اليوم تكمل أمي في رُقادها ثلاثاً .. ثلاث سنوات , أو قل ثلاثة قرون
لا ادري من أين يمكن للمرء أن يبدأ إذا أحب أن يتحدث عن أمر يتعمد إخفائه و تناسيه قدر جهده ..
أنا فقط أردتُ أن أخبركِ أنهم كانوا جميعاً كاذبون ..
عندما كنت أسألهم عنكِ, كانوا يخبرونني أنكِ بخير جداً و ستعودين قريباً ..كلهم كانوا كاذبون ..حتى يوم عودتكِ الذي لم يكن يوم عودة أبداً اخبروني أن ارتب لكِ غرفتكِ لأنكِ قادمة و أنكِ قد تحسّنتِ كثيراً .. هرعتُ أرتب المكان ..
حتى تأخرتِ كثيراً .. تأخرتِ كثيراً جداً يا أمي و سيدتي .. أكثر مما ينبغي لكِ ..
علمت أنك ستتأخرين عندما فضحت أختي لون عينيها .. عندما سمعت اطراف حديث الهاتف الذي تم بينها وبين خالي ..
علمت عندما سألتها في بساطة .. عمّا إذا كنتِ ستتأخرين للغد , علمت حينما طلبت مني أن اجلس و اخبرتني و هي تتحاشى عينيّ : ماما إتوفّت ..
و انتِ تعلمين أنني ضحكت .. و خرجت أصب لنفسي كوباً من الصودا , و جاء ابي يومها مع عمتي و احتواني بذراعيه و قبّلني في جبهتي ..
و تعلمين أنني لم أبكِ قط ..علام أصلاً؟ ..
و تعلمين أنني كنت أنتظركِ كل يوم .. و أرتب لكِ سريرك الذي كنت تعتادين علي النوم فيه ..
و أنني أفتح كل يوم صوركِ .. فأقبلّها , و اتمنى من الله ألا يطول الامر أكثر من هذا ..
و أنني اذكر آخر كلمة قلتها لي , كانت دعوتك بأن يكرمني الله و أن يرضى عني ..
و تعلمين أنني اعلم أن ذهابكِ لم يكن خيراً لي .. بل لكِ .. لأنني أسوأ و أضل إبنة يمكن أن يحصل عليها أحد ..
و أن حياتي من دونكِ تنقصها حياة ..
و أنني اتمني ان يذهب لكِ خير ما اعمل .. و ان يبلغكِ الله أنني - و إن بدا لكِ يوماً غير ذلك - أحبكِ و أتمني أن يرضيكِ عني ..
و أتمني كذلك أن يُعلمك أن كل حرف احفظه من قرآن او حديث أو علم .. وكل قطرة عرق من ارهاق و جهد ..و أن كل همسة في دعاء او صلاة .. فهي لأجلكِ و بأسمكِ ..
و تعلمين أنني لا املك كنوز قارون و لا مُلك كسرى .. ولا املك مالاً في جيبي , ولا ذهباً في علبتي .. لكنني أملكني , و أنا صدقتكِ الجارية .. شري لي .. وخيري لكِ ..
و تعلمين أنني اصلي لكِ في كل صلاة .. و أنني استسمحكِ علي كل شيء .. كل شيء يا حبيبتي ..اعذريني .. جهلتكِ , ألا عفواً ..
و أراكِ في كل ركن و تفصيل , أسمعكِ دائماً و بلا انقطاع .. اذكر حديثنا المتكرر في الشرفة .. اذكر طعم خبزك و العصير الذي تصنعين .. و أحن إليهما .. و إليكِ
و تعلمين أن بيني و بينكِ أمراً من الذي اخذكِ لحضرته , و تعلمين أنني لا اسخط على ما قضى ولا ما أحب .. إنا عبادك فألطف بنا عن قضاءك ..
و أما و قد أخذكِ أنتِ التي كان يكرمني لأجلها .. أما و أنه أخذ نفساً من نفسي ..
فإني قد رضيت ..فهل تحسبينه رضى؟
لا اتخيل ..أنني يوماً قد أتخرج بدونك , أُزف و اُنجب ..دونكِ .. فأي نعيم بعدكِ يكون؟
يقولون أن الميت يشعر بأهله , هل تشعرين بي؟ ..هل تحسين حالي؟
اللهم لا اعتراض .. اللهم لا سخط .. غير أنه يارب .. صعبُ , و كثير ..جداً
ارفق بي !
يارب .. وقد خلفتني عنها مائة عوض , و قد رضيت و إن لم تخلفني عنها شيئا ..
---
قد نسيت , بالطبع نسيت ..
نسيت .. كيف كانت تناديني و تدللني و تنافشني
نسيت .. كيف كانت تخبز و أنا جوارها , فتنهرني .. ثم تعود تصالحني
نسيت ..كيف كانت تضحك , و تبسم .. و تصلي .. و تحب
نسيت .. كيف كانت أجمل من رأيت و عاشرت
نسيت .. كيف كانت تمازحني
نسيتُ ..كيف أسمعها تتألم و تبكي ولا املك سوى النظر ..و الابتعاد
نسيت ..كيف كانت - في آخر أيامها - و هي في غير وعيها .. تلف حجابها و تصلي ..
نسيت .. كيف كانت الاسعاف ضيف قائم عندنا
نسيت ..كيف كانت تنظر إليّ و هي تحتضر و تتبسم ..و تقول : بتحبيني يا حبيبتي؟
نسيت .. كيف كنت أحمق خلق الله , أنا أبغضني.. لا احسبني سأسامحني يوماً !
نسيت .. كيف كان يوم 29-4 منذ ثلاث سنوات
نسيت .. كيف قيل لي أن أخي الاكبر قد أسند رأسها علي فخذه و هي ميتة طوال ساعتين و نصف ..
بالطبع نسيت ..
على أنني اتمني أن تغفر لي , و تسامحيني
ان تعفِ عن كل الاشياء السيئة التي ارتكبتها بحقك , و ان تعفِ عن كل الاشياء الجميلة التي لم اصنعها و اغزلها لكِ
عن كل الايات و الاغنيات التي لم اتلوها عليكِ
عن كل الايام التي عشتها دون أن اقبلّك و اركع تحت قدميك
لم أقدمّ لكِ شيئاً يشفع لي في حياتك , فقط أعدكِ أنه يوماً ما ..سأمنحكِ كثيراً من الاعمال التي صنعتها على شرف وجودك في قلبي ..و تاجاً ستضاهينه جمالاً
فلله الحمد ما أخذ .. و له الشكر ما أعطى
و لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .. هو مولانا ..و عليه توكلنا
..
29-4-2013