سيفتاب أنقل لك المقالات هنا لتقرئيها
المقال الأول : ما لا يعرفه شريف جابر الملحد عن القرآن -شريف محمد جابر-
شاهدت مؤخرا فيديو لشاب ملحد يدعى شريف جابر سمّاه "ما لا تعرفه عن القرآن"، هذا رابطه:
https://www.youtube.com/watch?v=vvqgVS8KVJA فوجدته في غاية التهافت. وفي هذه التدوينة سأقوم بتشريح الفيديو وبيان تهافته بالأدلة، وسأبيّن بأنّ من يتأثرون بهذه المقاطع هم أولئك الذين لا يقرأون، ولا يصبرون على التحقيق العلمي واستقصاء المعلومة.
بشرية المسيح والإسلام - 00:00 حتى 03:00
في الدقائق الثلاث الأولى، يعرض الملحد جابر موجزا لتاريخ آريوس وأتباعه الذين كانوا ينكرون الثالوث ويقولون بالتوحيد وبأنّ المسيح رسول بشر من الله وليس إلها، ليخلص إلى نتيجة مفادها بأنّه ليس صحيحا أنّ القرآن هو أول من قال بذلك! وبغض النظر عن صحة ما قاله بخصوص عقيدة آريوس، فهو يبني طعنه على افتراض وهمي؛ فلم يقل أحد إنّ القرآن هو أول من دعا للتوحيد ونفي الألوهية عن أي بشر، بل القرآن نفسه يحكي قصص الأنبياء الموحّدين، ويحكي قصة الحواريّين أتباع عيسى الموحّدين الذين قالوا له "نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ"، والتشابه بين توحيد المسلمين اليوم وبين ما دعا إليه النصارى الموحّدون هو لأنّ الوحي واحد وحقائق التوحيد واحدة، وليس لأنّ المسلمين تأثروا بهم. فانظر كيف أنفق جابر مئات الكلمات في نقض افتراض لا يوجد إلا في وهمه!
ثم يتساءل جابر بسذاجة: إذا كانت فكرة التوحيد هذه موجودة فما الحاجة لوجود رسالة جديدة؟ والسخيف في السؤال أن جابرا نفسه يقرّ باضطهاد الآريوسيين من قبل الإمبراطورية الرومانية لهم وسيادة عقيدة الثالوث، ومن ثم كانت الحاجة لرسالة جديدة، إلى جانب انتشار الوثنية في العالم. بل القرآن نفسه يقرّ بأن رسالة التوحيد قديمة منذ آدم ونوح وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، ولكن حين تنحرف البشرية عن التوحيد تأتي رسالة جديدة، وكانت رسالة الإسلام هي الرسالة الخاتمة لدعوة الناس إلى التوحيد، فضلا عن الشريعة الناسخة.
الكلمات السريانية في القرآن - 03:00 حتى 19:00
يستند جابر بعد ذلك إلى افتراض وهمي آخر، وهو أنّه إذا أثبتَ وجود كلمات ذات أصل سرياني في القرآن، فهذا يؤكّد بأنّ القرآن غير عربي، وبأنّ مصدره النصارى الذين كتبوا بالسريانية!
وهو افتراض لا يوجد إلا في وهمه، فلا يستلزم وجود كلمات من أصول غير عربية في القرآن أن يكون القرآن بشريّ المصدر، بل لا يستلزم الاشتراكُ بين العربية والسريانية في بعض الكلمات ذلك؛ فاللغات التي تسمى سامية تشترك في الكثير من المفردات، لأنها كانت في منطقة واحدة وتشترك في بعض الأصول. وفضلا عن ذلك، فحتى لو استخدم العرب بعض الكلمات السريانية فقد دخلت تلك الكلمات في لسانهم وصارت على تصريفهم، أي صارت من ضمن اللسان العربي. ولو راجع القارئ كتب التفسير القديمة سيجد بعض كبار المفسّرين يذكرون بأنّ كلمةً ما أصلها سرياني، هكذا بكل بساطة، دون أن يكون في ذلك طعن بالقرآن. وذهب بعض المفسرين إلى وجود كلمات مشتركة بين لغات متقاربة كالعربية والعبرية والسريانية، وفي جميع أقوال المفسّرين حول ذلك لم يكن هناك مدخل إلى الزعم بأنّ القرآن ليس عربيّا فضلا عن الطعن بمصدرية القرآن، فهذا تهويل ساذج من جابر، وافتراض لوازم وهمية.
