من وحي كتاب "
سيرة خليفة قادم" لأحمد خيري العمري.
أعود لبعض شأن حول كتاب "سيرة خليفة قادم" لصاحبه أحمد خيري العمري، وقد كنت كتبت تقدمة لما أريد قوله فيه، ها هنا مكانها :
http://www.ayamnal7lwa.net/forum/index.php?topic=6306.msg111738#msg111738الكتاب كما أسلفت من 486 صفحة، ولن يسع المقام لذكر كل ما رأيته شططا بيّنا فيما ذهب إليه الكاتب، ولكنني سأذكر بعض النقاط، أو لنقل أكثر ما علق بذهني من شطط .هدانا الله وإياه وثبتنا على الحق وعرّفنا به .
الكاتب يحوم دوما حول القضية الحضارية وحول موضوع النهضة كما في كل كتاباته، ولكنه وكما في كل كتاباته أيضا يشنّ هجومه المتواصل على ما أسماه "
المؤسسة التقليدية" يريد نقض مفهومها حول دور المسلم على الأرض، أو لنقل بالأحرى يريد أن يلبس فهم علماء الأمة الأوائل الذين يصنفهم تقليديّين لبوسا ظالما مجحفا، إذ يريد أن ينحى بما وضعوا منحى الإغراق في الزهد وفي كُره الدنيا إلى حد تتباعد فيه المسافات، وتنأى عن الفكر مقاصد النهضة المنشودة، والتي قوامها العمل في الدنيا والعمل ثم العمل...
هكذا يريد الكاتب ضمن منظمومة من الاتهامات المبالغ فيها أن يعطي للقدامى سمة القديم الذي لم يعد يجدي، ولم يعد ينفع لهذا العصر الذي يستوجب قياما إسلاميا مستمدّا من القرآن... وكأنّ أولئك العظماء الحكماء قد افتقروا للتفكير الوسطي الذي لا يجعلهم يغالون في في ذمّ الدنيا إلا بالقدر الذي يلقي في النفوس كُره أن تغترّ بها وأن تنجرف نحو عبادتها من دون الله، لا أن يقصي المؤمن نفسه من دور على الأرض يقوم أساسا على علاج هذه الأرض من أدوائها،وذلك بفقهه التامّ وإدراكه الواعي أن دوره الأساسي عليها إنما هو عبادة الله تعالى، وتعبيد الأرض له سبحانه، وهل يتنافى هذا وما فقهوه كمال الفقه أنّه الاستخلاف في الأرض بتطبيق منهج الله تعالى فيها، ونشره لإعلاء كلمته سبحانه في ربوعها ... ؟! بل إنهم هُم أول من فهم هذا، والتاريخ وأحداثه أكبر دليل على أنّهم هُم الذين كانوا أصحاب العمل والفتوحات والانتصارات في عصور مختلفة من عصور الدولة الإسلامية...
الكاتب يجحف، ويظلم كل الظلم إذ لا يرى هذا الفكر إلا عند المسلمين الأوائل، الأوائل ليس بمعنى البعيدين عن موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبعيدين عن عصرنا كذلك، بل يرى بداية دخول الدولة الإسلامية في مراحل ضعفها وتهاوي فهمها الصحيح للاستخلاف في الأرض، بل تهاوي فهمها الصحيح للدين وللقرآن من عام 40 أو 41هـ، وهو تاريخ تولي معاوية بن أبي سفيان للخلافة مؤسس الدولة الأموية، وما بعده كلها تأثرات بالتيار السياسي الغالب الذي جيّر النصوص الدينيّة لصالحه، وأوقع الأمة بأكملها في فخّ الترضية السياسية على حساب الفهم السليم للدين عموما...
وهنا أريد أن أقف وقفة أستحضر فيها حديثا صحيحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه "
خيرُ القرونِ قرنيَ الَّذينَ بُعِثتُ فيهم ثمَّ الَّذينَ يلونَهم ثمَّ الَّذينَ يلونَهم"
فآخر قرن مذكور هنا هو قرن تابعي التابعين، والذي امتدّ حتى عام 220هـ تقريبا.
