إن قلتِ الدين بقوانينه وصرامته وإدارته العاملة بمنظور إسلامي، وحدوده وعدله الذي يبطش بالظالم القريب ويُنصف المظلوم البعيد... سأكون أكثر اتفاقا معك.
ولكن هذه القوانين، وهذا العدل الذي يأخذ على يد الظالم، وينصف المظلوم، هو الذي نبحث عنه، هذا الذي لم يتحقق، وكل كلامنا يتمحور حول تحقّقه، والسبيل إلى تحقّقه على الأرض... من أين لنا بنظام كهذا وأنت تعلم ما تعلم من تبعيّة أنظمتنا و"علمانيتها" المقنّعة حينا والسافرة أحيانا ؟
أما الوازع الديني فهو للأكياس وذوي الحس المرهف والإيمان الطريّ, وقليل ما هم ولنتذكر قول عثمان على ما أظن (إن الله ليَزع بالسلطان ما لا يزعه بالقرآن) فهو يصب في المعنى نفسه.
أولا: الوازع الديني، مع ما نحن فيه، ومع المؤثرات، والمعوّقات، والمُزعزعات المختلفة، نعم للأكياس، وهؤلاء الأكياس لهم دور، ونعم الأنفس في هذا متفاوتة لا ريب، وهذا التفاوت هو الذي ما أردتُ النفس "
الصالحة " فحسب وإنما على رأسها نفس "
مصلحة" هي التي أردتُ بذلك العمل على مستوى القاعدة..
هنا كما نتحدث عن القائد الفذ، برأيي يسبقه المربي والمصلح الفذ، ويسبقه العالِم الفذ الذي لا يكون طوعا للسلطان، وقد عرفنا عبر التاريخ كيف كان لعالم الحق لا عالم السلطان من أثر وإن جار السلطان...
إذن فالحقيقة أنّ المستوى القاعديّ ذاته منظومة، هيكلة، تقسيم، يحددها هذا التفاوت، فهو ليس هكذا كتلة تنبت من هواء، أو تنبت من جهود فردية، ومراقبات فردية للوازع الديني في نفس كل فرد وحدها، بل هي جهود ذلك "
المصلح" ، وذلك "
العالم الحق" وذلك "
المربي"
كلهم، يعملون على المستوى القاعدي...
ثانيا: هذا في حالنا، وما نعلم من واقعنا، ما نعلم من أن "السلطان" ليس هو "السلطان" الذي عناه سيدنا عثمان رضي الله عنه، السلطان الذي عناه هو سلطان الحقّ لا السلطان الجائر الذي نعرفه اليوم...
هذا ما عنيت يا أخ حسن على المستوى القاعدي الواقعي، الذي نريد به إصلاحا، لا صلاحا ينشأ من الذات وحسب، ولا أنكر أبدا مع هذا تأثير البيئة، وتأثير المحيط على هذه النفس ..
هو عمل لأهله، يحتاج جَلْدا، مجاهدا، صاحب فكر سليم غير متطرف، محيط بأحوال عصره، وبمحيطه، لن يكون عملا سهلا، ولن يكون عمل أي كان، ولكنه يوجد، ويُتاح رغم كل ما نعرف...
أما بخصوص سؤالك عن النفس، والمؤثرات المحيطة بها ودورها في التغيير، فلا أنكرها، ولا أقول أنه يكفيها ما يكون من أصلها وذاتها، وأن البيئة لا أثر لها عليها، ولكن بالمقابل:
"
التغيير" في حد ذاته يحمل من ذاته مدلول المغايرة، الاختلاف، مخالفة الواقع المقيت، التحلّي بالصفات التي تجعل من صاحبها محصّنا بشكل كبير، ولا أقول على الأقل بشكل "تام" من المؤثرات، وهذه الأنفس كما أسلفت قليلة نعم، ولكن منها، لا من غيرها تكون الأنفس المصلحة، التي تعلم جيدا أعباء حملها لرسالة التغيير، وهم موجودون ...