وفي أمثلته ما يدلّ على ضحالة معرفته بالعربية، فقد زعم أنّ كلمة "سريّا" في قوله تعالى "فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا" سريانّية ومعناها "الابن الشرعي"، وأنّ ما قاله معظم المفسّرين بأنّها "النهر الصغير" خطأ ولا يتسق مع سياق الآيات، بينما يتّسق المعنى السرياني بزعمه مع السياق، أي إن عيسى يقول لمريم على حدّ قوله: "متخافيش إنتِ ولدتيني من دون ما حدّ ينام معاكِ!". ولكنه غفلَ عن كون مريم عليها السلام ذكرتْ قبل أربع آيات فقط بأنّها تعلم أنّه ليس ابن حرام، قالت: "وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا"، فهي لا تحتاج إلى ما يطمئنها بأنه ابن شرعي وبأنّها لم تزنِ مع أحد! وفضلا عن ذلك، فسياق الآيات بعد ذلك يؤكّد بأنّ معنى النهر هو الصواب، قال تعالى: "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا"، أي أنّ الحديث عن طعام، ثم قال: "فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا"، والفاء هنا رابطة لجواب، أي أنّ الكلام نتيجة لما سبقه ومبنيّ عليه، وهذا يدلّ على أنّ "سريّ" تعني "النهر الصغير"، ثم يأتي الحديث عن الرُطَب، ليكون المعنى المتّسق كما يقول الزجّاج: "فكُلي من الرُّطَب، واشربي من السريّ، وقرّي عينًا بعيسى". أما على تفسير جابر الملحد فلن تكون هناك دلالة لكلمة "واشربي"!
وكلمة السريّ عربية، وتحمل معنى "السريان" أي الماء الذي يسري. وقد وردت في أشعار العرب، قال لبيد في معلّقته واصفا حمارا وحشيّا وأتانه يرِدان على النهر: "فتوسَّطا عرضَ السَّريّ وصـدَّعـا". وجمهور المفسرين على أنها "النهر"، وقد ذكر بعضهم بأنّ أصلها سرياني، كما رُوي عن مجاهد بأنها "نهر بالسريانية"، وعن الضحاك: "جدول صغير بالسريانية"، وليس في ذلك أيّ طعن بالقرآن على ضوء ما ذكرنا.
ومن الأمثلة على ركاكة منطقه كلامه عن كلمة "الطَّوْد" في قوله تعالى: "فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ". فهو يزعم أنّها محرّفة عن كلمة "الطّور"؛ لأنّ كلمة الطور وردت في القرآن عدة مرات بينما لم ترد كلمة الطود سوى مرّة! وهو تعليل سخيف لا قيمة له؛ فلا توجد قاعدة تقول إنّ على كل كلمة أن تتكرر عدة مرات في القرآن! وفضلا عن ذلك فقد كانت قراءته للآية كارثية، إذ وقع في أربعة أخطاء فاحشة وهي آية قصيرة واضحة مشكّلة، وكلمة الطَّوْد نفسها قرأها بضمّ الطاء! ثم يأتي ليحدّثنا عن تفسيرها ويقول إنّ المفسرين قالوا: "معاناها يمكن الجبل". وهذا كذب؛ فقد قال جميع المفسّرين إنّ معناها "الجبل" دون تردّد! وهي عربية معروفة، قال امرؤ القيس: "فَبَيْنا المَرْءُ في الأحْياءِ طَوْدٌ رَماهُ النّاسُ عَنْ كَثَبٍ فَمالا". وقال أوس بن حجر: "ومبضوعةً منْ رأسِ فرعٍ شظيّة بطودٍ تراهُ بالسَّحابِ مجلَّلا".
وهكذا نرى ركاكة مزاعمه، وأنّه بنى 16 دقيقة من مقطعه على افتراض وهمي يظنّ فيه أنّه إذا أثبت وجود كلمات سريانية في القرآن فهذا يطعن بمصدره! ثم حين جاء بالأمثلة جاء بالطوام، وأظهر لنا ضحالة معرفته بالعربية. وتخيّلوا مثلا أنّ شابا ضعيف المعرفة بالإنجليزية، أراد انتقاد مسرحيات شكسبير من الناحية اللغوية، وهو غير قادر على قراءة جملة واحدة منها بشكل صحيح؛ ألا يصبح موضع تندّر الناس؟ فكيف بمن يتقحّم آياتِ القرآن دون امتلاك أدنى حدّ من المعرفة اللغوية؟ ومن هنا نفهم لماذا لم يفهم جابر بعض الآيات التي يزعم أنه لا حاجة إليها، فما ذلك إلا لضعف منطقه وضحالة معرفته بالعربية.
ادعاء مسيحية القرآن - 19:00 حتى 22:00
ومن أسخف شبهات جابر الملحد طرحه لسؤال: "لماذا ذكر القرآن اسم المسيح وعيسى 36 مرّة وذكر اسم محمّد 4 مرات فقط"؟
وهذا السؤال وما بناه عليه يؤكّد مجدّدا على الضحالة اللغوية والمنطقية التي يتمتّع بها، فالمسيح عليه السلام في حكم "الغائب"، وحين يأتي الحديث عنه سيكون من الطبيعي ذكر اسمه؛ لأنّ المعتاد هو أن القرآن في معظمه يخاطب محمّدا صلى الله عليه وسلم أو يعلّق على ما يحدث معه أو يأمره بأن يقول لأمته كذا وكذا، فهذا هو العام الشائع في القرآن، وهو يعني أنّ القرآن ذكر محمّدا صلى الله عليه وسلّم أكثر بكثير جدّا مما ذكر المسيح. أما عدم ذكر القرآن لاسم "محمد" صلى الله عليه وسلم في مرات كثيرة فهو لسببين رئيسيين:
- أنّه هو المخاطَب بهذا القرآن وهو صاحب الرسالة، فالخطاب القرآني يتوجّه إليه بضمير "أنت"، وأنت حين تخاطِب أحدهم هل تحتاج إلى ذكر اسمه وتكراره في كل مرّة؟!
