أولا عودا أحمد يا حسن لهذا الموضوع
بعدما هجرناه تقريبا، وهو الذي يحتاج إطلالات
ثانيا:
أنا معك حول ضرورة إدراك مقدار ما يتحمّل المكلّف من المسؤولية، لا التكليف هكذا بعميّة، الكل في الأمر سواء... ثم يأتي التثريب واللوم والانتقاد والانتقاص ... وهذا من مثالب الذي يتصدر للدعوة، والخطاب والاحتكاك بالناس، وهو يرى الكلّ قادرا على الفعل بالمستوى ذاته ...
ولكن لي بعض الملاحظات..
الأمر لا يبدو لي بالمطلق، بل يبدو أيضا بنسبية حتى في هذه الحال، بمعنى أنّ المطالِب بالعمل، نعم يجب أن يدرك تلك الفروق بين الناس، بل يجب أن يتحلى بثقافة فيها من تحسّس وتلمّس طاقة كل واحد ممن يكونون مثلا تحت إمرته، في كيان جماعي للعمل المشترك مثلا، في مؤسسة ...
وحتى إن لم يكونوا تحت إمرته، وهو يتوجه للناس بالعموم كالداعية أو المصلح، عليه أن يكون توجّهه واقعيا، لا يطالب فيه بالخوارق والمعجزات، ولا أن يجعل على قدم المساواة كلّ من يدعوهم، أي أن يكون رفيقا، متحسّبا، باسطا للاستثناءات ...
ولكن من ناحية أخرى، من ناحية "المُطالَب" والذي عرفنا أنه بين حالات مختلفة، وظروف مختلفة أحاطت به لها دورها في "كمّ" ما يستطيع تحقيقه، وكذا في "كيف" ما يستطيع تحقيقه...
هذه نتفق أنها نظرة المطالِب بالتغيير(بالكسرة) للمطالَب بالتغيير (بالفتحة) ..
هناك حالات عرفنا منها غير المتوقَّع، فتجد الذي نظنّ به ظروفا تحول دون أدائه كما يؤدي من ظروفه أحسن، تجده كان ذا عطاء أكبر، وفاجأك بقوة لم تحتسبها فيه ...
إن شئت من الصحابة تجد الكثيرين، تجد الفقراء الذين تحمّلوا الأعباء الشديدة، والجوع والمخمصة ولم يحُلْ فقرهم دون قيامهم للدين أحسن قيام ... عمار بن ياسر وبلال رضي الله عنهما مثلا..
وكما كانت ظروفهم صعبة، أحاطت بهم ظروف جديدة جعلتهم أيضا يتحدّون تلك الظروف القديمة، هذه الظروف الجديدة تتمثل أساسا في مجتمع متكافل، حقق التكافل والعدل وأقامه في أحسن أشكاله، فلم يترك فيه المتمكن عاجزا، ولا الموسر مُعسرا .. ولم يترك مِن فرق بين غني وفقير.. ولا بين سيد ومسود..
هذا عامل من العوامل، هناك ممن حولنا ممن نعرف لهم ظروفا صعبة، ولكنهم أيضا يفاجؤوننا أحيانا كثيرة بأن يكونوا أكثر من غيرهم تشرّبا للمعاني، وأداء للدور بشكل لا نتوقعه ..
ربما ترى في جامعيّ متخرّج، مثقف، مُكثر من الكلام حول هموم الأمة، ومشاكلها، منتقد لكل مسؤول، حتى لكأنه الذي لو وُضِع مكانه لجاء بالحلول طيرانا، ولفتح الأبواب الموصدة، ترى فيه من لا يثبت ساعة العمل، يظهر على السطح، وتحسبه فردا في جماعة عاملة، وما يفتأ أن ينقطع، لا يثبت أمام التحديات، والصعاب والعراقيل، يريدها سهلة لا تكلّفه صبرا ولا تصبرا ...
