أم مريم... مريم التي تبلغ من العمر ثمان سنوات ...
من الناس من يضعهم الله تعالى في دربك، وتتأمل فكأنما معرفتك بهم قديمة وسابقة لموعد اللقاء الأول .... وتتأمل مقادير الله تعالى لترى كم أنّ شيئا ينقلك إلى شيء، وتتأمل فتنبهر بمشيئته سبحانه وبإمضائه أمره، وكيف يلاقي عبده بعبده، وكيف يعرّف عبده بعبده، ربما بطريقة بسيطة لا نلقي لها بالا ... ربما منها تبدأ قصة أخوة في الله قوية عُراها ...
أم مريم ... كانت تحيا في الدنيا وهي عنها غائبة .... كانت أما وهي عن أمومتها ذاهلة .... كانت متزوجة وهي مع زوجها وبيتها الحاضرة الغائبة ....
حملت بوليدها الأول الذي يكبر مريم، ولم يلبث أن مرض ومات، في خلال خمسة عشر يوما، خرج للدنيا ضجيعُ أحشائها ليعيش خمسة عشر يوما، ويرحل عنها ...يرحل عنها مخلّفا ألما عميقا وجرحا يبدو أنه حتى الساعة لم يندمل،كلما ذكرته فحنّت إليه وإلى وجهه الحبيب فبكتْ ... ولو أنّ أم مريم اليوم هي غيرها أمس ....
ورزقها الله بمريم ... ويشاء سبحانه أن يبتليها فيها ابتلاء... فقد أصيبت بمرض التهاب السحايا، وأضيبت بحمى المرض، فقدت على إثرها النطق، وفقدت السيطرة على حركة قويمة لكل أعضائها، نعم مشت ولكن مشت متأخرة، ومشيتها مترنّحة إلى حد بعيد ...
لا تستطيع التحكم بلعابها، وتراها وهي التي تبدو دائمة الإنهاك، ضعيفة هزيلة .... لا تقوى على التركيز، ولا على الحركة الطبيعية، ولا على فعل أشياء الحياة العادية اليومية كسائر الأطفال،إضافة إلى فقدانها النطق بطريقة شبه كلية .....
وأم مريم، يبتليها الله تعالى مع الابتلاء، بالابتلاء، هكذا هي مشيئة الله فيها .... فتحمل مرة أخرى، وتسقط .... ثم تحمل مرة أخرى وتسقط، وتحمل مرة أخرى وتسقط وهي على أبواب شهرها التاسع ....
وتبدّلت أم مريم، وسيطرت عليها الهواجس، وزاد محيطها من نساء العائلة ورجالها الطين بلا ....
وناءت نفسها بحِمل ما أصبحت تسمع أذنها بين غدو لها ورواح...من مشرق الأهل ومغربهم ....
من نساء متبجحات لا يراعين في مصاب مُبتلى إلاّ ولا ذمة .... من زوج تذهب به الوسوسات الإنسيّة كل مذهب...
ويجد الشيطان اللعين ساحته ليلعب، ليفرق بين المرء وزوجه ... ليرتع فيجتهد ليحقق غاية مُناه .... فيؤجج كل شرَر للصراع، ويذكّي نار كل فتنة، ويلهب سُعار التفرقة ....
فهذا أب لزوجها يُذكّره أنّ من بنات العائلة من يتمنّين أن يكنّ له زوجات .... وأنه ليس بمحتّم عليه أن يقضي شبابه مع امرأة لا يصلح لها ولا معها من الأمر شيء !!! وكأن الأمر بيدها فإن شاءت أصلحت وإن شاءت أفسدت، وإن شاءت أبقت من شاءت حيا، وأقبرت من أقبرت ...!!
وهذه بنت العمّ النديدة،وبنت الخال، وقريبة الزوج والتي لها من العيال اثنان، والتي لها منهم أربعة، والتي لها منهم ثلاثة ... ها هي ترى نفسها التي فعلت والتي أحيت، والتي أسبلت السّتر على أولادها فهم في أحسن حال، وها هي ذي تمطّ شفاهها، وتتمطى وتُبرِّقُ بصرها بأم مريم، و تجعل من الحيرة موضوعها، فتلقمها كلمات من حجر، ليس مستقرها ومستودعها إلا قلب أم مريم المكلوم ....!!
وكأن القلب موطن للسهام والرماح والحجر ... وكأنه مقبرة تلك الأسلحة كما بات مقبرة حياتها التي تلبس مسوح الحياة ....!!
نعم في ديار الإسلام هذا اللافِكر واللاإيمان يُحدث الصدوع والشقوق، هؤلاء أهل الإسلام في دياره يتركون للخرافة ولأهواء النفس، وللسخط على إرادة الله تعالى مندوحة وفرصا عظيمة تتيح للشيطان العمل .....وأية إتاحة !!
