العودة إلى السيرة ليست عودة نقل ولصق، نعم الدراية العميقة بسبب ما كان، كما أضيف الضرورة الملحة للدراية بالواقع، بحقيقة الواقع، بملابساته، بقوته، بتأثيره... وهنا رؤية تلك الشعرة الدقيقة الفارقة بين إخضاع الدين للواقع وبين صبّ الدين صبا دون مراعاة للواقع والظروف المحيطة والمستجدة...
هذا بيت القصيد!
الشعرة الدقيقة تلك معضلة كبيرة للغاية، فهناك من يذهب بالواقعية لدرجة تمييع الدين أو كما قلتم إخضاع الدين للواقع، فيحدث إهمال لأمور عظام في الدين من أجل مجاراة الواقع، وهناك في المقابل من يريد البدأ من منتصف الطريق لا أوله، أو كما قلتم صب الدين صبا.
السؤال هنا، هل عدم إدراك تلك الشعرة الدقيقة مرده إلى ضعف العلم أم إلى الهوى؟
قناعتي أن الأمر متعلق بالهوى أكثر بكثير من ضعف العلم.
فالكثير من الحركات التي كانت جزءا من الأحداث الأخيرة في بلادنا المختلفة لم تعدم ناصحا يوضح لها خطأ مسلكهم، لكنهم في مجملهم لا يستجيبون للنصيحة !
المشكلة الأخرى المتعلقة بالهوى هي أن يكون اتجاه ما فيه منفعة نفسية أو مادية، فمثلا حين ظهرت برامج (التوك شو) العربية الساخرة من أنظمة الاستبداد، كانت تحت شعار الأخذ بأسباب الواقع وقوته وتأثيره، لأن الإعلام قوة ولأن الناس جاهلة وتحتاج لنشر الوعي، ثم ما النتيجة؟
ابتذال وتمييع لكل شيء، ومجرد تفريغ لشحنات الغضب عند الناس، ولكن فائدة مادية ونفسية كبيرة لأصحابها.
فإذا ما نصحهم أحد، تجدون الإجابة دوما حاضرة، لابد من مواكبة الواقع والأخذ بأساليب التغيير الجديدة وكثير من الكلام الذي في ظاهرة مقبول ولكن ....
هذه المشكلة لم تتوقف عند تلك البرامج، بل امتدت لتطال بعض الكتاب والأكاديميين، فالمقالات القوية أمرها سهل، ولا تكلف أكثر من التواجد في دولة بها قدر من حرية التعبير أو تقف ضد النظام الذي يتم انتقاده. وحتى كثير من المحاضرات التي إما هي علمية بحتة تقع ضمن نطاق فرض الكفاية، أو نظرية لا يقدم صاحبها على العمل ولا يدعو إليه، ومرة أخرى ، كلاهما في ظاهره مقبول، ولكن ...
وسؤالي الأخير، ما الذي منع عقلية فذة مثل الفاروق رضي الله عنه من الإيمان بالرسالة بمجرد نزولها؟
هل هو العقل والمنطق أو تأثير الواقع وملابساته؟
إنه الهوى.
وسيظل الهوى العدو الأول الذي يعمينا عن الإنصاف أو رؤية تلك الشعرة الدقيقة التي تحدثتم عنها.
إنه الهوى الذي سيجعلنا نرفض النصيحة تحت إدعاءات كثيرة لا تنتهي، بل ونسارع باتهام الناصح باتباعه للهوى !
إنه الهوى الذي يضخم لنا أمور صغيرة أو فروض كفاية -التي يقوم بها الكثير بالفعل- ويجعلها من الأولويات لأن فيها مصلحة غير مباشرة من التلميع الاجتماعي أو الأمان السياسي أو المادي، ونعرض عن الأولويات العظيمة لأنها ستقض مضاجعنا.
الهوى الذي يجعلنا نأتي بحجج في ظاهرها مقبول فعلا، ولكن حين نأتي للواقع والحقيقة فليست تلك الحجج بشيء.