رابعة الخصائص : التـــــوازن
التوازن خاصية صانت التصور الإسلامي من الانزلاقات، والاضطراب والغلوّ، نذكر من موازناته :
1- التوازن بين ما تسلّم به الكينونة الإنسانية وما تبحث فيه: التوازن بين ما تتلقاه الكينونة الإنسانية لتدركه وتسلّم به، والذي تتلقاه لتدركه وتبحث في حُجَجه وبراهينه، وتحاول معرفة علله وغاياته، والفطرة البشريّة بذلك تُلبَّى فيها حاجة الاشتياق لما وراء الحُجُب بالتسليم، كما تًلَبّى فيها حاجة المعرفة بالبحث والبرهان.
يقول في هذا سيد قطب رحمه الله :
إن العقيدة التي لا غيب فيها ولا مجهول، ولا حقيقة أكبر من الإدراك البشري المحدود، ليست عقيدة، ولا تجد فيها النفس ما يلبي فطرتها، وأشواقها الخفية إلى المجهول، المستتر وراء الحجب المسدلة .. كما أن العقيدة التي لا شيء فيها إلا المعمّيات التي لا تدركها العقول ليست عقيدة! فالكينونة البشرية تحتوي على عنصر الوعي. والفكر الإنساني لا بد أن يتلقى شيئاً مفهوماً له، له فيه عمل، يملك أن يتدبره ويطبقه.. والعقيدة الشاملة هي التي تلبي هذا الجانب وذاك، وتتوازن بها الفطرة، وهي تجد في العقيدة كفاء ما هو مودع فيها من طاقات وأشواق.فالإنسان مثلا لا سبيل لإدراكه ماهيّة الذات الإلهية، ولكنّ فكره يعمل في إدراك خصائصها، من وحدانية، وقدرة، وتدبير ....وغيرها، والقرآن يحفّز العقل البشري على العمل في مجال إدراكه بالسؤال تارة وبالعرض تارة فيما يخصّ الكون وحقائقه ومظاهره، والحياة وأجناسها، والإنسان وخصائصه، فهو سبحانه القائل:
"
أمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ(35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ(36)" -الطور-
"
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ(21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(23) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ(24)" -الأنبياء-
وغيرها من الآيات التي تحمل هذا التحفيز على البحث والاستدلال والنظر...
2- التوازن في مجال طلاقة المشيئة الإلهية وثبات السنن الكونية: إنه سبحانه على كل شيء، قدير، يقول للشيء كن فيكون، لا تحُدُّ قدرتَه ولا مشيئته قاعدة ملزِمة، ولا قالب مفروض، وفي الوقت ذاته شاءت إرادة الله وحكمته وتدبيره أن تتبدى أنظمة الكون في شكل نواميس مطّردة يملك الإنسان مراقبتَها وإدراكها، والبحث في فهمها للتعامل معها وِفق ما أودع الله فيها من قوانين، وهي ساحة عمل العقل البشري بمنهج علميّ ثابت، ورغم ذلك تبقى في ضمير المسلم طلاقة مشيئة الله، وهو المأمور بالأخذ بالأسباب، ولكن بردّها كلها إلى مسبّبها لا باعتقاد أن الأسباب هي المنشئة للمسبّبات. وفي القرآن آيات عديدة تتحدث عن تلك النواميس المطّردة، كقوله تعالى :
"
لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40)"-يس-
"
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ(137) " -آل عمران-
3-التوازن بين مشيئة الله المطلقة ومشيئة الإنسان :وفي هذه النقطة يُسهِب الكاتب نوعا ما تواؤما مع ما أثير حول هذه النقطة تحديدا من جدل عبر العصور، خبط فيه الفلاسفة بألوان وأشكال من الخلط والخبط، وقد أحببتُ التركيز في هذه النقطة لحاجة دائمة في نفسي إلى فهم يقرّب المعرفة بالجواب الشافي عند التعرّض لهذا السؤال، أكثر منها حاجة في النفس للنفس، إذ هي مطمئنة لمشيئة مطلقة محيطة مسيّرة هي لله عزّ وجلّ العدل الحق، تترك للإنسان فُسحة للاختيار والعمل، ولكنّ الجواب الشافي على من يسأل مثل هذا السؤال عادة لا أجده عندي فلنحاول التعلّم معا مشيا الهُوَيْنى مع ما أورد سيد رحمه الله :
1-3) ما يقرّره الإسلام :الإسلام يقرّر المشيئة المطلقة لله عزّ وجلّ، كما أنه يقرّر الدور الأول للإنسان في الأرض وهو فيها الخليفة، وهذا ما يمنحه مجالا واسعا للفاعليّة والتأثير لكن في توازن تام بالاعتقاد بالمشيئة المطلقة لله، وتفرّده بالفاعليّة من وراء الأسباب الظاهرة، وما حركة الإنسان في الأرض إلا واحدة من هذه الأسباب على اعتبار أن نشأته ابتداء، وحركته وإرداته كلها في نطاق المشيئة المطلقة لله .
إذن : المشيئة المطلقة
-----> لله
حركة الإنسان وفعله(اختياره)
--->-- واحد من الأسباب الظاهرة لمشيئة الله عز وجل.