وأصبحت أم مريم، تأخذها الكلمات فتهوي بها في مكان سحيق، وتُرديها صريعة الشقاق، والاهتزازات النفسية الكبيرة ....والحياة في ظلّ جمع الكلمات المسيئة الجارحة بعضها إلى بعض...
تراكمت عليها أكوامها .... وأثقلها رُكامُها .... وأظلمت نفسها من ضعف نفسها، ومن تكالب المحيطين بها عليها ...فما تكاد تفيق من صدمة حتى ترديها الصدمة الأخرى، وتطوّح بها ذات اليمين وذات الشمال ....وتهزّها هزّ الريح لريشة ....
لم تعد تتحكم بأعصابها، بل باتت أعصابها الحاكم والحَكَم .... وأصبحت تغضب لأتفه سبب، والدموع سلاحها المُشهَر الأول .... والصراخ والعويل...
وضاقت عليها الدنيا بما رحبت .... وهي لا تجد في زوجها المعين ولا الظهير، ولا تجد من نفسها القوة التي تأخذها بها إلى حيث الخلاص، إلى الملجأ الآمن، إلى حيث الراحة من كل تعب ونَصَب... والدعة من كل سَورة وغضب ....
لم تحملها نفسها إلى حيث الأمان والاطمئنان....إلى حيث القوة من بعد الضعف.... بل لقد أصبحت -وهي التي لا تصدّق بالخرافة-، تصدّق بالخرافة، وكأن التي بين جنبَيْها نفس أخرى، غير نفسها، ويكأن النفس المكلومة المجروحة المهمومة، لا تعود تعرف كيف تؤوب للحق، ولا للعقل، لا تعود تقوى على الصمود...
لقد همسوا إليها بكلمات أنها مسحورة، وجهروا لها بها، وأسروا بها لها إسرارا ....!!
بكل الطرق قد أوصلوها إليها، ولم تكن تصدّق هي ذاتها أنها ستعرف من نفسها ترحيبا بكلامهم بمثل ما عرفت فيها ....
يبدو أن النفس العليلة التي لم تعد تعرف طريق اطمئنانها وسكينتها، مع ضعفها مع خوفها تصبح فريسة للخرافة والأوهام .....
تصبح الصيد السهل الذي تناله الأوهام من مرة ....
ورحبت بكلامهم، وصدّقت .... وذهبت إلى حيث أشاروا عليها أن تذهب ...إلى ذاك الذي يُذهب السحر، والعين..
-آخ يا بنيتي إن من فعل فيك فعلته فعلها وهو العالم بالمآل منها ... آخ لقد أهلكوكِ ... ولكن معي، لا تحزني، هذه وُرَيقات عليك بها، وهذه... وهذه ...
وإلى الآخر الذي ييسّر على معسر .... فيعين امرأة تسقط فتمسك ..... يذهب سحر الرّحِم.... نعم إن للرحِم لسحرا ... يذهبه هذا المبطل ....!!
لقد سئمت من الأطباء وأدويتهم، لم تعد تجد في دوائهم من جدوى، ولا من منفعة .... إنها في حال عسِر بين ما هي فيه من ابتلاء وما يحيط بها من تهويل مهوّل وسخط ساخط، ونقمة ناقم، ولقْم لاقمٍ لا يلقم إلا بالحجر .....!
ومريم ؟؟؟ أين مريم من كل الحكاية ؟!! أين الأم التي تعتني بها حقّ العناية، أين العين التي تحرسها، وتتبعها، وتقوّيها وهي الضعيفة، وتؤنسها وهي الوحيدة .... وتذهب وحشتها وهي التي ينظر لها الكل بعين الشفقة أو الحيرة، أو الحيرة أو الشفقة، وكأنها كلها تنبيها أنّ عينا واحدة بين كل الأعين تعرف كيف تنظر إليها .... ولكن هيهات هيهات أن تنظر إليها .....
أين أم مريم في حياة مريم ؟؟؟
لم يعد هناك ما يؤهل أم مريم لتمدّ ابنتها الضعيفة المريضة بقوة، وفاقد الشيئ كيف يعطيه ؟!!
ويشاء الله عزّ وجلّ في عُلاه أن يسوق أم مريم إليه .... إلى كنفه ... إلى رحابه .... إلى دوائه ....
يشاء الله سبحانه، وهو الرحيم ألا يتركها، هي التي تفصح عن هذا وهي اليوم تبكي، تبكي نعم، ولكن ليس ككل بكائها أمس، ولا كعادة بكائها أمس، تبكي اليوم....تبكي، تجهش بالبكاء..... وليت شعري ... ما أبعد بكاء عن بكاء ....! تجهش، تشهق، تغلبها الشهقة مع بكائها... ولكنها تغالب وتحكي، تغالب وتفصح، تغالب وهي القوية القوية وتحكي .......وتحكي
تبكي وهي السعيدة، وهي المطمئنة، وهي التي ترى نفسها تطير وتحلّق ... ولا ترى نفسها تهوي وتغرق .......
