..في تلك الفترة كنت أشعر بحاجة ماسة لأمرين:
1- البدء بتربية نفسي
2- احياء قلبي من جديد بالذكر, من بعد قساوة أصابته
كنت أقرأ في الكتب الصوفية, وكنت أنظر حولي فأقول وأين أجد المُربي الذي يتكلمون عنه في هذه الكتب!
وكيف يصح أن يشرف على تربيتي رجل!
وكان لي صديقة مهتمة بالتصوف كذلك, وفي يوم كلمتني لتدعوني الى حلقة ذكر جماعي تقام في أحد البيوت, لأحد المتصوفة, فتحمست وذهبت معها..
الذكر بحد ذاته كان رائعاً فقط لأني كنت أحتاجه, ولكن الجو كان غريباً ومريباً..
كل الحاضرات كن من النساء والشيخ هو الرجل الوحيد بيننا!!
وكان في الجلسة المتحجبة والسافرة التي ترخي باهمال شالاً على رأسها..
ولما انتهت حلقة الذكر, اصطفت النساء أو كما أذكر مجموعة منهن, وبدأن يصافحن الشيخ ويقبلن يده
!!!!
انتهى أمر هذه الحلقة بالنسبة لي.. وبالنسبة لصديقتي!
وبعد مدة رجعت واتصلت بي لتخبرني عن "حضرة" تقام في.. زاوية, بعد صلاة الجمعة!
زاوية ..! هذا أمر جديد عليّ, ولكني كنت قرأت عن زوايا الصوفية من قبل, فقلت سأرى ما قصة هذه الزوايا, وما قصة "الحضرة".
ما أن وصلنا الى مشارف الحيّ, حتى تبدلت فجأة الوجوه في الشارع!!
رجال وفتيان وأطفال شقر وبيض (غربيو الملامح) ملتحون يلبسون اللباس العربي والباكستاتي, ويضعون العمائم والقلنصوات, وبينهم رجال بملامح عربية وأخرى باكستانية.. خليط عجيب!
وعلى طرف الشارع تمشي نساء منتقبات, ومعهن طفلات شقروات بملامح غربية.. هذي خديجة وتلك عائشة وأخرى سودة!!
أذكر بأن شعوري كان غريباً للغاية , شعرت كأني دخلت الى عالم موازٍ ..
نعم صحيح أن الملتحين والمنتقبات موجودون في بلدي, ولكن ليس بهذا الشكل "المرتب" غير المتوقع, وبهذا الكم في حيّ بذاته .!
أنا وصديقتي كنا نرتدي ملابس عادية, تنورة فضفاضة وقميص واسع, نظارات شمسية..
شكلنا كان شاذاً في ذلك المكان, ومن شدة حياء الرجال الذين مررنا بهم ، تمنيت أن تبتلعني الأرض وصديقتي
!
الزاوية فيها قسمين, واحد للرجال وآخر للنساء
دخلنا الى قسم النساء, حيث النساء المنتقبات.. أمريكيات, كنديات, أوروبيات, باكستنيات, مصريات, يمنيات.. وأعداد قليلة من الأردنيات, وفي القسم كان هناك رضيعات, وطفلات مع الأمهات.
جلسنا, وسمعنا الشيخ عبر مذياع الصوت يسلم على الجميع ويدعو الله, ثم بدأت "الحضرة"..
في وقت لاحق أشرح إن شاء الله ما تفاصيل "الحضرة" ,
وعامةً هي عبارة عن انشاد يقوم به منشدون رجال, يذاع صوتهم في قسم النساء, وتقف النساء في دائرة يمسكون بأيدي بعضهن , وكذلك الرجال في قسمهم , ويتحركون حركة خفيفة للأمام والخلف برؤوسهم, كمن يترنم بأنشودة.. هي أقرب للدبكة, وليست كذلك!!
لما سُئل الشيخ عن ماهية الحضرة, وهل هي ذكر أو عبادة , قال بأنه سأل شيخه من قبل ( شيخه اسمه عبد الرحمن الشاغوري, وهو شيخ سوري مُربي صوفي معروف) وأجابه بأن الحضرة هي ترفيه عن النفس يقومون به وهي ما يسمى في مصطلح الصوفية (بالسماع), وليست عبادة.
آنذاك لم أكن أهتم للرأي الشرعي في كثير من الأمور, فقط أردت أن أحيي قلبي, لذا لم أسأل, ولم أحاول أن أبحث في المسائل الخلافية بشأن الصوفية..
بعد انتهاء الحضرة, ألقى الشيخ درساً باللغة العربية ( يقوم بترجمته للانجليزية للغربيين في اليوم التالي كما عرفت), ثم وقف الجميع وسلموا على بعضهم البعض, وتواصلوا قليلاً, ثم راح كل في طريقه..
تعرفت وقتها الى زوجة الشيخ وهي ألبانية مسلمة, وبعدها عرفت بأن الشيخ أمريكي كان نصرانياً وله رحلة بحث في الأديان والفلسفات قادته الى الاسلام بفضل الله تعالى , وقد أسلم في مصر, ثم جاء الى الأردن, وبعدها رحل الى سوريا وتعرف بالشيخ عبد الرحمن الشاغوري رحمه الله, وهناك "أخذ الطريق" وأصبح "مُريدا" للشيخ عبد الرحمن, ولكنه رجع وأقام في الأردن بناء على نصيحة الشيخ له, وبدأ في التفقه في الدين بشكل أعمق, وفي الاشتغال على نفسه ومراقبتها, وزيارة الشيخ عبد الرحمن شهرياً, وعمل كمدرس لغة انجليزية لينفق على نفسه, وبعد فترة بدأ يترجم كتاب عمدة السالك, وقد أخذ منه الوقت الكثير, لانه لم يكن متفرغاً بسبب عمله.. وتزوج .. ثم بعد سنوات أجازه الشيخ عبد الرحمن في التسليك والتوجيه, وكان له اضافات في التربية أقرها شيخه قبل أن يتوفاه الله تعالى.
في ذلك اليوم بعد الحضرة, زرنا إحدى النساء الباكستانيات في بيتها في الحيّ..
وعجباً من تلك السكينة التي شعرنا بها في بيتها, لا تلفاز, لا ضجيج, فراش بسيط على الأرض, لا يوجد تحف فنية, ولكن أشياء بسيطة جداً.. والبيت مرتب ونظيف..
هناك شرحت لنا هذه الأخت أكثر عن برنامج الزاوية وفعالياتها..
لم أكن أفكر إن كنتُ أريد أن "آخذ الطريق", ولم أكن أعرف ماذا يعني بالضبط هذا الأمر, لكني فهمت أكثر عندما زرت إحدى "المريدات" (امرأة كبيرة في السن أمريكية أسلمت هي وأحد أبنائها من سنوات وأخذت الطريق وأتت لتعيش في الحيّ)..
في المداخلة القادمة إن شاء الله أشرح لكم "برنامج الزاوية" , وتبعات "أخذ الطريق", وكما قلت لكم, اصبروا, فما قد تظنونه غير مهم لما تريدون معرفته, ستتضح لكم إن شاء الله أهميته لاحقاً..