وكما ذكرتَ عن الحركات وعظمة من كان على رأسها، والثمار التي تُقطف بعد أجيال، وهذا هو "
تراكم اللمسات"
الذي يؤمن به أصحابه أيّما إيمان ... وهم لا يعملون مع خلفيّة التفكير بحصاد يكون بين أيديهم، بل يعملون ليزرعوا، ويتركوا مِن خلفهم زارعين، حاملين للفكرة... وعرفناهم ...
حسن البنّا رحمه الله، عمل ولم يحصد في حياته، بل دُبّر لقتله وقُتِل، ولكنه ترك آليات عمله من خلفه، سيد قطب رحمه الله عمل، وتجلّد وصبر، ولم يحصد، بل قُتِل ممن كان يوما فردا من حركته ذاتها ...
ولكنه ترك خلفه....
الحركة اليوم، "الإخوان" اليوم، وما نعرف جميعا، ورثوا العمل السياسي ضمن النظرة الشمولية للدين، التي آمن بها قائدهم وتبناها مع ثلة ممن معه كانوا أصحاب قيادة الحركة، من منظّريها، وأصحاب أفكارها...
ورثوا العمل السياسي كشرط في الحركة، وكجزء من فهمهم لشمولية الدين، وهم اليوم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، ولا أؤمن بمن يعمّم فيصوّرهم الذين لا معرفة لهم بالحِراك السياسي، وأنّما هم محسوبون على السياسة، لأنها فيهم متأصلة متجذرة عبر تاريخ الحركة وأساسات فِكرها، كما لا أؤمن بمن يصوّرهم الذين لا غبار على حركتهم، وعلى تحركاتهم، وعلى ما كان منهم، فهم قد أصابوا، كما قد أخطؤوا ... وليس مَن كان في الخضمّ مثلهم، كمَن ينظّر مرتاحا من بعيد ويتفرج وينتقد لا شغل له إلا الانتقاد.... ونعرف ما نعرف من تأثير المحيط على جهودهم، وما آل إليه الحال، ولكن يستمر الناشؤون ولا ينكفؤون، وهي طريق تعوّدوها، مع جَور السلطان، بل ويعلمون مغبّة عواقبها منذ بداية الحركة إلى اليوم... ولكن سيستمر عمل من بعدهم وإن كان ما كان ... والتغيير سيكون بذلك التراكم ...
إذن سيكون ذلك السبب الخارجي "مستثيرا لمكنونات النفس السيّئة" فكل قد ألهم فجوره وتقواه، يعني كامنة في نفسه،وهذا لا ينفي أن يكون شخص غضوبا أكثر من شخص آخر، لذلك أضفت "فقط"
فأي سلوك أو شعور تتداخل فيه طبيعة النفس وطبيعة الموقف وكلما ضعُف الإنسان في ترويض نفسه كان أضعف مع المواقف.
أكيد، لا خلاف على هذا، ولكن السياق يقضي بالتمام للفهم الكامل "
قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسّاها"
ولا يقوم "
للتزكية" من معنى، ما لم يكن ذلك ضمن تفاعل النفس مع محيطها، بمعنى ما أشرتَ له بالترويض ... "الصبر بالتصبّر، والحلم بالتحلّم، والعلم بالتعلّم "...
وليس من يتكئ على "
جعلوني مجرما" بمغيّر لنفسه، بل هذا إنسان عمله الإلقاء باللائمة على "الظروف"... نعم هناك ظلم يُغضب الإنسان، هناك تعدّ على الحقوق، هناك أكل للحقوق، هناك تفاخر، هناك إذلال، وهناك وهناك... ولكن أين الذي يأخذ على يد الظالم؟؟ والذي يأخذ على يد المتعجرف والمتغطرس؟؟
هذا الذي نبحث عنه .... هذا الذي نريد أن نصل إليه من "
التغيير"
من المنظومة التي أسلفتُ عنها، منظمومة فيها "المصلح" و"المربي" و"عالم الحق لا عالم السلطان"...
يتبع