- أنّه حين يخاطب الناسَ ويذكر الرسولَ صلى الله عليه وسلّم بضمير الغائب فهذا لأنّه هو "النبي" وهو "الرسول" معرّفا، ولأنه صاحب رسالة القرآن، أما حين يتحدث بضمير الغائب عن المسيح فيذكره باسمه لأنّ ذكره أقل بكثير من ذكر الرسول صلى الله عليه وسلّم.
ولهذا فمن الخطأ الظنّ بأن المسيح عليه السلام ذُكر في القرآن أكثر من محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يقول هذا إلا ساذج لم يقرأ القرآن، والآيات التي تذكر محمّدا صلى الله عليه وسلم باسم "النبي" أو "الرسول" أو بضمائر متّصلة مثل "عنك" أو "إليك" أو الهاء في مثل "وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ" وغيرها؛ جميع هذه الآيات يدلّ سياقها وموضوعها وأحداثها على أنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم هو المذكور والمقصود، فهذا ذكر له، وهو في مساحات كبيرة جدا من أول القرآن إلى آخره، والسطحيون فقط هم من يتجاهلون هذه الحقيقة ويلجأون إلى المماحكات اللفظية!
أمّا العملة المسيحية التي عليها اسم "محمّد"، فدارسو التاريخ والآثار يعلمون أنّ العرب المسلمين قبل سكّ عُملة خاصة بهم في عهد الأمويّين كانوا يستخدمون العملات المنتشرة في المنطقة، بما عليها من صور لهرقل أو للأكاسرة، ثم بدأوا بكتابة بعض الشعارات الإسلامية عليها. وما يفعله جابر هو تكرار مغالطة "Tom Holland" في فيلمه "Islam: The Untold Story"، حيث جاء بدرهم ساساني منقوشٌ عليه صورة أحد أكاسرة الفرس، بالإضافة إلى الشهادتين وفيهما "محمد رسول الله"، فزعم هولاند أنّ صورة كسرى هي صورة محمّد صلى الله عليه وسلم! وأصغر دارس لتاريخ المنطقة يعلم أن هذا الكلام هراء، وأنّها عملة ساسانية استخدمها العرب ونقشوا عليها رموز دينهم، ثم ضربوا العملات الإسلامية الخالصة في العهد الأموي بعد ذلك. وهذا هو حال العملات التي يذكرها جابر ويستند إليها لزعم مسيحية القرآن!
تشابه قصص القرآن مع قصص الديانات السابقة - 22:00 حتى 26:50
أما أمثلته عن تشابه قصص القرآن مع قصص الأديان السابقة فهي ثرثرة لا قيمة علمية لها؛ ذلك أن الله أرسل لليهود أنبياء وأنزل لهم كتابا، وأين العجب في أن تكون تلك الكتب التي هي في الأصل من عند الله متضمّنة لقصص كثيرة ذكرها القرآن بعد ذلك؟ إنه يكرر نفس المغالطة، وهي أنّ التشابه يعني تأثُّر الإسلام بتلك الأمم، ولكن الحقيقة أنّ التشابه يعني وحدة المصدرية، وهي الوحي، وأنهم "أهل كتاب" حقّا، والاختلاف في بعض التفاصيل نتج عن تحريف بعض قصصهم عبر التاريخ.
كلامه عن الناحية الأدبية للقرآن - من 26:50 حتى 31:00
ما ذكره عن عدم وجود التسلسل الموضوعي بين بعض الآيات ناتج عن عدم وعيه بأنّ القرآن كتاب فيه تشريعات وقد نزل منجّما على الأحداث، وبعض الآيات نزلت في أوقات مختلفة وتم وضعها في موضعها بعد ذلك. فلم يَكتب القرآن كاتب مرة واحدة بتسلسل كما يكتب الروائيّون رواياتهم، وهو ليس رواية حتى يُطلب هذا التسلسل في جميعه. وللتقريب نقول: لو قرأتَ كتاب قوانين أو دستورا، هل على كل بند أن يكون مرتبطا موضوعيا بالذي قبله؟ هل ستجد فيه تسلسل أحداث؟ كلا، وكذلك -ولله المثل الأعلى- القرآن؛ فيه من الآيات التشريعية وفيه من القصص، وأنت حين تقرأ قصة من القرآن ستجدها كوحدة موضوعية كاملة مسلسلة بأجمل ما يكون التسلسل الأدبي.
