من وحي : "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"
في الفصل الرابع من الكتاب : رزايا الإنسانية في ظل الاستعمار الأوروبي، يعدّد الندوي الرزايا واحدة تلو الأخرى، فيبدأ ب"بطلان الحاسة الدينية"، والتي يوعِزُها لاستغراق أوروبا ماديا، وافتقارها الشديد روحيا... وتحت هذه الرزية يذكر ظاهرة دقيقة جدا يفصّل لها تحت عنوان : ما لجرح بميت إيلام
شدّني جدا استنتاجه هذا، والذي يقول فيه أن أهل الشرق كانوا يتميزون بالبحث الدائم والسؤال النّهِم عن مراد الحياة، ومعنى الحياة، والهدف منها، وما بعد الحياة .... وأنهم اشتغلوا بهذه الأسئلة الروحية، وكتبوا فيها، واستلهموا لأجلها ما سموه "الحكمة"، واستنطقوا في محوره "ما وراء الطبيعة"، وتكلموا فيه بالفلسفة .... ولكنهم أصابوا أم لم يصيبوا فقد كانت سمتهم البحث، وكان ميزتهم السؤال المستمر ...
أما أوروبا فقد أوغلت ماديا، واستغرقت حسيا حتى فقدت الحاسة الدينية، تلك الجاسة التي فعلها في الإنسان كفعل حاسة البصر التي بفقدها قد ينكر الأعمى جحودا الأشياء.... وكفعل حاسة السمع التي تجعل الحياة أمام الأصم مقبرة أموات .....!
فما الدقيق الذي شدّني ؟
هو أن الإنسان بهذه الصفات التي تكبر كلما كبرت المدنيّة من حوله، وكلما كثرت الاكتشافات، وتوسع مجال الاختراعات، وسبرت أغوار الطبيعة من حوله فأمدّته بكنوزها المحسوسة ... وكلما كبرت ماديته، صغرت حاسته الدينية، فلا يعود يكلّف نفسه عناء السؤال ....وذلك ضرب من الناس لا تجدي معه المواعظ الدينية، ولا تستدرّ الكلمات الروحية عاطفته، ولا دمعَه، قسا قلبه حتى لم يعد تجدي معه الكلمات ...وفي هذا أذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :"فواللَّهِ ما الفقرَ أخشَى عليكم، ولكن أخشَى عليكم أن تُبسَطَ عليكمُ الدُّنْيا، كما بُسِطَتْ علَى مَن كان قبلكم، فَتَنافَسوها كما تَنافَسوها، وتُلْهيَكُم كما ألهَتْهُمْ" -صحيح البخاري-
وعن ذلك يعبّر الندوي :
------------------
"أشد العقبات التي واجهها الأنبياء والدعاة الدينيون , واصطدمت بها خطبهم ومواعظهم ودعوتهم , هم أولئك الذين حرموا الحاسة الدينية أو فقدوها بتاتًا , والذين تحجرت قلوبهم وماتت نفوسهم في مسألة الدين, والذين آلوا على أنفسهم أنهم لا يفكرون في أمر الدين وأمور الآخرة , ولا يلقون السمع لهذا الموضوع أصلاً , والذين لما سمعوا كلام النبي الذين تجيش له الصدور وتلين له الصخور , ما زادوا أن قالوا في صمم وإعراض : {إِنْ هِيَ إِلّاحَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } ولما انتهى النبي من كلامه السائغ المعقول الذي يفهمه الأطفال , والذين كان بلغتهم الفصيحة قالوا : { مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً }, {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } .
لاشك أن هذه الأسئلة كانت موضوع دراسة العلماء والمفكرين في فجر النهضة الأوربية الجديدة , واستمروا يبحثون فيها ويؤلفون ويتناقشون , ولكن كلما قطعت المدنية الأوربية شوطًا تخلفت هذه المباحث والأسئلة شوطًا ؛ ولما ظهرت خواص هذه المدنية الباطنة وتجلت هي في مظهرها المادي خفت - في ضجتها – هذا الصوت الذي كان ينبع من أعماق القلب وقرارة الضمير الإنساني الحي , ولا ينكر أن هذه الأسئلة تدرس في قسم الفلسفة وعلوم ما وراء الطبيعة في المدارس والمجامع العلمية والمكاتب العامة , ويتباحث فيها العلماء المتخصصون وتظهر لهم في هذا الموضوع تأليفات بين آونة وأخرى ؛ ولكن الذي لاشك فيه أنها فقدت سلطانها على القلوب والأفكار وامحت علامة الاستفهام الواضحة النيرة التي كان يراها كل إنسان عاقل فيقف أمامها كما تقف القطر أمام الإشارات , وأصبحت هذه الاستفسارات لا تحيك في صدر الإنسان ولا تشغله كما كانت تشغل آباءه وتحيك في صدوهم , ولم يكن ذلك عن إيمان وانشراح صدر وطمأنينة قلب واقتناع بحل صحيح وارتياح إلى نتيجة حاسمة . كلا ! لم يكن ذلك إلا لأن هذه الأسئلة قد فقدت أهميتها وأخلت مكانها لأسئلة مادية أهم في أعين أبناء القرنين التاسع عشر والعشرين منها , ولأن رجل العصر قد لزم الحياد التام في هذه المسائل وصرف النظر عنها , فلا عليه إن كانت بعد هذه الحياة حياة ثانية وكانت الجنة والنار والثواب والعقاب والنجاة والهلاك أو لم تكن , فلا يهمه شيء من ذلك لا سلبًا ولا إيجابًا , لأن شيئاً من ذلك لا يمس مسائلة اليومية أو في آخر الشهر , ولا يتصل بشخصه ولا يترك عاجلاً بآجل ولا يتكلف ما لا يعنيه فيترك هذه المباحث (( الفارغة )) يبحث فيها معلم الفلسفة في الجامعة ويفضي فيها برأيه المؤلف في هذه الموضوع . أما هو فهو رجل جد وعمل ، لا يعرف إلا حياة المصانع والإدارات وسير الماكينات ولا يهتم إلا بتسلية النفس وترويحها في آخر النهار والنوم الهادئ في آخر الليل والأجرة في آخر الأسبوع أو الراتب في أواخر الشهور وحساب الأرباح في أخر السنة وإعادة الصحة والشباب في آخر العمر وأما ما بعد الحياة فهو عنده مجهول ووهم من الأوهام : {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ } .
إن هذا الضرب من الناس لا يزال يزداد عدداً وأهمية في كل أمة وبلاد بتأثير الحضارة الغربية ، ذلك الضرب من الناس لم يترك واشتغالهم بالحياة الدنيا والعكوف عليها فراغاً لدعوة دينية ، وإن الذين يدعوهم إلى الدين والحياة الأخروية ليتحير معهم كما يتحير السندباد البحري – كما تروي لنا حكاية ألف ليلة وليلة – مع بيضة العنقاء ، ظنها السندباد البحري بناء من رخام فدار حولها عدة مرات ليبحث عن باب يدخل منه فلم يجد ، كذلك الداعي الديني يدور حول رؤوسهم فلا يجد منفذاً يدخل منه إلى عقولهم ، ويدخل به دعوته الدينية إلى نفوسهم ، فقد أقفلت الحياة المادية ومسائلها جميع أبوابها وسدت جميع نوافذ فكرهم .
وكما أن رجلاً لم يحظ من الفطرة بالذوق الأدبي ، يسمع الألحان الجميلة والأبيات الرقيقة فلا يعدها إلا أصواتاً لا فن فيها ، كذلك الذي حرم الحاسة الدينية لا تؤثر فيه دعوة الأنبياء وخطب الوعاظ ، وحكمة العلماء وأمثال الصحف السماوية ، وتضيع فيه بلاغة البلغاء وإخلاص المخلصين ، ويصبح كل ذلك صيحة في واد ونفخة في رماد :
لقد أسمعت لو ناديت حياً *** ولكن لا حياة لمن تنادي
والذي مني بهذا الضرب من الناس يفهم السر في قوله تعالى : {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } ، {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } وتظهر له حقيقة قوله : {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ولم يلق في شرحها وتعليلها ما لقيه المفسرون الذين لم يشاهدوا هذا النوع من صعوبة .
داء هذا العصر الذي لا ينجح فيه الدواء ولا يؤثر فيه العلاج هو الاستغناء التام عن الدين ، ولم يلق رجال الدعوة الدينية من العنت والشدة في أحط أدوار الفسق والفجور وفي أحلك عهود المعصية والغفلة ، ما يلاقونه في دعوة هؤلاء الذين لزموا الإعراض التام في هذه المسائل ( الكلامية ) فلا تعنيهم سلباً ولا إيجاباً {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } .
وقد فطن لهذا الفرق الجوهري بين النفسية القديمة والجديدة أحد كبار معلمي الفلسفة وعلم النفس في إحدى جامعات أوربا الكبرى وشرحه في عبارة وجيزة . قال س م جود :
(( ثارت في قديم الزمن شكوك واعتراضات وأسئلة واستفسارات حول الدين ، لم يطمئن بعض أصحابها ولم يرتاحوا إلى جواب مقنع ، ولكن مما يمتاز به هذا الجيل أنه لا تزعجه الأسئلة رأساً ، ولا تحيك في صدره ولا تنشأ في هذا العصر أصلاً )) ."