مفهوم التفسير عند سيد قطب:
يقول الأستاذ محمد قطب عن الظلال: " الكتاب الذي عاشه صاحبه بروجه وفكره وشعوريه وكيانه كله، وعاشه لحظة لحظة، وفكرة فكرة، ولفظة لفظة، وأودعه خلاصة تجربته الحية في عالم الإيمان"
"وللتفسير فهم خاص عند سيد قطب، فليس هو التفسير النظري القائم على تقديم معلومات ثقافية نظرية في النحو واللغة والبلاغة والفقه والاحكام والحديث المأثور، والتوسع في هذه المطولات. إنما هو حسن فهم وإدراك القرآن، وتذوق معانيه.
لنقرأ هذه الفقرة الكاشفة التي دلت على منهجه الحركي في فهم القرآن وتفسيره:
" الناس بعدوا عن القرآن، وعن أسلوبه الخاص، وعن الحياة في ظلاله، عن ملابسة الأحداث والمقوّمات التي يشابه جوُّها الجوُّ الذي تنزّل فيه القرآن ..
وملابسةُ هذه الأحداث والمقوّمات، وتَنسُّمُ جوها الواقعي، هو وحده الذي يجعل هذا القرآن مُدرَكاً وموحياً كذلك.
فالقرآن لا يدركه حق إدراكه من يعيش خالي البال من مكان الجهد والجهاد لاستئناف حياة إسلامية حقيقة، ومن معاناة هذا الأمر العسير وجرائره وتضحياته وآلامه، ومعاناة المشاعر المختلفة التي تصاحب تلك المكابدة في عالم الواقع، في مواجهة الجاهلية في أي زمان!
إن إدراك مدلولات هذا القرآن ليس مجرد فهم ألفاظه وعباراته، ليس هو "تفسير" القرآن- كما اعتدنا أن نقول! المسألة ليست هذه. إنما هي استعداد النفس بالمشاعر و الأحاسيس و المدركات والتجارب التي صاحبت نزوله، وصاحبت حياة الجماعة المسلمة وهي تتلقى القرآن في خضم المعترك .. معترك الجهاد .. جهاد النفس وجهاد الناس.. جهاد الشهوات وجهاد الأعداء.. والبذل والتضحية.. والخوف والرجاء.. والضعف والقوة.. والعثرة والنهوض..
جو مكة، والدعوة الناشئة، والقلة والضعف، والغربة بين الناس .. جو الشَّعب والحصار.. والجوع والخوف.. والاضطهاد والمطاردة.. والانقطاع إلا عن الله..
ثم جو المدينة: جو النشأة الأولى للمجتمع المسلم، بين الكيد والنفاق، والتنظيم والكفاح ..
جو "بدر" و "أحد" و "الخندق" و "الحديبية". وجو "الفتح"، و "حنين" و "تبوك". وجو نشأة الأمة المسلمة ونشأة نظامها الاجتماعي والاحتكاك الحي بين المشاعر والمصالح والمبادئ في ثنايا النشأة وفي خلال التنظيم.
في هذا الجو الذي تنزلت فيه آيات القرآن حية نابضة واقعية.. كان للكلمات وللعبارات دلالاتها وإيحاءاتها.
وفي مثل هذا الجو الذي يصاحب محاولة استئناف الحياة الإسلامية من جديد
يفتح القرآن كنوزه للقلوب، ويمنح أسراره، ويشيع عطره، ويكون فيه هدى ونور ..
والذين يعانون اليوم وغداً مثل هذه الملابسات، هم الذين يدركون معاني القرآن وإيحاءاته. وهم الذين يتذوقون حقائق التصور الإسلامي كما جاء بها القرآن.. لأن لها رصيداً حاضراً في مشاعرهم وفي تجاربهم، يتلقونها به، ويدركونها على ضوئه.. وهم قليل..
(عن كتابه : خصائص التصور الإسلامي ومقوماته)