أما كلامه عن السجع في فواصل القرآن، وزعمه بأنّه يأتي فقط لإضافة النغمة لا أكثر؛ فهو دليل على انعدام حسّه الأدبي، فالمستوى الصوتي الذي يضيفه السجع القرآني ينسجم انسجاما تامّا مع المستوى الدلالي الذي يحمله النصّ في السور المكّية تحديدا، وهو مجال أقوم ببحثه ضمن دراستي الأكاديمية، وهو ليس سجعا متكلّفا جاء للنغم فحسب كما يظنّ الجهلاء، بل لن تجد صياغة محتملة أكثر بلاغة وأداء للمعنى بكامل مستوياته مما عليه النصّ بشكله الذي في القرآن.
وكذلك كلامه عن التكرار في القرآن، فهو ناتج عن جهله بأهمية التكرار ودوره في العربية، وبأنّ النصّ العربي يخاطب الإنسان بكينونته الكاملة، ولذلك تُعرَض القصة في أكثر من موضع بحسب السياق للتذكير، وتأتي مرة موجزة ومرة مطوّلة. يقول الإمام الخطّابي: "على أنّ للإشباع موضعًا، ولتكرار القول من القلوب في بعض الأمور موقعًا. قال الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}". والقرآن كتاب حياة وليس كتاب تعريفات أو فلسفة حتى يكون مختَزَلا حاصرا للمعاني! ولمن أراد التوسّع في هذه النقطة يرجى الاطلاع على تدوينتي "القرآن ليس لغة برمجة.. والإنسان ليس حاسوبًا".
نسخ التلاوة الذي سمّاه "الحذف" - 31:00 حتى 36:30
أما كلامه عن حذف بعض الآيات من القرآن، فهو يدلّ على كذبه واستخفافه بعقول متابعيه، فهو يزعم أن أحاديث الداجن الذي أكل صحيفة آية الرجم موجود في البخاري ومسلم والموطأ، وهو كذب صريح؛ فالحديث ليس موجودا لا في البخاري ولا في مسلم ولا في الموطأ! بل أخرجه آخرون بسند ضعيف، فلماذا يزعم جابر أنّه موجود في صحيح البخاري ومسلم والموطأ؟ ليوهم القارئ بأنه حديث معتَمد عند أهل السنة، ولكن الواقع أنه حديث ضعيف انفرد بروايته ابن إسحاق، والحديث الذي صحّ عند مسلم ومالك وغيرهما ليس فيه كلام عن الداجن، وهي ملاحظة مهمة تبيّن تزويره.
أما ما يسمّيه "حذفا" لآيات فيسميه العلماء "نَسْخ التلاوة"، فهي آيات نُسخت من المصحف تلاوة أو تلاوة وحُكما في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم بوحي من الله، وليس كما يحاول أن يوهم بأنّها "ضاعت" في عهد الصحابة! وليس هناك قانون يُلزم بأن يُنزل اللهُ القرآنَ ولا ينسخ منه شيئا، فقد أنزل سبحانه كتبا سابقة ونسخها جميعا، ومن ثم فموضوع نسخ الآيات تلاوة لا يشكّل أي مطعن في القرآن، لأنّه لا يوجد في الإسلام قاعدة تقول إنّ كل آية نزلت فيجب أن تبقى في القرآن! هذا افتراض وهمي موجود في عقله فقط، بل تحدث العلماء منذ القدم بوضوح عن نَسْخ التلاوة، وروى أئمة الحديث في ذلك أحاديث صحيحة، وهو أمر أراده الله عز وجلّ، كما أنّه أراد تحريم قرب الصلاة في حالة السكر، ثم شاء أن يحرّم شرب الخمر مطلقا، وكما شاء ألا يفصّل أركان الصلاة في القرآن، وكما شاء أن يحوّل القبلة، يفعل سبحانه ما يشاء، ويبتلينا بحكمته عزّ وجلّ.
والحديث عن منظومة "الابتلاء" في الإسلام حديث يطول، ولكنْ ينبغي أن يعلم القارئ بأنّ الطريق إلى الجنّة في مفهوم الإسلام ليس نزهة بين الورود، بل يحتاج الإنسانُ إلى الكدح وضبط النفس والتجريب، ويقع ضمن هذه المنظومة المتشابهُ في الدين، وشهواتُ النفس، والشيطان، فهذه كلها قد تفتح المجال لمن يترك اللجوء إلى الله والاعتصام بالمحكمات ويستسلم لها بأن يسقط في الاختبار. ولكنها من جهة أخرى ضرورية كعناصر للاختبار الدنيوي، ولولا وجودها لما كان هناك معنى للاختبار في الدنيا والجزاء في الآخرة، وفي هذا الإطار نفهم قضية نسخ بعض الآيات (راجع الآية 143 من سورة البقرة، وهي تتحدث عن المقصد من نسخ القبلة).
