قصة جميلة عن الرحلة في طلب الحديث
من القصص الجميلة التي تبين لنا بتفصيل أكثر معنى الرحلة لطلب العلم والتحقق من الحديث والتوثق من الخبر، القصة التالية، والتي ذكرها الخطيب البغدادي في كتابه (الرحلة في طلب الحديث) ص 66 ج 1 :"قال نصر بن حماد الوراق: كنا قعوداً على باب شعبة(1 ) نتذاكر، فقلت: ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر قال:
"كنا نتناوب رعية الإبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت ذات يوم والنبي حوله أصحابه، فسمعته يقول: « من توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى ركعتين فاستغفر الله إلا غفر له » فقلت: بخ بخ، فجذبني رجل من خلفي، فالتفت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: الذي قبل أحسن، فقلت: وما قال؟ قال: قال: «من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله قيل له ادخل من أي أبواب الجنة شئت » قال: فخرج شعبة، فلطمني ثم رجع فدخل،
(يعني خرج شعبة الشيخ الاستاذ، وقد سمعه يحدث بهذا الحديث فلطمه انكارا عليه وعلى هذا الحديث) فتنحيت من ناحية،
(يعني قعد على جنب زعلان ) قال: ثم خرج
(يعني شعبة) ، فقال: ماله يبكي بعد؟!!
فقال له عبد الله بن إدريس: إنك أسأت إليه،
فقال شعبة: انظر ما تحدث،
(يعني دقق في الحديث قبل ان تحدث به) إن أبا إسحاق حدثني بهذا الحديث عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر،
قال شعبة: فقلت لأبي إسحاق من عبد الله بن عطاء ؟ قال: فغضب
أبو إسحاق، ومسعر بن كدام حاضر،
قال شعبة: فقلت له: لتصححن لي هذا أو لأخرقن ما كتبت عنك،
(يعني قال لابي اسحاق انه اما ان يبين له سند الحديث ومدى دقته، والا فإنه سيشك في كل ما نقله عنه سابقا ويمزقه كله) فقال لي مسعر: عبد الله بن عطاء بمكة،
(يعني ابو اسحاق يقول ان عبد الله بن عطاء حدثه بهذا الحديث، وعبد الله موجود بمكة، فارجل اليه وتأكد منه بنفسك) قال شعبة: فرحلت إلى مكة، لم أرد الحج أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته
(اي عن هذا الحديث بالذات.. من اين سمعه؟) ،
فقال: سعد بن إبراهيم حدثني، فقال لي مالك بن أنس: سعد بالمدينة لم يحج العام،
قال شعبة: فرحلت إلى المدينة فلقيت سعد بن إبراهيم، فسألته فقال: الحديث من عندكم، زياد بن مخراق حدثني،
قال شعبة: فلما ذكر زياداً قلت: أي شيء هذا الحديث؟ بينما هو كوفي إذ صار مدنيا إذ صار بصرياً؟
قال: فرحلت إلى البصرة، فلقيت زياد بن مخراق، فسألته، فقال: ليس هو من بابتك،
(اي ليس من النوع الذي تبتغيه) قلت: حدثني به، قال: لا تُرِدْه، قلت: حدثني به، قال: حدثني شهر بن حوشب، عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال شعبة: فلما ذكر شهر بن حوشب، قلت: دمِّر على هذا الحديث،
(أي امحُ هذا الحديث ولا تكتبه) لو صح لي مثل هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحب إلي من أهلي ومالي والناس أجمعين.
(أي أن معنى الحديث جميل ومبشر جدا، ولو بلغني بطريق صحيح وتأكدت ان الرسول قاله فعلا لفرحت به جدا وكان احب الي من اهل ومالي.. لكنه ليس صحيحا ولا يجوز ان نحدث به) فهذه القصة تبين لنا المشاق التي تكبدها شعبة من أجل التحقيق في حديث واحد، والتأكد من صحة نسبته إلى الرسول ، فسافر لمكة في موسم الحج، ثم المدينة ثم عاد للبصرة حتى تبين له أنه ليس بصحيح.
وقد رفض شعبة الحديث لأنه تبين له التدليس فيه، وأن في سنده انقطاعا وضعفاً واضطراباً، فالحديث صعد في إسناده ثم نزل، فهو بهذا مضطرب الإسناد.
فقد كان الإسناد في البداية كما سمعه أول مرة: (عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني). وهذا إسناد عال متصل، فيه ثلاثة من الرواة فقط.
وبعد البحث والرحلة للتحقيق في سند هذا الحديث والتحقق منه، أصبح إسناده هكذا:
(عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن عطاء، عن سعد بن إبراهيم، عن زياد بن مخراق، عن شهر بن حوشب، عن أبي ريحانة)
فإسناده مضطرب منقطع، فالإسناد دار في حلقة دون الوصول إلى نهاية، ولم يتصل إلى صحابي فضلاً عن اتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى أن الإسناد الحقيقي الذي اكتشفه شعبة -رحمه الله- فيه كثير من الضعفاء وسيئي الحفظ، فدراسة الإسناد تبين لنا التالي:
- أبو إسحاق السبيعي: اختلط بآخره، وقال شعبة وكان أبو إسحاق إذا اخبرني عن رجل قلت له هذا أكبر منك؟ فإن قال نعم علمت أنه لقى وإن قال أنا أكبر منه تركته.(ع )
- عبد الله بن عطاء: صدوق يخطىء ويدلس، وهو شيخ أبي إسحاق وإن كان أصغر منه عمراً، ولأنه أصغر منه، لا يمكن أن يكون قد أدرك عقبة وسمع منه، ومن هنا بدأ الشك عند شعبة.
- سعد بن إبراهيم: كان ثقة فاضلا عابدا
- زياد بن مخراق: زياد بن مخراق: ثقة
- شهر بن حوشب: صدوق كثير الإرسال والأوهام، روى عن عدد من الصحابة ولم يرو عن عقبة بن عامر، وضعفه بعض العلماء كشعبة.
- أبو ريحانة: صدوق، تغير بآخره، لم يرو عن عقبة بن عامر.
ولعل هذه القصة قد أعطتنا مثالاً عن الجهود المضنية، والدقة المتناهية التي كان يلتزمها علماء الأحاديث الثقات في تمحيص الأخبار. (2)
________________________________________________
( 1) شعبة بن الحجاج بن الورد، الإمام الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث، عالم أهل البصرة وشيخها، وكان من أوعية العلم، لا يتقدمه أحد في الحديث في زمانه، وهو من نظراء الأوزاعي ومعمر والثوري في الكثرة. قال علي بن المديني : له نحو من ألفي حديث، ولد سنة ثمانين في دولة عبد الملك بن مروان، روى عنه عالم عظيم، وانتشر حديثه في الآفاق .وقال الشافعي: لولا شعبة لما عرف الحديث بالعراق.
(2) الحديث نفسه روي من طرق أخرى صحيحة، وبألفاظ مقاربة، فحكم عليه المحدثون بأنه صحيح بمجموع طرقه.. لكن حكم شعبة كان على ذلك الطريق بالذات وهو الطريق الذي بلغه من الحديث.