سورة الفرقان (4)وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً(20)ويأتي الفرقان ليفرق بين الحق وبين باطلهم...وهو صبغة هذه السورة العظيمة، إذ يأتي قولهم الباطل، ويليه قول الله الحق ليُزهقه، وليعلم نبيّه الرد على باطلهم بالحق، وليعلّمنا مقدار تخرّصهم وعظمة حق كلمات الله تعالى ...
هنا يثبّت المولى عز وجل نبيّه الكريم عليه صلوات الله وسلامه،بذكر حال كل من كان قبله من الرسل، وأن أكله الطعام، ومشيه في الأسواق لم يكن بدعة فيه، وما كان هو بدعا من الرسل، بل كان كلهم يمشي في الأسواق،ويأكل الطعام، وهكذا شاء الله، وهكذا مضت مشيئته وسنّته فيهم جميعا، وهكذا كان المكذبون من الناس يكذّبون سنّة من سنن الله تعالى ماضية.قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ(33) -الأنعام-
وفعلا إننا لنعلم أنهم أكثر الناس معرفة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان فيهم وليدا ثم شبّ بينهم، ثم أرسل إليه من رب العزة بين ظهرانيهم وهم أعرف الناس بأمانته وصدقه، وأنه أبعدهم جميعا عن الكذب والنفاق والتخرّص وعن كل خوارم المروءة.
ولكنهم رغم ذلك كله، ولما جاءهم بالحق من الله تعالى، جعلوا يتهمونه بالكذب والاختلاق، وجعلوا يستهزئون به، ويصفونه بأبشع الأوصاف وأبعدها عن شخص محمد الذي يعرفونه . وبالتالي فهم يجحدون بآيات الله تعالى، كما جحد بها الذين من قبلهم. فالجحود غير التكذيب.تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حقيقة أمرهم، وفيما بين بعضهم بعضا، وفي خاص مجالسهم غير متحقق ما داموا متيقنين من أنه لا يكذب، ولكن آفتهم الكبرى أنهم يجحدون بآيات الله تعالى، والجحود هو إنكار المعروف من الأمر مكابرة .
وبالتالي فمشيئة الله الماضية أن كل رسله يمشون في الأسواق ويأكلون الطعام، وهم بشر ممن خلق ولم يكونوا ملائكة، ومشيئة الله هذه هي التي يجحدونها، وينكرونها تكبرا ومكابرة .
"
وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً "
فالسقيم مبتلى بالصحيح ، والتعيس مبتلى بالسعيد ، والفقير مبتلى بالغني، والرسل فتنة للمرسلين، والكفار فتنة للرسل،وهكذا...
هي امتحانات من الله تعالى ليرى مدى صبر الواحد منا في كل امتحان يوضع فيه.
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً(21)وقد عرفنا فيما سبق اعتراض الكافرين على القرآن، ووصفه بالإفك المُفتَرَى، وأنه الأساطير، واعتراضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يكون بشرا كما البشر، وكيف لا ينزل إليه ملك يؤيده، وكيف لا يُخصّ بالمال والزينة العظيمة.
ثم ينتقل باطلهم بكل وقاحة وسفاقة إلى ذات الله عز وجل، فمِن التكذيب برسول الله صلى الله عليه وسلم،وبمشيئة الله التي يمضيها، إلى التجرؤ على الله سبحانه:وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً(21)
و "الرجاء" هنا بمعنى الخوف، فهم لا يخافون يوم لقاء الله تعالى، ولا يحسبون لذلك اليوم حسابا، فانتقلوا من رسول الله والرسالة إلى باعث الرسول ومكلّفه بالرسالة ، فمن انعدام خوفهم لقاءه هم يسألون تنزيل الملائكة عليهم، لا يستكثرون على أنفسهم هذا،بل يرون أنفسهم أعلى منزلة من الأنبياء والرسل... وفعلا كان هذا اعتقادهم حتى قالوا، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى عنهم:وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(31)-الزخرف-
كما لا يخافون طلب رؤية الله عيانا، شأنهم شأن كل متكبر من قبلهم، شأن بني إسرائيل الذين طلبوها من سيدنا موسى عليه السلام:وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ(55)-البقرة-
أفئن كنتم أصحاب عقول-وأنتم قبل قليل استكثرتم أن يكون الرسول بشرا- كيف تستسهلون بعدها رؤية الخالق، مرسل الرسل، ومالك الملك؟!!
أو كيف تتخيلون تنزّل الملائكة عليكم، وأنتم قبل قليل تستكثرون أن يكون الرسول بشرا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟! أم أنها حلال عليكم تليق بكم، حرام على غيركم لا تليق بهم؟! يا أبناء كِبركم... ويالهول ما يصنع الكِبر بصاحبه!
ثم سألتم ما هو أكبر... أمعنتم في الكِبر والاستكبار حتى سألتم رؤية الله جلّ في عُلاه. سبحانه الذي يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار.
لنتأمل...لندقق... فإذا الاستكبار داء يجعل الإنسان يؤلّه نفسه، يؤلّه عقله، فلا يعود يرى فوق نفسه شيئا ...