نعم هي ذي أم مريم اليوم .....اليوم هي الأقوى ... هي التي تبكي وهي تقول: لقد كنت أرى مريم مثلها مثل كرسي في البيت، لا أراها تصلح للحياة، لا أراها إلا جمادا، إلا كائنا لا ينفعه أن أعتني به، لم أكن أشعر بوجودها، لم أكن آمل أن يتحسن حالها... أن تتبدّل ....لم أكن ألتفت إليها من بعد رحلات تعجّ بالعذاب والآلام والجراح والأوهام ... من بعد سقطات تهدينيها الحياة، تترا، الواحدة تلو الأخرى، لا تتأخر الواحدة فيها عن أختها .... تهدينيها في ساعات يقظتي كما في ساعات منامي، في ساعات الشمس الحارقة كما في ساعات البرد القارس ... في كل ساعة ....في كل ساعة...
أم مريم اليوم، التفتت لمريم، ونفضت قلبها من أتربة الآلام، أخذتها لطبيب يتابعها، طبيب نفساني، يتابع حالتها عن كثب، هي اليوم تسافر أسبوعيا لتأخذ مريومة للطبيب، تطبق معها برنامجا يمدّها به.
هي اليوم لا تقتنع أن تكون مريم في صف مدرسي مع أتراب لها، تشفق عليها المعلمة فتقبلها بينهم، وتشفق عليها فتسهّل تمريرها للصف الموالي في العام الموالي، لا لتتابع الدروس وتستوعب، وتنجح، لا بل لتساعدها نفسانيا على المخالطة ولتهيئ لها أنها المقبولة بين أترابها ....
لم تعد أم مريم تقتنع بذلك، لم تعد تسعى لأن تتعلم مريم ما لا تقدر عليه كما يقدر عليه أترابها، لم تعد تريد أن تغصبها على الفهم، لم تعد تقتنع بأن تضغط عليها لتكتب كلمة تكوّنها من مجموعة حروف صغيرة .... لم يعد ذلك مسعاها ...
لقد تنوّرت أم مريم، لقد اقتنعت أن عليها قطع شوط كبير، والمرور بمرحلة صعبة من التدريبات والبرامج التلقينية على تحسين مدارك مريم وفق برنامج علميّ مسطر، تحسين مداركها لتعيش حياتها أولا، لتفهم أبجديات الحياة أولا قبل أن تبحث عن تمدرسها في صفّ أول وثان، فمريم هذه حقيقتهان والاعتراف بحقيقة حالها هو الطريق للعلاج ....
لقد أصبحت صديقة لمريم ... أصبحت تكرّس جلّ يومها، إن لم يكن كله لها، تدرب لسانها على النطق بتمارين خاصة يمدها بها الطبيب .....
تحاورها، تأخذ وتعطي معها، تحكي لها .... تسمع لها، تراقب تعاملاتها، تراقب تطور حالتها .....، تضحك من فراستها حينا، وتفرح بنموّ ذكائها حينا آخر ....
لم تعد تيأس .... لم تعد تلقي بالا لما كانت من قبل تلقي له كل بالها .... لقد قررت أن تهتم بمريم، لقد أصبحت ترى بعين جديدة، من زاوية جديدة، من منطقة مضيئة جديدة لم تكن من قبل تعرف الإطلال منها ....
إنها اليوم سعيدة .... سعيدة بمريم وقد أصبحت تسيطر أخيرا على لعابها ... فتغلبه ولا تترك له الغلبة عليها..
لقد أصبحت سعيدة بمريم التي أصبحت تضحك وتفهم، وتستنتج .... لم تكن مريم من قبل قادرة على الاستنتاج .... هكذا قال لها الطبيب، أخبرها أن مريم ذات السنوات الثمان عقلها عقل ذوي الأربع ....
عقلها لا يحسن الاستنتاج وإعطاء الخلاصة .......
ولكنها اليوم تستنتج .... ولكنها اليوم، تدقق الملاحظة، وتحكي ما لاحظت، وتعطي خلاصتها ..... نعم مريم اليوم تنجح
تجهش أم مريم باكية وهي تقول : لم أكن أرى مريم إلا شيئا بين الأشياء .... لم أكن أرى الرحمة المهداة لي من الرحمان الرحيم في مريم .... مريم اليوم كل حياتي، مريم بها ومعها تعلمت كيف ألجأ لربي .... تعلمت كيف أجد ملجئي .... مريم بها وجدت ربي .... بها وجدت ربي .....