قال السيوطي: "
والأصح أنه ـ يعني القرن ـ لا ينضبط بمدة، فقرنه صلى الله عليه وسلم هم الصحابة وكانت مدتهم من المبعث إلى آخر من مات من الصحابة مائة وعشرين سنة، وقرن التابعين من مائة سنة إلى نحو سبعين، وقرن أتباع التابعين من ثم إلى نحو العشرين ومائتين"
http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=127151بمعنى أنه حتى عام 220هـ تقريبا عاش تابعو التابعين والذين هُم ضمن السلسلة المختارة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية على كل القرون. فأتساءل كيف يتأتّى للكاتب من خلال هذا الحديث الصحيح أن يدّعي أنّ بدايات الترهّل على وجة الأمة كانت من عهد معاوية رضي الله عنه 40هـ ؟!!هذا من وجه... فأما من وجه أنّ ما بعد تلك القرون الثلاثة قد عرفت الأمة ما عرفت من تأرجح بين قيام وسقوط يشهد به التاريخ، وبأحداث مشرقة نوّرت صفحات التاريخ الإسلامي فإنه مما لا يتسع المجال لذكره.
فهل نسي أو تناسى
عماد الدين زنكي وابنه نور الدين زنكي، ومن خلفهما
صلاح الدين الأيوبي الذين كانوا سلسلة لؤلئية فريدة في محاربة الصليبيين وقهرهم ، بل لقد بقيت ذكرى فتح صلاح الدين للقدس وخزا في ضمير المسلمين حتى يومنا، تستمطر بها الأمة شبها له يذهب الهمّ ويُجلي الغمّة، بل إن الأمل باق قائم في خروج من يشبهه لا ينقطع...
وما كان ثلاثتهم إلا بين القرنين السادس والسابع للهجرة...وليس
سيف الدين قطز الذي أوقف زحف المغول على الدولة الإسلامية وشهد انتصارات عظيمة عن القرن السابع للهجرة ببعيد، ولا كان
الظاهر بيبرس (القرن السابع للهجرة)المنصور على الصليبيين وهما واختلاقا، بل لقد لقّب بركن الدين وقد بدأ مملوكا يباع في أسواق بغداد.
وهل نسي الكاتب أو تناسى كل حسنات الدولة الأموية وخيراتها ؟ وهل يريدنا أن نسجّل لها
غصبا تاريخا أسودا مغرقا في السواد وهي التي شهد عصرها فتوحات كبيرة، وانتصارات، ونهضة علمية وعمرانية فريدة؟!
هل يريد منا أن ننكر كل هذا، ونسلّم بأنه ابتداء من عام 40هـ بدأ وجه الأمة الإسلامية بالكلوح وكأنها ما أنجبت عظماء خلّدهم التاريخ ؟!
فأين ذهب
طارق بن زياد الذي فتح الأندلس حوالي عام 90هـ؟... الأندلس التي دامت إسلامية لأكثر من ثمانية قرون متواصلة، كانت فيها مقصد الأوروبيين من كل مكان ينهلون من جامعاتها الغراء صنوف العلوم وألوانها ....
بل إنه حتى في عهد ملوك الطوائف بالأندلس عرف التاريخ رجالا قاموا ضد الصليبيين وأذاقوهم الهوان، وعرّفوهم قدرهم، وما معركة الزلاقة العظيمة عنا ببعيد ...
وهل عفا التاريخ عن
يوسف بن تاشفين في أفريقيا والذي استنجدت به الأندلس فكان شوكة بحلق الصليبيين، وليس ما حققه في المغرب العربي من استنهاض للهمم الدينية بالقليل .
وهل كان علماء تلك العصور إلا علماء مستنيرين بنور القرآن العظيم ؟ علموا تمام العلم وفقهوا تمام الفقه أن الإسلام دين الحركة والفعل في الأرض، وأن الدنيا دار سعوا فيها لتمكين الدين ولإعلاء كلمة التوحيد ؟! فكيف ينكر الكاتب مع هذه الشواهد التاريخية العظيمة على المسلمين على مدى هذه العصور أن يكون بينهم من عمل فيه القرآن عمله لتحقيق الخلافة على الأرض ؟!!
