كالتي لا تكون يسيرة على الكل، ولا ممكنة من مثل التبتل، فإن عُمّم ما لا يستطيع أن يتحقق من الكل، كيف له أن يكون واجبا وإن كان عاما .
** العمومية في القانون لا تعفي من النظر في شرعيته، إذ أن القانون العام لا يستلزم أن يكون شرعيا، وكانت يقضي بأن الشكل والتعميم كاف، وهنا يصعب تمييز الفضيلة من الرذيلة .
إذن فالتناقض الأكبر في نظريته يكمن في أنه يرى القانون الشكلي أساسا للخير ولا يرى الخير أساسا للقانون الشكلي .
يرى أن الخير بالضرورة ناتج عن قانون يسبقه، ولا يرى أن القانون ينتج عن خير ...
مثلا أن يُنشد السلام أليس نابعا من حب تنمية الحياة الإنسانية ؟
ماذا لو عُمّم وفُرض مثلا القضاء على الضعفاء لإتاحة الحياة والنماء للأقوى ؟ أي خير سينتجه هذا القانون ؟
نظرية كانت تغير حتى مفهوم الإرادة الإلهية ... إذ أن أمر الله على هذا هو حق لأن الله أمر به وحسب، ، وليس لانه حق في ذاته .
رجال اللاهوت يقولون : "هذا أمر علوي من الله" وكانت يقول: "هذا أمر حتمي من العقل المحض"
رجال اللاهوت أمر الله ضمان لهم ضد الباطل والظلم، ولكن كانت أي ضمان لديه من حتمية أمر عقل بشري ؟ أي ضمان لديه فيه ضد الظلم والباطل ؟؟ إلا إذا ساوينا بين العقل الإلهي والعقل البشري !!!
إذن فأي تحليل مما رأينا يؤدي إلى ترقية القانون الذي يُستنبط من العقل المحض بهذا التجريد وبهذه الشكلية إلى قانون عام ؟؟ هذا القانون لأنه عام فهو واجب كيفما كان حكمه، كيفما كان مضمونه... وكما رأينا أن تُعمم المطالبة بالعُري والفسق ... !!