2017/02/18
عرفنا حتى الآن ثلاثة مواقف نشدنا منها الحكمة والتعقل...
واليوم سنعرض لموقف من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأس الحكمة ومعلّمها...
مشكلتنا يا إخوتي أننا لا نحاول التدبر العميق، والعيش مع كلمات النبوة في حديثه صلى الله عليه وسلم، نعم قد نقع على المعنى العام الذي يريد، وقد نفهم ما أراد من رسالة وتوجيه، ولكن الغفلة عن تفاصيل صغيرة تنطوي عليها توجيهاته، وتربيته، عن كلمات نحلّلها ونحلّل أبعادها العميقة هو ما يجعلنا نتعلم شيئا ونفوّت أشياء ...
الحديث الواحد ينطوي على تربيات لا على تربية واحدة، ينطوي على معان لا على معنى، بعض الكلمات فيه قد تأخذنا لعمق جديد بعيد ...
اليوم مع موقف من مواقفه نِشداناً منا للحكمة ... نشدانا منا لتحكيم العقل قبل سَوْرة العاطفة، حتى لا تكون الحَكَم على تصرفاتنا فنخسر حتى ربما دون أن نشعر بالخسارة ... حتى ربما ونحن نحسب أننا نحسن صنعا ...
التعقل في السيرة النبوية، التعقل عند الصحابة...
التعقل هو ما لم يصِلنا بالشكل الكافي ونحن نأخذ الدين عن كثيرين (دون تعميم) كان تركيزهم على استمطار العاطفة الدينية أكثر من بيان مواقف التعقّل وعدم التسرع في الرسول صلى الله عليه وسلم وفي صحابته، وعدم تحكيم العواطف الجيّاشة ...
ربما عرَّفْنا أو عرّفوا لنا الكثير من مواقفه صلى الله عليه وسلم ب "اللّين" ولا غُبار على هذه الصفة في كثير جدا من تصرفاته، ولكن غاب عنا أنْ نصفها أيضا ب "التعقّل" وهي في حقيقتها إحالة على العقل نظرا وتدقيقا، وتحليلا وتفكيرا في البعيد لا في القريب، وقراءة في الواقع مع العواقب وفي الغاية المُرادة ...
اليوم أضع بين أيديكم ما ورد في الصحيح من مجيئ شاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الإذن له بالزنا...!
لنتأمل ... ماذا يسأله ؟ يسأله الإذن ... فيمَ ؟ .... في الزنا ... !!
وإنه ما سأله ذلك إلا وهو يعلم حُرمة الأمر، بل وأنه من الكبائر، ولكنه جاءه بكل قوة، مُظهرا، مُجهرا بما يريد، لا يخفي: " يا رسولَ اللهِ ائذنْ لي بالزِّنا"...انظروا وهو يصفه ب: "يا رسول الله"، فهو من المسلمين لا من غيرهم، من المؤمنين لا من غيرهم ...
ماذا كان ردّ فعل الرجال وهم يسمعونه ؟!
هلعوا، فزعوا... "زجروه" ... وأرادوا إسكاته بقولهم : "مَهْ مَهْ" وهي عبارة تقال لمن يراد إسكاته ...
فهل تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يفعلون به؟؟ هل أقرّ إسكاتهم إياه ؟ وربما لو تركهم لتطوّر الأمر إلى من يضربه أو يعنّفه، لا يُستبعد ذلك...
بل إنه سيعلمهم ...
لننظر.... إنه يطلب أن يدنو منه ... قرّبه منه ...
لنتابع ... لنتابع وكأنّنا لا نعرف ما سيفعل ... أو ونحن نتوقع تصرفا آخر...
فهل ناداه ليعنّفه شخصيا، وهو يعرف طريقة التعنيف اللازمة ؟ هل ناداه ليضربه ضربة يفيق بها من تجرئه على مقام النبوة وهو يسأل الإذن بما يعلم حُرمتَه ؟
ها هنا مكمن التعقّل ... لقد أدناه منه ....
لقد زوى ذلك الانفعال العاطفي الذي اسمُه "الغضب"... وزوى ذلك الانفعال العاطفي الذي اسمه "الجزع "
كما زوى كل انفعال عاطفيّ ينطوي على الاندهاش والتحيّر والتذمّر ...
وأحال تصرفه إلى العقل .... فتعقّل ...
أدناه منه ... والكل يراقب تصرّفه معه ... وشرع في مخاطبته ...
ولم تكن كلماته تقريعا، ولا تأنيبا، ولا وعظا، ولا تذكيرا بالآخرة، ولا تخويفا من غضب الله، ولا ترهيبا من النار.... لا بل ولا تذكيرا حتى بالآيات التي تحرّم الزنا، والتي تذكر أنه كبيرة من الكبائر، لا بل ولا تذكيرا بأنّك تخاطب النبي الذي جاء بتحريم هذه الفاحشة...
بل تأملوا
تأملوا ..... ونحن أول ما نبدأ نبدأ بالوعظ والترهيب ...
تأملوا ونحن نحسبها الطريق الوحيدة الموصِلة ... ونحن لا نراعي حالة من نخاطب، ولا حتى مستوى فهمه ...
لقد شرع في مخاطبته العقل للعقل ... وبما هو أقرب لفهمه ...
"قال : أَتُحبُّه لِأُمِّكَ ؟ قال : لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَك قال : ولا الناسُ يُحبونَه لأُمهاتِهم "
وسأله السؤال نفسه، عن ابنته، ثم عن أخته، ثم عن عمته، ثم عن خالته ... ولم يكتفِ مثلا بأمه وابنته، أو بأمه وابنته وأخته، بل خرج حتى إلى الأبعد من القرابة المقرّبة ...