جمع القرآن ومزاعم التحريف - 36:30 حتى 47:10
أما ما ذكره بخصوص جمع القرآن فليس فيه حجّة، ولكن ما ينبغي التأكيد عليه كحقيقة صارخة تهدم كل ثرثرته أنّه لا توجد اليوم عدة نسخ للقرآن، فلو صح أنّ العنصر البشري بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلّم قد تدخّل في صياغة القرآن لوجدنا عدّة نسخ للقرآن، خصوصا مع وجود فرق متصارعة منذ القرن الهجري الأول كالخوارج والروافض وأمثالهم. ولكن الحقيقة المذهلة أن جميع هذه الفِرق على اختلافها وصراعاتها تعتمد مصحفا واحدا، هو نفس المصحف في إندونيسيا وفي إيران وفي عُمان وفي المغرب وفي أي مكان في العالم. بل قد عثر علماء غربيّون في ألمانيا على نسخة من المصحف تَبيّن أنها تعود إلى العهد الراشدي (لم يذكرها جابر لأنها تفضح مسعاه!)، ومع ذلك فهي مطابقة للمصحف الذي بين أيدينا، وهي متاحة على الشبكة.
ما اختلاف القراءات المتواترة في التنقيط والحركات فلم يحدث في الواقع إلا في نسبة لا تتجاوز %2 من كلمات القرآن، وهي من أوجه القراءة المشروعة للقرآن، والاختلاف في التنقيط من بينها قليل جدّا؛ لأنّ المعتمد في حفظ القرآن لم يكن الكتابة فحسب كما يتوهّم، بل في الأساس النقل مشافهة والحفظ في الصدور، وهذا يجعل الاختلاف حول تنقيط كلمة أمرا غير وارد لأنّ طريقة لفظها محفوظة سمعا ونطقا، إلا في ما احتملته القراءات. وهذه النسبة القليلة لا تشكّل اختلافا في فهم الآية في معظمها؛ كالفرق بين "خوفَ" و"خوفٌ"، أو بين "فتبيّنوا" و"فتثبّتوا"، أو بين "نُنْشِزُها" و"نُنْشِرُها". وللتوسّع حول جمع القرآن والشبهات عن الحذف فليقرأ من كتاب "المقدمات الأساسية في علوم القرآن" للأستاذ عبد الله الجديع "المقدمة الثانية: حفظ القرآن"، و"المقدمة الثالثة: نقل القرآن". ففيها ما يفند الشبهات حول ذلك، ويضع المسلم على أرضية علمية صلبة في هذه المسائل.
أمّا زعمه بأنّ الأدلة التاريخية تقول إنّ القرآن جُمع في عهد عبد الملك بن مروان، ويستدل بنصّ منسوب لعبد الملك يقول فيه إنّه جمعَ القرآن في رمضان؛ فهذا من الأمور الفاضحة التي تدلّ على عدم فهمه لِما يقرأ! والعجيب أنّ جابرا يعرض على الشاشة رواية أخرى من كتاب "تاريخ الخلفاء" يقول فيها عبد الملك: "وخَتَمتُ القرآن في رمضان"، ولكنّه يقرأ علينا "وفيه جمعتُ القرآن"! فكيف لم يخطر على باله أنّ الجمع هنا بمعناه المتعارف عليه أي الحفظ في الصدر؟! والرواية التي يعتمدها جابر جاءت في "الكامل في التاريخ" ونصّها: "أخافُ الموت في شهر رمضان، فيه ولدتُ، وفيه فُطمتُ، وفيه جَمعتُ القرآن". ورغم أنها روايات غير مسندة ولا تعتبر "أدلة تاريخية" نقدّمها على ما تواتر لدينا من أخبار جمع القرآن، فإنّها واضحة في أنّه يقصد حفظَه لكتاب الله غيبا وليس جمعه للمصحف! فتأملوا هذا الجهل الفظيع في فهم نصّ يسير، كيف يتأتى منه فهم هذه المسائل؟!
أما اعتماده على عدد آيات سورة الأنفال والتوبة في مخطوط لمصحف في المكتبة البريطانية يعود للعهد الأموي؛ فهو محاولة بائسة لإثبات التحريف واستغلال جهل متابعيه، فقد أظهر للقارئ ما كُتب فوق السورة من عدّ الناسخ للآيات، إذ جعل آيات الأنفال 77 آية بدلا من 75، وجعل آيات التوبة 130 آية بدلا من 129، وغيرها.. فهذا كلّه من عدّ الآيات وليس من زيادة الآيات أو نقصانها! وأنا أتحدى جابر الملحد أن يستخرج لنا تلك الآيات المضافة أو المحذوفة، فهو يحاول إيهام القراء بوجود آيات زائدة، ولكن لماذا لم يذكرها مع توفّر المخطوطة؟ السبب بسيط؛ إنّ العلماء اختلفوا قديما في عدّ آيات القرآن، بل كتبوا في ذلك كتبا، فبعضهم قد يعتبر آيتين متجاورتين آية واحدة، وبعضهم يعتبرهما آيتين. يقول الإمام أبو عمرو الداني في كتابه "البيان في عدّ آي القرآن" عن سورة التوبة: "وَهِي مئة وتسع وَعِشْرُونَ آيَة فِي الْكُوفِي، وَثَلَاثُونَ فِي عدد البَاقِينَ". وبهذا نفهم سبب الاختلاف في ترقيم الآيات في بعض السور في المخطوطة.
