إن قضية الإحياء والحياة لمَدارٌ من أهم مدارات سورة البقرة ..
سورة البقرة هي سورة المنهج... المنهج الذي أنزله الله لعباده ليحيوا به...
منهج حيّ مُحْيٍ، منهج جاء للحياة...
فهذا فيها أول التشريعات سَوقا، تشريع القصاص "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون" والحفاظ على النفس أول مقاصد الشريعة.
وهذا ثاني التشريعات سَوقا تشريع الحفاظ على المال، "
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين" وهو ثاني مقصد من مقاصد الشريعة.
وهذا تشريع الحفاظ على العقل بورود أول تحريم للخمر "
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"
والتشريعات... ثلاثتها تؤكد مقاصد حفظ النفس والمال والعقل، وكلها أدوات للحياة...
للحياة بمنهج الله تعالى...
إنها سورة تبين أن الإنسان خُلق للحياة، لإعمار الدنيا، لتحقيق الاستخلاف فيها، الاستخلاف بتطبيق أمر الله في الأرض، بتطبيق منهجه المُحيي...
حياة القلوب بالإيمان، وحياة العقول بالحركة والعمل...
وإنّ من يزرع مفهوم مجافاة الدنيا بزعم الزهد فيها إلى الحد الذي تنصّل فيه المسلمون من مسؤولية الاستخلاف والإعمار لهو واحد من أهم الجُناة على روح الأمة، وعلى حركتها وعلى عقول أبنائها وهم قد غدوا يرون النظرة إلى الآخرة نظرة تُحيّد الدنيا من قاموس مفاهيمهم...
حتى تركوا الاختراعات لأهل الدنيا !!
وتركوا العلم لأهل الدنيا بزعمهم !!
وتركوا الخوض في مجالات الحياة لأهل الدنيا !!
أما المسلمون فهم أهل الآخرة وما لهم في الدنيا وحركتها من خَلاق !!
مفهومٌ نكص بالإنسان المسلم على عقبيه، فغدا يستروح بابتغاء الآخرة من حَرّ هجره لحركة العقل وعمل العقل عنده...
وأصبح يستأنس بالخرافة والكذبة ويستسهلها زيادة في الاسترواح والراحة... !!!
أجل فنحن أهل الآخرة..... !! فأميتوا العقل يا أهل الآخرة، فإنما هو نافلة الوجود ...!!
أما سورة البقرة فهي سورة المنهج الذي جُعل للحياة... وهي من هذا الرمي الذي رُمي به الإسلام وتشريعه براء براء...
فيها يدعو الله إلى ذكر الدنيا لا إلى نكرانها : " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"
سورة تبين أن حرمة النفس عند الله أشد من حرمة بيته، وأشهره الحُرُم ...
سورة تستحث العقل، وتحترم العقل، وتخاطب العقل...
سورة أتت أول ما أتت على قصة الاستخلاف، وأن العقل في الإنسان معجزة جعلت آدم يتعلم الأسماء كلها... بل وينبئ بها من لا يعلمون...
ولنأخذ عيّنة من عينات مخاطبة العقل في هذه السورة، وإن كانت بهذه العيّنات لعامرة ...
تلك القَصَص الثلاث المتواليات فيها ..
قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود، ثم قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، ثم قصة سؤال إبراهيم عليه السلام ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى..
جاءت ثلاثتها مشتركة في قضية الإحياء والإماتة والتي هي بيد الله تعالى لا بيد غيره، هي خصيصة الله سبحانه...
فهي لا تأتي نشازا عن سياق الآيات السابقات من السورة، بل تأتي تأكيدا لأهمية قضيّتي الإحياء والإماتة...
الإحياء اتساقا مع إحياء القلوب بنهج الله، وإحياء العقول باستحثاثها على العمل ..
فأما إبراهيم عليه السلام مع النمرود...
فإنه لما عرف فيه طغيانا جعله يتأله ويدّعي ما ليس له: "
أنا أحيي وأميت"، لم يتمادَ إبراهيم عليه السلام معه في موضوع الإحياء والإماتة، لم يبرّر له، لم يشرح له اختلاف ما يعتقده إحياء من نفسه عن إحياء الله، ولا اختلاف ما يعتقده إماتة من نفسه عن إماتة الله، لم يسترسل معه في هذا الموضوع، بل لقد غيّر وجهته، لقد وجّهه إلى موضوع سواه... إلى قضية أهون من قضية الإحياء والإماتة ...
لقد عرف ما يفعل بمَن كان تفكيره بهذا التحجّر، علم أنّ الأخذ والرد معه حول الموضوع ذاته مضيعة للوقت بلا جدوى... فخاطبه بما ناسب تفكيره، أفحمه، سأله، طلب منه ...
إن كنت ترى أن قضية الإحياء والإماتة بيدك، فهاكَ ما هو دونها، فلتأتِه ... "إن الله يأتي بالشمس من المشرق، فائتِ بها من المغرب" يا من تدعي أنك تحيي وتميت، إن هذا لأهون عليك ... فائتِه !!
فبُهِت الذي كفر ........... !! لقد أفحِم ... أفحِم بسؤال أن يأتي ما دون ما ادّعى فعله وإتيانه ...