مريم بها أحببت ساعة الفجر، وصرت أقوم لأصليه .... كم كنت قبلها غافلة عن تلك الساعة الأثيرة .... كم كنت قبلها في غفلة ..... كم كنت أندب الحظ والأيام .... كم كنت لا أفهم معنى الابتلاء ....
كم كنت عمياء عن رحمة الله بي بمريم، كم غفلت عن حكمته من أخذه كل من حملت في أحشائي، وإبقائه لي مريم .... يااااااه كنت أبكي خيرا يعمّني
كم تعست ذات يوم وأنا وزوجي عائدان من عند الطبيب وقد أخبرني أن عقل مريم عقل الأربع سنوات .... كم اسودت الدنيا في ناظري وحلكت وأنا أناجي ربي باكية في طريق العودة ..... أن يا ربي أتراه غضبك مني؟ أتراه سخطك علي؟ أتراه بعدي عنك ؟؟؟
إني أرى مريم اليوم زورقا جمييييلا جمييييلا يأخذني لدنياي الجميلة ... لدنياي البهيّة .... أراها زورقا ينتشلني من الغرق .....ليأخذني إلى ربي .....
تقول : ياااه كم كان لمن آذاني من فضل .......... فلقد خلت الدنيا أمامي ولم أعد أجد لي ظهيرا، فطفقت أبحث عن ربي ...... حتى وجدت ربي .....
إنني سعيدة .....سعيدة وقد وجدت ربي ....
سألته سبحانه باكية: إلهي أرني آية تؤنسني بها أنك عني غير غضبان، غير غضبان عني يا ربي وقد أخذتني الأوهام وضعف نفسي إلى غيرك في ساعة شدتي وبلائي أبحث عندهم عن شفائي ....
وأراه اليوم يرينيها في مريم ....اليوم وقد عدت من عند الطبيب وهو متعجب مستغرب يلتفت إلي ليسألني : سيدتي أخبريني بالله عليك .... ماذا فعلتِ لمريم ؟؟ إنها معجزة في مقياس الطب، أن تتطور حالتها خلال ثمانية شهور بهذا الشكل المذهل ....!!
إنني وكل سنوات خبرتي وعملي أقف عاجزا أمام تفسير ما آلت إليه حال مريم في وقت قياسي .... إن الدواء الذي وصفته لها وإن أعطيتها منه أضعافا لم يكن ليكون السبب ....!!
أخبريني بالله عليك ..... إن تطورها يعجزني يذهلني ....!!
ساعتها غلبتني دموع فرحتي، ولكنني ما غفلت عن إجابته ..... : إنه الله يا دكتور، إنها إرادته، إنها يده، إنه كرمه .....
نعم قد أجابني ربي .... أشعر أنه استجاب دعائي وأنا الضعيفة، أشعر أنه أسعدني سبحانه، وبيّن لي أنه عني غير غضبان، أنه يقبلني في رحابه .....
قال الطبيب: اليوم مريم هي في سنها، نعم إن مريم اليوم بعد شهور ثمانية بنت ثمان سنوات ......
ياااااه يالكرمك يا الله ....!! حينما سمعت مقالة التي حكت عن عبد الله بن الزبير، ابن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم ....حينما سمعتها تقول أنه الذي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنوات، وبايعه الرسول صلى الله عليه وسلم مبتسما.... عندها كم تمنيت لو أن الله سبحانه يمنّ عليّ فأعلم مريم الصلاة، كما يعلَّمَ الصلاةَ أبناء السبع ....!! كم رجوتها من الله في قلبي، وأنا أعلم أن مريم عقلها عقل ذي السنوات الأربع .....
في الأسوبع ذاته .... أزور الطبيب ليخبرني أن مريم تبلغ اليوم من العمر ثمان سنوات ........... يااااااه يا الله كم عظيم هو كرمك .... ليكوننّ أول ما أفعله فور خروجي من عند الطبيب شراء لبس الصلاة لمريم ... أسعد بها وهي إلى جانبي تصلي ....أعلمها ، فتقلدني ....
وأبو مريم اليوم .... إنه أبو مريم الذي أفاقت أم مريم فإذا لين معه، وصبر عليه وتقرّب منه قد بدّله هو الآخر ... وأصبح زوجها المحبّ الذي يعيش لمريم ولأم مريم .... هو اليوم يشاركها رحاب الله ....... نعم لقد أصبح لمريم من القوة ما أخذت به بيد زوجها إلى تلك الرحاب .... فهو اليوم معها رجل آخر ....
تعود فتقول : لقد وجدت ربي ....وجدت ربي ... وبإيجاد ربي، وجدت كل سعادتي ....