وكالعادة، كثيرا ما أجد شفاء لسؤال في نفسي، أو لتعجّب من حال حولي في تلك الظلال الوارفة، ظلال الشهيد سيد قطب رحمه الله، ها هو هنا، وهو في معرض سورة الأنعام المبهرة، يذكر عن حال يحيط بنا اليوم ويجعلنا نضرب كفا بكف، أن كيف يصل الحال إلى هذا الحد ؟!! ها هو هنا في هذه الفقرات يبين جليا حقيقة الحال وأصله، كما يبين كثرة وخطر غفلتنا عن حقيقة أصله، إنه بعد أن تعرض لفشل اليهود في نشر الإلحاد بين المسلمين بالشكل الذي أحبوه، هم يسعون لما هو أدهى وأخطر :
-------------------------------------------------------------
إنما يفلح اليهود في حقل آخر . وهو تحويل الدين إلى مجرد مشاعر وشعائر . وطرده من واقع الحياة . وإيهام المعتقدين به أنهم يمكن أن يظلوا مؤمنين بالله ; مع أن هناك أربابا أخرى هي التي تشرع لحياتهم من دون الله ! ويصلون بذلك إلى تدمير البشرية فعلا , حتى مع وهمها أنها لا تزال تؤمن بالله .
وهم يستهدفون الإسلام - قبل كل دين آخر - لأنهم يعرفون من تاريخهم كله , أنهم لم يغلبهم إلا هذا الدين يوم كان يحكم الحياة . وأنهم غالبوا أهله طالما أهله لا يحكمونه في حياتهم ; مع توهمهم أنهم ما يزالون مسلمين مؤمنين بالله ! فهذا التخدير بوجود الدين - وهو غير موجود في حياة الناس - ضروري لتنجح المؤامرة . . أو يأذن الله فيصحو الناس !
وأحسب - والله أعلم - أن اليهود الصهيونيين , والنصارى الصليبيين , كليهما , قد يئسوا من هذا الدين في هذه المنطقة الإسلامية الواسعة في إفريقية وآسيا وأوربا كذلك . . يئسوا من أن يحولوا الناس فيها إلى الإلحاد - عن طريق المذاهب المادية - كما يئسوا كذلك من تحويلهم إلى ديانات أخرى عن طريق التبشير أو الاستعمار . . ذلك أن الفطرة البشرية بذاتها تنفر من الإلحاد وترفضه حتى بين الوثنيين - فضلا على المسلمين - وأن الديانات الأخرى لا تجرؤ على اقتحام قلب عرف الإسلام , أو حتى ورث الإسلام !
وأحسب - والله أعلم - أنه كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود والصهيونيون والنصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام جهرة عن طريق الشيوعية أو عن طريق التبشير ; فعدلوا إلى طرائق أخبث , وإلى حبائل أمكر . . لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع في المنطقة كلها تتزيا بزي الإسلام ; وتتمسح في العقيدة ; ولا تنكر الدين جملة . . ثم هي تحت هذا الستار الخادع , تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها مؤتمرات التبشير وبروتوكولات صهيون , ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى الطويل !
إن هذه الأنظمة والأوضاع ترفع راية الإسلام - أو على الأقل تعلن احترامها للدين - بينما هي تحكم بغير ما أنزل الله ; وتقصي شريعة الله عن الحياة ; وتحل ما حرم الله ; وتنشر تصورات وقيما مادية عن الحياة والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية ; وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام لتدمير القيم الأخلاقية الإسلامية , وسحق التصورات والاتجاهات الدينية ; وتنفذ ما نصت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونيين , من ضرورة إخراج المرأة المسلمة إلى الشارع , وجعلها فتنة للمجتمع , باسم التطور والتحضر ومصلحة العمل والإنتاج ; بينما ملايين الأيدي العاملة في هذه البلاد متعطلة لا تجد الكفاف ! وتيسر وسائل الانحلال وتدفع الجنسين إليها دفعا بالعمل والتوجيه . . كل ذلك وهي تزعم أنها مسلمة وأنها تحترم العقيدة ! والناس يتوهمون أنهم يعيشون في مجتمع مسلم , وأنهم هم كذلك مسلمون ! أليس الطيبون منهم يصلون ويصومون ? أما أن تكون الحاكمية لله وحده أو تكون للأرباب المتفرقة , فهذا ما قد خدعتهم عنه الصليبية والصهيونية والتبشير والاستعمار والاستشراق وأجهزة الإعلام الموجهة ; وأفهمتهم أنه لا علاقة له بالدين . وأن المسلمين يمكن أن يكونوا مسلمين ; وفي دين الله ; بينما حياتهم كلها تقوم على تصورات وقيم وشرائع وقوانين ليست من هذا الدين !