دروس في مخاطبة العُتاة ... دروس في إفحامهم بالحجة العقلية، بالذكاء المُفحِم، بطريق هو الأقصر للغاية المرجوة ...
وأما الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فلنتأمل، فإذا الله تعالى يحترم العقل، يسدّ الثغرة على التساؤلات، وعلى التشكيكات...
يميته مائة عام، ثم يحييه، ثم يسأله عن ملبثه، ليكتشف الذي ظنّ أنما لبث يوما أو بعض يوم، أنه قد لبث مائة عام ...!
ولكن سيقفز سؤال من يسأل ... ! أنّى للرجل أن يستيقن أنه لبث مائة عام ؟؟ أنّى له ذلك وطعامه وشرابه لم يتسنّه ... أليس له أن يستريب في ذلك ؟
إن الله تعالى قد ترك فسحة للعقل السائل، للعقل الذي لا يرى الحقيقة حقيقة إلا بالدليل...
فكان دليله حماره ...!
أراه الله قبالة عينيه كيف ينشر عظام حماره عظما تلو عظم، ثم كيف يكسو العظام المجمّعة لحما، لقد زوّده بالدليل الذي عقِلَه ... الذي طمأنه، الذي أعطاه اليقين ...
إنه سبحانه يعلّمنا احترام العقل، وهوسبحانه يحترمه، ويزوّده بما يُشبعه وبما يجعله يوقن بالحقيقة، ويسلّم بها...
وأما في قصة إبراهيم الأخيرة وهو يسأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ...
فقد لقي طلبه القبول من عند الله، ولم يلقَ الصدود، ولم نعرف طعنا من الله في إيمان إبراهيم عليه السلام، وهو يسأل ...
وهو سبحانه إذ سأله: "
أو لم تؤمن" نعلم نحن علم اليقين أن الله يعلم ما بقلبه، يعلم إن كان مؤمنا أو غير مؤمن، ولكنه يسأله ليبلغنا نحن جواب إبراهيم عليه السلام :"بلى ولكن ليطمئن قلبي"... ولنتعلم أن السؤال الذي النية من ورائه الاطمئنان مُباح، وغير مُنتَهَر صاحبه .... بل الإجابة هي حلّه ...
وأجابه ربّه ... وأمره أن يأخذ أربعة من الطير، ثم يصرهنّ إليه، ثم أن يجعل على كل جبل منهنّ جزء ....
لقد تساءلتُ ... لماذا لم يجعل الله سبحانه بيده تلك الطيور على الجبال على عين إبراهيم ؟؟ لماذا لم يفرّقها سبحانه عليها بيده، لماذا ترك ذلك لإبراهيم ؟؟
إنه ليترك لعقل إبراهيم أن يعقل، وأن يذكر ما فعل بيده، وليشهد على فعله، وليطمئنّ عقله لفعل نفسه، وإنه سبحانه العظيم العزيز الذي لا يُغلَب ولا يُقهَر .... فلتفرّق يا إبراهيم أطراف الطيور كما شئت أن تفرّق، كما شئت أن تفعل، كما شئت أن تصعّب لتطمئن، فاجعل رأس هذا شرقا واجعل أطرافه غربا، وباعد بين أطراف الطير الواحد كما حلا لك أن تباعد ... ولتعقل، ولتذكر ما فعلتْ يداك، وليكن عقلك عليك شاهدا،.... فإنّك وإن فرّقتَ أكبر تفريق، فإن الله تارك لك، ليدك أن تفعل ... لأنه العزيز الذي لا يغلبه شيء....
ثم ليكن منك الدعاء، لا شيء غير الدعاء .... فإذا كل طير بين يديك ساعٍ ... كما سيعقل عقلك، وأنت الذي فرّقتَ وأنت الذي تعلم جيدا كيف باعدتَ، وإلى أي مدى قد باعدت بين الأطراف الت غدت ساعية بين يديك....
إنها تلك الفسحة التي يتركها الله للعقل ليعمل، ليتيقن... ليطمئن باليقين ... يقين يأتي من عمل العقل الحر...
نعم إنها عيّنة من عيّنات مخاطبة العقول، واحترام العقول، وتعليم العقول أن تعمل، وأن تسأل، وأن كيف يقع من عملها اليقين ....
يعجّ القرآن كلّه بهذه المخاطبات، وبهذا الاحترام الفريد للعقل، وبهذا اليقين الذي هو جَنى عمل العقول....
فأنّى لأهل القرآن أن يزعموا أنهم أهل الآخرة وحدها، وأن الدنيا وإعمارها وعلومها لأهل الدنيا، وإنما نحن أحياء على شفير الموت، بل موتى على شفير الموت....!!!
إن القرآن براء من زعم كل زاعم، ونعق كل ناعق بهذه الدعاوى الكاذبة ...
بل إنّ كل ما فيه صون للعقل، واستحثاث له على العمل، ودفع له ليُحيي الأرض قاطبة بنهج محفوف بتمام حاجة الإنسان الروحية والعقلية على السواء، وفي هذا قد بخس كل من أعطى فلم يحط بالحاجَتَيْن حينما نأى أهل عطاء الحاجتَيْن عن دورهم !
نهج لن يعرف الإنسان حاجته إلا فيه، ولن يستوفيها إلا منه ...