ما استناده إلى ما كُتب على المخطوطات من أسماء السور كسورة الشعراء التي اسمها على المخطوطة "طسم الشعراء"، وسورة النمل التي اسمها على المخطوطة "طس النمل"، فهو من أكثر ما يثير الضحك لمن لديه أدنى اطلاع! فمن المعروف أنّ أسماء السور لم يرد فيها نصّ من الوحي، وأن العلماء اختلفوا في أسمائها، وأنت حين تقرأ كتب التراث المطبوعة ستجد العلماء يسمون السور بخلاف ما تم اعتماده في معظم المصاحف المعاصرة، فما في المصاحف المعاصرة هو اعتماد لصيغة معينة تيسيرا على الناس ولا يعني أنّ هذه هي التسمية الوحيدة! أما من يجهل ذلك فهو يدل على ضحالته الثقافية، وهذا يدلّك على أن اطلاع جابر سطحيّ جدّا على الثقافة الإسلامية التي يوجّه النقد لأهم أركانها وهو القرآن الكريم. ولقد سُميتْ سورة الفاتحة "أم الكتاب"، وسميتْ التوبة "براءة"، وسميتْ الإسراء سورة "بني إسرائيل"، وهكذا الكثير من السور.
****
وأخيرا كلمة للقراء: إنّ مقاطع الفيديو الشعبوية التي تحاول تقديم المواد العلمية والفكرية بقالب مؤدلج سريع كالوجبات الخفيفة لن تساهم أبدا في ارتقاء مستواكم العلمي والفكري، بل على العكس؛ فهي تساهم في تسطيح العقلية العربية، وفي صرفها عن التعمّق المطلوب لبناء الفكر ولبناء المنهجية العلمية في التفكير، خصوصا إذا تم استخدامها من قبل مؤدلجين كجابر الملحد.
إنّ المنهجية العلمية تحتاج إلى اكتساب الصبر على البحث، والتمرّس على مسح المواد العلمية ذات الصلة للخروج بتصوّر أكثر تكاملا عن أي فكرة أو معلومة. أما هذه المقاطع فهي تربّي العقل الكسول، الذي يجلس صاحبه كالطفل ويريد أن يُلقَّمَ المعلومة سائلة سائغة بزجاجة الرضاعة دون حاجة إلى القيام بأي جهد!
ألا تظنّ بأنّك صرتَ على شيء من الفكر والعلم إذا استمعت لبعض المقاطع المؤدلجة وقمتَ بترديد محتواها كالببغاء، فإنّك إنْ واجهتَ باحثا متخصصا وناقشكَ فيما تقول علمتَ ضحالة ما أنت عليه، وأنّك سكِرتَ بمتعة زائفة حين كنتَ تمارس الكسلَ الفكري بمتابعة تلك المقاطع مع اجتنابك للبحث والقراءة!
--------------------------------------------------------------
المقال الثاني: طارق رمضان.. شوكة في حلق أعداء الإسلام
-محمد فاروق طوالبية إعلامي وباحث جزائري-
لماذا طارق رمضان؟!
في هذه الأثناء التي أخط فيها هذه الخاطرة من يوم الجمعة زوالا، يمثل المفكر الباحث السويسري البروفسيور "طارق رمضان" أمام القضاء الفرنسي بتهمة محاولة الاغتصاب والتعدي على ضحيتين في قضية تعود إلى 2009، كانت نائمة في سبات وظهرت فجأة -أرجو عدم الضحك-.
طارق رمضان؛ الرجل الوحيد الذي يمثل الوجه الآخر للإسلام في الغرب، الرجل الذي قهر جميع السياسيين والمفكرين والكتاب الغربيين وبالأخص الفرنسيين المتلونين الذين كشفهم وعراهم للمجتمع الفرنسي وللعالم على غرار: نيكولا ساركوزي، والصحفية كارولين فوراست والقائمة طويلة، ولم يستطع أحد أن يتفوق عليه فكريا وثقافيا.
