الدرس المستفاد من الآيات بإجمال:
هذه تجربة في حياة بني إسرائيل من بعد موسى . . بعدما ضاع ملكهم , ونهبت مقدساتهم , وذلوا لأعدائهم , وذاقوا الويل بسبب انحرافهم عن هدي ربهم , وتعاليم نبيهم . . ثم انتفضت نفوسهم انتفاضة جديدة ; واستيقظت في قلوبهم العقيدة ; واشتاقوا القتال في سبيل الله . فقالوا: (لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله).
ومن خلال هذه التجربة - كما يعرضها السياق القرآني الموحي - تبرز جملة حقائق , تحمل إيحاءات قوية للجماعة المسلمة في كل جيل , فضلا على ما كانت تحمله للجماعة المسلمة في ذلك الحين .
والعبرة الكلية التي تبرز من القصة كلها هي أن هذه الانتفاضة - انتفاضة العقيدة - على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف , ومن تخلي القوم عنها فوجا بعد فوج في مراحل الطريق - على الرغم من هذا كله فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبني إسرائيل نتائج ضخمة جدا . . فقد كان فيها النصر والعز والتمكين , بعد الهزيمة المنكرة , والمهانة الفاضحة , والتشريد الطويل والذل تحت أقدام المتسلطين . ولقد جاءت لهم بملك داود , ثم ملك سليمان - وهذه أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض , وهي عهدهم الذهبي الذي يتحدثون عنه ; والذي لم يبلغوه من قبل في عهد النبوة الكبرى . . وكان هذا النصر كله ثمرة مباشرة لانتفاضة العقيدة من تحت الركام ; وثبات حفنة قليلة عليها أمام جحافل جالوت !
وفي خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية ; كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين:
1- من ذلك . . أن الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها . فيجب أن يضعوها على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة . .
فقد تقدم الملأ من بني إسرائيل - من ذوي الرأي والمكانة فيهم - إلى نبيهم في ذلك الزمان , يطلبون إليه أن يختار لهم ملكا يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم , الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون . فلما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال , وقال لهم: (هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا !)استنكروا عليه هذا القول , وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له: (وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ?). . ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها , وتهاوت على مراحل الطريق كما تذكر القصة ; وكما يقول السياق بالإجمال: (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم). . ومع أن لبني إسرائيل طابعا خاصا في النكول عن العهد , والنكوص عن الوعد , والتفرق في منتصف الطريق . . إلا أن هذه الظاهرة هي ظاهرة بشرية على كل حال , في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغا عاليا من التدريب . . وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أي جيل . . فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل .
2- ومن ذلك أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الفائر في نفوس الجماعات ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول . . فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم . ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها . وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة , ووقوع علامة الله باختياره لهم , ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة . . . ! ومع هذا فقد سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى . وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم: (فلما فصل طالوت بالجنود قال:إن الله مبتليكم بنهر:فمن شرب منه فليس مني . ومن لم يطعمه فإنه مني - إلا من اغترف غرفة بيده - فشربوا منه إلا قليلا منهم). . وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية . فأمام الهول الحي , أمام كثرة الأعداء وقوتهم , تهاوت العزائم وزلزلت القلوب: (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا:لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده). . وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة . . اعتصمت بالله ووثقت , وقالت: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين). . وهذه هي التي رجحت الكفة , وتلقت النصر , واستحقت العز والتمكين .
3- وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة . . وكلها واضحة في قيادة طالوت . تبرز منها خبرته بالنفوس ; وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة , وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى , ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة , وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه . . ثم - وهذا هو الأهم - عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة ; ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة . فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة الإيمان الخالص , ووعد الله الصادق للمؤمنين .
4- والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة . . أن القلب الذي يتصل بالله تتغير موازينه وتصوراته ; لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل , وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود . فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر , كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها ما يراه الآخرون الذين قالوا: (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده). . ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف . إنما حكمت حكما آخر , فقالت: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله , والله مع الصابرين). . ثم اتجهت لربها تدعوه: (ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين). وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين , إنما هو في يد الله وحده . فطلبت منه النصر , ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه . . وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقا , وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح . وهكذا يثبت أن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون !
ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة . فالنصوص القرآنية - كما علمتنا التجربة - تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن ; وبقدر حاجته الظاهرة فيه . ويبقى لها رصيدها المذخور تتفتح به على القلوب , في شتى المواقف , على قدر مقسوم . .