وفي كل مرة كان يجيبه السائل بتلك الطريقة ... "لا والله جعلني الله فداءك"
وفي كل مرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسقط من جوابه على الناس فيقول له : "ولا الناس يحبونه لبناتهم.... لأخواتهم... لعماتهم .... وهكذا ....
أترون؟؟! كيف جعله يستشنع ما قد طلب ؟ أترون كيف أقنع عقله ؟ إنه لم يسفِّه عقله، بل لقد خاطبه... نعم خاطبه باللّين ... ولا عقل مع العنف ... لا عقل مع الغضب ... لا عقل مع الضرب والتجريح الشخصي ...
كلّ من سارع لهذا ابتعد عن التعقّل، وابتعد عن الحكمة ....
لا يلتقي عمل للعقل مع عنف ...
لقد سمع منه، لقد وعى، لقد اقتنع، لقد استشنع لنفسه ما قد طلب الإذن به ليفعله مع غيره ...
لقدر عرف أن للناس حقا كما أنّ لنفسه حقا ... لقد جعله يضع نفسه بموضع الناس أولا ليفهم مشاعر الناس من حوله وهُم يُفعل بهم ذلك ... ففهم فظاعة الأمر أكثر... فاستشنعه ...
تأملوا.... هل كفّره ... ؟! إنه لم يعنّفه ولم يقرّعه بَلَهْ أن يكفره ! ولكن هذا حالنا نحن والخطأ الصغير تقوم عليه الدنيا تقريعا ووعظا، ويصل الأمر بالكثيرين إلى المسارعة للتكفير على ذنوب..
هل ترك المجال للصحابة أن يفعلوا ؟! ولو أنه ترك لهم المجال لنمتْ أجيال تضرب وتعنّف وتزوي العقل وتعمل باليد واللسان سلاحا للتحقير والانتقاص والإذلال ....!
بعيدٌ هو ديننا عن هذا الذي نراه من حولنا .... بعيد هو فهمه الصحيح عن هذا الذي نراه من حولنا، في البيوت، في الأسر، من الآباء، من الأمهات الذين يسارعون أول ما يسارعون للتقريع والتعنيف والضرب...
نعود، والعود أحمد فالشاب قد تبدّل من كلمات
كيف أصبح حاله ؟؟ لقد خرج وهو غير الفتى الذي دخل ... من كلمات ... من خطاب العقل للعقل ... ليس من ضرب اليد، ولا من إذاء اللسان ...
اليوم تحديدا، هذا الصباح، كنت في حوار مع طفل من أقاربنا ... رأيتُه يُكثر على شقيقه الأصغر سنا بالضرب في النازلة وفي غير النازلة، حتى تعوّد معه تلك الطريقة، فأصبح يخوّفه، وأصبح الآخر يخافه ... ولقد عُنّف على هذا، وزُجر، وضُرب وووو... ولكنه لم يَرْعوِ، بل بقي على حاله ...
فأدنيتُه مني، وقلت له : إنك وأنت تستخدم يدك تضرّ بعقلك ... والقوة ليست قوة الضرب، بل قوة العقل ... حاول أن تغير أسلوبك معه ليس رفقا به أولا، بل رفقا بنفسك، وحرصا على عقلك من الضمور، كلما رأيت يدك تسارع لضربه، ارفق بنفسك أنت... وتذكر ما ينفعك قبل ما ينفعه، عقلك حينها سيتعوّد الركود... وستتعود أن الآلة الأولى التي عليك استخدامها هي يدك لا عقلك ... وكيف لعقل يضمر بهذه الطريقة أن يحصّل علما كما يجب، أو يحصّل فهما كما يجب، أو أن يعرف لنمو الذكاء سبيلا ... ؟ وضربت له مثالا طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحاورة، وأنه لم يجئ ليضرب ويعنّف، وأنه أصلح الأرض وجاء لها دواء باستخدام عقله وبالحكمة لا بالضرب والتعنيف ...
وأنا أعرف في هذا الطفل ذكاء، وسرعة بديهة وفهم، وهو يحب هذا في نفسه ... فخاطبته من منطلق ما يحب، وما يحرص على أن يبقى فيه ...
ولقد رأيته يُصغي، ويستسيغ، ويفهم، بل ويعدني أن يغيّر أسلوبه ....
مازلت سأرقب التطبيق منه لأعرف مدى ما وعى
جاءني قبل قليل، وأخبرني أنه عندما رأى نفسه مُقدِما على ضربه، تريّث، وتذكر كلامي فأحجم
فلماذا نضيّع على أولادنا فرص الفهم، والاقتناع، وتبادل التفكير ونحن نسارع للتعنيف، والضرب والتقريع ...
ولماذا نرى أن الوعظ والترهيب والتخويف هي السبيل الوحيدة، وهي الوصفة التي لا حياد عنها ... لماذا لا نفكّر فيما يكون أجدى وأقرب ... لماذا لا نستلهم التعقّل من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
نعود لذلك الشاب السائل .... أخيرا دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن أخذ بأسباب المخاطبة والحوار والإقناع العقلي ... بعد أن عرف في الرجل اقتناعا وتحصيلا لما لن يكون مكثه في نفسه ساعة ثم يتلاشى، بل لما سيكون مُكثه في نفسه مكث القناعة في القرار المكين ...
فلنتعلم ... ولنتعلّم ....