2-3) لا مشكلة في التصور الإسلامي :إن هذه القضية لا تعد مشكلة في التصور الإسلامي إذا كان الاعتماد في فهمها على النص القرآني وما يقرّره، وهو كما عرفنا المصدر الوحيد لاستمداد التصور الإسلامي ، أما إذا كان الاعتماد في فهمها على مقررات مسبقة من تخاييل الفكر البشري الذي يُعقّدها ويزيغ بها عن مفهومها إذا لم يكن القرآن مصدر معرفته بها، عندها تصبح مشكلة، وعندها توصف العلاقة بين المشيئة الإلهية والمشيئة الإنسانية بالتناقض .
وهو سبحانه القائل: "
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً(29) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(30)"-الإنسان-
وهو القائل سبحانه : "
فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء"- من 25 من الأنعام-
وقال في الوقت نفسه: "
مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ(46)"-فصلت-
وعلى هذا فإن المسلم باطمئنانه لعدل الله المطلق، يعلم أن للإنسان قدْرا من الاختيار والفعل والتأثير يقوم عليه التكليف والجزاء دون تعارض مع المشيئة الإلهية المطلقة، فاتصال مشيئة الله بما يريد خلقه وإنشاءه، وبالنشاط الانساني ليس في مقدور العقل إدراكه أو تقديره بل متروك للعلم المطلق، متروكة للخالق سبحانه الذي يعلم حقيقة الإنسان وتركيب كينونته وطاقات فطرته ومدى ما فيه من الاختيار، وما يترتب على الاختيار من جزاء.
إذن : 1- لا يجب استمداد التصور من مقررات عقلية، بل تستمد من النصوص المقررات العقلية .
2- الاطمئنان إلى عدل الله، إذ أن إحاطة علمه تحقق الاطمئنان إلى الحركة وفق منهجه.
3-3) فماذا عن الشرّ والألم ؟لا يعتبر الشر والألم مشكلة في التصور الإسلامي إذ أن الدنيا دار ابتلاء، والآخرة دار جزاء، والحياة جزء من رحلة منتهاها في الآخرة، فتقع الطمأنينة في الشعور، فما نل الخيّرَ من ألم في الدنيا يُكسبه الطمأنينة غلى ما ينتظره من جزاء في الآخرة وما ينتظر ظالمَه كذلك، كما أنه ينال نصيبه من الرتياح الدنيويّ أيضا وهو يستشعر قيمة استقامته وسعيه من أجل تحقيق منهج الله ، ولإرضاء الله .
إنه ال سبحانه القائل: "
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(30)"-فصلت-
3-3-أ) لماذا أوجد الله الشر ولو شاء لهدى الناس جميعا ؟هذا واحد من الأسئلة الشائعة، يقول فيه الكاتب أنه لا موضع له في التصور الإسلامي، لأنه سبحانه وتعالى هو الخالق وهو العالم بالنظام العام الأنسب للكون وللإنسان، يقدّر أحسن وضع للخلق، فلا يُسأل عما يفعل لأنه الإله، وليس أحد من البشر إله ليَسأل عما قرره الله من فِطرة فطر الناس والكون والحياة عليها .
"
وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً". -من 35 من الأنبياء-
يقول سيد رحمه الله :
"
ولماذا، -في هذا المقام- سؤال لا يسأله مؤمن جاد، ولا يسأله ملحد جاد .. المؤمن الجاد لا يسأله، لأنه أكثر أدباً مع الله – الذي يعرفه من التصور الإسلامي بذاته وصفاته – ولأنه أكثر معرفة بمدى إدراكه البشري الذي لم يهيأ للعمل في هذا المجال .. والملحد الجاد لا يسأله كذلك. لأنه لا يعترف بالله ابتداء فإن اعترف بألوهيته عرف معها أن هذا شأنه –سبحانه- وأن هذا مقتضى ألوهيته، وأن اختياره هذا هو الخير قطعاً.
ولكنه سؤال يسأله مكابر لجوج، أو مائع هازل .. ومن ثم لا يجوز المضي معه في محاولة تبرير هذا الواقع بمعايير عقلية بشرية، لأنه بطبيعته أكبر من مستوى العقل البشري، وأوسع من المجال الذي يعمل فيه العقل. فإدراك أسباب هذا الواقع يقتضي أن يكون الإنسان إلهاً. ولن يكون الإنسان إلهاً. ولا بد له من أن يسلّم بهذه البديهية الواقعية، ويسلم بمقتضياتها كذلك".
أما الشر والباعث عليه، وما ينجرّ عنه من خطيئة وإثم ، فلقد قرر الإسلام أنه أضعف من أن يكون مسلطا على الإنسان أو قاهرا له، وإنما هو الصراع بين الإنسان والشيطان.
"
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ(41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ(42)"-الحجر-
3-3-ب) إذا كان الله قد خلق كل إنسان باستعدادات معينة تجعله يميل إلى الهدى أو إلى الضلال، فلماذا يعذب الله الضال، ويكافئ المهتدي؟يقول الكاتب أيضا في هذا السؤال الشائع:"
وهو سؤال خادع – في صورته هذه- يقابله ويصححه ما يقرره القرآن من أن الله –سبحانه- خلق الإنسان ابتداء في أحسن تقويم، وأنه لا يزول عن مكانه هذا إلا بغفلته عن الله. وأنه مبتلي بالخير والشر. وأن فيه الاستعداد للترجيح والاختيار –مع الاستعانة بالله، الذي يعين من يجاهد لرضاه!
"لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. فلهم أجر غير ممنون". "