لنتأمل فإذا الآيات السابقة بدءا من الآية 4
فـ
5 فـ
7 فـ
8 ، كانت تصف أباطيل
الكافرين بتقوّلهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن الباطلَ والزور والمنكر والكذب تلفيقا واتهاما.
أما في هذه الآية
(21) فقد وصفهم الله تعالى بـ "
الذين لا يرجون لقاءنا"
الذين لا يخافون لقاء الله، ولا يؤمنون به، ودفعهم استكبارهم ونكرانهم يوم حساب بين يدي الله أن سألوا رؤية الله، وتنزّل الملائكة عليهم فهؤلاء المستكبرون تأتي الآية الموالية تصفهم بــ:
المجرمين :
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً(22)وتصف هول ما ينتظرهم وشُؤمه...يوم يرون الملائكة حقا،ولكن أي رؤية وأي نذارة لهم يوم رؤيتهم لا بشارة... يوم الحساب، يوم الحشر...
يوم يجعل الله أعمالهم هباء منثورا، يوم لا يمضي ذلك اليوم على أصحاب الجنة كمضيّه على الكافرين، يوم مقداره خمسون ألف سنة، فإذا هو على المؤمنين أهل الجنة كصلاة مكتوبة.
"أنَّهُ يُخفَّفُ الوقوفُ عنِ المؤمنِ حتى يكونَ كصلاةٍ مكتوبةٍ." الراوي: أبو سعيد الخدري المحدث: ابن حجر العسقلاني - المصدر: فتح الباري لابن حجر - الصفحة أو الرقم: 11/456 خلاصة حكم المحدث: إسناده حسنأَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً(24)مقابلة لما وصف سبحانه من حال أهل النار المكذبين الكافرين الذين تطاولوا وتجرؤوا فطلبوا أن يروا الملائكة، فأجاب رب العزة، أن يوم رؤيتهم للملائكة إنما هو يوم لا بشرى لهم فيه، وأعمالهم يجعلها الله يومها هباء منثورا .... وما أدق هذا التصوير القرآني !! إذ يشبه الله أعمالهم بذلك الغبار الدقيق المتطاير في الهواء ذرات، لا ترى إلا إذا نفذ من أشعة الشمس شيء تراها فيه متطايرة منثورة نثرا .... سرعان ما تختفي بعد ذلك ...!!
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً(22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً(23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً(24)
وأصحاب الجنة ؟ كيف حالهم يومها، في اليوم ذاته ؟ !
إنهم خير مستقرا وأحسن مقيلا .... في ذلك اليوم يوم الحساب، يوم تنزل الملائكة تنزيلا، إنه ذلك اليوم العظيم المجموع له الناس من بدء الخليقة إلى آخر من يخلق الله سبحانه وتعالى في هذه الدنيا....
هم يومها خير مستقرا ... فمستقرّهم الجنة، وأحسن مقيلا ....وما المقيل ؟؟ تساءلت.... وهو من القيلولة... تساءلت، وكيف يكون الحديث عن القيلولة في الجنة، وما فيها نوم ؟!
المقيل: موضع القيلولة . و - نوم أو استراحة في الظهيرة .فإذا معنى الكلمة ذاته يحتمل أن يكون موضع القيلولة، كما يحتمل أن يكون فعل النوم في وقت الظهيرة، أي يحتمل المكان والفعل.
فيكون المعنيّ هنا في الآية أن الأحسن، وهو مكان القيلولة أين؟ في الجنة.
قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقبل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار
قال ابن عباس في هذه الآية: الحساب ذلك اليوم في أوله، وقال القوم حين قالوا في منازلهم في الجنة. (بمعنى أن يوم الحساب على المؤمنين لا يأتي منه وقت الظهيرة حتى يكون أهل الجنة بالجنة)
قال الأزهري: القيلولة والمقيل: الاستراحة نصف النهار،
وإن لم يكن مع ذلك نوم، لأن الله تعالى قال: وأحسن مقيلاً، والجنة لا نوم فيها.
يروى أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس.
كما أعجبني في ذلك قول للبيضاوي لم أجده في غيره من التفاسير يوضح ضرب المثل بالمقيل والجنة لا نوم فيها
"
وأحسن مقيلاً " مكاناً يؤوي إليه للاسترواح بالأزواج والتمتع بهن تجوزاً له من مكان القيلولة على التشبيه ، أو لأنه لا يخلو من ذلك غالباً إذ لا نوم في الجنة وفي أحسن رمز إلى ما يتميز به مقيلهم من حين الصور وغيره من التحاسيس"
يوم يُرى الملائكة وينزّلون، هو يوم تشقق فيه السماء بالغمام:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً(25)هو اليوم الموعود، نعم ستتنزّل الملائكة حقا في هذا اليوم، وسيرونها حقا، ولكن لا بشرى يومئذ للمجرمين، لا بشرى لهم وقد تنزّلت الملائكة في يوم تمنوا لو أنه لم يحن أوانُه، يتمنون ساعتها لو لم يروا الملائكة !!
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ(12) -السجدة-
يتبع بإذن الله