هل كان يوماً جديداً ؟ ربما.. كثيرةُ هي الأيام الجديدة , لكن كلها تضن علينا بأي جديد , كل جديدِ كالقديم , و كل موجودٍ كالفاني ..
نظرت إليه و هو يُحضر نفسه في عجل , يجمع المحفظة و القداحة و المفاتيح .. يضبط نفسه و هيئته .. وأنا اقف هناك أمام باب الغرفة كما يقف الشيء , أحد عشر سنة مرت و انا أقف علي هذا الباب أرقبه و كأنني أنتظره أن يقول شيئاً , أو انتظر أن يوحي إليّ واحٌ أن أجد عادة غيرها ..
ربما التقط بضعة كيلوات من هنا و هناك , ربما نمت لحيته يوماً ما , ربما تطايرت بعض الشعيرات في ساعة من عُمر, ربما نُحِت على جميل خلقته خطين أو ثلاث ..
أحد عشرة سنة و أنا هناك أرقبه , و أرقب حركاته كأنها المرة الاولى , احفظ كيف يلقي بالمفاتيح لأعلى و يلتقطها ثم يُسرع لهاتفه ينزعه من الشاحن , و يدسه في جيبه .. و هو الآن علي وشك أن يرتدي جوربه وهو واقف كأي رشيق ..كيف يزدرد الشاي إزدرادا ..كيف لم يتوقف يوماً عن أسري ..
لا أذكر متى بدأت تلك الفجوة بفرض نفسها بيننا . متى صرت أقف علي الباب دون أن اتفوه , ودون أن يلقيني بنظرة واحدة . ربما لو ألقاها لشفت السقم فيما بيننا ..
لا اذكر متي بِتّ اقف أمام المرآة فادرك أنني قطعت شوطاً كبيراً منذ اول مرة ضخ قلبي دفعة الدم الاولى و كيف صرخت الصرخة الاولى .. بعدها ضخ قلبي كثيراً , لكن اثنتان فقط هما الفارقتان, لكن الاولى كانت لتعلن أنني صرت أخيراً بشراً ..و الثانية عندما سمعتهم يصخبون بالدعاء الشهير " بارك الله لهما .." ..
أنت تعرف أنه رآني في الجامعة , و قد احبّ كلانا بعضنا البعض في صمت طويل مُزر ..حتي وجدت نفسي أجلس أمام " المُحلل " يخبرونني بشكل ما أنني صرت زوجته ..
و تعرف ايضاً أن السنين مرت و مرت ..و أن أمه و جاراتها سألنني كثيراً عن " أي جديد " ..و تعلم أنني فُنيت حقناً و تلقيحاً ..و تعلم أنني شربت أنهاراً من العسل و حبة البركة .. و أنني زُرت شيوخاً و شيوخاً زاروني .. و أنني لمّا علمت أن العيب مني , غِبت لدقائق في عالم أسود من اللا عالم و اللا هم و اللا أنا ..سنتين , أنا عقيم .. ثلاث , العيب مني.. خمس , طلقّني يا عزيزي و تزوج غيري و انا راضية .. سِت , أنا متمسكٌ بك , لا اريد اولاداً ..سبع , من حق ابني ان يتزوج .. ثمان , أنتِ ارض بور و فانية .. تسع , لكنني أحبها يا زوجتي , و هي يتيمة .. عشر , سيكون ابني كابنك بالضبط .. أحد عشر , "لماذا تقفين هناك هكذا يا عزيزتي ؟"
كان هذا هو صوته الدافيء , منذ 11 سنة و هو يسألني نفس السؤال بنفس الصيغة , لم أقف هناك هكذا ..
و أنا لا اعرف لماذا اقف هناك هكذا , لكنني أحب هذا , كأنني أراه للمرة الاخيرة .. تمنيت كل يوم أن تكون هي المرة الاخيرة التي أراه و يراني .. أن يندم عليّ بعدها , أن يعرف كم تمنيت أن يكون اهتمامه اكثر من مجرد سؤال ..و لكنه لم يعتد سوى أن يسأل , سوى أن ينظر من بعيد , ألا يكلف نفسه عذاب سماع غيره .. لربما لي نصيب من الذنب هنا , فأنا ايضاً واسعة الشكوى ..عريضة التذمر , كثيرة البكاء ساعةً , كثيرة التباكي قروناً ..
و أجل , كلما حاول هو أو حاولت أنا أن أسافر معه إلى ساحة حوار بلا بكاء أو صراخ أو إتهامات , فشلت .. فشلت فشل الضرير في إحصاء الكواكب و النجوم ..و أحياناً اتعامل مع غيرتي , أنها أرض ملغمة , من حقي أنا أن ازرع الالغام و أن اتعلل بها , و ليس من حق أحد ان يسألني " لم كل هذا؟ " و لا أن يحاول تغيير ذهني عنها .. كل أحتكاك من ناحيته لأي انثي غيري ستكون لعنة عليه حتي يطوي الله بساط الكون ..و لم تلومونني ؟ و أنا زوجته ..لماذا أدفع أنا كل شيء , و هو ينتهز غيرتي من أجل أن يبتكر مواقف تفسد علينا حياتنا ..يجب أن أكون أنا سيدة الرجل الاولى ! .. أنا لست معيبة , الله خلقني لا أنجب .. فهل تودون قتلي الآن !
" لماذا تقفين هكذا هناك يا عزيزتي ؟ "
لا أدري ..
..