فهل يعدّ كلامه هذا قديما مات يوم قامت الدولة الأموية(40هـ) وجاء هو ليحييه اليوم؟
أين الخلفاء والأمراء الذين شهد لهم التاريخ في الدولتين الأموية والعباسية، وبعدهما، بدورهم الفعال في إقامة دعائم الإسلام في الأرض، وفي مواصلة الفتوحات، وفي قهر الصليبيين ؟
وإذا تقدمنا، واقتربنا من عصرنا هذا الذي نحياه والذي يشهد القاصي والداني أنه أحط عصور الإسلام، عرفنا أنّ الخلافة العثمانية القريبة منه شهدت نهضة، وعُرفت لها مهابة في صدور الأعداء والأصدقاء على السواء....
ويطول الحديث عن كل هذا، وقد ذكرنا القادة والفاتحين الذين شهدت عصورهم علماء أجلاء أناروا الطريق، وكانوا دعاة حق لم يخافوا فيه لومة لائم، ولم تنحََ بهم الحاجات السياسية وأهلوها منحى أبعدهم عن الحق وعن إحقاقه... فعُرف
العز بن عبد السلام في أواخر العهد العباسي، الذي عرف ببائع الملوك، وكان له أكبر دور في شحذ همم القادة والخلفاء للتصدي للغزو المغولي الجارف، فكان "قُطُز" بانتصاراته خرّيج مدرسته الشاحذة ...وكان الملوك يهابونه من فرط ثباته على الحق...
وهل أتاك حديث الأئمة الأربعة ؟ أئمة المذاهب، ومؤسسي المدارس الفقهية العظيمة الشافعي (150-204هـ)، الإمام مالك (93-179هـ)، الإمام أبو حنيفة(80-150هـ)، الإمام أحمد بن حنبل(164-241هـ). فانظر عصور تواجدهم تعرف أنهم جميعا جاؤوا بعد تولي معاوية للحكم (40هـ) والتي يراها الكاتب بداية الانحطاط والتولّي عن الفهم الصحيح السليم للنصوص الدينية، وتجييرها للمصالح السياسية ...!!
كلما هممتُ بالانقطاع عن سرد ما لا يحدّه هذا المقام، وجدتُني أذهل من زعم الكاتب أنّه من 40هـ كانت بدايات اجتزاء النصوص من سياقاتها للحاجة السياسية، مما أدّى إلى تكوّن ما أسماه "المدرسة التقليدية" التي برأيه كانت سببا رئيسا من أسباب ما وصلنا إليه ...
وإنني لا أراه جاء بجديد وهو يؤكد على أنّ القرآن هو محرّك الأمة، وهو بوصلتها، ولا جاء بجديد وهو يؤكد على المعاني الإيجابية التي يزرعها القرآن في نفوس المسلمين الذين على عاتقهم تقع مسؤولية علاج الأرض من أسقامها .
وهكذا، فإنني أرى من الواجب علينا أن نعرف تاريخنا الإسلامي، حتى لا نقع بسهولة في أفخاخ من يحدّد لنا زمن النهوض بعدد من الأعوام التي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تتجاوز ثلاثين سنة ! فنكتشف فجأة أننا أمة بدأت الدخول في سباتها مبكرا جدا ! فكيف لأمة كان هذا ميعاد ضعفها ونومها أن تستنهض شيئا من قوامها ؟! بل إن هذا الذي يقوله لمن دواعي عدّ تلك المرحلة القصيرة في ميزانه حدثا مرّ لا يمكن لمن نام مبكرا أن يعيده كرة أخرى ! إذ عدّه مرحلة تقرب أن تكون أسطورة لم تكن بعدها محاكاة ولا اقتفاء حتى ممن قارب عصرها، فلم يفلح بعدها أحد في النهوض... وإنه لاجتزاء من سياقات التاريخ والأحداث صارخ، نسأل الله ألا يوقعنا في شِراكه .
وهكذا لا يسعني الوقت في هذا الرد أن أكتب المزيد عن نقاط أخرى هي مثار استغراب تحسب على الكاتب وعلى كتابه . وحسبي فيه أنني استدللت ببعض الأمثلة القليلة القليلة التي هي غيض من فيض علماء وقادة أجلاء أنجبتهم الأمة على مدى عصورها المختلفة، تفنّد قوله ببداية استشراء الضعف في أوصال الأمة في فترة مبكرة جدا جدا من تاريخها، مرجعا ذلك إلى فهم خاطئ ومجتزأ للنصوص الدينية رسخته ما أسماها المدرسة التقليدية....
ولنا بقية تعليق على نقاط أخرى بإذن الله