وإمعانا في الخداع والتضليل ; وإمعانا من الصهيونية العالمية والصليبية العالمية في التخفي , فإنها تثير حروبا مصطنعة - باردة أو ساخنة - وعداوات مصطنعة في شتى الصور , بينها وبين هذه الأنظمة والأوضاع التي أقامتها والتي تكفلها بالمساعدات المادية والأدبية , وتحرسها بالقوى الظاهرة والخفية , وتجعل أقلام مخابراتها في خدمتها وحراستها المباشرة !
تثير هذه الحروب المصطنعة والعداوات المصطنعة , لتزيد من عمق الخدعة ; ولتبعد الشبهة عن العملاء , الذين يقومون لها بما عجزت هي عن إتمامه في خلال ثلاثة قرون أو تزيد ; من تدمير القيم والأخلاق ; وسحق العقائد والتصورات ; وتجريد المسلمين في هذه الرقعة العريضة من مصدر قوتهم الأول . . وهو قيام حياتهم على أساس دينهم وشريعتهم . . وتنفيذ المخططات الرهيبة التي تضمنتها بروتوكولات الصهيونيين ومؤتمرات المبشرين ; في غفلة من الرقباء والعيون !
فإذا بقيت بقية في هذه الرقعة لم تجز عليها الخدعة ; ولم تستسلم للتخدير باسم الدين المزيف ; وباسم الأجهزة الدينية المسخرة لتحريف الكلم عن مواضعه ; ولوصف الكفر بأنه الإسلام ; والفسق والفجور والانحلال , بأنه تطور وتقدم وتجدد . . إذا بقيت بقية كهذه سلطت عليها الحرب الساحقة الماحقة ; وصبت عليها التهم الكاذبة الفاجرة وسحقت سحقا , بينما وكالات الأنباء العالمية وأجهزة الإعلام العالمية خرساء صماء عمياء !!!
ذلك بينما الطيبون السذج من المسلمين يحسبون أنها معركة شخصية , أو طائفية , لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا الدين ; ويروحون يشتغلون في سذاجة بلهاء - من تأخذه الحمية للدين منهم وللأخلاق - بالتنبيه إلى مخالفات صغيرة , وإلى منكرات صغيرة , ويحسبون أنهم أدوا واجبهم كاملا بهذه الصيحات الخافتة . .
بينما الدين كله يسحق سحقا , ويدمر من أساسه ; وبينما سلطان الله يغتصبه المغتصبون , وبينما الطاغوت - الذي أمروا أن يكفروا به - هو الذي يحكم حياة الناس جملة وتفصيلا !
إن اليهود الصهيونيين والنصارى الصليبيين يفركون أيديهم فرحا بنجاح الخطة وجواز الخدعة ; بعدما يئسوا من هذا الدين أن يقضوا عليه مواجهة باسم الإلحاد , أو يحولوا الناس عنه باسم التبشير , فترة طويلة من الزمان . .
إلا أن الأمل في الله أكبر ; والثقة في هذا الدين أعمق , وهم يمكرون والله خير الماكرين . وهو الذي يقول:(وقد مكروا مكرهم , وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله , إن الله عزيز ذو انتقام). .
في ظلال القرآن -سيد قطب-