كانت تهمته الوحيدة أنه حفيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، ويالها من تمهة ساذجة وغبية، فنبي الله إبراهيم والده لم يؤمن به ولا برسالته، ونوح ابنه كذلك، وموسى كذبه أقرب مقربيه، وعيسى آذاه قومه، ومحمد كفر به أقرب مقربيه (عليهم السلام جميعا)، فإذا جرمنا أو أدنا الإنسان بمقربيه فالناس جميعا مجرمون وفسدة في هذه الحال، ثم تعال إلى أبعد من ذلك؛ ما التهمة الحقيقية للإخوان المسلمين؟
فلما كانت تهمة أخونة كروموزومات طارق رمضان تهمة غبية كأصحابها، وجب البحث عما يسقط الرمز الوحيد الذي يعتبر مرجعا فكريا للمسلمين في أوروبا، فكانت فبركة القضية الحالية. ما طارق رمضان إلا مثال واحد من بين أمثلة كثيرة يمكن أن تظهر في مجالات أخرى لا تمت إلى المجال الفكري أو الدعوي الإسلامي بصلة، فتلقى المصير ذاته بالتخلص منها، وذلك لا لشيء إلا لعلة تعانيها النفسية والذهنية الفرنسية المنغلقة على ذاتها التي لا تقبل الآخر ولا تتعايش معه مهما حاولت جاهدة ادعاء ذلك والجهر به للرأي العام، وأنا هنا أتكلم من واقع المجتمع الفرنسي اليوم ومن حياته اليومية التي عايشتها بكل تفاصيلها وفي شتى مجالاتها، فما بالك إذا تعلق الأمر بالإسلام الذي تراه يهدد كيانها رغم بلوغ عدد المسلمين اليوم على أراضيهم الفرنسية ستة ملايين نسمة، وهم كل عام في تزايد مستمر! مع ذلك ينأى المفكر طارق رمضان بنفسه على أن يصنف شيخا أو داعية، وقد أعلنها في كثير من حواراته، لأن الرجل بالفعل مفكر فذ في زمن كثر فيه اللغط وادعاء العلم والثقافة.
عود على بدء، فأنا شخصيا حضرت للبروفيسور طارق رمضان في كلية سانت آنتوني بجامعة أكسفورد قبل عام من الآن، واستضافني في مكتبه ورأيت بعيني كم يحترمه ويجله كبار الباحثين والمفكرين البريطانيين، وأغلب من حضروا مناقشة آخر كتبه آنذاك كانوا من غير المسلمين والعرب، كما رأيت بعيني رئيس كلية سانت آنتوني بجامعة أكفسورد الذي كان يجلس إلى جانبه ويحاوره عن موضوع كتابه، رأيت إعجابه الشديد بفكره وتقديره لقيمته العلمية، ورأيت المكانة المرموقة التي يحظى بها في أكسفورد كلها، حتى إن إدارة الجامعة تضع صورته مع كبار مفكريها وأعلامها، وقد تزامنت فترة وجودي ببريطانيا وبمدينة أكسفورد خصوصا مع إصداره الجديد فأهداني نسخة من آخر عصارة فكره، ورأيت بعيني أيضا إقبال الطلبة والأساتذة والباحثين من الغربيين وفيهم بعض العرب والمسلمين، رأيت إقبالهم الشديد على كتابه ومحاضراته بالجامعة.
بعيدا عن ذلك كله، بمنطق آخر لكن بلغة أرقى من لغة المنحطين من بعض الفرنسيين المعادين للحق ومن يماثلهم عقلية وسلوكا أقول: لو أراد طارق رمضان اقتراف ما يتهم به أمام القضاء الفرنسي اليوم لكان أمامه الخيار من عشرات ومئات جميلات دول الشمال اللواتي كن يقفن بأعداد هائلة للظفر بإهداء من توقيعه على أحد كتبه، فهو في غنى عن التدني إلى مستوى مثل التي رأيناها بالقنوات الفرنسية تدينه بروايتين متناقضتين، أما التابعون المنصاعون ممن هم منا لكنهم علينا؛ الذين ما إن سمعوا بالقضية متأخرين بعد شهور حتى شرعوا في وصلة تسخين البندير كما نقول بالدارجة المغاربية، -ما مفاده "التهويل والتعظيم"- فسأضرب عنهم الصفح وأعف لساني عن ذكرهم!
بالمناسبة، بعد كل ما حدث وما سيحدث، لا أزال لحد اليوم وسأظل أفخر وأتشرف بأنني جالست هذه القامة العلمية الكبيرة، وحضرت له مباشرة، وقرأت كتاباته العميقة، وسيظل البروفسيور طارق رمضان شوكة في حلق أعداء الفكر والثقافة والدين الإسلامي والحضارة الإسلامية.
--------------------------------------------------------
المقال الثالث: محاور التربية القرآنية للفرد المسلم
-عبد الكافي عرابي النجار ناشط إعلامي-
أفرزت الثورة السورية تجمّعات وتكتلات سياسية وعسكرية كثيرة جعلت من الإسلام شعارا ومرجعيّة وأساسا لما تدعو إليه، حيث أعلنت أنّ مبادئ الإسلام وقيمه الشرعية والأخلاقية هي التي تحكم سلوكياتها وآليّة عملها ومواقفها، ولكن الحقيقة أنّ أكثر هذه التشكيلات لم يستطع الوفاء بما أعلنه، فكانت أغلب تصرفات أتباعها بعيدة عن الإسلام بروحه وحقيقته، واقتصرت على شكليات هي من مظاهر وثمرات الالتزام الحقيقي الذي لم يكن موجودا، فأين الخلل؟
الخلل -كما أرى- أنّها لم تلتزم محاور منهج التربيّة للفرد كما بيّنها ربّنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم الذي جعله الله هداية للبشر إلى الطريق القويم، فقد تتابعت آيات القرآن وتتالت بالخير والبركة خلال 23 عاما، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربّي فيها الأمّة التي ستحمل مسؤولية حمل الرسالة وتبليغها للنّاس جميعا، ورسالة بهذه الأهمية والخطورة تحتاج لأناس قد تربوا تربية خاصة، وفق منهج متكامل واضح المعالم يتضمن تربية متوازنة للنّفس من جميع الجوانب، فربى الله تعالى محمدا -صلى الله عليه وسلم- ليربي العرب به، وربّى العرب بمحمد ليربي بهم الناس أجمعين.