بينما تجد فيمن كان مستواه العلمي أقل، ومن كانت ظروفه المادية أصعب من الأول، عزما، وجلدا، وصبرا، وثباتا على العمل، وإيمانا بالرسالة . هذا مما عاينتُه عن قرب .
كُثُر ممن نعرفُ فيهم بعدا عن الدين، ساعة يجدّ جدّ تلقاه أكثر عزما وإقداما على فعل الخيرات، وعلى الانخراط في أعمال الخير، وعلى المنافحة عن الدين .. ربما هي ذخيرة مخبوءة فيه، تنتظر أن تجد دافعا بين الدوافع المحفّزة لتظهر على قوّتها ..
إذا بحثتَ وجدتَ تظافرا بين عوامل داخلية من نفسه، وعوامل خارجية، ربما وجد التشجيع، ربما وجد من يشدّ على يده ويعطيه أملا في التغيير ...
هذه أمثلة، وغيرها أيضا كثير، أردتُ بها أن أقول أن هذه القاعدة من جهة المُطالَب ليست بالثابتة دوما، وليست الظروف الصعبة في كل الأحايين حائلا..نعم في أغلبها هي حائلة دون عطاء مَن كانت ظروفه أحسن، ولكن هناك حالات ...
وبالتالي برأيي، أن الداعي للتغيير عليه أن يكون ذا وعي وحسّ عال..
من جهة يجب أن يكون خطابه معقولا، واقعيا، ليس فيه التكليف للجميع على قدم المساواة، وأن يكون متيقنا من تفاوت القدرات، وألا يكون في دعوته تعسير، ويجب أن يراعي الضعف البشري على عمومه في الجميع بمن تؤهله ظروفه وبمن لا تؤهله ..
ومن جهة أخرى أن يرهف حسّه فلا تفوته علاماتٌ بعينها فيمن يُظنّ بهم ضعفا، وهم أهل لأداء للرسالة .. فيذهب به سوء ظنّه أن يُقصي مَن قد يتأهل بدافع وحافز ينفذ إلى مفتاح شخصيّته..
أظن في علم النفس مثلا عندكم يا حسن قوية هذه الحاسة ؟ أليس كذلك ؟
طيب .. أيضا هناك نقطة أخرى على ذكرك :
فإننا لو عرفنا الوزن (المسؤولية، الشرع، الدين) دون معرفة قدرة الذي سيحمله (الناس هنا) فستيحطم كلاهما، الشيء المحمول يتلف بوضعه على كاهل من لن يحفظه، والحامل سيتلف أيضا بتحميله ما لا طاقة له به، وإهلاكه به قبل أن نرى منه تغييرا أو تأثيرا !!
تمام، وأتفق معك، ولكن استحضرت أمرا، لا يجدر بي إغفاله، بل سأطرحه ..
استحضرت هنا الذين استحفظهم الله على كتابه، فلم يحفظوه، بني إسرائيل، هم حُمِّلوا، وممّن؟ من رب العزة جلّ في عُلاه العالم بطاقتهم وقدرتهم، فما حملوا، قال لهم سبحانه : "خذوا ما آتيناكم بقوة"
فما أخذوه، وما حملوه، لم يحفظوا ما استحفظوا عليه..
وهنا التكليف من الله تعالى كان عن علمه سبحانه المحيط بطاقتهم، ولكن البغي كان منهم، فما حفظوا وما بلغوا ...
إذن الإشكالية هنا تُطرح من باب أن يكون المطالَب، والمكلَّف أيضا في
ذاته ليس ذا أهلية عزم للعمل بعيدا عن الظروف، نفسه هنا هي العلّة لا ظروفه ... فإذا كُلِّف ممن عرف فيه طاقة وقدرة، وظروفا مواتية، لم يأتِ بما يُتوقع، أو ربما لم يأتِ أصلا بشيء ...
هذا ما وددتُ ملاحظته .. والذي أرى فيه استثناءات يجب أن ننتبه إليها.. لنحيط بحيثيات الأمر قدر المستطاع .
لا أظن ردي هذه المرة طويلا
يجدر بنا الثبات على الإطالة