كانت المحاور التي ربّى عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمّة كما ذكر الشيخ محمد الغزالي وغيره: ثلاثة تكرر ذكرها في القرآن الكريم أربع مرات، منها ما ذكر في سورة الجمعة: وهو قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" (الجمعة الآية 2) فهي إذا: التلاوة والتزكية والتعليم.
فالتلاوة: تعني عرض المنهج، وتقديم برنامج، وبيان الطريق، وإعطاء صورة عامة لملامح الإسلام، ورسم خط بياني للأمّة كلّها، فهي التي تعطي صورة للإسلام في عقائده وعباداته وأخلاقه وأعماله، تعرض الإسلام كاملا متكاملا بجميع دقائقه وأسراره.
التزكية: وتعني تربية النفوس وتهذيبها بتحليتها بالفضائل والأخلاق السامية، وتخليتها من الرذائل والقبائح، فلابدّ أن تعدّ النفوس التي ستحمل هذه الرسالة السامية، إعدادا يناسب سمّوها وعظمتها، لابدّ أن ترتقي إنسانيتها إلى الذروة في سلم الكمال، ليظهر كمال هذه الرسالة وخلودها وإنسانيتها.
التعليم: ويشمل تعليم الكتاب والحكمة، فإذا كانت التلاوة عرضا للبرنامج، فإن التعليم يشمل التنفيذ العملي، التطبيق الواقعي، تمثّل الإسلام في الحياة، عقيدة وعبادة وسلوكا وأخلاقا ومعاملة، مع المحافظة على التوازن بين هذه العناصر وعدم طغيان بعضها على بعض، من غير إفراط ولا تفريط، فالحكمة تفيد العمل الصحيح المتقبل، وهو يتمّ بصدق النظر، ومع الجهل لا تقوم حكمة، لأنّ الحكمة تقوم بالنظر الصائب وبالحكم الدقيق.
ولعلّ من أهم علل التجمّعات والتكتلات السياسية والعسكرية التي أفرزتها الثورة السورية وجعلت من الإسلام شعارا -لم تلتزم به غالبا- غياب هذا الجانب، غياب هذا النوع من التربية، تربية النفس على التوافق بين الأقوال والأعمال، بين المبدأ والتطبيق، جعل الحياة انعكاسا حقيقيا للإسلام كلِّ الإسلام، الممارسة العملية للإسلام في عقيدته وعبادته ومعاملته وأخلاقه، أن يعيش الإسلامُ واقعاف ي حياة الفرد المسلم.
إنّ الذين صحّت تربيتهم على هذا المبدأ من الدستور القرآني، فتحـوا بسلوكهم قلوب العباد في مشارق الأرض ومغاربها لهذا الدين العظيم، وهذه الرسالة الخالدة، فدخلوا في دين الله أفواجا، وقد علموا أنّ مثل هذه الأخلاق، ومثل هذا السلوك، لابدّ أن تكون له جذور ضاربة في النفوس من المبادئ السامية الرفيعة، مئات الملايين من البشر دخلوا الإسلام ولم تصل إليهم جيوش المسلمين، وتاريخ الإسلام أشدّ نصاعة من بياض الثلج في ترك النّاس أحرارا في اختيار عقائدهم.
إنّ الله وصف المخالفة بين الأقوال والأعمال بأنها أكبر من الكبائر فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" (الصف الآية 3) عَظُم أمرا قبيحا أن يتصف المرء بهذه الخصلة الشنيعة. على المرء أن يتعهد سلوكه بالانتباه والمراقبة بأن يوافق كلامه عملـه وينسجم عمله مع كلامه، في أي موقع كان المرء فيه، أبا أو زوجا أو رئيسا أو مرؤوسا، عاملا أو ربّ عمل، وخصوصا من يتصدر لأمانة إعداد النفوس، من آباء وأمهات ومعلمين وعلماء، لابدّ أن يكون هناك اتساق بين القول والعمل، أن تترجم الأقوال إلى أعمال تدل على الصدق والالتزام.
النّاس يحتاجون أن يروا سلوكا أكثر ممّا يسمعوا كلاما، العمل أبلغ في التأثير من الكلمات، وما نفع الكلام إذا لم يرافقه عمل، وما أسهل الكلام وما أرخصه، وما يحتاج المرء إلا أن يحرك شفتيه، ليدّعي أنّه بحكمة أبي بكر وعدل عمر وحياء عثمان وشجاعة علي رضي الله عنهم أجمعين.